فقهاء يبيحون الموسيقا ويضربون بالعود!

فقهاء يبيحون الموسيقا ويضربون بالعود!

_الشريف-حاتم-بن-عارف-ال

الشريف حاتم بن عارف العوني – أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى

لقد صاحب الجدلُ الفقهي آلاتِ المعازف (الموسيقية) منذ العصور الأولى، فصار خلافًا معهودًا مشهورًا، وما زال مستمرًّا حتى اليوم. على أنه جدلٌ يحتدّ أحيانًا، في أزمان وأعراف، ويلين أحيانًا أخرى.

فما هي حقيقة هذا الجدل؟ وكيف يمكن أن نفسره؟ وهل دوافعه وأسبابه واضحة عند المختلفين في الموسيقا قديمًا وحديثًا؟ أم انتابها من التشنج والتقليد ما جعلها خفيّة متوارية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن يكون هذا الجدل مقبولًا وظاهرة علمية ثقافية مقبولة؟ أو لا يكون كذلك؟ لا شك أن تناول ذلك من جميع جوانبه أمرٌ مستحيل في مقال مختصر؛ لذلك سأكتفي بإشارات فقط: وأبدأ بالتنبيه إلى عدم ظهور مفسدة للموسيقا؛ إذ من المعلوم عند العلماء أن الأصل في جميع أحكام الشريعة –غير تلك التي علتها التعبد– أنها إنما جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها أو لدرء المفاسد وتقليلها، فهي أحكام معللة، مفهومة السبب. فتحريم الخمر كان لأجل تغييبه للعقل، وتحريم الربا جاء لكونه ظلمًا ودرءًا لمفاسده الاقتصادية، وتحريم الزنا جاء لحفظ العرض وبناء الأسر والنسل، وهكذا جميع الأحكام المتعلقة ببيان علاقة العبد بالمخلوقات وموقفه منها: أنها أحكامٌ مصلحية. وهنا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا كانت الموسيقا حرامًا؟

لا يمكن أن يدعي أحد أن مفسدة الموسيقا مفسدة ظاهرة كالخمر والربا والزنا ونحوها؛ إذ أي مفسدة ظاهرة في الموسيقا الحزينة أو الحماسية أو الهادئة أو التي تشبه تناغم صوت البلابل وخرير الماء؟!

لن يستطيع أحدٌ أن يزعم ظهور مفسدة الموسيقا إلا بمصادرات على المطلوب، فيذكر أمورًا غيبية، إنما بناها على اعتقاده التحريم!

كأن يقول المحرمون: إنه ينبت النفاق في القلب (على ما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)، وعندها سيقول لهم المبيحون: هذا أمر غيبي غير مفهوم السبب، فإن صح معنى هذه العبارة فهي محمولة على الغناء الماجن الذي لا يبيحه أحد، لا على مجرد الموسيقا أو الغناء غير الماجن.

وكأن يقولوا ما قاله ابن قيم الجوزية (ت751هـ) في نونيته:

حُبُّ الكتاب وحب ألحان الغنا

في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعان

وعندها سيقول المبيحون: هذا قول بهذا الإطلاق دعوى باطلة لا دليل عليها، ويردها الواقع أقوى ردّ، فكم رأينا من كبار قرّاء القرآن -كالشيخ عبدالباسط عبد الصمد (رحمه الله)، وكبار العلماء قديمًا وحديثًا- من اجتمع في قلبه حب القرآن الكريم كأعظم الحب وحب الغناء!

الخلاصة: أن دعوى ظهور مفسدة الموسيقا يجب الإقرار بانتفائها، ويحق لمن كان قد رجّحَ التحريمَ أن يظن لها مفسدةً لا تُعلم (غيبية تعبدية)، وإنما دلّه التحريمُ الذي يرجحه هو على وجودها، لا غير.

فإن اتفقنا على أن مفسدة الموسيقا خفية غير ظاهرة، وأن وجود هذه المفسدة المدّعاة لا تصح إلا على اجتهاد من يرجح حرمة الموسيقا: يتضح أن التشنج في نقاش حكم الموسيقا لا مبرر له ولا معنى، وأنه يحق لمبيح الموسيقا أن يمنع من وجود مفسدة للموسيقا، ولا يكون بذلك مكابرًا ولا مخالفًا لأمر لا تصح مخالفته.

وخفاء هذه المفسدة –على التسليم بوجودها– يفيد في تحرير درجة حرمة الموسيقا عند من حرمها، أي: هل هي عنده من كبائر الذنوب أم من صغائرها؟ إذ لا يكاد يشك من ينظر في حدة النقاش المعاصر حول الموسيقا: أنها عند المحرِّمين من أكبر الكبائر؛ فهل هي حقًّا كذلك؟

إذ من استعرض كبائر الذنوب المتفق على كونها من الكبائر وجدها كلها مما تتضح مفسدتها أعظم وضوح، بل كل الكبائر مفسدته عظيمة غاية العظم؛ كالقتل والسرقة وعقوق الوالدين وشهادة الزور والفرار يوم الزحف ونحوها من الكبائر؛ حتى إن هذه الذنوب الكبائر لو لم يأتِ النص بتحريمها لدلّت الفطرة السوية على وجوب منعها وتعظيم خطرها.

منزلة-الاختلاف-الفقهي-في-الموسيقى-٣لا مفسدة في الموسيقا

فإن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخلاف تلك الكبائر تمامًا، فهي لا تظهر لها أي مفسدة: لا كبيرة ولا صغيرة؛ إلا المفسدة التي هي محل النزاع بين المحرمين والمبيحين؛ لأنها مفسدة مبنية على القول بالتحريم فقط، لا على العلم بها بظاهر أمرها.

وقد استعرضت عامة كلام العلماء وكتبهم في الكبائر، منذ جيل الصحابة رضوان الله عليهم، إلى البرديجي (ت301هـ) صاحب أول كتاب مصنف في الكبائر يصل إلينا، فقد بلغ عدد الكبائر عنده ثلاث عشرة كبيرة فقط، وزاد عليه الضياء المقدسي (ت643هـ) في تذييله عليه، ثلاثًا فقط، ولم تكن الموسيقا والغناء من بين هذه الكبائر عندهما. وكذلك الحال مع ابن جرير الطبري (الذي حصر الكبائر في تسع كبائر فقط)، ثم أبي طالب المكي الذي حصرها في «قوت القلوب»، والغزالي في «إحياء علوم الدين»، والذهبي في كتابه الشهير «الكبائر»؛ وكلهم لم يعدّوا الموسيقا من الكبائر.

ولم يذكر الموسيقا ضمن الكبائر كل من الرافعي والنووي وابن الرِّفعة. بل إن الإمام الغزالي (ت505هـ) في «إحياء علوم الدين» –وهو ممن أباح النشيد الديني (السماع)، ولكنه رجح تحريم الموسيقا– يحكي الإجماع على أن الملاهي (الموسيقا) من الصغائر، حيث ذكرها مع غيرها من الذنوب، ثم قال: «ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر».

ولم تُعدّ الموسيقا من الكبائر؛ إلا عند بعض المتأخرين، وأول من أدرجها في الكبائر –بحسب ما وقفت عليه- هو أبو زكريا بن النحاس (ت814هـ)، في كتابه «تنبيه الغافلين»، دون أن يذكر دليلًا على عدّ الموسيقا في الكبائر، وإنما حكاه عن العراقيين، بخلاف عادته في غيرها، وكأنه فيها مجرد ناقل لقول لا يقره. كما أن ابن النحاس أحد المتوسعين في إحصاء الكبائر، فقد بلغت عنده (171) كبيرة.

ثم في القرن العاشر الهجري فما بعده ذكر غير واحد من العلماء الموسيقا ضمن الكبائر: كابن نُجيم الحنفي (ت970هـ)، وقبله ابن حجر المكي الهيثمي (ت947هـ)، فقد ذكر المعازف في الكبائر في كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»، وهو من المتوسعين في الكبائر توسعًا مرفوضًا، حيث بلغت عنده (466) كبيرة! حتى كادت أن تكون عامة المعاصي عنده كبائر!! وهذا خلافٌ كبيرٌ منه لما جاء في النصوص، ولما عليه عامة العلماء ممن عدّ الكبائر، كما سبق.

وهكذا يلاحظ القارئ تزايد النفور تاريخيًّا من الموسيقا مع امتداد الزمن ومع تناقص العلم! ولا شك أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يرجح بقوة أنها ليست من الكبائر. كما أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يعين على معرفة درجة الاختلاف فيها: هل هو خلاف معتبر؟ أم غير معتبر؟

وتحديد منزلة الاختلاف هل هو معتبر أم لا: من أهم الأمور؛ لأن الاختلاف المعتبر يمنع من الإلزام بأحد القولين، ولا يُـجيز الإنكارَ من صاحب ترجيحٍ على من يخالفه. فلو تبيّن أن الاختلاف في الموسيقا خلافٌ معتبر لم يَـجُزْ للمحرِّمين الإنكارُ على المبيحين، ولم يَـجُزْ لهم إلزامُ مخالفِهم بعدم السماع. وتصبح حينئذٍ المسألة راجعةً إلى تدين الشخص ورقابته الذاتية على نفسه: فإن قاده الاجتهاد أو الاتباع والتقليد المنضبط إلى التحريم: التزم بذلك في نفسه، ولا يحق له إلزام المخالفين له في ذلك من المبيحين، ما داموا قد أباحوا الموسيقا اجتهادًا أو اتباعًا وتقليدًا لمن أباحها من العلماء.

وضوابط تمييز الاختلاف المعتبر من غيره قد فصّلت الكلام فيها في كتابي «اختلاف المفتين»، وبتطبيق تلك الضوابط القطعية يكون الاختلاف في الموسيقا اختلافًا معتبرًا، ويكون القول بإباحتها قولًا سائغًا لا يجوز إنكاره ولا التشنيع عليه، بل يجب احترام وجاهته؛ كما أن القول بالتحريم قولٌ سائغ معتبر مثله.

ماذا قال الأئمة عن إسحاق الموصلي؟

منزلة-الاختلاف-الفقهي-في-الموسيقى-٢…. وتَوسُّعُ فقهاء المدينة المنورة في الموسيقا في جيل أتباع التابعين ثابت عنهم، وممن نسبه إليهم يحيى بن سعيد القطان -وهو من أئمة أتباع التابعين (ت198هـ)، ونسبه الإمام أحمد إلى فقهائهم أيضًا.

وفي هذا السياق أيضًا: انظر ماذا قال الأئمةُ عن أحد الـمُغَـنِّـين الموسيقيّين المشاهير، وهو إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي (ت235هـ). فمع أن صنعته كانت هي الغناء، حتى كان أشهرَ المغنين ببغداد؛ إلا أن العلماء قد وثّقوه؛ لتديّنه وقيامه بالفرائض وتحفُّظِه من الفواحش! ولذلك قال عنه إمام الحنابلة -في زمنه- إبراهيم الحربي (ت285هـ): «كان ثقةً صدوقًا عالمًا، وما سمعتُ منه شيئًا، ولَوَدِدْتُ أني سمعتُ منه، وما كان يفوتني منه شيءٌ لو أردتُه».

وبدأ الخطيبُ البغدادي (ت463هـ) ترجمة إسحاق الموصلي بقوله: «كتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهُشَيم بن بشير، وأبي معاوية الضرير، وطبقتهم. وأخذ الأدب عن أبي سعيد الأصمعي وأبي عبيدة ونحوهما، وبرع في علم الغناء، وغلب عليه، فنُسب إليه. وكان حسنَ المعرفة، حُلْوَ النادرة، مليحَ المحاضرة، جيد الشعر، مذكورًا بالسخاء، معظَّمًا عند الخلفاء. وهو صاحب كتاب الأغاني».

ثم أورد الخطيب توثيق إبراهيم الحربي له!

هذا هو موقف العلماء مع أشهر مغني بغداد، بل أشهر مغني المشرق الإسلامي في زمنه! ولمَ نذهبُ بعيدًا؟! فهذا الإمام ابن حزم (ت456هـ)، ومحمد بن طاهر المقدسي (ت507هـ)، وغيرهما من العلماء ممن أباحوا الموسيقا، هل نجد من جرحهم بهذا الاجتهاد؟! أو منع الصلاة خلفهم بسببه؟!

وبهذا يتضح أن واقع الاختلاف في حكم الموسيقا لدى عامة المعاصرين قد انحرف عن مساره الصحيح، وصار التعصب والتشنج والتخوين في الدين والتجهيل في العلم هو سمة عامة المحرِّمين تجاه المبيحين! وهذا خلل كبير، لا يقبله العلم، ولا يقره الدين. وفي مثل هذا الوسط غير الصحي يضعف التحرير العلمي؛ لأنه يخاف الخروج عن الصوت السائد، ويتردد صاحب الاجتهاد المختلف في إعلان اجتهاده ومناقشة المخالفين. فعلينا أن نسعى إلى معالجة هذا الواقع، إن أردنا أن نسمع في الموسيقا وغيرها رأيًا شرعيًّا متّزنًا؛ لأنه يعرف آداب الاختلاف ودرجاته، ويحترم الاجتهاد المعتبر، ولا يبغي على المخالِف.

دعاوى الإجماع المنقوضة في زعم التحريم

سوف يستغرب المتعجلون قليلو الفقه من هذا التنزيل للخلاف في الموسيقا، بسبب التشنج الذي صاحب الجدل الفقهي فيها، وبسبب دعاوى الإجماع المنقوضة وغير الصحيحة في زعم التحريم، وبسبب ضعف التدقيق في أدلة التحريم عند من حرم: هل كانت دلالة ظنية أم قطعية؟ وبسبب عدم النظر في أدلة المبيحين وردودهم على أدلة المحرِّمين.

ولما أن كان هذا المقال مقالًا مختصرًا فسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض ما يدل على سواغ الاختلاف في الموسيقا عند جمع من العلماء، أو إلى التعاطي الراقي لدى المحرّمين مع من اجتهد فأباحها، وأنهم لم يُسقطوا المبيحين، ولا حطوا من ديانتهم ولا من علمهم.

فهذا الإمام الذهبي (ت748هـ)، يذكر العالم الفقيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري (185هـ)، وكان ممن يبيح الموسيقا، فيقول: «من أئمة العلم، وثقات المدنيين. كان يُـجَوِّزُ سماعَ الملاهي، ولا يَـجِدُ دليلًا ناهِضًا على التحريم؛ فأدّاه اجتهادُه إلى الرُّخصة، فكان ماذا؟!!».

وهذا يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجِشون أبو سلمة الفقيه الثقة المدني (ت185ﻫ)، يوثقه الإمام يحيى بن معين، مع قوله عنه: «لا بأس به، كنا نأتيه فيحدثنا في بيت، وجواريه في بيت آخر له يضربن بمعزفة». ويقول مصعب الزبيري: «وكان الماجشون أول مَن علم الغناء مِن أهل المروءة بالمدينة».

ويقول الحافظ الخليلي (ت446ﻫـ) عنه: «ثقة… عُمِّرَ حتى سمع منه يحيى بن معين… هو وإخوته يُرخِّصون في السماع… (ثم أورد كلام ابن معين السابق، وقال:) وابن عمّه يُعرفون بذلك، وهم في الحديث ثقات، مخرَّجون في الصحاح».

ثم أورد الخليلي ترجمة عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجِشون (ت164ﻫ)، وهو الإمام الثقة الفقيه صاحب التصانيف، ومن كبار فقهاء المدينة، ومن أقران الإمام مالك في العلم والسن، حتى كان يُصاح في المدينة: «لا يُفتي الناسَ إلا مالكٌ وعبدُالعزيز بن أبي سلمة»، فقال الخليلي عنه: «مفتي المدينة، روى عنه الأئمة، مخرجٌ في الصحيحين، يرى التسميع، ويرخِّصُ في العُود».

فهذه أمثلةٌ فيها توثيق الأئمة وثناؤهم وإجلالهم لهؤلاء الأئمة، مع اعتقادهم فيهم أنهم كانوا يبيحون الغناء وآلات المعازف ويسمعونها، بل من هؤلاء الفقهاء من كان يضرب بالعود بنفسه!

الشيخ المغامسي:

المغامسي

الشيخ صالح المغامسي

من كتم علمًا ألجمه الله لجامًا من نار يوم القيامة

أكد إمام وخطيب مسجد قباء في المدينة المنورة الشيخ صالح المغامسي، أن ما قاله فيما يخص الموسيقا هو ما يدين به لله «في مقام سُئلت فيه»، موضحًا أنه لا يتوقع «أن يقبل الناس جميعًا ذلك تسليمًا؛ لأنه من المستحيل، لكن ما يحضني على ذلك أمانة الكلمة والعلم».

وقال الشيخ المغامسي لـ«الفيصل»: «لا أستطيع أنا أو غيري من المتأصلين شرعيًّا أن نحلل أو نحرم إلا ما حرمه الله أو ما حلله سبحانه وتعالى، فكيف بما ليس فيه دلالة صريحة كالموسيقا؟». وأضاف أنه حين قال ما قاله بخصوص الموسيقا، لم يكن مُلزمًا «ولم أكن أبحث عمن يجادلني أو يناقشني؛ لأني لن ألتفت إلى ذلك؛ فهو ليس ما أسعى إليه أو أرغب به، وإنما من باب حديث خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا ألجمه الله لجامًا من نار يوم القيامة».

يذكر أن الشيخ المغامسي أكد في برنامج تلفزيوني أواخر مايو الماضي أنه لا يوجد إجماع على تفسير «لهو الحديث» بأنه الموسيقا، مشددًا على أن الأمة في حاجة إلى خطاب تجديدي، وأن أمانة الدين تملي عليه أن يتكلم، الأمر الذي أثار جدلًا بين معارضين ومؤيدين.