تغيير الحدود  لن يتوقف عند حدود

تغيير الحدود لن يتوقف عند حدود

A.alrashidمنذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬والموضوع‭ ‬المفضَّل‭ ‬لدى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب،‭ ‬هو‭ ‬التنبُّؤ‭ ‬بمؤامرات‭ ‬حول‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬الحدود،‭ ‬وتغيير‭ ‬أنظمة‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬وقد‭ ‬غذاها‭ ‬تغير‭ ‬الأحلاف‭ ‬الدولية؛‭ ‬بسقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬وتوحُّد‭ ‬أوربا،‭ ‬وظهور‭ ‬مفهوم‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬لدى‭ ‬مُنَظّري‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرِّف‭ ‬الأميركيّ. ‬المفاجأة‭ ‬أن‭ ‬الفريق‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬برنامج‭ ‬تغيير‭ ‬خريطة‭ ‬المنطقة،‭ ‬وبدأ‭ ‬فعليًّا‭ ‬في‭ ‬تطبيقها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬هو‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش؛‭ ‬ففي‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬إبريل‭ ‬عام ‭‬2013م‭ ‬أعلن‭ ‬أبو بكر‭ ‬البغداديُّ‭ ‬توسيعَ‭ ‬مملكته‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محصورةً‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬العراق،‭ ‬وضَمَّ‭ ‬إليها‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬جبهة‭ ‬النصرة‮»‬‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وأعاد‭ ‬تسمية‭ ‬منظَّمته‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والشام‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الخُطبة‭ ‬نفسها‭ ‬رفض‭ ‬ما‭ ‬سمَّاه‭ ‬بالحدود‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬القوى‭ ‬الاستعمارية. ‬ولاحقًا‭ ‬نصَّبَ‭ ‬البغداديُّ‭ ‬نفسَه‭ ‬خليفةً،‭ ‬وأعلن‭ ‬قيام‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬حدودَ‭ ‬لها،‭ ‬واستولى‭ ‬مقاتِلوه‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬حدودية‭ ‬بين‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا؛‭ ‬لهذه‭ ‬الأسباب؛‭ ‬أي: ‬كَشْف‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬الإرهابية‭ ‬عن‭ ‬مشروعها‭ ‬في‭ ‬التمدد‭ ‬والغزو،‭ ‬وإلغاء‭ ‬الحدود‭ ‬المرسومة،‭ ‬ومهاجمة‭ ‬الغرب؛‭ ‬صار‭ ‬التنظيمُ‭ ‬مستهدَفًا‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬تحالفيْنِ‭ ‬عسكريينِ‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة: ‬الأميركيّ‭ ‬والروسيّ‭.‬

‮«‬داعش‮»‬‭ ‬حركة‭ ‬تدمير‭ ‬لا‭ ‬بناء،‭ ‬ولن‭ ‬تستطيع‭ ‬تغيير‭ ‬منطقتها. ‬دَعُوا عنكم قُدرتها‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬العالم. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬لو‭ ‬هُزمت‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬وقُضِيَ‭ ‬عليها،‮ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬بأن‭ ‬المشهد‭ ‬القديم‭ ‬لمنطقتنا‭ ‬سيظلُّ‭ ‬كما‭ ‬هو‭.‬

بوصفي‭ ‬أحد‭ ‬المهتمين‭ ‬بشؤون‭ ‬المنطقة‭ ‬وتحوُّلاتها،‭ ‬أُتابِع‭ ‬منذ‭ ‬زمنٍ‮ ‬أطروحاتِ‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬المنطقة. ‬ومع‭ ‬أني‭ ‬أنبذ‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬تُفسّر‭ ‬الأحداث‭ ‬وَفْقَ‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة،‭ ‬فإنني‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬هو‭ ‬الرغبة‭ ‬في‮ ‬التغيير،‭ ‬بالتوسع‭ ‬والهيمنة. ‬وقد‭ ‬ارتفعت‭ ‬درجة‭ ‬الإيمان‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬مؤامرة‭ ‬دولية‭ ‬تُحَاكُ‭ ‬لإعادة‭ ‬تقسيم‭ ‬المنطقة؛‭ ‬بسبب حروب‭ ‬العراق،‭ ‬وسوريا،‭ ‬واليمن،‭ ‬وليبيا. ‬لكن‭ ‬تفكيك هذه‭ ‬الدول‭ ‬المضطربة‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مؤامرة؛‭ ‬لأنها شبه‭ ‬منهارة‭ ‬ومفككة‭.‬

جغرافيًّا،‭ ‬تتجاوز‭ ‬نظرية‭ ‬تغيير‭ ‬الحدود‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬حزام‭ ‬دُوَل‭ ‬الثَّوْرات،‭ ‬إلى‭ ‬الدُّوَل‭ ‬المستقرَّة؛‭ ‬مثل: ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬ومصر. ‬وهذه‭ ‬الأطروحات‭ ‬التي‭ ‬شاعت‭ ‬مؤخَّرًا،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬محضَ‭ ‬مخاوِفَ‭ ‬بواعثُها‭ ‬الفوضى‭ ‬المنتشرة،‭ ‬وتزايد‭ ‬تدخُّلات‭ ‬قوتيْنِ‭ ‬إقليميتيْنِ؛‭ ‬هما: ‬إيران‭ ‬وتركيا. ‬وربما‭ ‬الشائعات‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬أجهزة الدعاية‭ ‬المعادية‭ ‬المنتشرة،‭ ‬مستفيدة‭ ‬من‭ ‬سهولة‭ ‬استخدام‭ ‬ميديا‭ ‬التواصل،‭ ‬تقوم‭ ‬بتدوير‭ ‬أحاديث‭ ‬المؤامرة؛‭ ‬لهدف‭ ‬بثّ‭ ‬الشكوك‭ ‬والمخاوف. ‬الحقيقة‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬ليست‭ ‬نتاج‭ ‬مؤامرات؛‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬بسبب‭ ‬سوء‭ ‬إدارة‭ ‬الأنظمة‭ ‬للأزمات؛‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬عندما‭ ‬لجأ‭ ‬النظام‭ ‬إلى‭ ‬سياسة‭ ‬القسوة‭ ‬المفرطة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مظاهرة‭ ‬صغيرة،‭ ‬التي‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬تمرُّد‭ ‬واسع،‭ ‬ثم‭ ‬ثورة‭ ‬ضدّ‭ ‬نظام‭ ‬الحكم. ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬غزو‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬الكويت‭ ‬كان‭ ‬سببًا‭ ‬جوهريًّا‭ ‬في‭ ‬سقوط‭ ‬نظامه‭ ‬وغزو‭ ‬العراق‭ ‬لاحقًا‭.‬‮ ‬

لسنوات،‭ ‬حرصتُ‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬الدراسات‭ ‬الجادَّة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬التحولات‭ ‬الإقليمية،‭ ‬وكثير‭ ‬منها‭ ‬تَنبَّأ بأن‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬لن‭ ‬تبقى‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬حدودها‭ ‬اليوم،‭ ‬لكنَّ‭ ‬قليلًا‭ ‬صار‭ ‬وتغيَّرَ‭.‬

state-of-unionالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬البترولية‭ ‬السعودية

لعلَّ‭ ‬أقرب‭ ‬نظريات‭ ‬المؤامرة‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬واشنطن في‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬يوليو‭ ‬عام ‭‬2002م،‭ ‬بعد تسعة‭ ‬شهور‭ ‬من‭ ‬هجمات‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر،‭ ‬التي‭ ‬عُدَّتْ‭ ‬أكبرَ‭ ‬اعتداء‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الأميركية‭ ‬منذ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬عُقِدَ‭ ‬اجتماع‭ ‬مُغلَق‭ ‬لمجلس‭ ‬السياسة‭ ‬الدفاعية‭ ‬The Defense Policy Board‭ ‬في‭ ‬البنتاغون،‭ ‬شاركت‭ ‬فيه‭ ‬24‭ ‬شخصيةً‭ ‬مهمةً‭ ‬من‭ ‬حكومة‭ ‬الرئيس‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش،‭ ‬ومكتب‭ ‬نائب‭ ‬الرئيس‭ ‬ديك‭ ‬تشيني،‭ ‬وجَمْع‭ ‬من‭ ‬وزراء‭ ‬الخارجية‭ ‬والدفاع‭ ‬والاستخبارات‭ ‬السابقين‭ ‬أيضًا. ‬الاجتماع‭ ‬خُصِّص‭ ‬لتدارس‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية،‭ ‬بعد‭ ‬تورُّط‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬مواطنيها‭ ‬في‭ ‬هجمات‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر،‭ ‬واتُّهمت‭ ‬بأنها‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬فِكْر‭ ‬تنظيم‭ ‬القاعدة،‭ ‬وتمويله‭ ‬والدعاية‭ ‬له‭. ‬وتولَّى‭ ‬محلل‭ ‬فرنسيّ‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬‮«‬راند‮»‬،‭ ‬يُدعَى‭ ‬لوران‭ ‬موراويك ‭ ‬Laurent Murawiec،‭ ‬ تقديم‭ ‬دراسة‭ ‬ومشروع‭ ‬ضدّ‭ ‬السعودية. ‬العرض‭ ‬المُقترَح‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬البترولية‭ ‬السعودية،‭ ‬بوصفها‭ ‬دولةً‭ ‬عَدُوًّا‭ ‬تُهدِّد‭ ‬أمْن‭ ‬أميركا‭ ‬والعالم. ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬أحدًا‭ ‬لم‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬والفكرة‭ ‬سوى‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الأسبق،‭ ‬هنري‭ ‬كيسنغر،‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬للمجتمعين: ‬صحيح‭ ‬لدينا‭ ‬مشكلة‭ ‬مع‭ ‬السعودية،‭ ‬لكن‭ ‬السعودية‭ ‬دولة‭ ‬صديقة،‭ ‬وليست‭ ‬عدوًّا‭.‬‮ ‬

لم‭ ‬يعرف‭ ‬أحدٌ‭ ‬خارج‭ ‬الدائرة‭ ‬الخاصة‭ ‬حقيقةَ‭ ‬هذا‭ ‬الاجتماع‭ ‬إلَّا‭ ‬بعد‭ ‬شهر،‭ ‬عندما‭ ‬نُشِر‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الجادة. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬للسفارة‭ ‬السعودية،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬العصيبة،‭ ‬دورًا‭ ‬مُهمًّا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الجناح‭ ‬المتطرِّف‭ ‬المُعادِي‭ ‬المملكة‭ ‬داخل‭ ‬إدارة‭ ‬بوش،‭ ‬ونجحت‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬الرئيس‭ ‬بوجهة‭ ‬نظرها،‭ ‬وللأمير‭ ‬بندر‭ ‬بن‭ ‬سلطان،‭ ‬سفير‭ ‬المملكة‭ ‬حينها،‭ ‬تعليق‭ ‬معبّر‭ ‬عندما‭ ‬سألتْه‭ ‬الصحافة‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬بلاده‭ ‬مما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الاجتماع؛‭ ‬إذ‭ ‬أجاب: ‬‮«‬ترديد‭ ‬الأكاذيب‭ ‬لا‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬حقائق‮»‬‭.‬‮ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬بوش‭ ‬ظلَّت‭ ‬صديقةً‭ ‬للسعودية،‭ ‬لكن‭ ‬استمرَّت‭ ‬الحملة‭ ‬المعادية‭ ‬في‭ ‬واشنطن،‭ ‬وازدادت‭ ‬الشكوك‭ ‬داخل‭ ‬السعودية‭ ‬من‭ ‬النوايا‭ ‬الأميركية‭ ‬بعد‭ ‬احتلال‭ ‬العراق‭ ‬عام‭‬2003م. ‬

الحديث‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬الحدود‭ ‬يتمحور‭ ‬في‭ ‬بلدين: ‬العراق‭ ‬وسوريا؛‭ ‬إذ‭ ‬صار‭ ‬كثيرون‭ ‬مقتنعين‭ ‬أن‭ ‬الجَرَّةَ‭ ‬قد‭ ‬كُسِرتْ،‭ ‬وأننا‭ ‬لن‭ ‬نشهد‭ ‬عودة‭ ‬البلدين‭ ‬إلى‭ ‬حدودهما‭ ‬على‭ ‬الخريطة. ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬فَتَحَ‭ ‬موضوعَ‭ ‬تبدُّل‭ ‬الحدود‭ ‬والخرائط،‭ ‬مراسلُ‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬حينها‭ ‬روبرت‭ ‬وورث،‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬نُشر‭ ‬في‭ ‬26‭ ‬يونيو‭ ‬عام ‭‬2014م. ‬وقد‭ ‬أثارت‭ ‬الخريطة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬تقريره‭ ‬انتباهًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬في‭ ‬منطقتنا،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬وورث‭ ‬لم‭ ‬ينقل‭ ‬شيئًا‭ ‬رسميًّا‭ ‬يؤكّد‭ ‬تفكيك‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬سوريا،‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬قناعةً‭ ‬بأن‭ ‬الانفصال‭ ‬حاصل‭ ‬كأمر‭ ‬واقع،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬كردستان‭ ‬العراق. ‬وقد‭ ‬اتصلتُ‭ ‬بوورث‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬واستطلعتُ‭ ‬رأيَه،‭ ‬فقال: ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الإقليم‭ ‬الكُرديَّ‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أكثر‭ ‬حظًّا‭ ‬في‭ ‬الانفصال،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬تفكيك‭ ‬الدولة‭ ‬السورية‭ ‬أمر‭ ‬صعب‭ ‬ومعقَّد‭ ‬جدًّا،‭ ‬وأن‭ ‬الخيارات‭ ‬المقبولة‭ ‬والبديلة‭ ‬هي‭ ‬منح‭ ‬الأقاليم‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الاستقلالية‭ ‬الإدارية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المركز‭.‬‮ ‬

كيف‭ ‬سيبدو‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط؟

سبق‭ ‬لمجلة‭ ‬أتلانتيك‭ ‬الأميركية‭ ‬أن‭ ‬اختارت‭ ‬لغلافها‭ ‬موضوعًا‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬خرائط‭ ‬أغلبية‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2006م‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬بَرَّاق: ‬‮«‬بعد‭ ‬العراق‭: ‬كيف‭ ‬سيبدو‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط؟‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬محض‭ ‬اجتهاد‭ ‬شخصيّ‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬جيفري‭ ‬غولدبيرغ،‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬وكرر‭ ‬الحديث‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬ونصف‭ ‬عن‭ ‬الخريطة‭ ‬التي‭ ‬رُسِمتْ‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تبقى‭.‬‮ ‬

وقد‭ ‬كتب‭ ‬كثيرون‭ ‬عن‭ ‬العراق‭ ‬خاصة،‭ ‬بإعادة‭ ‬رسم‭ ‬خريطته‭ ‬وتفكيكه،‭ ‬وهذه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬نظرية‭ ‬مؤامرة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬طَرْح‭ ‬علنيٌّ،‭ ‬سبق‭ ‬أن قُدِّمَ‭ ‬مشروعًا‭ ‬من‭ ‬جو‭ ‬بايدن،‭ ‬نائب‭ ‬الرئيس‭ ‬الحالي،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬سيناتورًا‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الشيوخ‭ ‬عام ‭‬2006م‭. ‬بايدن‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬تقسيم‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث‭ ‬دول: ‬كُردية،‭ ‬وسُنِّيَّة،‭ ‬وشيعية؛‭ ‬ليكون‭ ‬مثل‭ ‬يوغسلافيا،‭ ‬التي‭ ‬جرى‭ ‬تفكيكُها؛‭ ‬لوقف‭ ‬الحروب‭ ‬بين‭ ‬إثنياتها‭ ‬في‭ ‬اتفاقية‭ ‬دايتون. ‬إنما‭ ‬كل‭ ‬الإدارات‭ ‬الأميركية‭ ‬السابقة‭ ‬والمتعاقبة: ‬بيل‭ ‬كلينتون،‭ ‬ودبليو‭ ‬بوش،‭ ‬والحالية‭ ‬باراك‭ ‬أوباما،‭ ‬الْتزمتْ‭ ‬بعراق‭ ‬موحَّد. ‬والسبب‭ ‬الأول‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬صعوبة‭ ‬تأسيس‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬وثانيًا‭ ‬هناك‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬تغيير‭ ‬الخرائط‭ ‬وعواقبها‭ ‬على‭ ‬المنطقة. ‬وعند‭ ‬التدقيق‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬السياسية‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬إيران،‭ ‬ليست‭ ‬متحمسةً،‭ ‬بخلاف‭ ‬بعض‭ ‬قيادات‭ ‬العراق‭ ‬الشيعية‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬التقسيم؛‭ ‬لأنه‭ ‬يعطيها‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭ ‬بثروة‭ ‬كبيرة،‭ ‬إلَّا‭ ‬أن‭ ‬إيران‭ ‬مثل‭ ‬تركيا،‭ ‬تخاف‭ ‬تبعاتِ‭ ‬مَنْح‭ ‬إقليم‭ ‬كردستان‭ ‬العراق‭ ‬استقلالَه؛‭ ‬خشيةَ‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬لأكراد‭ ‬إيران،‭ ‬وتعدادهم‭ ‬ثمانية‭ ‬ملايين،‭ ‬فيطالبوا‭ ‬لاحقًا‭ ‬باستقلالهم،‭ ‬ويهدّد‭ ‬وَحْدَة‭ ‬إيران‭ ‬المكوّنة‭ ‬من‭ ‬إثنيات‭ ‬ستطالب‭ ‬بالحقّ‭ ‬نفسه‭. ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬إيران  -‬أيضًا- ‬دولةً‭ ‬سُنية‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬العراق؛‭ ‬لأنها‭ ‬ستظلّ‭ ‬مصدر‭ ‬تهديد‭ ‬لبغداد‭ ‬وبقية‭ ‬الجنوب. ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬فإن‭ ‬مصلحة‭ ‬الجميع،‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬نواياهم،‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬سايكس‭ ‬بيكو،‭ ‬ربما‭ ‬باستثناء‭ ‬كردستان‭ ‬العراق،‭ ‬وقد‭ ‬عبَّر‭ ‬الرئيس‭ ‬الكرديّ‭ ‬مسعود‭ ‬بارزاني‭ ‬عن‭ ‬إصراره‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬صحيفة‭ ‬الغارديان‭.‬‮ ‬

ولنتذكر‭ ‬أن‭ ‬الحدود‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬ليست‭ ‬محلَّ‭ ‬رضا‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب،‭ ‬لكنها‭ ‬أمر‭ ‬واقع‭ ‬جرى‭ ‬تثبيته. ‬ومهم‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬الدوليّ،‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬ترسيخها،‭ ‬ورفض‭ ‬تغييرها؛‭ ‬لتجنُّب‭ ‬الفوضى‭ ‬والحروب. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السياسة،‭ ‬فإن‭ ‬العالَم‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬مطابقًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬عام ‭‬1945م؛‭ ‬إذ‭ ‬انفصلت‭ ‬باكستان‭ ‬عن‭ ‬الهند،‭ ‬ثم‭ ‬انفصلت‭ ‬بنغلاديش‭ ‬عن‭ ‬باكستان،‭ ‬وقُسِّمت‭ ‬إثيوبيا‭ ‬ويوغسلافيا‭ ‬والسودان،‭ ‬وبالطبع‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬التي‭ ‬استقلّت،‭ ‬وبقيت‭ ‬معظم‭ ‬خريطة‭ ‬العالم‭ ‬مثلما‭ ‬رُسمتْ‭ ‬من‭ ‬قبلُ‭. ‬

أشهر‭ ‬اتفاقية‭ ‬سِرية

لا‭ ‬يمكن‭ ‬التحدُّث‭ ‬عن‭ ‬الحدود‭ ‬والخرائط‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أُدلي،‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬الزملاء،‭ ‬برأيي‭ ‬في‭ ‬أَشْهَر‭ ‬اتفاقية‭ ‬سرية‭ ‬رَسمتْ‭ ‬خطوطَ‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر؛‭ ‬أعني‭ ‬اتفاق‭ ‬الدبلوماسييْنِ‭ ‬البريطانيّ‭ ‬والفرنسيّ: ‬سايكس‭ ‬وبيكو‭. ‬فالاتفاقية‭ ‬التي‭ ‬وقّعت‭ ‬قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام،‭ ‬رسمت‭ ‬حدود‭ ‬منطقة‭ ‬الشمال‭ ‬العربيّ. ‬ومع‭ ‬احترامي‭ ‬مَن‭ ‬يُعلّق‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الاتفاقية،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نتعرَّفَ‭ ‬العالَمَ‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬تقسيم‭ ‬المنطقة،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬بالمعنى‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬اليوم. ‬وخريطة‭ ‬عراق‭ ‬الأمس‭ ‬ليست‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬نشاهدها‭ ‬الآن،‭ ‬ولا‭ ‬سوريا. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬فلسطين‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الضحية؛‭ ‬لأنها‭ ‬مُنِحتْ‭ ‬اليهودَ‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القدس‭.‬‮ ‬

middle-eastلا‭ ‬يَعْني‭ ‬هذا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ظُلم‭ ‬لَحِق‭ ‬عربَ‭ ‬وادي‭ ‬الرافدين،‭ ‬إنما‭ ‬أَتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬الحدود. ‬فالعراق‭ ‬وسوريا‭ ‬كانا‭ ‬يخضعان‭ ‬لحكم‭ ‬الأتراك،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬البلدان‭ ‬يخضعان‭ ‬لحكم‭ ‬التاج‭ ‬البريطانيّ‭ ‬وفرنسا. ‬والبريطانيون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬أَسَّسوا‭ ‬دولة‭ ‬العراق‭ ‬الحديثة،‭ ‬بتوسيع‭ ‬حدودها،‭ ‬وضمُّوا‭ ‬إليها‭ ‬إقليم‭ ‬كردستان،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الأكراد‭ ‬لا‭ ‬يتحدثون‭ ‬العربية. ‬والبريطانيون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬وسَّعُوا‭ ‬مساحة‭ ‬السودان‭ ‬العربيّ،‭ ‬بضم‭ ‬الجنوب‭ ‬إليه،‭ ‬بإثنياته‭ ‬المختلفة‭ ‬عرقيًّا‭ ‬ودينيًّا‭.‬A.alrashid3

وعندما‭ ‬نضع‭ ‬اتفاقية‭ ‬سايكس‭ ‬بيكو‭ ‬في‭ ‬منظورها‭ ‬التاريخيّ؛‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬العالَم‭ ‬كما‭ ‬كان،‭ ‬وليس‭ ‬كما‭ ‬ننظر‭ ‬إليه‭ ‬اليوم،‭ ‬فالفرنسيون‭ ‬والبريطانيون‭ ‬تقاسَموا‭ ‬تركة‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬مثلما‭ ‬تقاسموا‭ ‬بقية‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى؛‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬حتى‭ ‬المغرب‭ ‬وبقية‭ ‬دول‭ ‬إفريقيا‭.‬ وتصارعت‭ ‬الدول‭ ‬الاستعمارية؛‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬الصدام‭ ‬بينها‭ ‬داخل‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬نفسها،‭ ‬وانفجر‭ ‬لاحقًا‭ ‬كحرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثانية،‭ ‬وتسبَّب‭ ‬الدمار‭ ‬الهائل‭ ‬والدماء‭ ‬في‭ ‬تحطيم‭ ‬أوربا،‭ ‬ومعها‭ ‬انتهى‭ ‬المفهوم‭ ‬الاستعماريّ،‭ ‬وتحوَّل‭ ‬معظم‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬بحدود‭ ‬مرسومة‭ ‬ودائمة. ‬واتفقت‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬المحافظة،‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع،‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬الدول‭ ‬القديمة‭ ‬مثلما‭ ‬هي،‭ ‬بعد‭ ‬حسم‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬خلافات‭ ‬الحدود‭ ‬كثيرة،‭ ‬فإن‭ ‬حروبها‭ ‬قليلة،‭ ‬وقد‭ ‬تعايشت‭ ‬معظم‭ ‬الأمم‭ ‬معها؛‭ ‬طلبًا‭ ‬للسلم‭ ‬والاستقرار. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الدعوات‭ ‬الانفصالية‭ ‬لم‭ ‬تَجدْ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬التعاطف،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬مسوَّغةً؛‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬عَدْوَاها؛‭ ‬إذ‭ ‬توجد‭ ‬ميول‭ ‬انفصالية‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬أغلبية‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬مثلما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬وغيرهما‭.‬‮ ‬