الحاجة إلى ثقافة موسيقية فكرية فلسفية

الحاجة إلى ثقافة موسيقية فكرية فلسفية

خليل المويل_

خليل المويل

جاء في الحديث «إن الله جميل يحب الجمال». لقد دعا الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى التدبر فيما يحيط به من بديع الخلق وجميل الصنع. ذلك أن مُنشئ هذا الإبداع والجمال وهذا الصنع والنظم هو الله عز وجل.

إن التعاليم السماوية تتلاءم مع الخصائص الجسدية والروحية للإنسان، وإن حب الجمال –بشهادة علماء النفس- يعدّ واحدًا من الأبعاد الروحية المودعة في الإنسان، والله هو الذي أودع في وجودنا حب الجمال لنستدل به عليه.

إن الموسيقا والإنشاد «الغناء» كلاهما أبرز وأكمل مصاديق الجمال ومظاهره؛ إذ تجد تأثيرهما العميق في كل إنسان أيًّا كان انتماؤه أو عقيدته، وأيًّا كان سنه وثقافته وجنسه، وبشكل لا يمكن إنكاره أو توصيفه.

والإسلام يحث على تلاوة القرآن الكريم بصوت حسن، كما ورد في الأحاديث.

على الرغم من ذلك، فإن السلاطين في العصور الماضية من الدولة الإسلامية، قد عمدوا إلى توظيف الغناء والموسيقا في مجالس اللهو؛ إذ كانوا ينفقون أموالًا طائلة على الموسيقيين والمطربين، وهذا ما يذكره الكثير من المؤرخين في كتبهم. وخصوصًا أبا الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» الذي يعدّ كتابًا خاصًّا بموضوع الغناء والعازفين والشعر والأدب.

غلاف المجلد السابع عشر من نسخة أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني،

غلاف المجلد السابع عشر من نسخة أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني

وفي عصرنا الراهن يتم التعاطي مع مقولة الموسيقا والغناء بمختلف الأشكال والأهداف. وهذه الأنواع المختلفة تؤدي أحيانًا إلى تخدير روح الإنسان وجميع جوارحه، وتعمل على توظيفها واستخدامها في الأهواء والشهوات.

من هنا، ومن هذا الاختلاف جاءت ردود فعل في تحريم الموسيقا والغناء، واختلاف رجال الدين حول هذا الموضوع الحساس. فمنهم من رأى أن الموسيقا أداة كسائر الأدوات الأخرى كالحاسب الآلي، والراديو، والتلفاز، أو شبكة الإنترنت، لها أبعاد أخرى مختلفة ومتعددة. فيمكن توظيفها في إطار الأهداف الهدامة والمضلّة، وتسفيه الأحلام وإهدار طاقة الشباب الفاعلة في المجتمع. كما يمكن الاستفادة منها في بلوغ الأهداف السامية من قبيل ترويج العلم والفكر، وخلق الحوافز والدوافع الروحية والعاطفية في المسار الصحيح.

الموسيقا والأخلاق

كما يتفق مع هذا الرأي الفلاسفة القدماء؛ إذ كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون يرى أن الموسيقا ينبغي أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، وأكد التأثيرات الأخلاقية للموسيقا، ودعا إلى استبعاد بعض المقامات مثل: «lonian» و«Lydian» من الدولة؛ لأن فيهما ميوعة تبعث على الانحلال في الأخلاق. أما المقامان Dorian»» و«Phrygian» اللذان يتميزان بروح عسكرية فمن الواجب الحث على استخدامهما. فهو يرى أن للمقامات اليونانية صفات أخلاقية.

وتمسك أفلاطون بالرأي القائل: إن الموسيقا ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق، وكان يرى أن الموسيقا أرفع من الفنون الأخرى على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنة للإنسان وفي حياته الانفعالية أقوى من تأثير العمارة أو النحت، وهكذا فإن الطفل الذي يستمع إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه من دون أن يشعر عادات وقدرات مرهفة تتيح له تمييز الخير من الشر.

وقد اتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون في هذا الرأي، وذهب إلى أن مفعول الموسيقا في إثارة الانفعالات النفسية يماثل الدواء في شفاء الجسد، ومن ثم أثار أرسطو أفكارًا انشغل بها فلاسفة الجمال المحدثون، حينما تساءل عن قدرة التعبير التي تنطوي في الأنغام والإيقاعات وتحدث هدوءًا واستقرارًا عجيبين في النفس.

من هنا نعتقد أن الصوت والموسيقا يرتبطان ارتباطًا قويًّا بأخلاق الفرد؛ لأنهما يؤثران في تصرفاته وفي أعصابه، فالإنسان مكون عصبي، يتأثر بما يسمع وبما يرى. قال روبرت شومان: «إذا أردت أن تعرف أخلاق الشعوب استمع إلى موسيقاها».

من هنا أعتقد أن علينا النظر إلى ما ننتج من موسيقا في بلادنا، وعلينا أن نهتم بنوعية الأعمال الموسيقية التي نقدمها لشعوبنا. فمنطقتنا عريقة بفنونها وفكرها وموروثها النغمي الذي يعكس ثقافة المجتمع عبر العصور.

ليس لدينا موسيقيون مثقفون

لدينا كم هائل من المهتمين في المجال الموسيقي، ولدينا كم هائل من المهتمين بتعلم العزف على الآلات الموسيقية، ولكن هل يوجد مثقفون موسيقيون؟ هل يوجد من هو مهتم بالفكر والفلسفة من وراء الموسيقا؟!

معرفتنا بالموسيقا سطحية جدًّا نستخدمها للترفيه والتسلية، ونعدّ الموسيقا للاستراحات وأغاني «الهشك بشك»؛ ما أدى إلى هذا الإنتاج الركيك في الأعمال الموسيقية والإنشادية والغنائية والفنية بشكل عام في شتى مجالات الفنون.

الحاجة-إلى-ثقافة-مــوسيقية-٣

إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم وجود ثقافة موسيقية فكرية فلسفية علمية، تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي بطريقة تليق به، ونقدمه إلى العالم. لذلك نحتاج إلى دورات تثقيفية بهذا العلم وهذا الفن الجميل؛ كي نرفع من المستوى الفني للإنتاج الموسيقي. وذلك باستقطاب العلماء والمفكرين المختصين؛ كي يقودوا مسيرة الارتقاء بهذا الفن إلى مستويات عليا.

قال لي أحد الموسيقيين العراقيين، أستاذ موسيقي في النمسا: «نحن العرب متخلفون ٦٠٠ عام عما وصل إليه العالم في مجال علم الموسيقا».

فهل بالإمكان تقليل هذه الفجوة التاريخية.

لو تحدثت من خلال تجربتي الموسيقية كمنشد ديني عشق علم المقامات الموسيقية؛ إذ تعلمتها على أيدي موسيقيين كبار من وطننا العربي، وكباحث يدرس للطلاب، فسأقول: إن الكثير من هؤلاء الطلاب الذين أدرس لهم جاء ليتعلم وهو جازم أن الموسيقا ليست علمًا إنما فقط للتسلية، وأنها حرام سيتوب منها بعد ترك نزوته هذه. ولكن عندما يجلس معي بعض هؤلاء، وندخل في نقاش تتغير أفكاره تدريجيًّا، لأنه أصبح يرى الزاوية الأخرى من هذا العلم الجميل. وما حدث أن بعضهم ترك الاعتقاد بأنها فقط للهو والمجون، وبدأ يتعلم الموسيقا على أصولها العلمية الصحيحة، ثم أصبح «منشدًا» ينشد الألحان الوجدانية والتأملية التي تقربنا إلى خالق هذا الكون الرائع.