السفارة السعودية تعود إلى بغداد بعد ربع قرن مثقفون عراقيون يرون الثقافة جسرًا بين البلدين

السفارة السعودية تعود إلى بغداد بعد ربع قرن مثقفون عراقيون يرون الثقافة جسرًا بين البلدين

كان عام 1990م بداية إنهاء تاريخ طويل من العلاقات العراقية السعودية، ذلك العام الذي شهد بداية انهيار حقيقيّ في الدولة العراقية وتاريخها، وصولًا إلى مرحلة دخول القوات الأميركية بغداد وانهيار الدولة بالكامل. خمسة وعشرون عامًا من دون أي علاقات دبلوماسية. وعلى الرغم من عودة العلاقة بين العراق والسعودية عام 2004م، فإن أطر التمثيل الدبلوماسيّ لم تكتمل إلا وعام 2015م على أبواب الرحيل، وهو ما أدَّى إلى فتح باب جديد من التصريحات وردود الأفعال الدبلوماسية وغير الدبلوماسية في الوقت نفسه.

إذا كانت السياسية سببًا للاختلاف والشقاق، فإن هناك توافقًا ثقافيًّا كبيرًا بين مثقّفي البلدين، حتى إن مجموعة من المثقفين العراقيين قد دُعوا إلى زيارة الرياض، وتقديم فعاليات ثقافية أكثر من مرَّة.

الشأن الثقافيّ ربما هو الوحيد القادر على ردم الهوَّة السياسية. فالثقافة من شأنها تغيير وجهات النظر، أو البحث عن بدائل جديدة تعمق تلك العلاقات. بعض المثقفين والأدباء العراقيين كانوا متخوّفين من الخوض في الحديث عن هذه العلاقات، وبعضهم الآخر يرى فيها أفقًا آخر لحفظ حياة العراقيين، وإعادة بناء مُدُنه بالمحبَّة والتسامح.

الباحث والأكاديمي ناصر الحجاج، يقول: إن العراق بلد منهار، و«بنظرة عاجلة نرى أن أقرب وأقدر الجيران المؤهلين للإسهام في إعادة بناء العراق المملكةُ العربية السعودية»، ويأمل الحجاج أنه كما أسهمت المملكة في دعم خلاص العراقيين من الديكتاتورية «أن تسهم خطوة فتح سفارة المملكة في العراق؛ في إعادة المياه إلى الروافد الثقافية والعلمية والتاريخية بين البلدين، فالعراق اليوم في حاجة إلى الاستفادة من الخبرات السعودية في مجالات البناء الحضاريّ والعمرانيّ، في ظلّ انهيار المنظومة التعليمية والتربوية فيه، فالجامعات العراقية تحتاج إلى مراكز أبحاث رصينة؛ مثل: مركز الملك فيصل للأبحاث الذي أسهم، لا في رفع مستوى الوعي الاجتماعيّ، بل في تطوير قطاعات الإنتاج، وخدمة الاقتصاد السعوديّ بشكل كامل».

ويرى الحجاج أن العلاقة العراقية السعودية «لا يمكن أن تختزل في بروتوكول زيارات متبادلة للسلك الدبلوماسيّ، إنما بفتح الأفق الثقافيّ الذي يسهم في بناء هويتنا العربية المشتركة، وهذا في جوهره رهين التبادل العلميّ والمعرفيّ والإنسانيّ الذي نرجو من هذه الخطوة أن تسهم في تأسيسه؛ من أجل خير الشعبين الشقيقين، فالتحديات الكبرى تتطلّب قرارات كبرى».

من جانبه يبيّن الناقد علي حسن الفواز أن مواجهة التحديات القومية تتطلّب دائمًا مسؤولية وشجاعة، وتتطلّب رؤية واضحة لما يجري، وإنّ رأب الصدع بين أبناء الأمة هو الخطوة الفاعلة التي يجب التأسيس عليها؛ لأن حجم الأخطار التي تواجهنا جميعًا تستدعي وعيًا ومراجعة وقرارات باسلة. ويرى الفواز أن إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد «هو الأفق الذي ينبغي له أن يعزّز مسار هذه المواجهة، ويعمّق أُطُر العلاقات بين البلدين والشعبين، ليس على المستوى السياسيّ فقط، إنما على المستوى الثقافيّ الذي يعني تقريب وجهات النظر لصناعة رأي عامّ مشترك، في اتجاه توسيع آفاق حقيقية وواقعية للتفاعل والشراكة، بعيدًا من مكاره «الضرر والضرار» التي يحاول بعض العناصر زرعها في حياتنا»، ويشير إلى أن الرهان على المستقبل هو الأكثر جدوى، و«تعميق مسار الحوار بكل مستوياته هو الأكثر حميمية في التعبير عن المصالح والخيارات المشتركة، وبخاصة أن أمتنا تواجه اليوم أخطارًا مرعبة تُشيعها الجماعات الإرهابية، ونزعات العنف والكراهية، وعصبيات الفتن الطائفية المقيتة».

الإحساس بخطر الجهل

يشير الباحث الدكتور عمار أحمد، إلى «أن ما يعنينا، نحن المثقفين، من فتح السفارة السعودية في العراق هو ملحقيتُها الثقافية؛ إذ لا شأن لنا بالدبلوماسية والسياسة والتفاصيل الأخرى التي يُعنى بها آخرون»، ويضيف أحمد قائلًا: «لطالما وجّه السياسيّ الثقافة عبر تاريخ طويل، وكانت ثقافة الباحثين عن الهِبات والمِنَح هي السائدة، أو الثقافة المادحة المنحازة إلى فئة… فإن بإمكان الملحقية في السفارة، مدفوعةً بنوايا الأُخوَّة والجوار والإحساس بخطر الجهل المستشري، أن تقوم بفعل ثقافيّ يسهم في ثورة حقيقية، بالانفتاح على المشهد الثقافيّ العراقيّ الحقيقيّ: موسيقا، وأدب، وسينما، ومسرح، بكل جماليات تشكلها، وبكل محمولاتها من النشاط التنويريّ، بهذا الفعل نستطيع ردم الفجوة السوداء التي تتّسع بحكم هيمنة (الجهل العام والتجهيل المتعمد)، وهي فرصة الملحقية في السفارة؛ لتبسط في الأرض العراقية منجز المثقّف السعوديّ بعيدًا من صورته النمطية التي ترسّخت عبر عقود، وكلُّنا يعرف أن سبب الترسيخ لم يكن ثقافيًّا، بل كان غير ذلك بما لا يمتّ بصلة إلى ثقافة التقارب، والإحساس بجمال الحياة، وتقديم صورة العربيّ كما يجب أن تقدم».

في حين يكون التواصل الثقافيّ من وجهة نظر الكاتب الدكتور أحمد الظفيري «فعل أساسيّ في مستوى تلقّي الآخر وفهمه، فالثقافة هي المرآة التي تعكس التفكير والسلوك، وعلى الرغم من أن العراق والسعودية متجاوران، لكن القطيعة الطويلة في العلاقات الدبلوماسية ولَّدت حاجزًا فكريًّا وثقافيًّا، سواء على مستوى الإفادة من الآخر أو فهمه». ويضيف أن هذه المدة الطويلة من القطيعة بين البلدين «جعلت الصورة مشوشة عند الطرفين؛ لأنها حملت في أثناء هذه المدة صورة عدائية فقط، ولا بدَّ من تغييرها من أجل مستقبل آمن للمنطقة عامة».

ويوضح الظفيري أن التواصل الثقافيّ «هو الجسر الأهم الذي يمكن من خلاله خلق تقارب فكريّ بين العراق والسعودية، ويمكن من خلاله إيجاد مشتركات ثقافية تكون منطلقًا لتعايش مستقبليّ، وسبيلًا إلى ممارسة العمل الثقافيّ والفنيّ الذي يخفّف الفعل الطائفيّ بين البلدين».

الخطوة بدأت بفتح السفارة السعودية في بغداد، غير أن التساؤل الأهم: ماذا بعد هذه الخطوة؟ وكيف يمكن العمل على جعل هذه السفارة، ومثيلتها في الرياض، جسرًا حقيقيًا بين البلدين.

القصيدة العراقية حطام نايٍ مخبوء في غابات الأرز!

عبدالله الزيد – شاعر سعودي

قال ناقد يومًا: أحْيِيَ الشعر العربي الحديث في مصر. لكنه عاش في العراق. هكذا نلقاه حينما نستعرضه منذ ثلاثينيات القرن الماضي. قائمة طويلة من الشعراء. كتبوا. حاكوا. طوّروا. ثم أصّلوا لقصيدة التفعيلة التي يجمع كثيرون على أنها أكثر محاولات العرب في التوفيق بين المعنى، أو ما يعرف اصطلاحًا بالمضمون، وبين الإيقاع الشعري، الذي ظلّ في تاريخ القصيدة العربية «المعجزة التي لم يؤمن بها أحد» تتطور حوله القصيدة لغةً وحدثًا وهويّة من دون أن تمسه حتى جاءت نازك الملائكة، تلك الفتاة العراقية الجامحة، وكسرت عمود الشعر العربي القديم؛ ليتولّى بدر شاكر السياب مؤونة الإقناع به في الشارع العربي الذي فوجئ بقصيدة عذبة، تستمد رؤاها من إيقاعها.

هذا الملمح الثقافي الإبداعي يجعلنا نقف مع واقعنا الثقافي الذي يعد الشعر «ذاكرتنا فيه» مع ذلك الماضي العريق الذي تقبع جذوره منذ القدم في أرض «السواد» كما سمّاها العرب حيث دار الحكمة والانفتاح الأكبر في تاريخ الحضارة العربية على علوم وثقافات الآخرين.

إذًا نحن أمام خارطة ثقافية بطبعها؛ تاريخها الضوء، وحاضرها انتشاره. لكنها تفرّدت دائمًا بقراءتها الصادقة للواقع، فكوّنت دائمًا مرايا للحياة فيها. لهذا شكّلت نكباتها السياسية المتتابعة هوية الحزن الذي يلامس القلب دائمًا. سواء جاء على هيئة قصيدة أو أغنية أو رواية، وهو حزنٌ لا نغادره شجنًا، ولا نهمله هروبًا، ولا نقنط منه نفورًا. إنه ذلك البعد الوجودي الذي يبحث عن الجمال تحت حطام القبح ويكتفي به، بل ويصدّره لنا ثقافة لامست الخلود دائمًا… كثيرة هي الأسماء التي أثرت فيّ وفي الآخرين أيضًا: علي الوردي فتح الآفاق الفكرية أمامي. السياب أخبرني عن دهشة القصيدة. وسنان أنطوان أخبرني عن كيف تتألم الرواية وهي تُكتَب في أحضان المنفى.

كما أسهمت السعودية في دعم خلاص العراقيين من الديكتاتورية، نأمل أن تسهم خطوة فتح سفارة المملكة في العراق في إعادة المياه إلى الروافد الثقافية والعلمية والتاريخية بين البلدين