صحراء غازي وصحراء أسامة

صحراء غازي وصحراء أسامة

ghazy8في سنة 1386هـ نظم غازي القصيبيّ قصيدة «يا صحراء»، وفيها يَلُوذ شاعر شابٌّ بالصَّحراء، يستمنحها الأمْن لنفسه، والسَّكينة لروحه. والقصيدة أنشودة رومنطيقيَّة تنطوي أبياتها على هَلَع شابّ ما استقرَّ، بَعْدُ، في وطنه الأُمّ، بعد سنوات النَّشْأة في البحرين، وسنوات الغربة في أميركا، وها هي ذي قصيدته «يا صحراء» كأنَّها تميمة يؤلِّف بها قلب الصَّحْراء، فعسى أن تمنحه الدِّفْء، وعسى أنْ تقبله ابنها الجديد.

يصف القصيبيّ في هذه القصيدة الصَّحراء بالـجَدْب والطُّهْر والعُنْف معًا

وَطُفْتُ الكَوْنَ.. لَـمْ أَعْثُرْ

عَلَى أَجْدَبَ مِنْ أَرْضِكْ

عَلَى أَطْهَرَ مِنْ حُبِّكْ…

أَوْ أَعْنَفَ مِنْ بُغْضِكْ.

اختلطتْ مفردات البحْر والصَّحْراء في هذه القصيدة، فوَجْه الشَّاعر عليه رذاذ البحْر، ووسط الصَّحْراء الجديدة لم يَنْسَ، بَعْدُ، مَرْساته التي ألقاها على الرَّمْل، وينادي الصَّحراء بكلمة «أُمَّاه»، وهي تناديه بكلمة «طِفْلِي»، وكأنَّها استعادتْه بَعْدَ طُول غياب، وفي هذه القصيدة كانتْ صحراء القصيبيّ الَّتي حَلم بها، هي صحراء الرُّومنْطيقيِّين، تلك الصَّحراء الَّتي تُخَبِّئ أسرار «صَبَا نَجْدٍ»، وتَمْنَح العاشقين نَفْحَة مِنْ «عَرَارِه» المشهور! قال غازي قصيدته، وهو في السَّابعة والعشرين مِنْ عُمره، وكأنَّه أراد أن يُوَطِّن نفسه أنْ ستقبله الصَّحراء، وكأنَّه رَمَى، مِنْ وراء هذه القصيدة، أنْ ستقبل الصَّحْراء شاعرًا ما انفكَّ يَحِنّ إلى مرابع صِبَاه في «جزائر اللُّؤْلُؤ»، غير أنَّه ما لبث غير قليل حتَّى شَدَّ الرِّحَال إلى الغرب، مِنْ جديد، ثمَّ آب إلى صحرائه، وجعل يُطَمْئنها هذه المرَّة بديوان كامل، لعلَّه صَكّ انتماء إليها، وكان ديوان «أنتِ الرِّيَاض» دغدغة مِنْ شاعر تنتثر مفردات البحر على جسده لعروسه الصَّحْراويَّة الرِّياض، فهي لم تَأنَسْ، بَعْدُ، لشاعرها الَّذي أشبع ليل المنامة شِعْرًا وَحُبًّا، وهلْ يصطلح البحر والصَّحْراء؟

حُبُّنا يُشْرِقُ فِي عَيْنَيْكِ…

كَالبَدْرِ عَلَى لَيْلِ الخَلِيجْ

سَلَّةً مِنْ لُؤْلُؤٍ.. حِزمَةَ فُلٍّ.. قَافِيَهْ

مَا الَّذي أَلـمـَحُه فِي العَالَـمِ الأَخْضَرِ

مَا بَيْنَ الـمِيَاه الصَّافِيَهْ؟”

أُمْسِيَاتِي فِي رِمَالِ السِّيفِ.. أَيَّامِي

عَلَى البَحْرِ.. لَيَالِـي الغَوْصِ..

أَنْوَارُ الـمَنَامَهْ

رَجَعَ الغَوَّاصُ، يَا أَغْلَى الَلَآلِـيْ، بِالسَّلَامَهْ”.

لكنَّ صحراءه لم تُنْسِه واحتَه القديمة، ويَنْسَى الشَّاعر أنَّ للأمكنة قلوبًا تغار، ويَنْسَى أنَّ ديوانه يحمل اسم «أَنْتِ الرِّيَاض»، فيُنْشِد على مسامعها قصيدة يستدني فيها طفولته في المنامة وأمنه وسكينته

ghazy6أَعُودُ إِلَيْكِ

أَقُصُّ عَلَيْكِ حَكَايَا العَذابْ

وَكَيْفَ ارْتَحَلْتُ وَرَاءَ السَّرَاب

وَكَيْفَ صَحِبْتُ الذئَابْ.

ويقول:

خُذينِي إِلَيْكِ

وَلَا تَتْرُكِينِي

أَعُودُ إِلَى القَفْرِ وَالغُولِ..

لَا تَتْرُكِينِي..

أُفَتِّشُ عَنْ مَنْبَعٍ فِي الصُّخُورْ

عَنِ الوَرْدِ فِي الرَّمْلِ..

لَا تَتْرُكِينِي..

لِقَهْقَهَةِ اليَأْسِ

فِي خُطُوَاتِي

لِزمْجَرَةِ الشَّمْسِ فَوْقَ جَبِينِي

لِحُرْقَةِ جُوعِي الدَّفِينِ

إِلَيْكِ..

إِلَيْكِ..

لم تُفْلِحْ قصائد الغزل في أنْ تُقَرِّب القصيبيّ مِنَ الصَّحْراء، وليس عليها مِنْ لوم، فشاعرها يُخَبِّئ خلف مفرداته حنينًا جارفًا إلى الواحة والبحر، وفي وسط صحرائه المهلكة تبدو الواحة في خياله فتمنحه الأمل، ولم تَـجُدِ الصَّحراء عليه بطُمأْنينة روحه، وحين يقف قبالة الأربعين تحضر الصَّحْراء والواحة في مشهدين متناقضين

ghazy3تَعِبْتُ مِنَ الـمَسِيرِ عَلَى الفَيَافِي

                   وَضَرْبِي فِي النُّجُودِ وَفِي الـحُزونِ

تُسَائِلُنِي القَوَافِلُ مَا مُرَادِي

                   وَيَنْسَكِبُ الهَجِيرُ عَلَى جَبِينِي

وَتَنْأَى الوَاحَةُ الـخَضْرَاءُ عَنِّي

                  كَمَا تَنْأَى السَّعَادَةُ عَنْ ظُنُونِي.

وقَبْلَ أن يَهْجُر صحراءَه الَّتي دعاها ذات يوم «أُمَّاه»، يكتب، وقدْ بلغ الثَّانية والأربعين مِنْ عُمْره قصيدته «العودة إلى الأماكن القديمة»، وكأنَّه يستعجل بها عودته إلى «جزائر اللُّؤْلؤ»، ويعود إليها كهلًا أثقلتْه الأربعون، يخادع عنْ نَفْسه أنْ ستكون «عَذاري» في انتظاره!

عُدْتُ كَهْلًا تَجُرُّه الأَرْبَعُونُ

فَأَجِيبِي: أَيْنَ الصِّبَا وَالفُتُونُ؟

مِلْءُ رُوحِي الظَّمَا.. فَأَيْنَ «عَذارِي»؟

وَبِقَلْبِي الهَوَى.. فَأَيْنَ الجُفُونُ؟

مَا تَغَيَّرْتِ.. أَنْتِ لَيْلَى الَّتِي أَعْشَقُ..

لَكِنْ تَغَيَّرَ الـمَجْنُونُ.

ولا يَنْسَى في تضاعيف قصيدته صحراءَه التي ما عاد يناجيها «أُمَّاه»!

أَلْبَسَتْنِي ثَوْبَ الغُبَارِ الصَّحَارِيفَأَنَا فِيه لَا أَكَادُ أَبِينُ

أَتَذكَّرْتِ يَا حَبِيبَةُ وَجْهِي

أَمْ تُرَى نَكَّرَتْه هَذي الغُضُونُ؟.

وحِين يؤوب إلى واحته «البحرين»، فهو كَمَنْ يُصِيبه الفزع، خشْية أن يكون ما يراه أضغاث أحلام، فهجير الصَّحْراء استكنَّ في نفسه، وجعل يُنَغِّص عليه سعادته وهنَاءَه

يَا ضِحْكَتِي.. وَالدُّمُوعُ الـحُمْرُ تَعْصِرُنِي

يَا وَاحَتِي.. وَهَجِيرُ القَفْرِ يَعْبَثُ بِي.

الشَّاعر أسامة عبدالرَّحمن يشبه الشَّاعر غازي القصيبيّ مِنْ أوجه شتَّى، فهو ابن واحة خضراء هي المدينة المنوَّرة الَّتي وُلِدَ فيها سنة 1362هـ، رافق كلٌّ منهما الآخَر في كلِّيَّة التِّجارة بالرِّياض، حيث كان كلاهما أستاذًا فيها، وجمعهما الشِّعْر، واهتمَّ غازي وأسامة بالقضايا الوطنيَّة والقوميَّة، وجمعهما الشِّعْر الإخوانيّ، يناكف به أحدهما الآخَر، وحِين غادر غازي الجامعة، وتدرَّج في مراقي الحياة، بقي أسامة وفيًّا لجامعته، إلى أنْ أُحيل على التَّقاعد. عرف أسامة عبدالرَّحمن الرِّياض للمرَّة الأولَى سنة 1380هـ. قصدها طالبًا شابًّا، واختلَف إلى كلِّيَّة التِّجارة، ثمَّ تخرَّج فيها سنة 1383هـ، وطار إلى أميركا، وحاز منها درجتَي الماجستير والدكتوراه، وعاد إلى كلِّيَّة التِّجارة، وأصبح أستاذًا بارزًا فيها، وطاب له المقام في الرِّياض منذ ذلك الزمن، ولم يُغَادرْها حِين أُحِيل على التَّقاعُد. أسامة عبدالرَّحمن شاعرٌ عُرُوبيٌّ قوميٌّ، عبَّرَ عنْ هذين المعنيين شِعْرًا، وعَبَّر عنهما فِكْرًا، وفيهما صَدَعَ أسامة بما آمَن به غير هيَّاب ولا وَجِل، وكان صريحًا، يقول ما يعتقده، تشهد له كتبه وبحوثه الَّتي شارك بها في مؤتمرات فِكْرِيَّة، في مراكز عِلْمِيَّة ذات سُمْعة محترمة، وبينما كان الأدباء والمثقَّفون في المملكة يُبْدِئون ويُعيدون في قضايا الحداثة وما بعْد الحداثة، وموت المؤلِّف، وبينما صُدِّعَتْ أدمغتنا بمصطلحات «المورفيم» و«الصُّوتيم»، كان أسامة يتحدَّث في قضايا التَّنْمِية، والثَّقافة والمثقَّفين، ويقول جَهْرًا ما يخشى آخرون قوله سِرًّا، وهو في ما يُنْشِده شِعْرًا ويُذيعه فِكْرًا ساخطٌ أبدًا، ثائرٌ، وهَبَ أُمَّته وتاريخه شِعْرَه، وتتناثر في قصائده بغداد ودمشق والقاهرة وفلسطين وصنعاء وسراييفو… لم يَكِلَّ ولم يَمَلَّ.

في سنة 1430ه بلغ أسامة عبدالرَّحمن الثَّامنة والسِّتِّين مِنْ عمره، وفي هذه السَّنة نظم قصيدته «أين الرَّبيع؟»، وقرأتُها في مجلَّة اليمامة، كما قرأها آخرون.   قرأْتُ القصيدة، وهي مِنْ قصيدة الشَّطر، بحْرها البسيط، ورويُّها الرَّاء المضمومة، وعِدَّة أبياتها عشرون بيتًا، قُسِّمَتْ على خمسة أقسام، تتباين فيما بينها طُولًا وقِصَرًا. والقصيدة تمتاز بعذوبةٍ مَصْدرُها، بادي الرَّأْي، ذلك البحْر الرَّزين الَّذي هو البسيط، وتلك القافية الرَّائيَّة الَّتي أُحِبُّها، وآنس لها كثيرًا. أسامة عبدالرَّحمن لا يُذيع شِعْره في النَّاس كثيرًا، وأنا أعْرفه شاعرًا منذ زمن مبكِّر، والفضْل في ذلك يؤول إلى مكتبات تهامة التي عُنِيَتْ بنشر جمهرة كبيرة مِنْ مؤلَّفات أدباء هذه المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة ومثقَّفيها، ومِنْ بينهم دواوين لأسامة أبرزها واستوتْ على الـجُودِيّ، واستوقَفَنِي المعنَى القرآنِيّ في عنوانات دواوينه، وليس ذلك بغريب على شاعر يعتزي إلى أسرة استقاد أبناؤها للشِّعْر، وللعربيَّة، وللدِّين، فأبوه شاعر عالِم، وخاله عالم شرعيّ كبير، وإخوته يتقاسمهم الشِّعْر والأدب والنَّقْد. قرأْتُ القصيدة غير مَرَّة، وقصصْتُ الصَّفحة، واحتفظْتُ بها، وكنتُ أعود إليها، مِنْ حِين لآخَر، أقرأها سارِحًا، وأقرأها متأمِّلًا، يَشُدُّني البحر فأنسَى كلماتها، وأتدسَّس إلى معانيها فَيَرُوعُني ما انطوتْ عليه مِنْ حُرْقة وألم، ثُمَّ أتركها وأمضي لشأني، وألوذ إلى مكتبتي أُصْلح شأنها، أضع الكتاب لِفْق الكتاب، وأنظر في شأن ورقات مبعثرة، وإذا بي قبالة أسامة عبدالرَّحمن وقصيدته «أين الرَّبيع؟»، فأُعْرِض عمَّا كنتُ فيه، وأنصرف إليها، وأكاد أُحِسّ حلاوتها، ولا أستبين سببًا لذلك. تاريخ نَشْر القصيدة في مجلَّة اليمامة هو 17 مِنْ شهر ربيع الأوَّل مِنْ سنة 1430هـ. لم ألتفِتْ إلى ذلك التَّاريخ إلَّا حين صَحَّ عزمي على أنْ أكتب شيئًا فيها، ولا أعرف أمصادفة كان ذلك التَّاريخ، أمْ أنَّ الشَّاعر نظم قصيدته في ذلك الشَّهْر، فالشَّهْر شهر ربيع الأوَّل، والقصيدة تسأل: «أين الرَّبيع؟» فهلْ أوحَى الشَّهْر بالشِّعْر؟ لا أدري! «أين الرَّبيع؟» قصيدة انبعثتْ مِنْ قلبٍ يائسٍ ما عَرَف الأمَلَ في حياته، أوْ لعلَّها قصيدةُ مَنْ تَحَيَّن الأمل مُدَّة طويلة، وإذا به يخرج يائسًا بائسًا صِفْر اليدين، وعسى أنْ أحَسَّ الهباء والذواء، وهو يُطالع شِعْره القوميّ يُنْشِده في الـجَمْع مِنَ الطُّلَّاب العرب في أميركا، في سنوات زهْوه وكبريائه، ونُمْسِك بطائفة منها في ديوانه شَمْعةٌ ظَمْأَى، فإذا به يقف على صحراء شاسعة مهلكة، يسأل، وهو في كبدها، “«ين الرَّبيع؟». هلْ عاش الشَّاعر الرَّبيع؟ وهلْ عرفه؟ القصيدة في قِسْمها الأوَّل تنثر الأمَل بالرَّبيع، وفي أبيات ثلاثة ليس غيرُ

أَيْنَ الرَّبِيعُ.. وَأَيْنَ الـمَطْلَعُ النَّضِرُ

                وَأَيْنَ إِطْلَالَةٌ لِلْمُزنِ تَنْهَمِرُ

تُقَبِّلُ الوَرْدَ فِي الأَغْصَانِ يَانِعَةً

                وَعَزفُهَا العَذبُ مِنْه يَرْقُصُ الشَّجَرُ

وَتُوقِظُ الرَّوْضَ مِنْ سَكْرَاتِ غَفْوَتِهِ

               وَتَنْتَشِي الأَرْضُ والتَّاريخُ والثَّمَرُ.

لم يَعِشِ الشَّاعر الرَّبيع، ولكنَّه يَسْتدنيه ويسأل عنه، ومِنَ السُّؤال تتناثر مفردات الرَّبيع، وكأنَّها تَسَلَّطَتْ على مطلع القصيدة، فالرَّبيع يجذب إليه مفردات وتراكيب منها «الـمُزن»، و«تنهمِرُ»، و«الورْد»، و«الأغصان يانعة»، و«عزفها العذب»، و«يَرْقص الشَّجَر»، و«الرَّوْض»، و«الأرض النَّشْوَى»، و«الثَّمَرُ». كلمات الشِّعْر تُخادع الشَّاعر، فيستنيم لها ثلاثة أبيات وحَسْبُ، وإذا به ولا ربيع حوله، وليس هناك إلَّا الجفاف والذواء والصَّحراء تفغر فاها وتسخر مِنَ الشَّاعر. كانتِ الصَّحْراء في مخيَّلة الشَّاعر تُشْبه صحراء غازي القصيبيّ. إنَّها صحراء الرُّومنْطيقيّين، تلك الَّتي فيها الـحُداء والحنين، أزهارها الزنبق والـخُزامَى، وشجرها الشِّيح والعَرَار، وهواؤها عليل، يَهِيج صَبَا نَجْد أفئدة الشُّعراء، فتهيج القصائد في أنفسهم، وعَسَى أنْ تكون تلك الصَّحراء الَّتي حلم بها أسامة سنة 1380هـ، ساعة نزوله الرِّياض، وعَسَى أنْ تكون هي الصَّحراء الَّتي أوحَتْ لأبيه الشَّاعر عبدالرَّحمن عثمان، وقدِ اشتاق إلى ابنه أسامة في نَجْد، فأنشأ يقول:

صَبَا نَجْدٍ أُرِيتُ ابْنِي أُسَامَهْ

بِنَجْدٍ يَرْتَدِي حُلَلَ السَّلَامَهْ

فَقَدْ قَصَدَ الرِّيَاضَ الأَمْسِ جَوًّا

وَقَلْبِي خَلْفَ طَائِرِه حَمَامَهْ

طَوَى نَشْرَ الفَضَاءِ بِدُونِ خَوْفٍ

بِعَزمٍ لَا تُزعْزعُه مَلَامَهْ

نَأَى عَنَّا وَخَلَّفَنَا نُعَانِي

ghazy4سُهَادَ البُعْدِ حَمَّلَنَا سُقَامَهْ

وَلمْ يُعْطِ البَرِيدُ لَنَا كِتَابًا

وَلَا حَمَلَ الأَثِيرُ لَنَا كَلَامَهْ

وَلْمْ يُبْرِقْ لَنَا خَبَرًا مُسِرًّا

يُطَمْئِنُنَا يُضَمِّنُه سَلَامَهْ

صَبَا نَجْدٍ وَلُطْفُكَ غَيْرُ خَافٍ

بِه الشُّعَرَاءُ كَمْ وَصَفُوا الـمَدَامَهْ

وَمِلْ بِالفَضْلِ مِنْكَ بِأَرْضِ نَجْدٍ

وَحَيِّ الـمُنْجِدِينَ ذوِي الشَّهَامَهْ

تَدُلُّكَ يَا صَبَا نَجْدٍ عَلَيْهِ

فَقَبِّلْ مِنْه مُبْتَسِمًا وَهَامَهْ.

تَكَشَّفَ الوجه الشَّاحب للصَّحْراء، فليس ثمَّ إلَّا القَحْل، وإلَّا العَصْف والرِّيح، وعَرَفَ الشَّاعر، بأَخَرَةٍ، أنَّه أنفق عمره هباءً، ينتظر الَّذي لا يأتي، فما حوله صحراء تأكل البشر والحجر، وما في فؤاده صحراء ذوَى بها جسده، وجَفَّ ما كان فيها مِنْ أنْداء، ولَفَّتْ مفردات الصَّحراء والجفاف جِوَاء القصيدة، واهتصرتْها، حتَّى لأكاد أُحِسُّ الصَّحْراء، وأنا أقرأها، تحاصرني ذات اليمين وذات الشِّمال، وخَفَّف مِنْ قَسْوتها ما انطوتْ عليه القصيدة مِنْ ماء الشِّعْر ورونقه.

منذ القِسْم الثَّاني مِنَ القصيدة عَرَفَ الشَّاعر أنْ لا ربيع قادِمًا، فالصَّحْراء تُمْعِن في توحُّشها، فهي قاحلة، وكلُّ ما قِيل عنْ مُزنة تغازل رَمْلها، وكلُّ ما رُوِي عن الـحُدَاة يمرعون في ممشاهم، كلُّ ذلك وَهْمٌ وسراب، واستبدلتِ الصَّحراء لحن الـمُدنف حلَا له السَّهَر، فليس فيها إلَّا الأنين، وإلَّا الهَمُّ والضَّجَر، حتَّى اللَّيْل، وله في الشِّعْر العربيّ أعاجيب، كأنَّه وَحْش امرئ القيس في معلَّقته، لا ليل العاشقين

وَاللَّيْلُ يَجْثُمُ كَالـجُلْمُودِ مُحْتَلِكًا

وَلَيْسَ يَضْحَكُ فِي آفَاقِه قَمَرُ

وَاللَّيْلُ مَا فِيه إِلَّا رَجْعُ عَاصِفَةٍ

وَاللَّيْلُ مَا فِيه لَا لَـحْنٌ وَلَا وَتَرُ

وَالأُفْقُ لَيْسَ عَلَيْه بَسْمَةٌ حَضَرَتْ

وَلَا نَدَامَى إِلَى عَزفِ الشَّذى حَضَرُوا.

إنَّها قصيدة راعبة، كلُّ ما فيها مُوحِشٌ قاحِل، ويُخَيَّل إليَّ أنَّ الشَّاعر انتهَى به حُلُمه بالرَّبيع إلى اليأس منه. أنا أحْسَسْتُ اليأس إذ قرأْتُ هذه القصيدة. وانظُرْ حواليك وتأمَّلْ في أنحائها، تُلْفِ الذواء والهباء والجفاف، وحِين انتهَى بي الشَّاعر إلى هذه الأبيات، ما كنتُ أتوقَّع أنْ سيُجَدِّد الشَّاعر الأمل بربيع قادم، ولكنَّه فعل، وكأنَّه يُخادع عنْ نفسه

مَا زلْتُ بَعْدَ سِنِينِ العُمْرِ.. ضَائِعَةً

لِلْوَعْدِ فِي غَيْهَبِ الـمَجْهُولِ أَنْتَظِرُ

لَعَلَّه مِنْه تَأْتِي أَيُّ بَارِقَةٍ

لَعَلَّه مِنْه يَأْتِي الهَاطِلُ العَطِرُ.

***

مَا زلْتُ مُنْتَظِرًا وَالأُفْقُ لَيْسَ بِهِ

مِنْ ظِلِّ بَارِقَةٍ رَعْدٌ وَلَا خَبَرُ

حَتَّى الأَمَانِي الَّتِي قَدْ كُنْتُ أَحْشِدُهَا

ضَاعَتْ وَلَيْسَ لَـهَا ظِلٌّ وَلَا أَثَرُ,

كأنَّ الشَّاعر في ذينك القِسْمَيْن يَسْتَمْهل حكمه على الصَّحراء، أوْ كأنَّه يَترفَّق بها، ويمنحها فرصةَ أنْ تخالف طبيعتها، ولكنَّ الصَّحراء وفيَّة لطبعها الجاسِي، وحينئذ، نَفَضَ أسامة يديه منها، وتاب مِنْ سؤاله: «أين الرَّبيع؟». إنَّه إذ يسأل يكلِّف الصَّحراء ضِدَّ طِبَاعها: أنْ لا تكون صحراء، فغابتْ مفردات الرَّبيع، وتَلَظَّتِ القصيدة بمفردات يفوح مِنْها اللَّهيب والضَّجَر والانكسار واللَّظَى

ghazy2مَا عُدْتُ أَسْأَلُ وَالصَّحْرَاءُ قَاحِلَةٌ

أَيْنَ الرَّبِيعُ؟ وأَيْنَ الـمَطْلَعُ النَّضِرُ؟

فَكَيْفَ تَنْمُو عَلَى الصَّحْرَاءِ زنْبَقَةٌ

وَكِيْفَ يَخْفُقُ فِي أَجْفَانِهَا وَطَرُ

وَلَيْسَ فِيهَا سِوَى الرَّمْضَاءِ تَذرَعُهَا

وَمِنْ لَظَاهَا يَكَادُ الصَّخْرُ يَنْصَهِرُ

وَلَيْسَ فِيهَا سِوَى الأَيَّامِ عَاصِفَةً

وَلَيْسَ فِيهَا سِوَى الآمَالِ تَنْكَسِرُ.

***

أَمْضَيْتُ عُمْرِيَ والصَّحْرَاءُ قَاحِلَةٌ

وَضَاعَ فِيهَا الَّذي يَهْفُو لَه العُمُرُ

لَـمْ يَبْقَ فِي دَفْتَرِي مِنْ نَارِ حِكْمَتِهَا

وَقَدْ تَلَظَّيْتُ.. إِلَّا الدَّرْسُ والعِبَرُ.

وماذا بَعْدُ؟

بقي أنْ أَقُول: إنَّ قصيدة «أين الرَّبيع؟» كانتِ الإعلان عنِ اليأْس والضَّجَر، وكانتِ الثَّورة بالصَّحراء الَّتي جَثَمَتْ على أُفُقِ الشَّاعر، حتَّى جَفَّ الماء وذوَى غُصْنُ الكلمات. كانتْ قصيدة «أين الرَّبيع؟» المنتهَى وليس المبتدأ، فأسامة عبدالرَّحمن أحَسّ اليأْس، قَبْل هذه القصيدة بسنوات طويلة، ففي ديوانه «دفاتر الشَّجَن» (1998م)، وفي قصيدته «يا أنتِ» نُمْسِك ببذرة قصيدة «أين الرَّبيع؟». وأستطيع أنْ أجعل القصيدتين قصيدة واحدة، وليس ذلك بجامع البحر الواحد والرَّوِيّ الواحد. إنَّ البحر والرَّوِيّ يُقَويَّان هذا الزعْم. ولكنَّ قراءة قصيدة «يا أنتِ» ومقابلتها بقصيدة «أين الرَّبيع؟»، تَشُدُّ هذه القصيدة بتلك، فالتَّراكيب واحدة، والمفردات هنا وهناك، والأبيات بينها شبه وثيق، والرَّبيع هنا وثَمَّ.

ghazy1مَا هَلَّ وَعْدٌ… وَلَـمْ تَحْضُرْ أَهِلَّتُهُ

وَلَا النَّدَامَى ولَا السُّمَّارُ قَدْ حَضَرُوا

وَلَا الرَّبِيعُ أَطَلَّتْ مِنْه ضَاحِكَةً

بَعْضُ الوُرُودِ… عَلَى الـخَدَّيْنِ تَنْتَثِرُ

وَمَا هُنَالِكَ فِي الآفَاقِ أُغْنِيَةٌ

مِنْ رَجْعِهَا قَطَرَاتُ الـمُزنِ تَنْهَمِرُ.

في قصيدة «يا أنتِ» كانتْ بُدَاءة الأزمة، وفي قصيدة «أين الرَّبيع؟» كان تَفَجُّرها، وبين هذه وتلك، لمْ يستسلمْ أسامة عبدالرَّحمن لسطوة الصحراء، ولمْ يذعنْ لها، ورَدَّ لظاها ولهيبها، بمائيَّة الكلمات وربيع الشِّعْر، وكان الشِّعْر، في كلّ أحواله، بردًا وسلامًا عليه.