التقسيم موجود في  الذهنية الغربية – أيمن الحماد

التقسيم موجود في الذهنية الغربية – أيمن الحماد

 aymanلا‭ ‬يمكن‭ ‬الأخذ‭ ‬بكلام‭ ‬رجل‭ ‬الاستخبارات‭ ‬السابق‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬برنارد‭ ‬باجوليه‭ ‬بالقطعية‭ ‬الحدّية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الباع‭ ‬الاستعماريّ‭ ‬الطويل‭ ‬لفرنسا‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬الدبلوماسيّ‭ ‬فرانسوا‭ ‬بيكو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ونظيره‭ ‬مارك‭ ‬سايكس،‭ ‬هما‭ ‬من‭ ‬اختَطَّ‭ ‬الحدود‭ ‬الجديدة‭ ‬لعالَمنا‭ ‬العربيّ،‭ ‬وعدم‭ ‬الأخذ‭ ‬بالقطعية‭ ‬مآله‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬لاعِبِينَ‭ ‬غير‭ ‬نِظامِيِّين‭ ‬في‭ ‬مَشْهَد‭ ‬الصراع،‭ ‬ونَعْني‭ ‬الجماعاتِ‭ ‬الإرهابيةَ،‭ ‬من‭ ‬ميليشيات‭ ‬وتنظيمات،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعاطي‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬أيّ‭ ‬تسوية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مؤامرة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الحاصل‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬تماسك‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تَشهَد‭ ‬فوضى‭ ‬كبيرة؛‭ ‬تخوفًا‭ ‬من‭ ‬صعود‭ ‬تلك‭ ‬الجماعات‭.‬ وعلى‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬فإن‭ ‬مشاريع‭ ‬التقسيم‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الذهنية‭ ‬الغربية‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬سُمِّي‭ ‬بالربيع‭ ‬العربيّ،‭ ‬وإن‭ ‬إسقاط‭ ‬الأنظمة‭ ‬كان‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المحافظين‭ ‬الجُدُد‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مُدَّتَيِ‭ ‬الرئاسة‭ ‬لجورج‭ ‬بوش‭ ‬الابن،‭ ‬وتُخبرنا‭ ‬بعضُ‭ ‬السّيَر‭ ‬الذاتية،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يحكيه‭ ‬الوزير‭ ‬السابق‭ ‬أحمد‭ ‬أبو الغيط،‭ ‬وما‭ ‬ينقله‭ ‬عن‭ ‬انطباعات‭ ‬مبارك‭ ‬الرئيس‭ ‬المصريّ‭ ‬الأسبق،‭ ‬وشعوره‭ ‬برغبة‭ ‬أميركية‭ ‬في‭ ‬تغييره،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬سَمِعها‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬ستيف‭ ‬هادلي‭ ‬مستشار‭ ‬الأمن‭ ‬القوميّ‭ ‬الأميركيّ‭ ‬السابق،‭ ‬بضرورة‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬سوريا؛‭ ‬تُوضِّح‭ ‬لنا‭ ‬مثلُ‭ ‬تلك‭ ‬الإشارات‭ ‬الرغبة‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الأنظمة،‭ ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬يرادف‭ ‬ذلك‭ ‬تغيرٌ‭ ‬جغرافيّ؟‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬إن‭ ‬الحدود‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬تَظلُّ‭ ‬مسألة‭ ‬رخوة‭ ‬وحسَّاسة،‭ ‬ولم‭ ‬تُحسَم‭ ‬بين‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تعايشت‭ ‬بفعل‭ ‬المصالح‭ ‬والظروف‭ ‬مع‭ ‬أزمات‭ ‬حدودية،‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬إلى‭ ‬العَلن‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬نشوب‭ ‬الأزمات،‭ ‬وفي‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬تظلُّ‭ ‬حبيسة‭ ‬الأدراج‭ ‬والأرفف‭.‬

إن‭ ‬فرضية‭ ‬إعادة‭ ‬ترسيم‭ ‬الحدود‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المسوغ‭ ‬لها‭ ‬استغلال‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬هشاشة‭ ‬دولتَيِ‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬واكتساح‭ ‬الحدود‭ ‬بينهما،‭ ‬فالتاريخ‭ ‬يقول‭:‬ إن‭ ‬الجغرافيا‭ ‬ترسمها‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتبنَّى‭ ‬اليوم‭ ‬شكلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬الاستعمار‭ ‬بوساطة‭ ‬تبنِّي‭ ‬أحزاب‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬تشييد‭ ‬قواعد‭ ‬عسكرية،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تضمن‭ ‬حضور‭ ‬الدولة‭ ‬ذات‭ ‬النفوذ‭ ‬واستمرار‭ ‬مصالحها،‭ ‬وفي‭ ‬حالتنا‭ ‬هذه‭ ‬نَعْني‭ ‬أميركا‭ ‬وروسيا‭ ‬المعنية‭ ‬بشكل‭ ‬رئيس‭ ‬بسوريا،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬الأُولَى‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬العراق‭.‬

إن‭ ‬حجم‭ ‬تأثير‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الإمساك‭ ‬بالأرض،‭ ‬وحجم‭ ‬الترهيب ‭-‬لا‭ ‬شك- ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬إحداث‭ ‬هياج‭ ‬اجتماعيّ،‭ ‬وتغيير‭ ‬ديموغرافيّ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إصلاحه،‭ ‬لقد‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬الحال‭ ‬أوربا،‭ ‬وبلغت‭ ‬عَنْوةً‭ ‬العواصمَ‭ ‬الأوربية،‭ ‬وأَلْقَت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬أشكال‭ ‬التعاطي‭ ‬السياسيّ‭ ‬والاقتصاديّ‭ ‬والثقافيّ‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أوربا ‭-‬أيضًا- ‬لن‭ ‬تعود‭ ‬مثلما‭ ‬كانت،‭ ‬وليس‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬فحسب،‭ ‬فتأثير‭ ‬موجات‭ ‬الهجرة‭ ‬على‭ ‬التكوين‭ ‬الديموغرافيّ‭ ‬والإثني،‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يلحقه‭ ‬من‭ ‬تبعات،‭ ‬يُهدِّد‭ ‬Arab-Cفي‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬معاهدة‭ ‬‮«‬شنغن‮»‬،‭ ‬وظهور‭ ‬الأسلاك‭ ‬الشائكة‭ ‬بين‭ ‬حدود‭ ‬أوربا‭ ‬التي‭ ‬ترمز‭ ‬حقيقةً‭ ‬إلى‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬البشر‭ ‬الفارّين‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وأتون‭ ‬الفوضى‭.‬

إذًا‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية‭ ‬والتقسيمات‭ ‬الإثنية‭ ‬يعاد‭ ‬توزيعهما‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يَعْني‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يَعْني‭ ‬الدول‭ ‬الإقليمية؛‭ ‬لذلك‭ ‬فترسيم‭ ‬الحدود‭ ‬وتغييرها‭ ‬نراه‭ ‬أمرًا‭ ‬مستحيلًا،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬وارد‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القريب‭.‬ لا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬دولة‭ ‬مثل‭ ‬سوريا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬العراق‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬غزارة‭ ‬المكونات‭ ‬وتنوعها،‭ ‬وتعدد‭ ‬المذاهب‭ ‬والأديان‭ ‬والثقافات‭. ‬

‭ ‬إن‭ ‬النزاع‭ ‬الحاصل‭ ‬اليوم،‭ ‬والتدخل‭ ‬الدوليّ‭ ‬بين‭ ‬الناتو‭ ‬وروسيا،‭ ‬سيفضي‭ ‬لا‭ ‬محالةَ‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬يمكن‭ ‬بوساطتها‭ ‬تقاسم‭ ‬المصالح،‭ ‬لا‭ ‬تقسيم‭ ‬الأرض،‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬تفتيتها‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬رواج‭ ‬مسألة‭ ‬تقسيم‭ ‬العالم‭ ‬العربيّ،‭ ‬لكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭:‬ لماذا‭ ‬التقسيم؟‭ ‬وهل‭ ‬التقسيم‭ ‬سيُضعف‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬حالته‭ ‬الراهنة،‭ ‬أم‭ ‬قد‭ ‬يجلب‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬فوضويته‭ ‬مجموعاتٍ‭ ‬قد‭ ‬تُشكّل‭ ‬خطرًا‭ ‬حقيقيًّا‭ ‬للغرب‭ ‬وحضارته‭ ‬ومنجزه‭.‬ إن‭ ‬قلنا‭:‬ إن‭ ‬التناحر‭ ‬المذهبيّ‭ ‬أو‭ ‬الإثني‭ ‬يبلغ‭ ‬اليوم‭ ‬حالًا‭ ‬من‭ ‬الخطورة،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬نعتقد‭ ‬أنه‭ ‬سيفضي‭ ‬إلى‭ ‬تقسيم‭ ‬الدول،‭ ‬فعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الإقليميّ‭ ‬لن‭ ‬تقبل‭ ‬تركيا‭ ‬نشوء‭ ‬دولة‭ ‬كردية‭ ‬جنوب‭ ‬حدودها‭ ‬تحت‭ ‬أي‭ ‬مسوّغ،‭ ‬ولن‭ ‬تسمح‭ ‬إيران‭ ‬بميلاد‭ ‬دولة‭ ‬سُنية‭ ‬شَرْق‭ ‬العراق،‭ ‬ويمكن‭ ‬القياس‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬تقسيم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬هو‭ ‬حصيلة‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وليس‭ ‬نتيجة‭ ‬صراع‭ ‬أهليّ،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬بصدد‭ ‬تقاسُم‭ ‬الأرض‭ ‬لَفَعَلَتْ‭ ‬بعد‭ ‬جلاء‭ ‬الاستعمار‭ ‬عنها‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬لكنها‭ ‬ظلَّت‭ ‬متماسكةً،‭ ‬واستطاعت‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬وطنية‭.‬

في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬إن‭ ‬الصراعات‭ ‬حتى‭ ‬الأهلية‭ ‬لا‭ ‬تتسبَّب‭ ‬في‭ ‬نشوء‭ ‬دول،‭ ‬مثل‭ ‬الحال‭ ‬الأفغانية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تُسفر‭ ‬عن‭ ‬ميلاد‭ ‬أيّ‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬إخفاق‭ ‬دولة‭ ‬أفغانستان‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬التعبير،‭ ‬لكنها‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الجيوسياسيّ‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدوليّ؛‭ ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليها،‭ ‬لكن‭ ‬لماذا‭ ‬يُقَسَّم‭ ‬السودان؟‭ ‬عمليًّا‭ ‬لم‭ ‬يُقسَّم‭ ‬إنما‭ ‬حدث‭ ‬الانفصال‭ ‬نتيجة‭ ‬استفتاء،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬وقع‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬بالتأكيد‭ ‬رسَّخت‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬الولاء‭ ‬للدولة‭ ‬السودانية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الدعم‭ ‬الغربيّ‭ ‬لا‭ ‬شكَّ‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬والحالة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬أسكتلندا‭ ‬التي‭ ‬نظَّمت‭ ‬استفتاء‭ ‬على‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وصوَّت‭ ‬الأسكتلنديون‭ ‬برفض‭ ‬الانفصال‭.‬

إننا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُقلّل‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الخارطة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التأثيرات‭ ‬الواسعة‭ ‬النطاق‭ ‬والمتعددة‭ ‬المجالات،‭ ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬نشهد‭ ‬ميلاد‭ ‬دول‭ ‬جديدة،‭ ‬فنشكّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬