عودة آدم

عودة آدم

عبدالرحيم الخصار شاعر مغربي

عبدالرحيم الخصار

أنا آدم

أول رجُلٍ على هذه الأرض

كان بمكنتي أن أبقى هناك

لكن يدي طالت شرك التفاح

ليست ريحًا تلك التي عصفت بالأشجار حين نزلتُ

إنها أنفاسي

أنفاس رجل شلّ الندمُ قدميه.

هذه المياه أُريدَ لها أن تمرّ في الأراضي الأخرى

هذه المناديل لم تكن لتجفف شجن أحد

أما يدي التي ظننتُ أنها غصن في جسدي

فقد صارت غصنًا في جسد آخر.

* * *

لا زالت رائحة التراب في أنفي

الحسرة أهرشها ما بين الساعد والكتف

أما عيناي فيسيل منهما حنيني إلى الملائكة.

* * *

كان الغبار كثيفًا

فلم أتبين موطئ أفكاري

رأسي يضجّ بالكلمات التي طفقت حواسي تتلمَّسُ لها المعنى

وما من شيءٍ على الأرض لأُشبِّهَ به هذا التَّيَهَان

لم يكن لي صديقٌ أو نديم بعد

صادقتُ الترابَ والحجر

جربتُ أن أحلّق مثل طائرٍ أو أجدف مثل سمكة

فلم تسعفني ذراعاي.

لم أضع يدًا في كهف

ولا قدمًا في غدير

لم أراوح ظل هذه الصخرة

رفعتُ عينيّ إلى الشمس

فعرفتُ أن تعاقُبَ الليل والنهار

هو سرُّ المِحَن

ستمرُّ القرونُ تباعًا

سيحرثُ أحفادي هذه الأرض

وسيجنون نهايةَ كل صيف

غلالًا من التَّعَب.

* * *

أسندتُ منكبي لجذعِ شجرة

وجلستُ أُصغي للريح

ماذا تقولُ هذه السيدةُ التي سبقتني إلى الأرض؟

في نحيبها سمعتُ نحيب الآخرين

وتعالت أصواتٌ كثيرةٌ بداخلي:

بكاء طفلٍ بلا بيتٍ بلا سرير

ندم كهلٍ تخلَّى عنه الحظّ

صراخ عبدٍ يَسوطُه عبدٌ آخر

أنين يدٍ تتوسّل ليد تصدّ

خفق جناحٍ أثقلته التعاسة

نواح نايٍ بين شفتينِ حائرتين

خرير الماءِ يمرّ في قلب رجلٍ مخذول

عويل نساءٍ وأنا لا أعرفُ السبب.

أغمضتُ عيني

فمرقت الريح بنحيبها

ومن غصن في الشجرة

سقطتْ دمعةٌ كبيرة على الأرض.

* * *

قلتُ للطائر الذي حطّ على مقربةٍ منّي:

«إن الشفاهَ التي تبتسمُ في النهار

تتحسّر في الليل

إن اليد التي تغدو موجًا حين تُلامس اليد الأخرى

تتخشّب حين تغيب

إن الدمعة التي أسالها الفرح

هي الدمعة التي سيسيلها الحداد».

* * *

قال الطائر:

«هل تغنّي لي

أم تغنّي لوحدتك؟»

* * *

هذه الأرض

ربما كانت عقابًا

ربما كانت غنيمة حربٍ لم أَخُضْها

هذه الأرض ستشيخ وستُغادِر مكانَها يومًا ما

سيمرّ الزمنُ مثلما تمرّ الأشياء الصغيرة مع الريح

وسنلمح النهايةَ بُرْهةً قبل السقوط

مثلما تلمح الأرنبَ التائه عينُ الحدأة.

* * *

يدٌ ما سوف تعلق في غصن شجرة

قدمٌ صغيرة سوف تتعثّر في جسر الخشب

عينٌ ما سيسيل دمعُها في عينٍ أخرى

غير أن كلّ شيءٍ سيمضي

سيجرف النهرُ الهادرُ كلّ نَأْمة

كلّ خطوةٍ خطوناها باتجاه بعضنا

كل تنهيدةٍ تركناها على قارعة الطريق.

سيطوي الزمنُ هذه الحياةَ سريعًا

ويضعها في صندوق.

أَتعقَّبُ الأحلامَ في منامي

وتَتعقَّبني الكوابيسُ.

* * *

عُزلتي تُشبه عزلةَ ديناصور

كلانا يمشي على طرفين

غير أن رأسه أَقربُ إلى الغيمة

يجرّ ذيلَه من وادٍ إلى واد

جانحًا إلى الهضاب التي تُخفي الشمس

يجثو قليلًا ثم يدبّ بمفرده

يمرّ أمامي ناظرًا إليّ بعطف

كما لو أنّي غصنٌ سقَط من شجرة.

* * *

ومشيتُ في الأدغال حتى بدا لي جسدٌ يُشبِه جسدي

ثم سقطتْ ثمارٌ وتفجّرتْ ينابيع

وخفقتْ طيورٌ فوق رأسينا

فأخفينا الخجل بالريش وأوراق الشجر.