قراءة في «مفهوم الثقافة والمثقفين»

قراءة في «مفهوم الثقافة والمثقفين»

مصطلح «الثقافة» من المصطلحات الإشكالية في الفكر العربي، فالمصطلح في أصل نشأته كان فرنسيًّا، إذ تطورت دلالة الكلمة في اللغة الفرنسية من الدلالة على معنى العناية بالحقل والماشية إلى الدلالة على فلاحة الأرض، وبداية من القرن الثامن عشر بدأت تكسب شيئًا من معناها الحديث في اللغة الفرنسية نفسها، حيث بدأ التعبير بها مقرونة بمضاف يدل على معناها الجديد، كـ«ثقافة الفنون»، و«ثقافة الآداب»، و«ثقافة العلوم»، وفي نهاية ذلك القرن تحررت من المضاف، وأصبح مصطلح «الثقافة» وحده له مدلول خاص. وربما كان تعريف عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد تايلور (ت: 1917م) أول تحديد دقيق لمفهوم الثقافة، وهو الثقافة: «هي هذا الكل المركب الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في جماعة».

هذا التحديد لـ«الثقافة» يفهم منه ثلاثة أمور؛ الأول: أن الثقافة هي تعادل كل حياة الإنسان الاجتماعية، فحيث يكون الإنسان تكون له ثقافة، أي أن الإنسان مهما كان معتقده، وعرقه، ولغته لا يعيش من دون ثقافة. والأمر الثاني: أنها مكتسبة من الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، وليست وراثية بيولوجية، فالمجتمع هو الذي يحدد البصمة الثقافية لأفراده. الأمر الثالث: أنها ذات بعد جماعي، وليست حالة فردية، فكل مظاهر الثقافة من لغة، وأدب، ومعارف، وعادات، وتقاليد، وفن، هي نشاط اجتماعي يستلزم وجود جماعة بشرية.

ومن هذه المقدمة نجد أن مصطلح «الثقافة» مصطلح طارئ على فكرنا العربي اليوم، ولم يوجد مقابل له في حضارتنا، وإن وجدت كلمة «ثقافة» في القاموس اللغوي العربي، فإن لها دلالة مغايرة لمدلولها المتعارف عليه اليوم، فـ«ثقف» كما في «لسان العرب»: «ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفًا وثِقافًا وثُقُوفةً: حَذَقَه…، وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة، ورَجُلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ إِذَا كَانَ ضابِطًا لِمَا يَحْوِيه قَائِمًا بِهِ. وَيُقَالُ: ثَقِفَ الشيءَ وَهُوَ سُرعةُ التَّعَلُّمِ» فالكلمة في اللغة –كما ترى– تدل على إتقان الشيء، وربما أول من استعملها في سياق الحديث عن الشعر ابن سلام الجمحي (ت 232هـ) في طبقات فحول الشعراء، حيث قال: «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان». وهذا الاستعمال منه لم يكسب الكلمة دلالة جديدة، فقد استعملها بالمعنى اللغوي السابق، وهو (إتقان الشيء).

ومحصل القول أنه لم يوجد في تاريخنا مصطلح «المثقف»، فقد وجد (الفيلسوف، والمؤرخ، والأديب، والقاص، والواعظ، والمتكلم، والكاتب) أما هذا المصطلح فهو نتاج الحضارة الغربية –كما سبق بيانه– إذ ولد في سياق تطور تلك الحضارة، وانتقل إلينا عبر الترجمة من لغات تلك الحضارة، ومن هنا تولدت لدينا إشكالية مفهوم هذا المصطلح لدى المتلقي العربي، وما المقابل لهما في الحضارة الإسلامية؟ ولهذا نجد أن كبار المثقفين العرب اختلفوا إلى حد التناقض في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فالجابري دعا إلى تبـْـيِــئَـةِ هذا المصطلح (أي: البحث له عن مفهوم ضمن سياق الحضارة العربية) وخطا خطوة في هذا المجال، وعدَّ كلَّ مَنْ كان يحمل رأيًا مختلفًا، وبشَّر به في مقابل رأي السلطة في الحضارة الإسلامية مثقفًا، وعدَّ من نماذج المثقف في الحضارة الإسلامية الإمام أحمد بن حنبل، وابن رشد.

وفي المقابل يرفض إدوارد سعيد إدخال المثقف الديني في عداد المثقفين، وطرح مقولة «المثقف كائن علماني»، ويبقى الإشكال قائمًا، فهل كل من شَدَا شيئًا من التعليم والثقافة يعَدُّ مثقفًا؟ أو هو من تعمق في المعرفة الثقافية؟ ثم هل يشترط أن يكون مبشرًا بتلك لثقافة؟ ثم ما الثقافة؟ هل هي مقصورة على المنتج الفكري الخالص؟ وهل يدخل فيها المنتج الديني؟ أو هي كل منتج إنساني كما في تعريف إدوارد تايلور؟

وتظل هذه الأسئلة وغيرها من دون إجابة محددة؛ وذلك لضبابية هذا المصطلح، وذلك لنشوئه في سياق حضارة مغايرة، والمصطلح يتحدد مفهومه من خلال البيئة التي نشأ وتطور فيها. ومع استقرار مفهوم «الثقافة» في الفكر الغربي فقد ظلَّ مصطلح «المثقف» محل خلاف، فمن الذي يستحق لقب المثقف؟ وأشهر تحديد لذلك رؤيتا أنطونيو غرامشي، وجوليان يندا اللتان أوردهما إدوار سعيد في كتابه «صور المثقف»، فغرامشي يرى أن كل الناس مثقفون، ولكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع، ولهذا قسَّمهم إلى «مثقفين تقليديين»، وهم من يقومون بعملية التثقيف أو التفكير نفسه بصورة تقليدية يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام وجيلًا بعد جيل، كالمعلمين ورجال الدين، و«مثقفين عضويين»، وهم من يقومون بوظيفة التبشير والتنوير والخلق والتجديد، وحمل رسالة تأدية ذلك في مجتمعاتهم، وتحمل تبعات ذلك.

وأما جوليان يندا فيرى أن المثقفين طبقة صغيرة تتميز بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي، وهم من يشكلون ضمير البشرية، وهم بالغو الندرة نظرًا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل.

وهاتان الرؤيتان في تحديد من هو «المثقف» تنطلقان من الوظيفة التي يقوم بها المثقف، فالمحدد هنا ليس المعرفة بل الوظيفة التي يمارسها صاحب المعرفة، وإن كان لنا أن نصوغ ذلك بأسلوب آخر فإننا نقول: إن كل من كان له اطلاع واهتمام بأي جانب من جوانب ثقافة المجتمع من دين، وعادات، وتقاليد، وفنون، وغيرها من جوانب الثقافة فهو مثقف، ثم إن المثقفين بذلك نوعان، «مثقف مجمَّد»، و«مثقف مجنَّد»، فـالمثقف المجمَّد يحمل ثقافة مجمَّدة قاصرة لازمة على ذاته وغير متعدية لغيره، والمثقف المجنَّد يحمل ثقافة مجندة متعدية إلى غيره، فهو صاحب رسالة ثقافية يسعى لتمكينها في مجتمعه. وفئة المثقفين المجمَّدين هم الأكثر في كل المجتمعات الإنسانية اليوم وعلى مدى التاريخ؛ لأن الثقافة المجنَّدة (بالنون) ذات تبعات وتكاليف ليس باستطاعة الكثيرين تحملها.