متحف إسطنبول للفن الحديث على إيقاع البوسفور

متحف إسطنبول للفن الحديث على إيقاع البوسفور

علي مرزوق

علي مرزوق

خلال زيارتك إلى مدينة إسطنبول لا بد أن تحرص على زيارة متحفها للفن الحديث الذي تأسس في عام 2004م على مساحة ثمانية دونمات (ثمانية آلاف متر مربع)، وإذا كنت برفقة العائلة فاحرص على اصطحاب عائلتك وأطفالك إلى المتحف؛ لأنهم سوف يستمتعون بالانخراط في أنشطة متنوعة تستهدف الصغار والكبار على حد سواء، كما يستضيف المتحف أعمالًا ومعارض دائمة وأخرى مؤقتة، وهناك متجر خاص لاقتناء الهدايا التذكارية، ومكتبة عامة تضم مجموعة واسعة من المراجع العلمية لتاريخ الفن العالمي والتركي، ومساحات أخرى مخصصة للبرامج التعليمية والاجتماعية والتثقيفية، وصالة للسينما، ومطعم لتناول وجبة الغداء على ضفاف البوسفور.

IM_logo

المتحف كان مستودعًا للجمارك قرب ميناء السفن السياحية، ويقع في منطقة بي أوغلو على ضفاف نهر البوسفور على مساحة 8000 متر مربع، ويعرض أهم أعمال الفن المعاصر للفنانين الأتراك منذ ستينيات القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر، كما يضم بين جنباته أعمالًا لنخبة من أشهر فناني العالم الذين تنال أعمالهم تقدير محبي الفن والسياح ممن يفدون لزيارة المتحف من جميع أنحاء العالم جامعًا أعمالًا أدائية، ومسندية، ونحتية، ومفاهيمية، إضافة إلى أعمال الفيديو آرت، غير أن ما يثير حفيظة الكثير من السياح العرب وغيرهم من الجنسيات الأخرى الحاجة إلى التعريف باللغة العربية، والتوسع في الترجمة باللغة الإنجليزية؛ لأهمية ذلك بالنسبة للسائح العربي وغير العربي.

missum-11 missum-9 missum-7

من الأعمال التي تصدم المتلقي وتصيبه بالدهشة والحيرة معًا ذلك العمل المفاهيمي المسمى «سقف معلق» للفنان ريتشارد وينت وورث الذي أنتجه في عام 2005م، ويعرض مجموعة من الكتب المعلقة في سقف المدخل بواسطة أسلاك معدنية في مستوى واحد؛ لتجبر المتلقي على النظر إلى الأعلى بعد أن يمر أسفل منها. بهذا العمل المميز يستقبل المتحف زواره ليجدوا أنفسهم أمام أعمال تستحق التوقف أمامها كثيرًا، ومنها العمل المسمى «قدم نفسك لي» للفنانة التركية هاندان التي عرضت فيه عملًا مفاهيميًّا أنتجته في عام 2009م يحتوي على مجموعة من الحقائب، ملحق بها عدسات مقربة، تمثل بطاقة دعوة للمتذوقين إلى القرب من هذه الحقائب، بل والنظر من خلال هذه العدسات المقربة إلى أدق تفاصيلها، وهي بهذا العمل تدعو المتذوقين إلى تتبع أثر السفر على هذه الحقائب.

missum-6 missum-5

بينما تتوسط الكرة الزجاجية للفنان الدانماركي أولافور إيلسون التي أنتجها في عام 2010م بقطر (110 سم) غرفة صغيرة تنتشر فيها أشعة الضوء الملونة المنبعثة من الكرة الزجاجية لتترك انطباعاتها على مُحيّا المتذوقين. أما عمل «بلدي الجحيم» للفنانة التركية فخر النساء زياد فيمثل عملًا مسنديًّا يمتد على مساحة كبيرة (205×228 سم)، استخدمت في تنفيذه ألوان الزيت على القماش «الكانفاس»، ويمثل منمنمات تجمع بين الألوان: (الحمراء، والبيضاء، والسوداء، والصفراء).

missum-3 missum-1

ومن الأعمال المميزة أيضًا ذلك العمل التجريدي المسمى «سمك القرش الفظيع» للفنان مارك برد فورد، بمساحة واسعة تساوي (260×366 سم) ، واستخدم في تنفيذه بقايا وسائل إعلامية متنوعة على كانفاس. ومجسم «الأحمر الخامس» للنحات سيهون توبوز الذي استخدم فيه خامة (الفايبر غلاس) المطلي باللون الأحمر بمقاسات (137×185×115 سم)، تاركًا الأضواء والظلال تتبادل فيما بينها على مساحاته.

İstanbul-Modern

الحاج ناصر الدين دينيه..  حضور عالمي وإنساني

الحاج ناصر الدين دينيه.. حضور عالمي وإنساني

كان كاتباً ينفذ قلمه إلى أعماق النفس الإنسانية، وكان تشكيلياً يلتمس حياة الناس البسطاء، ويصور همومهم، فتجرد قلمه كما تجردت ريشته من ملونات الاستشراق السياحي التي كانت واضحةً في أعمال غيره من المستشرقين. إنه الفنان التشكيلي إتيان دينيه، الذي أصبح اسمه بعد إسلامه ناصر الدين دينيه، والذي عاش وأسلم ودفن في بوسعادة إلى جوار رفيق دربه إبراهيم باعامر، الذي أسلم على يديه، وكان قريباً منه ومشاركاً له في مجالات حياته الفنية والفكرية. كما يعد دينيه من الفنانين التشكيليين والكتاب الذين لهم حضور عالمي وإنساني من خلال لوحاته التي تصور الإنسان والمكان، وكتاباته التي تدافع عن الإسلام.

جاء إتيان دينيه إلى الجزائر من فرنسا، وتحديداً من أرض الحضارة المادية باريس، المولود فيها عام 1861م من أب مسيحي كان يعمل رئيساً لإحدى المحاكم بمنطقة السين بفرنسا. درس المرحلة الثانوية بثانوية هنري الرابع في باريس عام 1871م، نال بعدها شهادة البكالوريا، وكان خلالها يمتلك موهبة الرسم حتى نال أول جائزة في مسابقة الرسم عام 1879م. وخلال عام 1880م عمل في الخدمة الوطنية في فرنسا، وبعد أن أنهى الخدمة العسكرية التحق بمدرسة الفنون الجميلة في باريس عام 1881م، وفي عام 1882م سجل في أكاديمية جوليان، وفي العام نفسه عرض أعماله في صالون الفنانين الفرنسيين، أما عام 1883م فكان بداية المجد والشهرة له؛ إذ نال ميدالية الرتبة الثالثة عن إحدى لوحاته التي تمثّل منطقة سموا في فرنسا.

من إتيان دينيه إلى ناصر الدين

لم يكن يعلم دينيه أن عام 1884م هو بداية طريق الهداية والنور بعد الظلام؛ ففي هذا العام سافر إلى الجزائر أول مرة مع فرقة من علماء من منطقة بوسعادة، ولما أحسّ بالراحة النفسية والطمأنينة كرّر الزيارة عام 1885م، لكن هذه المرة كانت لمنطقتي الأغواط والجنوب الجزائري، تكرّرت بعدها سفراته إلى الجزائر لدرجة أنه كان يقضي ستة أشهر كل عام في الجزائر. عاد بعدها إلى فرنسا يمارس هواية الرسم والتلوين باحترافية عالية، وهذا الأمر جعل فرنسا أول مرة تقتني إحدى لوحاته، وكان ذلك عام 1886م، وأسّس بعد هذا النجاح والتميز رابطة الرسامين المستشرقين الفرنسيين عام 1887م، ثم سافر إلى الجزائر ليزور منطقتي الأغواط والبسكرة، ثم يستقر في بوسعادة التي وجد فيها راحته وطمأنينته، فصوّر طبيعتها التي سحرته، وبيوتاتها، وأزقتها، وناسها ببساطة عيشهم، وحبهم الآخرين، لدرجة أنه ألفهم، واقتفى أثرهم، وتعلّم لغتهم حتى أصبح بوسعادياً لا تفرق بينه وبين سكان أهلها الأصليين، يلبس لباسهم، ويأكل طعامهم، ويتطبع بطباعهم وعاداتهم وأخلاقهم التي وجد فيها ضالته، فأسلم بعد أن كان في صراع داخلي مع نفسه ومع ألوهية المسيح، وكان ذلك عام 1913م؛ إذ نطق دينيه الشهادتين بحضور مفتي الجزائر. وهكذا أصبح دينيه الفرنسي ناصر الدين دينيه -وهو الاسم الذي فضّله بعد دخوله الإسلام- مسلماً يقرأ القرآن ويصلي، بل يحجّ إلى بيت الله الحرام، ولم يكن اعتناقه الإسلام نتيجة تجربة أو تأثر بسيط، بل كان -كما يذكر- نتيجة بحث ودراسة تاريخية معمقة لجميع الديانات. ويصف دينيه كيف تعرّف الإسلام قائلاً: «عرفت الإسلام فأحسستُ بانجذاب نحوه، وميل إليه، فدرسته في كتاب الله، فوجدته هدايةً لعموم البشر، ووجدت فيه ما يكفل خير الإنسان روحياً ومادياً، فاعتقدت أنه أقوم الأديان لعبادة الله، واتخذته ديناً، وأعلنت ذلك رسمياً على رؤوس الملأ». وهذا الأمر جعل الغرب يصفونه بالخيانة، حتى إن كاتبهم ج. دينيه. رولانس بعد أن اعترف بفنه قال: «إن مواهبه كفنان نادرة، وأما بخصوص اعتناقه الدين الإسلامي فهذا أمر لا يمكن لعقليتنا الغربية العريقة والدينية أن تقبله».

مدينة السعادة سر إبداعه

خلال القرن التاسع عشر عاش في الجزائر كثير من الفنانين المستشرقين، الذين أعجبوا بها وبثرائها البيئي والثقافي والتراثي، أمثال: زعيم الحركة الرومانتيكية دولاكرو، الذي بهرته الجزائر بناسها وطبيعتها، وتعدّ لوحته (نساء من الجزائر) من أشهر أعماله، وأوجيه فرومنتان الذي زار الجزائر بصحبة بعثة للتنقيب الأثري عام 1852م، إضافةً إلى ناصر الدين دينيه الذي عشق بوسعادة أو (مدينة السعادة) كما يدلّ عليها اسمها؛ فهي محطة سياحية أسطورية، وأقرب واحة إلى الساحل الجزائري؛ لذا تُسمى أيضاً (بوابة الصحراء). هذه المدينة الحالمة تبعد من العاصمة الجزائر مسافة 260كم تقريباً، وتشتهر بأسواقها الشعبية التي تملؤها الحرف التقليدية المتميزة؛ مثل: صناعة الحُليّ الفضية، والزرابي ذات الخطوط الهندسية والنباتية، والملابس المطرزة بالزخارف الشعبية. أما متحف ناصر الدين دينيه، والممرات، والقلاع، ومسجد زاوية الهامل، إضافةً إلى طاحونة (فيريرو) الشهيرة، فكلها معالم يحرص على زيارتها السائح الآتي من كل مكان ليستمتع بمناظر النخيل والجبال ودعة الشمس، كما أن التجوال في واحاتها، وحدائقها، وتحت أقواسها التقليدية متعة حقيقية.

ويعدّ دينيه واحداً من الذين وقعوا في حب هذه المدينة السعيدة الساحرة؛ إذ عاش فيها أكثر سنوات عمره، واهتدى فيها قلبه إلى الإسلام، وبنى فيها بيته الذي أصبح متحفاً لأعماله بعد وفاته؛ لتكون موطنه الأبديّ بعد أن خصّها بأكثر من 139 لوحة تشكيلية تصوّر جمالها وبيوتاتها وناسها، حتى أصبحت بوسعادة ملهمة الفنان دينيه، فأثّرت في تشكّل فنه وتقنياته وأدواته، فأبدع، وفي ذلك ذكرت موسوعة ويكيبيديا: «دينيه مثل البوسعاديين ينتظر قمر رمضان مشدوداً إلى السماء بعد أن كان مشدوداً إلى الأرض، في بوسعادة أسلم، وفي بوسعادة قضى حياةً فنيةً عامرةً بالعطاء، وفي بوسعادة اليوم ضريحه، وبقية من روحه العطرة، وتراث ثرّ من الإبداع الذي استلهمه ناصر الدين دينيه من بوسعادة، وحياة ناسها البسطاء الطيبين، ومن نسائها الجميلات، وطبيعتها الساحرة، ومن نخيلها الباسق، ومن تمرها الحلو، وهي التي سكنت قلبه، فسكن أرضها إلى الأبد».

منزله متحف لأعماله

بعد أن قرّر دينيه الاستقرار في بوسعادة سكن بيتاً متواضعاً في حيّ الموامين، قريباً من منزل صديقه إبراهيم باعامر، حيطانه من الطين، وسقفه من خشب العرعر، قضى فيه أجمل حياة عمره، وبعد موته كان متحفاً لأعماله يزوره النقاد والذواقون والمحبون للفن التشكيلي من كل مكان. وفي الأربعينيات اشترت إحدى العوائل منزل باعامر الملاصق لمنزل دينيه، وقامت بهدمه، وكانت مديرة المتحف ترغب في شرائه وجعله توسعةً في المتحف، لكن أصحابها طلبوا مبلغاً خيالياً، ومازالت المفاوضات جارية من قبل الدولة لشراء أراضٍ مجاورة للمتحف لتوسعته.

التقيت السيدة عائشة حيون -مديرة متحف ناصر الدين دينيه- فذكرت بدايةً أن المتحف يضم بين جنباته 12 لوحة أصلية من أعمال ناصر الدين، إلى جانب ملصقات (بوسترات) منسوخة على القماش، والمتحف لا يحوي كلّ أعماله؛ فأعماله تزيد على 500 عمل موزّعة بين المتاحف والمجموعات الخاصة في الجزائر وفي المتاحف العالمية. وتضيف السيدة حيون: يعدّ متحف ناصر الدين حديث التأسيس؛ فقد تم تدشينه عام 1993م، وبسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة كانت الانطلاقة الحقيقية للمتحف عام 2004م.

يتكوّن المتحف من جزأين: الجزء الأول خُصّص لأعماله، وكلّ ما يخصّه من مخطوطات وغيرها، والجزء الثاني فيه منزله الذي كان يسكنه بطرازه التقليدي بعد أن تم عمل بعض الترميمات البسيطة حفاظاً عليه. وعن أوقات الزيارة ذكرت السيدة حيون: يستقبل المتحف زوّاره طوال أيام الأسبوع من التاسعة صباحاً حتى منتصف النهار، ومن الواحدة والنصف ظهراً حتى الساعة الخامسة مساءً، بينما يغلق المتحف أبوابه يومي الجمعة والسبت. أما عن مصير أعمال ديني الموزعة في متاحف الجزائر والعالم، فذكرت أنهم يعملون الآن على استرجاع أعماله الموجودة في المتاحف الجزائرية، ثم تضيف: استرجعنا بالفعل بعض أعماله من المتحف الوطني للفنون الجميلة.

الحقبة السوداء

خلال عام 1995م حدث اعتداء على متحف دينيه احترق على أثره بعض الأشياء البسيطة؛ مثل: سريره الذي كان ينام عليه، وأدواته الخشبية التي كان يستعملها، إلى جانب أشياء أخرى، أما الأعمال الفنية فلم تصل إليها ألسنة اللهب. ولسلامة الممتلكات أخذت الدولة أعمال إتيان ووضعتها بصفة مؤقتة في متاحف أخرى أكثر أمناً؛ كمتحف الفنون الجميلة بالعاصمة الجزائر، ومتحف أحمد زبانة في وهران، ومتحف سيرته. وبعد أن عاد الأمن تم استرجاع هذه الأعمال، ولا تزال المفاوضات مستمرة مع متحف وهران ومتحف قسنطينة لاسترجاع البقية. أما الأعمال التي في فرنسا، فهي ملك للحكومة الفرنسية، بينما بقيت بعض أعماله -حسب وصيته- عند أحفاد ابنه بالتبني سليمان بن إبراهيم الذي وافاه الأجل قبل أن تلتقيه السيدة حيون في فرنسا بأيام قليلة بعد أن ترك لها ثلاثة أعمال فقط، إضافةً إلى وصيته وبعض الوثائق المهمة.

الحاج دينيه في مكة

عند بلوغ دينيه الـ68 من عمره حجّ إلى بيت الله الحرام برفقة صديقه باعامر عام 1929م، وبعد أن أنهى مناسك الحج كتب رسالته الشهيرة من المملكة العربية السعودية، وتحديداً من محافظة جدة، يقول فيها: «هذه الرحلة تركت في نفسي انطباعات لم أشعر بما هو أسمى منها في كل حياتي؛ فلا أحد في العالم يمكنه أن يعطي فكرة عما شاهدته من جوانب هذه العقيدة الوحدانية، من حيث المساواة والإخوة بين نحو 250 ألفاً من الناس من مختلف الأجناس كانوا مزدحمين الواحد بجانب الآخر في صحراء موحشة». وبعد رجوعه من الحج سُمِّي بـ(الحاج ناصر الدين)، وعاد بعدها إلى باريس، ولم يتمكن من العودة إلى الجزائر؛ لأن المرض لازمه، فعاد إليها ميتاً بعد أن صلّى عليه كثير من الشخصيات الإسلامية، وممثّلون عن الحكومة الفرنسية في مسجد باريس الكبير، ثم نقل جثمانه -حسب وصيته- إلى الجزائر، ودفن في مقبرة (الدشرة القبلية) في بوسعادة في ضريحه الذي بناه لنفسه بجوار قبر رفيق دربه باعامر.

وصيته بالعربية كتبها بخط يده

استعنت بمديرة متحفه السيدة عائشة حيون لقراءة نصّ الوصية التي جلبتها مؤخراً من فرنسا؛ فمع أنه كتبها بالعربية إلا أنها لم تكن واضحةً بالشكل المطلوب، كما أنها كانت تحمل في طياتها أخطاءً إملائية، وألفاظاً تخصّ اللهجة الجزائرية التي تعلّمها؛ مثل: لفظة (فريستي) التي تعني (جثتي)، ولفظة (فرانصه) وتعني (فرنسا)، ولفظة (كيفاش) التي تعني (كيف)، وغيرها من الألفاظ. ولأن ناصر الدين لم يتزوج فقد كتب وصيته إلى ابنه بالتبني سليمان بن إبراهيم، وهو ابن أخت رفيق دربه إبراهيم، وكتبها في فندق الواحد في بوسعادة في الأول من مارس عام 1915م؛ أي: قبل نحو 97 سنة.

نص الوصية

«الحمد لله وحده، وبه نستعين.. إلى محبّنا وأعز الناس عندنا، وليدنا (ابننا) سليمان بن إبراهيم. لو كان ما جتني (جاءني) الموت كتبت في كتيبة وراثتي (في مدونة وصيتي) باش (من أجل) يدفنوني دفينة مسلم موحيد (موحد)، ويردوا فريستي (جثتي) إلى بوسعادة لو كان مت في فرانصه (فرنسا). لاكن (لكن) لو كان ماسيبتواشي (تركتوها) كيفاش (كيف) تردوا فريستي (جثتي) إلى بوسعادة». إلى أن يقول: «نطلب منك تبني لي قبر، خرج (خارج) جبانة (مقبرة) الموامين (المؤمنين)، تكتب فيها الشهدة (الشهادة) أني مسلم مادين (بدين) خالص. وأنا شهدت (أشهد) أن لا اله إلا الله، وسيدنا محمد رسول الله، وتدفن فيها حاجة متاع لبستي (ملابسي) في مضرب فريستي (في مكان جثتي).. وعليك السلام ورحمة الله وبركته (وبركاته).. من أبيك دينيه، آمين».

وبالفعل، بعد وفاته أعادت السلطات الفرنسية جثته إلى الجزائر، وتمّ دفنه في قبره بمدينة بوسعادة، وكُتب على شاهده بالخط الثلث: «هذا قبر المرحوم بمنة الحيّ القيوم الحاج ناصر الدين، وُلد بتاريخ مارس سنة 1861م، واعتنق دين الإسلام سنة 1913م، ولبّى دعوة ربّه بتاريخ ديسمبر سنة 1929م». ثم تلا هذه الأسطر ترجمة لها باللغة الفرنسية.

قراءة في أعماله

المتابع أعمال دينيه يلحظ أنها تنتمي إلى مرحلتين من حياته: مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام؛ إذ تصور أعماله التي رسمها قبل الإسلام نساءً عاريات، بينما تصوّر أعماله التي أبدعها بعد دخوله الإسلام نساءً محجبات، كأن الإسلام قد غسل ريشته فأصبحت لا ترسم إلا الجمال والطهر والعفاف. كما صوّرت ريشته مدينة بوسعادة التي أحبها وفق أسلوب فني يقول عنه المؤرخ الدكتور عفيف البهنسي: «امتاز أسلوب الحاج ناصر الدين بالواقعية التقريرية التي فرضتها قوة ملاحظته، وبذلك كان قريب الصلة بالناس، ومع أنه رسام دقيق إلا أن مقدرته التلوينية الخارقة قد أعطت واقعيته معنى خاصاً». بينما يرى سيد أحمد باغي أن أعماله أقرب إلى الانطباعية بما فيها من إثارة خفية على الرغم من قربها من الجمهور وتصويرها معاني الحياة الإنسانية. أما الناقد جان لونوا فيعدّ فنّ دينيه مرحلةً من مراحل الاستشراق الإفريقي المهمة؛ لما له من مكانة كبيرة في الفن التشكيلي.

متاحف العالم تقتني إبداعاته

ترك دينيه لوحات خالدة، وتعدّ لوحات: الصلاة، والعودة، وغداة رمضان، من أشهر أعماله، إلا أن عمله (الأم كلوتيد) حظي بقبول واسع عند النقاد والمثقفين مع أنه أول عمل قام برسمه بعد تخرّجه في مدرسة الفنون الجميلة. وأهّله عمله (صخرة صاموا) للحصول على لوحة الشرف عام 1882م، وبعدها بعامين؛ أي: عام 1884م، حصل على وسام صالون قصر الثقافة، بينما مُنح الوسام الفضي في المعرض العالمي الذي أقيم بباريس عام 1889م. وتزيّن أعماله معجم لاروس، ويقتني أعماله كثير من متاحف العالم؛ مثل: متحف برلين، ومتحف باريس، ومتحف سيدني، ومتحف طوكيو، إضافةً إلى متحف الفنون الجميلة في الجزائر. وقد اطّلعت على بعض لوحاته خلال زيارتي الجزائر؛ مثل: لوحة (امرأة مطلقة طردها زوجها مع أطفالها)، ولوحة (سطوح الأغوار)، ولوحة (الخروج من المدرسة القرآنية)، التي يصوّر فيها أطفالاً يلعبون مع أحد أقرانهم بعد خروجهم من مدرسة تحفيظ القرآن، ولوحة (الراقصة ذات الوشاح) التي تقدّر قيمتها بأكثر من 700 ألف يورو. وفي كل عام ترتفع أسعار لوحات دينيه؛ بسبب تمجيد الصحافة الخليجية لها، والآن تباع بعض أعماله في جاليري دغو بباريس. أما أعماله التي تزيّن بعض الكتب؛ مثل: عنتر، وربيع القلوب، وسراب، ولوحة الحياة العربية، والفيافي، والقفار، فقد جسدت صحراء الجزائر البلد الذي أحبه.

ناصر الدين ينصر الدين

لم يكن دينيه رساماً مشهوراً فقط، بل كان مفكراً وكاتباً، سخر قلمه لنصرة الإسلام والمسلمين؛ إذ نشر آراءه في كثير من الكتب التي يتحدث فيها عن الإسلام، وعظمته، وسعة أفق علمائه، وأنه لا يقيّد التفكير بقدر ما هو يوسع المدارك، يرد فيها على كثير من كُتّاب الغرب المرجفين المشككين في حقيقة الإسلام وأهله، منها: أشعة خاصة بنور الإسلام، والشرق كما يراه الغرب، الذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان: آراء غربية في مسائل شرقية، وكذا كتاب (إنك في وادٍ ونحن في وادٍ) يردّ على المستشرق لامانس؛ القسّ اليسوعي الحاقد على الإسلام وعلى نبيّ الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد عودته من الحج ألّف كتاب (الحج إلى بيت الله الحرام)، أما كتابه (محمد رسول الله)، الذي يصوّر فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي شاركه في تأليفه سليمان بن إبراهيم، فيعدّ من أهم مؤلفاته، وكان قد وضع مقدمة هذا الكتاب الشهير شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود في مارس عام 1956م.

معارض وأفلام وعروض أداء وبرامج تعليمية في بينالي الشارقة 12

معارض وأفلام وعروض أداء وبرامج تعليمية في بينالي الشارقة 12

انطلقت الدورة الثانية عشرة من بينالي الشارقة بحضور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي – عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة – ورعايته تحت عنوان: (الماضي، الحاضر، الممكن)، من تقويم أُنجي جو، ومشاركة 55 فناناً أتوا من 25 دولةً؛ ليطرحوا أفكارهم حول (الممكن) من خلال مشروعاتهم وأعمالهم الفنية، وعروض الأداء، والأفلام، والأعمال التركيبية، والندوات المتخصصة التي تتوافق مع أبعاد الشعار؛ لتشكل احتمالات مستمرة من أشكال الفنون المعاصرة.

يستمر بينالي الشارقة في هذه الدورة ثلاثة أشهر من 5 مارس إلى 5 يونيو عام 2015م، بعد أن كانت مدته شهرين في الدورات السابقة. وفي هذا السياق قالت الشيخة حور القاسمي؛ رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون القائمة على تنظيم البينالي: تم تمديد مدة البينالي هذه الدورة؛ بسبب اهتمام الجمهور المتزايد بالبينالي بوصفه حدثاً فنياً يقدّم أنواعاً مختلفة من الفنون المعاصرة التي تناقش ما يجول في فكر المشاهد وهمومه، إضافةً إلى ما يوفّره من مساحات المرح والتأمل والتعلم. وأضافت أن البينالي في دورته الحالية يضم برامج تعليمية متخصصة في الأعمال كافة، والندوات، وعروض الأداء، والأفلام، وبرامج الجولات التعريفية للمدارس والمجموعات.

 

أضواء

يعد بينالي الشارقة من أهم الأحداث الثقافية في العالم العربي؛ فمنذ انطلاقه عام 1993م، استطاع البينالي أن يصنعUntitled 3 جسراً ثقافياً يربط الفنانين والمؤسسات الفنية على المستويات: المحلية، والإقليمية، والدولية، في دورته عام 2013م التي تزامنت مع مرور عقدين من الزمن على انطلاقة البينالي؛ إذ بلغ عدد الزوار نحو 90 ألف زائر من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافات والجنسيات، من فنانين وجمهور وممارسي فن.

وقد أخذ بينالي الشارقة يتشكل في بدايات عام 2013م من خلال محادثة خاصة أجرتها أنجي جو مع الفنان دان فو؛ إذ ناقشا معاً أهمية الفن المعاصر، وقدرة العاملين والمسؤولين في قطاعات الفنون على إحداث التأثير في الواقع الفني من خلال التكليفات التي تتجاوز التحديات الاجتماعية والسياسية الآنية، وأقرّا بالحاجة إلى فنانين لهم دور نافذ وفعّال، ويملكون القدرة على تصوّر الممكن.

وعلى حين يؤكد البحث الأركيولوجي وجود الإنسان في هذه المنطقة منذ أكثر من 150 ألف عام مضى، فإن مدينة الشارقة، التي تعدّ إمارة وعضواً في ذاك الاتحاد الشاب نسبياً، تعتمد مشروعها بحيوية وقوة، في إطار التعليم والثقافة والعقيدة والتراث والعلوم.

 

أعمال منتجة خِصّيصى للبينالي

في هذه الدورة من البينالي، تم إنتاج ما يقارب ثلثي الأعمال خِصّيصى للبينالي ضمن برنامج التكليفات؛ منها ما هو تركيبي، ومنها ما هو أدائي. وفي هذا الإطار قالت أُنجي جو: يركز بينالي الشارقة في دورته الحالية في التكليفات والمشروعات التي أنتجت خِصّيصى للبينالي، ومنها مشروعات مصمّمة خِصّيصى لمواقع محدّدة من الشارقة، كما يضمّ عدة أعمال جديدة، وفي الوقت نفسه لا يستغني عن دور فنانين جسّدوا تاريخاً لا يسعنا سوى الرجوع إليه دوماً.

 

مواقع مختلفة تحتضن البينالي

بدأت فعاليات الافتتاح في مباني مؤسسة الشارقة للفنون؛ في منطقة المريجة في الشارقة، متضمنة برنامجاً حافلاً بعروض lojoالأداء والأفلام في مناطق مختلفة من إمارة الشارقة؛ إذ يضم ميناء خالد عملين لكل من: الفنان مايكل جو، والفنانة أسونسيون مولينوس غوردو، ومبنى الطبق الطائر الذي أقيم في حقبة السبعينيات يضم أعمال الفنان حسن خان، وسوق الشناصية يعرض أعمالاً تركيبية لكل من: محمد كاظم، وميكسرايس، أما العمل التركيبي المحدد الموقع للفنان أبراهام كروزفييغاس فيمكن رؤيته في سوق الطيور والمواشي، وفي مدينة كلباء احتلّت أعمال الفنان أدريان فيلار روخاس مبنى مصنع الثلج القديم.

وتمتد مجموعة كبيرة من الأعمال لفناني البينالي من خلال المباني الفنية لمؤسسة التراث ومنطقتها؛ منهم: عبدالله السعدي، وإيمان عيسى، وسينثيا مارسيل، وتارو شينودا، وريّان تابت، وهيجيو يانغ. كما تضم المنطقة عملاً بعنوان (عبر خط الطبشور) للفنان غاري سيمونز الذي أقام من خلاله ملعباً للكريكيت للأطفال. كما أقيمت بعض عروض الأداء في معهد الشارقة للفنون المسرحية، وبعضها ينتقل إلى ساحة الفنون والتراث وواجهة المجاز المائية. كما يضم متحف الشارقة للفنون وبيتا السركال والشامسي مجموعة من الأعمال تُراوح بين الفيديو والأعمال التركيبية واللوحات لفنانين معاصرين ومؤسسين.

وفي معهد الشارقة للفنون المسرحية تعرض (ساعات عمل سفارة أبخازيا مع ماكسيم جفينجيا) وهي جزء من عمل (جلسات انفصال) للفنان إريك بودلير، وعرض (إكس واي زي) للفنان إدواردو نافارو في ساحة آل حمدان ابن موسى، وعرض الأداء (استخدمه كالماء) للفنان نيكيل شوبرا في بيت عبيد الشامسي، و(معالم الروح: عنف وهياكل سحرية وحرّاس متخفّون) للفنان أوريل بارتيليمي، وعرض (في سينما سراب المدينة)، بالمباني الفنية لمؤسسة الشارقة للفنون، والعرض التفاعلي بعنوان (فرقة براس الجنائزية) للفنان بابي أبوتاني الذي امتدّ من ساحة الفنون إلى ساحة الخط، وفي معهد الشارقة للفنون المسرحية عرض (الشحنات) للفنان فاوستن لينيكولا، وفي بيت عبيد الشامسي يعرض فِلم (غياب الحضور) لكلٍّ من: آيرين أناسطاس، ورينيه جابري. وفي مبنى الطبق الطائر عرض العمل التركيبي للفنان حسن خان يصاحبه عرض فيديو يركّز في النكتة المصرية، وعروض أفلام بينالي الشارقة 12 في سينما سراب المدينة، وهي المباني الفنية بمؤسسة الشارقة للفنون.

وفي عمله (ماء الورد الدمشقي) يقدم ريركريت تيرافانيجا في بيوت الخطاطين (حديقة للورد الدمشقي)، تحمل العبق ذاته، وفيها فسحة، وعلى جدرانها أبيات مخطوطة عن البنفسج الدمشقي. وفي ساحة الحديقة تقدّم وصفات شرقية تصنع من ماء الورد الدمشقي. كما قام الفنان بصنع آلة لتقطير ماء الورد مستلهماً ذلك من نموذج يعود إلى القرن الرابع عشر لآلة تقطير ماء الورد التي صنعها العالم (المزي). ويقدم الفنان تارو شيندوا في عمله (كارسانسوي) منصّة خشبية مظلّلة، تحدّد النقطة المثالية للنظر إلى فراغات ممتدّة على حديقة قائمة وفق معايير الحدائق اليابانية الجافة، وتوفر مساحة هادئة للتأمل.

 

حوارات بينالي الشارقة 12 تناقش الأعمال المشاركة

استمرت حوارات بينالي الشارقة 12 في جلسة حوراية ترأستها أنجي جو -قيّمة بينالي الشارقة 12- مع اثنين من فناني بينالي الشارقة 12، هما: مايكل جو، وبايرون كيم، في سينما سراب المدينة، في مباني مؤسسة الشارقة للفنون. وناقشت الجلسة الأعمال التي يقدّمها كل من: الفنان مايكل جو، والفنان بايرون كيم، وشرحت الجلسة كيف توصّل كل فنان إلى مفهومه المختلف، ورؤيته الخاصة التي يرى من خلالها إمارة الشارقة من منظور (الماضي، الحاضر، الممكن)؛ إذ يتألق عنوان بينالي الشارقة في دورته الثانية عشرة بأبعاد متتابعة ترتكز في نقطة واحدة، وهي الشارقة بماضيها وبمئات السنين التي مرت بها، وبحاضرها الذي يمتد بشكل أو بآخر من الماضي، لكن حضوره الخاص والعميق يتمثل في رؤية الفنانين الممكن واحتمالاته.

وقد عبّرت عن ذلك القيّمة أُنجي جو، بقولها: يفيض العالم بالأسئلة والأفكار، التي من الممكن أن تجد طريقها إلى هنا. لكل فنان رؤيته، ولكل فنان تفسيراته الخاصة التي تتقاطع بشكل أو بآخر مع عنوان بينالي الشارقة 12.

وشارك الفنان مايكل جو من خلال عمل تركيبي توصّل إليه من خلال مجموعة الأسئلة التي تبحث في التاريخ الطبيعي. ومن خلال الزيارات الميدانية، وبحوث أنظمة الريّ القديمة والمعاصرة في دولة الإمارات؛ استطاع تنفيذ عمله في أحد المخازن في ميناء خالد. ومن خلال عمله الذي يمتد عقدين من الزمن، أعاد تعريف العمل التركيبي، مشكِّلاً مجموعة من الأعمال التي تتجاوز الإغراءات التي تقدمها التكنولوجيا، والإجابات السهلة التي يقدّمها العلم لإنشاء مجموعة من الأسئلة التي تضع البشر في السياق الطبيعي؛ إذ قال: زيارتي الأولى الشارقة والمنطقة أعطتني عدة انطباعات عن حيوات مختلفة، وأخذ تفكيري منحى آخر في تحليله الأمور؛ هذه الثقافة المختلفة تماماً عما عشته سابقاً تحمل زخماً من الثقافات واللغات، وتدعو إلى التأمّل. أما بايرون كيم الذي تقع أعماله في مكان ما بين التجريد والتصوير، بين المفاهيمية والرسم الخالص، فهو مفتون بسماء الشارقة؛ فهو يقدم ثلاثة أعمال تضم عملاً تركيبياً متمثلاً في علم يحاكي لون سماء الشارقة، إضافة إلى سلسلة من اللوحات التي يرسم واحدة منها كل يوم أحد وصولاً إلى افتتاح البينالي.

وعلقت أُنجي جو: كان لحضور الفنانين أول مرة إلى الشارقة في أثناء لقاء مارس عام 2014م الدور البارز في عملية البحث والتفكير وطرح الأسئلة حول طبيعة الأعمال التي من الممكن تنفيذها في إمارة الشارقة، وأعقب اللقاء زيارات ميدانية منظمة داخل إمارة الشارقة والمناطق التابعة لها في خورفكان وكلباء، بمختلف معالمها الثقافية والفنية والتراثية والتاريخية.

 

مؤسسة الشارقة للفنون

تستقطب مؤسسة الشارقة للفنون طيفاً واسعاً من الفنون المعاصرة، والبرامج الثقافية؛ لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، والإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. فمنذ عام ٢٠٠٩م، تشكّلت المؤسسة على تاريخ التعاون والتبادل الثقافي الذي تزامن مع بينالي الشارقة منذ انطلاقته عام ١٩٩٣م. وتسعى مؤسسة الشارقة للفنون، من خلال العمل مع شركاء محليين ودوليين، إلى خلق فرص للفنانين، وتفعيل الإنتاج الفني، من خلال المبادرات والبرامج الأساسية للمؤسسة التي تشمل بينالي الشارقة، ولقاء مارس، وبرنامج الفنان المقيم، وبرنامج الإنتاج، والمعارض، والبحوث، والإصدارات؛ إضافة إلى مجموعة المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة في ترسيخ الدّور الأساسي الذي تؤديه الفنون في حياة المجتمع، من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.

وترأس مؤسسة الشارقة للفنون الشيخة حور القاسمي، وهي فنانة حاصلة على بكالوريوس في الفنون من كلية سليد للفنون الجميلة في لندن عام 2002م، ودبلوم في الرسم من الأكاديمية الملكية للفن في لندن عام 2005م، كما حصلت على ماجستير في تقويم الفن المعاصر من الأكاديمية الملكية للفن في لندن عام 2008م، وفي عام 2003م تم تعيينها قيمة على بينالي الشارقة، واستمرت القاسمي رئيسة البينالي.

حوارات مع الإنســان والبيئـــة

حوارات مع الإنســان والبيئـــة

ودّع رائد الفن التشكيلي السعودي عبدالجبار اليحيا (1931- 2014م) الساحة التشكيلية عن عمر ناهز 83 عاماً بعد معاناة مع المرض جعلته يتوقّف عن الرسم سنوات.

وُلد اليحيا في مدينة الزبير بالعراق، وتلقّى تعليمه فيها، ممارساً هواياته الفنية التشكيلية منذ طفولته وخربشاته بالفحم على الحيطان، ثم صقلها معلّمو التربية الفنية في مراحل التعليم العام، كما صقل تجربته الفنية اطلاعه على الأعمال والتجارب الفنية لمجموعة من فناني العراق، واطلاعه كذلك على أعمال فناني عصر النهضة، أمثال: سيزان، ومانيه، وليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو.

وفي عام 1949م عاد إلى المملكة ليواصل مسيرته الفنية التشكيلية؛ انطلاقاً من المنطقة الشرقية؛ فمارس هواياته التشكيلية متنقّلاً بين: التصميم، والرسم، والتصوير التشكيلي، والنحت، والحفر (الجرافيك)، التي أهّلته للمشاركة في المعارض الجماعية التي تقام داخل المملكة وخارجها.

وفي عام 1971م أقام أول معارضه التشكيلية الشخصية، كان آخرها معرضه الثاني عشر في عام 2009م، واستضافته حوار جاليري في الرياض كتكريم له، ولتجربته الفريدة، وكفاحه الطويل من أجل الحركة الفنية التشكيلية السعودية والعربية.

هذه المعارض الشخصية احتضنتها عواصم عربية وعالمية، هي: الرياض، وبيروت، وبودابست، إلى جانب مشاركاته الكثيرة في عدد من المعارض الدولية، وتعدّ مشاركته في متحف فوريست بارك بولاية ميسوري الأمريكية عام 1952م أول مشاركة دولية بمعرض جماعي لفنان سعودي. أما تنقلاته بين كثير من الدول، والعيش فيها؛ مثل: العراق، والبحرين، والكويت، والمجر، والولايات المتحدة الأمريكية، فجعلته يطّلع ويعايش ثقافات مختلفة انعكست على أعماله وتجاربه التشكيلية.

الفن للحياة

لم يكن الفن التشكيلي لدى اليحيا مجرد ممارسات لشغل وقت الفراغ، أو مادة للتسلية، كما أنه لم يكن يؤمن بنظرية «الفن للفن»، ولكنه353 مع «الفن للحياة»، وفي ذلك يقول: «لم يدُر بخلدي مطلقاً أن الفن تسلية أو هواية مجردة من الغرض والنفع العام، بل كنت أعتقد أن لي رسالة يجب أن أحققها، سواء بإدخال المتعة والسرور بتذوق الجمال أم بتحقيق فكرة تفتح كوة أمل للإنسان»؛ لذا عالجت أعماله التشكيلية قضايا اجتماعية تهمّ الإنسان بشرائحه المختلفة؛ فمثلت علاقة الإنسان بمجتمعه وبيئته بما فيها من تلّ أو شجر، وبما عليها من عمارة تقليدية تؤكد حضوره وتفاعله مع كلّ ما يحيط به؛ فلوحات: (انتماء، والعودة، ومبان تراثية، وشارع العليا) كلها أعمال تؤكد هذا التفاعل وهذا الانتماء وفق رؤية بصرية تبتعد من النقل الباهت للواقع، وهذا ما يؤكده الدكتور عبدالرحمن الرصيص بقوله: «لا يتقيد اليحيا بمظاهر الرؤية البصرية الفقيرة في نتائجها الفنية، كما لا يتقيّد بأسلوب فني واحد للتعبير عن عناصره الإنسانية، إنما يجنح إلى منح معرفته ورؤيته مزيداً من التفاعل مع الأفكار المستلهمة للخروج بعمل فني يحمل شيئاً من لغته وفلسفته الخاصة».

الاقتراب من المتلقي

إن المتابع أعمال اليحيا التشكيلية يلحظ أنه يروم من خلالها إلى خلق حوارات مع الإنسان والبيئة والحياة وفق أسلوب تعبيري يخصّه بعيداً من تقاليد الاتجاهات والمدارس الفنية؛ فنجح في الاقتراب من المتلقي بأطيافه وثقافاته المتعددة بأعمال تلقائية تبتعد من التعقيد اللوني والشكلي، وتلامس الهم الإنساني، وتصوّر معاناته، وهذا الأمر يؤكده الناقد المغربي محمد السلاوي بقوله: «اليحيا ينفذ إلى التعبير خارج القوانين الأكاديمية باستخدامه أقصى ما يمكن من جرأة دون خوف من الوقوع في شرك قوانين المدارس والأكاديميات من أجل إيصال خطابه التشكيلي». أما موضوعاته، فيقول عنها الناقد السوداني الدكتور عبدالمجيد فضل: إنه يختارها بعناية لتعالج قضايا فنية وفكرية واجتماعية. هذه الموضوعات تمثّل علاقات الإنسان مع ما يحيط به من منازل ونخيل وأرض (كما يذكر الفنان عبدالرحمن السليمان)، الذي يضيف بأن «توجهات اليحيا تأثرت بقناعات يدافع عنها، وأن أعماله تتضمن أبعاداً ومعاني تشكّلها علاقات العناصر، وأسلوب صياغتها في بساطة في التكوين، وزهد في التلوين، وسعى إلى تكثيف الفكرة، فاختفت في عدد من أعماله ملامح شخوصه».

الكتابة المتخصصة

بقي أن أذكر أن اليحيا لم يقف ممارساً الفعل التشكيلي، بل تعدى ذلك إلى ممارسته الكتابة الصحفية المتخصصة منذ عام 1968م؛ إذ بدأ محرراً صحفياً في صحيفة (المدينة)، ثم تعدّدت كتاباته المتخصّصة في الفن والتشكيل بعدد من الصحف المحلية والعربية، كما أصدر كتيباً يحكي سيرته الذاتية، عنوانه: «عبدالجبار اليحيا وخمسون عاماً من الرسم». أما طموحاته وأمنياته التي لم تتحقّق إلى يوم وفاته، فقد ذكرها في كثير من لقاءاته الصحفية، منها: رغبته في أن يكون بكلّ مدينة متحف فني تشكيلي، وأن تُطلق أسماء روّاد الحركة الفنية التشكيلية السعودية على المعالم والشوارع وأقسام الفنون، وأن تُصرف للمبدعين بطاقات تأمين طبية، إلى جانب الاهتمام بالمؤلفات التي تخدم الفنون، وطباعتها، والترويج لها.