سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه

سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه

يوسف بزي

يوسف بزي

كثر الحديث عن تحوّلات تطال فنّ العرب الأول وهو الشعر، في وقت تتبدّل أحوال العرب وأهواؤهم السياسية والاجتماعية. حُكي عن أزمة لغة وتغريب من جيل يفضّل التعبير بلغة شكسبير، ويهجر لغة ابن الرومي، والمتنبي، وعمر بن أبي ربيعة، ونزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم. هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة، كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافي المواطن، ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية، وانحسار القراء وعدم الاهتمام بدواوين مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر اليوم بالأزمة، وهي سيمفونية يجب أن تتوقف، كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي، على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومًا معيارًا للشعر ولا للنقد، وأن الشعر اليوم هو المكان التعبيري الأكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن لا بدّ للشعر الذي يمثّل الإيجابية والحياة والتحريض عليها أن يبقى. فهو حاجة الناس إلى التعبير والكلام، وحاجتنا إلى الفرح والغناء والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع. الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويمرّ بسحابة سوداء، لا بدّ أن يتخطاها ويخترع رسامين لأمنياتنا وأحلامنا وأوهامنا وحبنا للحياة. هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله.

يوسف بزي: شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور

حتى وقت قريب، كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة العربية. كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها. هو الناطق بها، هو لغتها وذاكرتها ومادتها. كان الشعر بئر الثقافة العربية وموردها. ما حدث لاحقًا، هو التحولات العميقة في ثقافة الفرد العربي، وفي مصادر هذه الثقافة. تحولات في القيم والذائقة كما في وسائط نشر المعرفة، ووسائل التبادل والتواصل. حدثت تبدلات جذرية في معنى «القراءة» وأدواتها. باختصار، تلاقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو النثر، مع حاجة مجتمعاتنا المضطربة إلى السرد. جاءت الرواية جوابًا موضوعيًّا، تلبية تلقائية للتغير الذي أصاب الكتابة العربية. لا نتحدث عن «قيمة» الشعر، بل عن قابلية القراءة، وعن القارئ الذي بات في مكان آخر.

أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيين، فهم في معظمهم شعراء الحيرة. يحاولون الفكاك من إرث السابقين. يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة، من ناحية، وزمنًا تأبى فوضاه أن تنتظم في قصيدة، من ناحية ثانية. والأصعب، أنهم أتوا في وقت لا يأبه بالشعر أصلًا؛ لذا هم شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور، محرومون من حيوية التداول والسجال والنقد. وحول القضايا المطروحة اليوم في الشعر اللبناني، لست أدري ما المقصود هنا بكلمة «قضايا»، فالكتابة الشعرية مفتوحة على كل ما يتصل بالوضع الإنساني ومأسوية الوجود. لكن في البحث عن خاصية ما في كتابات الجيل الجديد، قد نلحظ هذا النزوع المتجدد نحو الأنا المعزولة، التي تخاصم وقائع العالم وسيرورته.

لكن الشعر اليوم أصبح أكثر يتمًا، فلا جوائز مرموقة تحفز الشعراء، ولا مطبوعة مهمة تهتم به، ولا نقاد مهمومين بنقد الشعر؟ لازم «ازدهار» الشعر العربي الحديث، انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر (الجرائد، والمجلات، والكتب…)، كما لازمه المنبر المسرحي والمهرجاني (الأمسيات، والندوات، والاحتفالات الجماهيرية). هذه الوسائط ذاتها تذهب شيئًا فشيئًا نحو الماضي والانصرام. معنى القراءة وأدواتها، ومعنى النشر والتداول، تعرضا لتحولات عميقة. يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت، سلطة الصحيفة الثقافية، سلطة المجلة النخبوية، سلطة المنابر السياسية، سلطة الشاعر نفسها، سلطة النقد ذاتها… كلها سلطات فقدت صلاحيتها. في رأيي، كل هذا يمنح الشعر عزلة إضافية، نقاء أكثر، غربة أشد، حرية أكبر، ونثرية أرحب. لم يبق للشعر سوى نفسه. وهذا قد يكون مكسبًا عظيمًا.

يحيى جابر: أزمة حريات

إنه مأزق عالمي عمومًا. فالشعر موجود أكثر اليوم في السينما وفي الرواية، وخصوصًا في الصورة والحوار الذكي واللقطة الذكية. الشعر تغيّر مع التحولات السوسيولوجية والسياسية والثقافية، فالشاعر لم يعد وزيرًا للإعلام كما كان في السابق، ولا محرّضًا ولا رسولًا. فدور الشاعر وأنواع الشعر، هي مسائل وهمية وخرافات. فتلك الصفات والمواصفات والأسماء الضخمة مثل شاعر الثورة، أو شاعر الفلسفة، أو شاعر البياض، أو الشاعر الوجودي، كلها انتهت مع الثورة التقنية الرقمية. وأصبح هناك فيسبوك وتويتر وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغيرها، وكلها يكمن فيها الشعر بشكل أو بآخر.

الطموح إلى السلطة

يحيى جابر

يحيى جابر

كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين والمهرجانات والأمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده. كان بمنزلة رسول، منجّم، متحدث باسم الأمة، أو المتحدث باسم الفرد والأنا المتضخمة… وهؤلاء كلهم مثالهم الأعلى المتنبي، أي يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها المال. وهذه السلطة إما أن تكون ثقافية وأقصى حدّ فيها أن يُعيّن الشاعر مسؤولًا لقسم ثقافي في صحيفة أو وزارة، وإما أن تكون سلطة أيديولوجية؛ إذ يعيّن الشاعر نفسه متحدثًا باسم الفقراء وعذاباتهم، وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح الشاعر الذي يكون لبقًا بهندسة الكلام بترؤس حزب، أو متحدث باسم هذا الحزب، أو متحدث باسم زعيم ما. وأكبر مثال على ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ لأنه يعدّ نفسه المتنبي، ويعيّن نفسه منظّرًا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب والأفراد. وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز.

أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول: إنها بُترت أو جُرحت أو ضُربت في السنوات الأربعين الأخيرة، وزاد انكسارها مع ظهور وسائل تعبيرية حديثة آخرها السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة القاضية. وهنا يبقى فقط 5 أسماء لامعة من أربعين سنة حتى الآن، بعد كل هذه الضربات الموجعة. فالمجلات والملاحق الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء، لكنها لم تُنتج حالة شعرية مهمة باستثناء ما حصل في بيروت ومصر. وفي لبنان على رغم ما أتت به مجلات الشعر المتخصصة التي عُدّت بمنزلة ثورة في القرن الماضي، إلا أن الشاعر في لبنان كان دائمًا تابعًا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة (وصاية سورية، ثورة، يمين، حركة وطنية). وأرى أن هذه الأزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم والأيديولوجيات التي تحكّمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية. وهنا نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية حتى الإسلامية.

لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات وسلوكيات أسلافهم من الشعراء، في لباسهم ونمط عيشهم والمقاهي التي يرتادونها، أما القصيدة فهي غير موجودة. وهؤلاء يكتبون عن الشعر، ولكنهم يعجزون عن كتابة قصائدهم.

باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من النظام إلى السلوك اليومي. مجتمع لا يعرف أن يعبّر، ولا كيف يهاجم سلطة، ولا كيف يثور وينجح في ثورته، ولا كيف يبني نظامًا سياسيًّا. إنها أزمة حريات وشجاعة، فالشاعر ابن الرفض، ولكن الـ «لا» لها ثمن وتحتاج إلى شجاعة، ولكن الشجاعة مفقودة.

فيديل سبيتي: المحل التعبيري الأكثر جدوى

فيديل سبيتي

فيديل سبيتي

الشعر العربي ليس في مأزق كما لم يكن في أي وقت، فهو وسيلة العرب الوحيدة للتعبير عن مآزقهم وآرائهم فيها، وتفنيدها، ودفعها، ورفعها، والسير بها، أو مدحها، أو ذمها. فكيف الحال في هذه الآونة من مآزق العرب الكثيرة والمتشعبة التي لن يفهمها إلا شاعر، أي متأمل ومغلّب مشاعره على واقعه بالمعنى التقليدي لتعريف الشعراء. بالتأكيد فإن الشعر العربي هو المحل التعبيري الأكثر جدوى لقول ما لا يمكن قوله في أي نوع من أنواع الفنون الأخرى، إلا إذا كان السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بلا جمهور.

هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض الجمهور عنه يجب أن تتوقف إلى غير رجعة. فالشعر الحديث أو قصيدة النثر، لم تكن منذ بداياتها جماهيرية، بل كانت محارَبة من مُحبّي الإيقاع والقافية وبحور الشعر والتراث الآفل. وقصيدة النثر أو الشعر الحديث لم تتوجه يومًا إلى الجمهور إلا إذا استثنينا بعض الشعراء الذين يكتبون أصلًا لجمهور متخيل حين يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، ومظفر النواب، وغيرهم قلائل. فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو لا يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ لأنه شعر رفض الجماعة، وعاداتها، وتقاليدها، والمرسّخ من كل ذلك، إنه شعر قلب العالم إلى عالم آخر لا يحبذه الجمهور ولا يستسيغه، بل يتهمه بالهرطقة.

لوركا سبيتي: غياب النقد

لوركا سبيتي

لوركا سبيتي

أولًا لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر، أو ما قضايا الشعراء الشباب اليوم، سنتحدث عن كل الأفكار التي قد تخطر، وكل الانفعالات التي قد تتجسد، وكل الهموم الإنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛ إذ لا شيء معين يتناوله الشعراء الشباب اليوم، هي موضوعات أزلية أبدية تخص الحياة والموت وما بينهما، لكل منهم طريقة في التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى، بأسلوب يميزه من الكتاب الآخرين. ولكن، لا بد من الإشارة إلى أن الملاحظ أكثر ما يكتب، وليس جميعه، له رائحة الواقع. ينقله بحقيقته من دون مواربة. ولنتخيل ما قد يكتبه هؤلاء الذين يعيشون في عالم دموي إن لم يكن قاتلًا فهو مقتول… منذ الجاهلية وصولًا إلى عصرنا هذا لا تزال الموضوعات ذاتها… الحب… العصبيات المتجسدة بمدح الفرد إلى مدح العشيرة إلى مدح الوطن والزعيم… .

على مستوى الأفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل، فتغير شكل القصيدة من دون أن يتغيّر مضمونها، ولا يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها، مسترجعًا صورة هارون الرشيد في خياله وجواريه، من دون أن ينفتح على بعد إنساني أبعد وأعمق. أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان مجرد كي يقع في أزمة خاصة، هو نتاج الشعراء. وإن ابتعد القرّاء عن الشعر فهذا مرده إلى عدم قدرة الشعراء على ملامسة عصب الجمهور ودغدغة أحلامه عبر معانقة واقعه. وهذا ما لا تسمح به الرواية، فطبيعة الرواية تفرض على الراوي الانطلاق من الواقع ورسمه وتلوينه، ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه في النص بعد أن ملّ من «أنا» الشعراء التي في الأغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غير مباشر، في هذا الزمن الذي انسحق فيه «أنا» الفرد في الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عبر الخيال آملًا في استرجاع بعض إنسانيته، وهذا ما تسمح به الرواية عبر فضائها الأرحب والأوسع والمتحرر من «أنا» الكاتب.

ثم إنني أرى في هذه الأيام أن الأغنية حلّت محل قصيدة العصر القديم في وجدان الناس، بلحنها وأدائها وكلماتها، حفظها الناس أكثر من القصائد بذاتها. والمشكلة الحقيقية للشعر في وطننا، هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب المتخصصين في النقد الشعري، إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو كتّاب أو مسؤولو صفحات ثقافية في الصحف، وهؤلاء في الأغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد، ليحل مكانها أهواؤهم، ومصالحهم الشخصية، ونظرتهم إلى جودة الشعر، وتقييمهم له.

ربيع بيروت الثقافي يصنعه لاجئون سوريون

ربيع بيروت الثقافي يصنعه لاجئون سوريون

يبتكر اللاجئون السوريون في لبنان حياة جديدة مواجهين الموت والمنفى والتيه، باحثين عن ذات جديدة، وعن عمل جديد، وعن وطن قد يكون مؤقتًا وقد يصبح بديلًا! بيروت ودمشق اللتان طالما تقاسمتا الهموم والمعاناة والقضايا السياسية نفسها (كما طرابلس وبعلبك وصيدا وشتورا وحلب وحمص ومدن الساحل السوري) تواجهان اليوم الموت معًا. لكن للثورة واللجوء السوريين فضل على بيروت اليوم، على عكس ما كانت دمشق وسوريا عامة مدينة لمناخ بيروت الديمقراطي والثقافي الحرّ في رفع صوتها «المخنوق» عمدًا لعقود طويلة.

لبنان الذي يستضيف اليوم، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أكبر عدد من اللاجئين في العالم بالنسبة إلى الفرد الواحد، فيه اليوم ما يربو على مليون لاجئ مسجّل فقط. وهناك تخمينات تقول: إن في لبنان نحو مليوني سوري، من مقيم وعامل ولاجئ ومقيم مؤقت. وهذه القضية التي تثير مخاوف الدولة اللبنانية وبعض الأحزاب العنصرية، أدت إلى خوف البعض من هذا العدد الهائل من البشر الذي يحتاج إلى مأكل ومشرب ومسكن وطبابة ومدارس في بلد يفتقد فيه مواطنوه أدنى حقوقهم المدنية والصحية والمعيشية عامة. لكن اقتصرت اعتراضاتهم على تعليقات هنا وحركات هناك. فلبنان كان ولا يزال أرضًا خصبة لاستقبال اللاجئين مهما كانت جنسيتهم، وليست تلك العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب السوري إلا «حركات صبيانية» يحرّكها أحزاب وسياسيون لمآربهم الخاصة ويستثمرونها لحساباتهم الشخصية.

غلاف-ألبوم-أرض-السمك-لهاني-السواحروح بيروت وفراشاتها

بينما على الصعيد الثقافي، يختلف الأمر تمامًا؛ إذ عرف المثقفون اللبنانيون أن زملاءهم السوريين هم روح بيروت وفراشاتها التي تزيدها رونقًا، فحضنوهم وأسسوا معهم مشاريع ثقافية رائدة. لكن المشكلة تكمن في الدعم الرسمي لهذه النخبة السورية التي تحتاج أيضًا إلى مسكن ومأكل ومشرب وحماية من الموالين للنظام السوري، ولا ننسى أن الفنانين والكتاب كانوا مدعومين من الدولة في سوريا بشكل أو بآخر، أما في لبنان فالثقافة هي مبادرة فردية محض. على الرغم من كل ذلك، وخصوصًا التهديد الأمني للمثقفين السوريين المعارضين، فقد بقيت بيروت ملاذهم المفضل، إلا في حالات معينة. فبيروت باتت مختبرًا رئيسًا لتفاعل ثقافة الشتات السورية؛ إذ احتضنت المسارح، وصالات العرض، والتظاهرات الموسيقية، وشركات الإنتاج الدرامية، والفنانين السوريين الذين أضافوا إلى المشهد الثقافي اللبناني نكهة ذكية تفاعلية، حرّكت الساحة. في البدء لم يتأقلم الفنانون السوريون، وغالبيتهم من الشباب، مع الجو الثقافي اللبناني، لكن سرعان ما اندمجوا فيه، وأغنوا فضاءاته، مفضلين الإقامة في ديار الجار الذي يفهم لغتهم وإن اختلفت أحيانًا وجهات النظر والمواقف السياسية مع بعضهم. وهنا نتحدث عن جيل الثورة الذي أتى حاملًا رؤاه وأساليبه عاكسًا نظرته إلى الواقع، في أعمال تشكيلية لتمام عزام وفادي اليازجي وسبهان آدم وياسر صافي ومحمد عمران على سبيل المثال، وأعمال موسيقية، مثل: مغني الراب هاني السواح، وفرقتي «طنجرة ضغط» و«لتلتة»، وأعمال مسرحية لوائل قدور، ومحمد العطار، وعبدالله الكفري، ويامن محمد، وأسامة حلال، وأمل عمران، وغيرهم كثر.

الدراما اللبنانية ونكبة السوريين

في لبنان جار «الرضا»، خلطت الأزمة السورية الأوراق في الإنتاج الثقافي كما في السياسة. وعلى نقيض الفوضى والتوترات الأمنية والاقتصادية والتهجير والفقر والانقسامات التي تحدثها السياسة، يأتي الإنتاج الثقافي اللبناني- السوري المشترك (مسرح، وتشكيل، وسينما، ودراما، وبرامج تلفزيونية، وموسيقا) بعد الثورة، إيجابيًّا. ومما لا شكّ فيه، أن الدراما اللبنانية التي تعاني أزمات تشرذم عِدّة، منذ سنين طوال، هي الأكثر استفادة من «نكبة» الدراما السورية المتأثرة بالأزمة السياسية والأمنية. فنزوح ممثلين ومخرجين وعاملين في الحقل الدرامي السوري إلى بيروت، أَثرى هذا القطاع الذي كاد يموت قبل ارتفاع أسهمه مع مسلسل «روبي» اللبناني- السوري- المصري المشترك. وهذا الثراء، وإن كان تأثيره محدودًا، استطاع انتشال المسلسلات اللبنانية وردّها إلى حلبة المنافسة مع «لو»، و«الإخوة»، و«لعبة الموت»، و«روبي»، وغيرها.

في عامي 2015 و2016م كان التأثير مضاعفًا مع أعمال مشتركة تحصد جماهيرية عالية، مثل: «تشيللو»، و«24 قيراط»، و«العراب» بنسختيه، و«بنت الشهبندر»، و«درب الياسمين»، و«عين الجوزة»، وأخيرًا «سوا». وبهذه الحالة، بات من غير المنطقي تصنيف غالبية المسلسلات التي تُصوَّر في لبنان، على أنها لبنانية محض أو سورية محض. فمسلسل «غدًا نلتقي» لرامي حنا الذي تربّع على عرش المسلسلات العربية في شهر رمضان الماضي؛ لأنه الأكثر صدقًا وتجسيدًا للتغريبة السورية، يُصوَّر في بيروت مع فريق عمل لبناني- سوري مشترك، وإن كان الممثلون كلهم سوريين. من هنا، تأتي «وحدة المسار والمصير» متلاحمة بين البلدين على الصعيد الدرامي، ولصالح لبنان، ربما، من حيث تحريك سوق الدراما، وإيجاد فرص عمل أكبر للتقنيين والمصورين والمديرين الفنيين، هذا ما عدا استفادة الممثلين اللبنانيين من خبرة السوريين الذين لمع نجم مسلسلاتهم عاليًا.

ولكن، في النهاية لا بدّ من الإشارة إلى أن الفنان أو المثقف أو المناضل يبحث أيضًا عن مستقبل أفضل، وعن الأمن والأمان، وعن المستوى المعيشي المرفّه؛ لذا كان لبنان لهؤلاء صعبًا وقاهرًا، فقرر جزء منهم «مكرهًا» كما يقول المسرحي محمد العطار، ترك لبنان؛ للبحث عن ملجأ آمن يحترم الإنسان وحقوقه ويؤمّن له دعمًا ماديًّا ومعنويًّا لمشاريعه الثقافية. ولا ننسى أن لبنان محطّة مؤقتة لجزء كبير من السوريين، وليس للمثقفين فقط.

هاني-السواحهاني السواح مغنٍّ يستثمر اللجوء

ليست بيروت أفضل مدينة للاجئين، لكنها قد تكون فأل خير، أو قد تعطي مساحة إيجابية لإنتاج مشروع فني أو ثقافي. هاني السواح الذي نزح من سوريا، اختار بيروت لتكون ملجأه بغض النظر عما يعانيه أبناء بلده هنا من عنصرية أو معاناة. هاني السواح (الملقب بالدرويش) هو مغني راب، ومهندس صوت، وشاعر يكتب أغاني وقصائد بالمحكية السورية. صدر له أخيرًا ألبوم بعنوان: «أرض السمك»، كتب عنه النقاد والموسيقيون بإيجابية عالية، ويمكننا القول: إن هذا الألبوم الذي طُبخ وسجّل في شوارع بيروت، رسّخ اسم هاني السواح كفنان موهوب في عالم الراب أو الشعر الشعبي والإيقاع. وهو الألبوم الأول لابن حمص التي استفزت ثورتها موهبته المكبوتة، ونقلته كتابة شعاراتها من طفل غاضب إلى ناضج يعرف كيف ومتى وأين يصرّف هذا الغضب، ليؤلف منه أغنية، ويوصل هواجسه إلى الناس. السواح الذي ترعرع في جوّ عائلي ملمّ بالثقافة والأدب، يلجأ إلى الشعر الشعبي والإيقاع؛ لوصف الأحداث السياسية والاجتماعية السورية المتسارعة، ونقدها بلغة شخصية حميمة، تنطلق من الأنا لتصل مع موسيقا اللبناني مازن السيد (الراس) إلى النحن والهُمْ وكلّنا…

مجلة «الفيصل» التقت السواح بوصفه نموذجًا ناجحًا للاجئ ومثقف سوري لم توقفه الحرب ولم تكبّله بيروت. عن الاندماج يقول: «أنا لا أعتبر نفسي مندمجًا مع المجتمع اللبناني، ولا أعتبر أن «الدمج» هو ما نبحث عنه، فهو ما يحدث عندما ينوي الـ«لاجئ» البقاء في البلد المضيف، وعن نفسي أنتظر الفرصة المناسبة لأعود إلى سوريا في أقرب وقتٍ ممكن». ويضيف: «في بيروت مؤسسات تحاول دعم الفن المستقل بغض النظر عن جنسية الفنان. فإيجابيات الوجود في بيروت هي المساحة التي تمنحها هذه المدينة لمريدي الإنتاج».

يعمل السواح إضافة إلى الفن خبير صوتٍ مستقلًّا للسينما والتلفزيون، وهذا ليس ثابتًا، قد «ألجأ أحيانًا إلى وظيفة ثابتة بأجرٍ ثابت». أما عن الدعم المادي للغناء والكتابة، فهو كما يفيد، «في الأحيان الكثيرة يكون من حسابنا الخاص، وأحيانًا تُقدم مؤسسة دعمها أو مساهمتها كما فعلت «آفاق» مع ألبوم أرض السمك حين ساهمت بالإنتاج».

ولكن هل تعتبر أن بيروت أعطتك شيئًا إيجابيًّا، أو مناخًا ما لتنتج ألبومًا، وتشارك في إنتاجات وأغنيات راب مع غيرك؟ يجيب السواح الوسيم والهادئ: «طبعًا، إيجابيات الوجود في بيروت هي المساحة التي تمنحها للذين يريدون أن يكونوا منتجين وأن يعملوا بجدية». من ناحية، هل يشعر بالحزن من مجرد وجوده هنا في بيروت، وهل يواجه عنصرية؟ بصدق يجيب السواح: «لستُ حزينًا، فالأصدقاء في بيروت أكثر من العنصريين، وتعرّضت فيها للدعم النفسي والمعنوي من أشخاص أكثر مما تعرّضت للعنصرية، لكنني من المحظوظين القلائل، وبرأيي هذا السؤال جوابه بديهي في دولة وزير خارجيتها جبران باسيل يحمل راية الخطاب العنصري ليرميه على أي منبرٍ يقدم له».

جملة هاني السواح الأخيرة كفيلة لتوضح الفرق بين احتواء الشعب اللبناني ومثقفيه للسوريين، وبين السياسة أو بعض السياسيين الذين يستغلون أي قضية لصالحهم الشخصي. لكن بيروت تبقى هنا بالقرب من الشام لتقول: لا للعنصرية، ونعم للحرية وللعودة إلى البلد الأم الذي قد يبدو مشهده أيضًا صعبًا وبعيدًا، إنما نحن محكومون بالأمل.