المدينة أنشأها السلام… المدينة أنشأت الحروب

المدينة أنشأها السلام… المدينة أنشأت الحروب

«وأذكر ما بمدينة القاهرة من الخطط والأصقاع، فتتهذب بتدبر ذلك نفس القارئ وترتاض أخلاقه، فيحب ويفعله، ويكره الشر ويتجنبه» المقريزي – «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار» والمعروف بخطط المقريزي.

تُعرف المدن أساسًا بالقانون، وهذا ما يجعلها مدينة وليست قرية، القانون أو العدل هو جذر الكلمة «مدينة» ومعناها، فالقضاء والحكم هما شرط وصف التجمع السكاني بالمدينة، وما زال كثير من المدن تحمل أسماءها ومستمدة من صفتها ودورها في الحكم والإدارة، مثل إستنبول، وأورسالم، والمدينة. يقول فولتير: البلدات تشكل بلدة، والمواطنون يشكلون المدينة. وقد عرف علماء الاجتماع المدينة بخصائص أساسية. ماكس فيبر يراها مرتبطة بالحصن أو السور والمحكمة والسوق، وأضاف إليها المؤرخون العرب، مثل المقدسي وياقوت، الجامع والماء.

مدينة الأحياء والأموات

إن السلام هو الذي أنشأ المدينة ولكن المدينة أنشأت الحرب. يقول برونيسلا مالينوسكي: إن الحرب بما هي صراع بين جماعتين مستقلتين ومنظمتين تنظيمًا سياسيًّا لا تقع بين البدائيين؛ فالحرب كالعلم حدث تاريخي مرتبط بالحضارة.

ربما يعود الفضل في قيام المدن إلى الموت، ففي اهتمام الإنسان بالموتى ودفنهم، تشكلت معالم ومبانٍ ثابتة يعود الناس إليها في ظل حالة لم تكن تشجع على الإقامة الدائمة في مكان واحد عندما كان الإنسان يعتمد في حياته على الصيد وجمع الطعام والثمار. والثابت أن مدينة الأموات سبقت مدينة الأحياء في الوجود، وفي الواقع فإن القبور والمقابر كانت نواة المدن.

يمثل الكهف مكانًا آخر في بيئة إنسان العصر الحجري يلجأ إليه الإنسان للزيارة أو الإقامة، ولم تكن الكهوف للسكنى لكنها كانت مراكز للطقوس الدينية. ويلفت الاهتمام المستوى المتقدم للرسومات التي وجدت على جدران تلك الكهوف. وقبل الاستقرار في مكان واحد لمدة طويلة أو دائمة فقد أنشئت ساحات وهياكل للتجمع والالتقاء لأجل الطقوس الدينية والمتعة الاجتماعية والتبادل التجاري. وما زالت مكة والقدس وروما وبنارس وبايينج وكيوتو ولورد تستهوي أفئدة الناس ليحجوا إليها. وكان عامل ثالث في تجمع الناس واستقرارهم هو لقاء الأسر والقبائل للسكنى في موطن مشترك أو لتنظيم الصيد وجمع القوت. هكذا يمكن ملاحظة ثلاثة مظاهر للاستقرار اثنان منها مرتبطة بشؤون مقدسة مرتبطة بالموت والولادة، والثالث لتنظيم وتحسين البقاء المعيشي والمادي.

برونيسلا مالينوسكي

تمثل المدينة سلسلة مطورة ومتراكمة من التقنيات والابتكارات التي نشأت في القرية، الأواني ومخازن الغلال وقنوات المياه. وفي حاجتها للحماية تقدم الصيادون في مجتمع القرية بسبب قوتهم وشجاعتهم، وصاروا حكامًا وقادة، وتحولت مهنة قتل الوحوش والحيوانات وصيدها إلى قتال الأعداء وبناء وتنظيم الجيوش، ولم يعد السلاح مقصورًا على قتل الحيوانات، بل كذلك لتهديد الناس، وصار هؤلاء الحكام يجمعون الضرائب مقابل الحماية.

بدأت القلاع والحصون لغرض تسلط أقلية صغيرة على جماعة كبيرة، وكان السلاح يستخدم داخل المجتمع وليس للحروب مع المجتمعات الخارجية، وقد ظلت القلعة باقية على الرغم مما طرأ من التغيير على أشكال الحكومة ومهماتها في أربعة الآلاف سنة الماضية، فإن القلعة ظلت باقية وما زالت تشاهد إلى اليوم، وحيثما أجلنا البصر من قلعة سان أنجيلو إلى الكتلة الصماء القائمة إلى جوار قوس الإمبريالية في لندن، ومن الكرملين إلى مبنى البنتاغون.

دور الملوك في بناء المدن

ظهر في نحو 3000 قبل الميلاد مجموعة من التطورات التقنية التي أسست المدن، مثل: زراعة الحبوب، والمحراث، والعجلة، وصناعة الفخار، والسفينة الشراعية، والنسيج اليدوي، وتعدين النحاس، والرياضيات البحتة، والمشاهدات الفلكية الدقيقة، وتقويم السنة، والكتابة. وكان من أهم التحولات الاجتماعية عندما تحول الصياد من دفع الأذى عن الناس إلى زعيم يجمع منهم الضرائب. ونرى أن هذه الشخصية اتخذت فجأة مظهرًا يتجاوز حدود البشر، فكل سلطاتها وامتيازاتها زادت زيادة هائلة بقدر ما تضاءل نصيب الرعايا من السلطات والامتيازات؛ إذ لم تعد لهم إرادة مستقلة ولا قدرة على الحياة بمعزل عن حاكمهم.

الحال أن أهم عامل في التغير من أسلوب حياة القرية المفكك الأوصال إلى أسلوب المدينة المنظم تنظيمًا دقيقًا، كان الملك، أو بالأحرى نظام الحكم الملكي. وأما التصنيع والمتاجرة المقترنان بنمو المدينة فإنهما كانا مدة قرون من العوامل الثانوية، بل لعل ظهورهما جاء متأخرًا عن ذلك. إن كلمة تاجر لا تظهر في الكتابة في بلاد ما بين النهرين إلا في الألفية الثانية قبل الميلاد، عندما تصف موظفًا في معبد منح حق التجارة مع الخارج. بل إن وظيفة الملوك كانت هي إنشاء المدن، ويحتل الملك في التجمع الحضري واسطة العقد، فهو قطب المغناطيس الذي يجتذب إلى قلب المدينة كل القوى الجديدة التي توافرت للمدينة، ويضعها تحت سيطرة القصر والمعبد.

لم تكن القلعة ملاذًا دفاعيًّا يعتصم به ابن القرية عندما يتهدده المغيرون المتنقلون من مكان إلى مكان، وإن صار الحصن فيما بعد يستخدم لأغراض حربية، ولعل استخدام السور في مبدأ الأمر كان لأغراض دينية، كبقية الحدود المقدسة لحرم شريف ولصدّ الأرواح الشريرة أكثر منه لصدّ المعادين من البشر.

الحال أن مبتدأ القلعة كان لصون أملاك الزعيم وأسلابه من الحبوب والنساء من غارات النهب ومن سخط القرويين؛ ذلك أن من يتحكم في فائض المحصول الزراعي كان يملك سلطة الحياة والموت على جيرانه. ولقد كان خلق عجز مصطنع وسط الوفرة الطبيعية المتزايدة أحد الانتصارات التي اتسم بها النظام الاقتصادي الجديد للاستغلال المتمدن، وكان نظامًا اقتصاديًّا يتعارض تعارضًا جوهريًّا مع تقاليد القرية.

تحالف المعبد والقصر

لعل الدين قد كان له دور أساسي في إحداث هذا التغيير؛ إذ إنه من دون مساعدة طبقة رجال الدين الصاعدة ما كان في مقدور الزعيم الصياد أن يحصل على النفوذ الكبير والسلطات الواسعة التي صحبت ارتقاءه إلى مرتبة الملك، وبسطت نطاق سيطرته. وكثيرًا ما كان الكاهن والملك يجتمعان في شخص واحد. لم يكن بناء المعابد أو إعادة بنائها مجرد مظهر صوري للورع، بل كان دعمًا ضروريًّا للحق الشرعي في البقاء والاستمرار، وتكريس الميثاق بين المعبد والقصر. كان المعبد يقوم بدور أجل قدرًا مما يؤديه الحصن والحرس المسلح. وما الحاجة إلى الإرهاب إذا كانت الطاعة تأتي في يسر، وإذا كان وجود إله حي بين الناس يكفل لهم الوفرة والطمأنينة والأمن والنظام والعدل في هذه الدنيا والخلود في الآخرة؟

كان أشد ما في تاريخ المدينة موجبًا للأسف وما زال عارها مقيمًا بيننا، مهما بلغ من شأن الخدمات الجليلة التي نهضت بها المدينة، فإنها قامت كذلك خلال الجانب الأكبر من تاريخها بأداء دور وعاء للعنف المنظم. يقول أفلاطون: «كل مدينة في حالة حرب طبيعية مع كل مدينة أخرى». هكذا فإن المدينة -التي هي من أنفس المبتكرات الجماعية ولا يوجد ما يفوقها في نقل الحضارة سوى اللغة- نفسها أصبحت من بداية أمرها وعاءً لقوة داخلية مدمرة موجهة نحو التخريب والإبادة بلا انقطاع. في نقش ما زال قائمًا يصف الملك سنحريب التدمير الشامل الذي أنزله بمدينة بابل، وكيف أحرقها بالنار ودمر بيوتها وأسوارها وأساساتها وأبراجها ومعابدها وأغرقها بالماء.

ولأن المدن كانت في حالة حرب بعضها مع بعض، فقد توافقت على أمكنة أو مدن «حرام» يحرم فيها القتل والقتال، مثل أورسالم (القدس) ومكة، بحيث يكون في مقدور الأفراد والجماعات مهما كان عداؤها أن تؤدي شعائرها ومصالحها في سلام على الرغم من العداوة والقتال فيما بينها.

سلكت مكة بقيادة قصي بن كلاب وأبنائه من بعده قبل الإسلام سلوكًا محايدًا ومتوازنًا يضمن سلامة الحج والحجيج والقوافل التجارية (الإيلاف) التي كانت تتحرك بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولأجل ذلك حرصت قريش على تجنب الانحيازات السياسية. وينسب إلى عبد مناف بن قصي بن كلاب في القرن الخامس الميلادي قوله: «ليس الدين بالملك، لا أخالف دين إسماعيل وأتبع دين الملوك». وذلك بمناسبة الصراع بين الروم والفرس وطلب الفرس من قريش الانحياز لهم، وبخاصة بعد أن قطعوا طريق التجارة بين الشرق والغرب، واستطاع قصي بن كلاب أن يؤلف تنظيمًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا يدير طريقًا بديلة لطريق الحرير فصارت السلع والبضائع تجلب بحرًا من الهند وإفريقيا، ثم تنقل برًّا وبحرًا إلى سائر أنحاء العالم الغربي الذي كان معظمه خاضعًا للإمبراطورية البيزنطية.

مدينة واحدة وثلاثة أديان

كانت أورسالم مدينة فقيرة قليلة الموارد لكنها كانت مركز الكنعانيين للحج ورمزًا للسلام فيما بينهم. كانت مدينة مستقلة وتسيطر على ما حولها من مناطق ريفية، ويلتقي الناس في أورسالم التي يديريها اليبوسيون وهم أشراف الكنعانيين (مثل قريش في العرب)، ويصعدون جبل صهيون، ويقدمون القرابين، ويقضون مصالحهم، ويحلون مشكلاتهم.

بعض الإسرائيليين كانوا ينظرون إلى أورشليم حتى وقت كتابة سفر يشوع وسفر القضاة بوصفها مدينة أجنبية، تنتمي في المقام الأول إلى اليبوسيين، وكان الآباء الأوائل قد ارتبطوا بمدن بيت إيل، والخليل/ حبرون، وشكيم وبير سبع، لكنهم لم يلحظوا أورشليم في أسفارهم وترحالهم. التقى إبراهيم ملك مدينة سالم وكان اسمه ملكي صادق، وقدم الملك إليه خبزًا ونبيذًا. وتَعُدّ الأساطير ملكي صادق هو الملك المؤسس للمدينة، وأن الملوك من نسله، وفي وقت لاحق كان يقال للملوك اليهود الداوديين أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. وقدم إبراهيم للملك ضريبة العشر وقبلت مباركة إلهه، إيل عليون، الإله العلي. وقد اندمج إله بني إسرائيل يهوه مع إيل إله إبراهيم، وما إنْ حل بنو إسرائيل في أورشليم؛ حتى ارتبط يهوه أيضًا بالإله بعل إيل عليون، الذي كان يعبده الكنعانيون على جبل صهيون.

لم يكن المسيحيون مهتمين بالحج إلى أورشليم وزيارتها، وكانوا يميلون إلى ما جاء في إنجيل متى وإنجيل يوحنا من أن أورشليم أصبحت المدينة الخاطئة؛ لأنها رفضت المسيح. وكان يسوع يقول: إن الناس لن يجتمعوا في المستقبل في أماكن مقدسة مثل أورشليم لكنهم سيعبدون في الروح وفي الحق. وكان الكاهن الرئيس لفلسطين هو كاهن قيسارية، وليس كاهن إيليا (أورشليم)، وعندما استقر أوريجن العالم المسيحي الذائع الصيت في فلسطين عام 234م اختار قيساريا لإنشاء أكاديميته ومكتبته فيها. وعندما قام برحلاته كان اهتمامه الأساسي علميًّا وتاريخيًّا، ولم يكن يتوقع أي تجربة روحية من زيارة المواقع. لكن بدأت القدس في منتصف القرن الرابع تتحول إلى مدينة مسيحية مقدسة، وتطور تصور فلسطين بوصفها الأرض المقدسة، وحولت المباني والآثار والأديرة إلى مكان مقدس.

كان دخول الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب للقدس عام 638م وهو على بعيره الأبيض وبملابسه البسيطة؛ يمثل لدى المسيحيين صورة الفقر المقدس. عبر عمر عن مبدأ التراحم التوحيدي أكثر من أي ممن فتحوا أورشليم قبله، فقد أشرف على أكثر غزو للمدينة سلامًا، من دون إراقة دماء، لقد كان فتحًا لم تشهد مثله المدينة في تاريخها الطويل والمأساوي، لم يحدث قتل أو تدمير للممتلكات أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، ولم يطرد السكان ولا نزعت ملكياتهم، ولم يجبروا على اعتناق الإسلام.

كانت دكة هيرود وجبل المعبد ومقدسات اليهود مهملة وتعرضت للإهانة، وقد شرع عمر مِن فورِه بإزالة ما لحق بها من أذى، واستُدعِيَ كعب الأحبار الذي كان قد أسلم من قبل، وشارك اليهود في تطهير المكان، ويقال: إن عمر أحضر معه مجموعة من حاخامات طبريا. وبدؤوا بإعادة المشهد اليهودي والتأسيس لمشهد إسلامي.

ظهرت قصيدة عبرية في نهاية القرن السابع ترحب بالعرب المبشرين المسيح المنتظر، وتترقب آملة أن يجتمع شمل يهود الشتات وأن يعاد بناء المعبد، وحينما لم يصل المسيح المنتظر استمرت نظرة اليهود الراضية عن الحكم الإسلامي في أورشليم. في خطاب كتبه حاخامات أورشليم في القرن الحادي عشر، تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حينما سمح لمملكة إسماعيل أن تفتح فلسطين، وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى أورشليم، حيث كان في صحبتهم أناس من أبناء إسرائيل، أرشدوهم إلى موقع المعبد، وتوطنوا هناك معهم إلى ذلك الحين.

كان المسلمون يميلون إلى إقامة عواصمهم بعيدًا من الأماكن المقدسة، فقد ظلت المدينة وليس مكة مركزًا للرسول والخلفاء من بعده، وظلت رام الله مركزًا لفلسطين على القدس، وأرسى المسلمون لأول مرة نظامًا تمكن بواسطته أتباع الديانات الثلاث من العيش معًا في بيت المقدس. احتل كل من الديانات منطقته الخاصة، ويتعبد في أضرحته رؤياهم عن استمرارية وتوافق عقائد الذين هداهم الله، وتلك العقائد ذات الأصل الواحد؛ ألا وهو الإيمان بالله.


مراجع:
– لويس ممفورد: «المدينة عبر العصور». ترجمة إبراهيم نصحي. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
– غوستيل دي كولانج: «المدينة العتيقة». ترجمة عباس بيومي بيك. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
– كارين آرمسترونغ: «القدس: مدينة واحدة وثلاثة أديان». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وجهة الثقافة في عصر من الشك والفوضى

وجهة الثقافة في عصر من الشك والفوضى

ما زال كِتاب ألفين توفلر «صدمة المستقبل» الذي صدر عام 1970م يُستحضر على نحو متواصل في وصف حالة الشك والتغير الكبير لدرجة الفوضى في التقنيات والأعمال والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاتجاهات الاقتصادية والفكرية؛ التي تغير بعمق في عالم وحضارة عصر الصناعة؛ رغم العدد الذي يصعب إحصاؤه من الكتب والدراسات والروايات والأفلام التي صدرت في السنوات الخمسين الماضية عن الثورة الصناعية الرابعة. يفكر المثقفون والمفكرون والأدباء إلى جانب السياسيين والمخططين في حيرة وشكّ في عالمنا الذي يتشكل؛ ولم يكتمل، وحاضرنا المتصدّع، لكن يبدو أن عدم الاكتمال صار هو الحقيقة الأكثر وضوحًا وحضورًا في التفكير والتخطيط كما الثقافة والآداب والفنون بطبيعة الحال.

إن الثقافة بما هي وعي الذات تنشئ فيما تقوم عليه من إبداع وخيال خطة طريق للأفراد والمجتمعات والدول والأسواق والمؤسسات، لكنها في ذلك ليست مستقلة عن العالم المحيط بها، وكما يقول الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان (1911– 1980م) نصنع ونطور الأدوات، لكنها أيضًا تحدد ثقافاتنا وهوياتنا، وتخبرنا من نحن. وبطبيعة الحال فإن موجة التقنية الحديثة في سرعتها وتغيرها تجعل وعينا وخيالنا غير المستقل عنها يحمل طابع التقنية في تحولاتها وتسارعها، ثم ننشئ بثقافتنا ووعينا غير اليقيني أدوات وتقنيات يتسرب إليها الشك والفوضى.

لم تعد العلوم اليقينية الراسخة تنشئ التقنية، إنما الاحتمالات وعدم الوعي والإدراك والتداعيات التي لم نُفِقْ بعد من صدمة الوعي بصعوبة وربما استحالة الإحاطة بها؛ عندما أدهشنا فرويد بأن الإنسان يسلك ويفكر ثم ينشئ عالمه وحياته بدوافع وأفكار عميقة وعقل باطن لم نفهمه بعد تمام الفهم، ولا نتحكم به، بل إن اطلاعنا عليه يزيد عدم معرفتنا. ثم صدمنا الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل؛ فيرنر هايزنبيرغ (1901– 1976م) بأننا لا نملك سوى «عدم اليقين» لفهم الظواهر والأشياء، ليس بسبب نقص المعرفة ولكن لأنها وجدت على نحو يستحيل معرفتها، ولأنها تتغير باستمرار، ولا تتجاوز معرفتنا سوى اللحظة التي نراقب فيها الظاهرة، لكن (ويا للهول!) فإنها تتغير باستمرار، بل إن مراقبتنا لها تغيرها!

وهكذا فإن الثقافة أنشأت وبسرعة وكفاءة مدهشة حول هذا المخيم العالمي الجديد المؤقت وغير الواضح وغير المستقر، الذي لجأت الأمم جميعها (تقريبًا) إليه، عالمًا من التكيف والاستقرار والصناعات والأدوات. ولو تأمل اليوم أحد من المثقفين من جيل السبعينيات وما قبل فسوف يتذكر قدرًا كبيرًا من الأفكار والأشياء والأدوات وكذا القيم والاتجاهات الزائلة والمرتحلة، وأخرى تحلّ وترحل بسرعة، ثم بالإيقاع السريع اللاهث نفسه ظهرت واختفت أعمال فكرية وأدبية وفنية كثيرة جدًّا. واختفى مع الاحترام والتقدير زمن نحسبه جميلًا مليئًا بالإبداع وأسلوب الحياة والفكر والعلاقات والعمل. حتى في السنوات القليلة الماضية احتفينا بأعمال أدبية وفنية كثيرة، ثم اختفت بسرعة، وكأنها لم تكن سوى مهرجان بديع من الألعاب النارية الزاهية والمبهرة. هل يقرأ أحد اليوم روايات باولو كويلو؟ ويمكن أن نسأل السؤال نفسه عن الأفلام والدعاة وتنمية الذات والبرمجة اللغوية والتدريب في اتجاهات ومهارات ظهرت ثم اختفت.

منظومة راسخة من القيم

يمكن، وعلى نحو نكاد نتفق عليه، أن نلاحظ منظومة راسخة من الثقافة والقيم والفلسفات والأفكار التي تحيط بعالم اليوم، وأن ما يتغير من المنتجات والسلع والأشياء والاتجاهات إنما يتحرك في إطار يكاد يكون ثابتًا ومؤسسًا لعالمنا الجديد والمدهش، الذي لسوء حظنا (أجيال السبعينيات وما قبل) لن يتاح لنا أن نشهده في نضجه وبهائه، ولكن يرجح أن الذين سيكونون أحياء في منتصف هذا القرن وما بعده، ويملكون الوعي والقدرة على تذكر عالم ما قبل تسعينيات القرن العشرين الذي يمكن الإشارة إليه بلحظة انهيار جدار برلين (1989م)، سوف يكونون مصدرًا مدهشًا وملهمًا للشباب والناشئة الذين سوف يولدون في السنوات القادمة، ولم يعرفوا عالمًا سوى ما نصفه اليوم بالشبكية أو الثورة الصناعية الرابعة.

لقد أسست جائحة كوفيد 19 لهذا العالم المتشكل، وسوف تكون لحظة تاريخية فاصلة بين عالمين بدأنا نلاحظ بداياتها في التعليم والعمل والتسويق من بعد، لكن ذلك ليس سوى تطبيقات بدائية لعالم أكثر تعقيدًا وحبكة، من العمل والتواصل والحياة، وما لدينا اليوم من أدوات ومدخلات للتأمل والخيال هي من مرحلة التطبيقات هذه التي نعيش بداياتها، والتي تكون نسبيًّا ساذجة وانتقالية.

يصعد الفرد اليوم وغدًا، وتؤسس الفردانية للعالم في الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. فهذا الفرد الذي يتعلم ويعمل من غير مؤسسات ومبانٍ وأسواق ومدارس وجامعات، يتحول هو بفرديته إلى ضامن للقيم والقانون بدلًا من أو مع المجتمعات والمؤسسات التنظيمية والعامة للدول والمجتمعات، وينشئ ذلك بطبيعة الحال متوالية من المنتجات والسلع والتقنيات المعدة للفرد أو تستمد أهميتها وانتشارها من الفردانية.

فعلى سبيل المثال قد ظهرت الدراجة الهوائية والآلة الكاتبة في أواخر القرن التاسع عشر، على الرغم من أن إمكانية إنتاجها وتصنيعها كانت ممكنة تقنيًّا قبل ذلك بمئات السنين، وقد ظهرت المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، وظهرت العجلة قبل آلاف السنين، لكن العالم الذي كان يحتكم وينظم نفسه إلى قيم جماعية حازمة ودقيقة، لم يَدَعْ للفردية مجالًا لتؤثر في الحياة والتقنية كما الفكر والسياسة. وكانت الدراجة والآلة الكاتبة في محدوديتهما وضعفهما برغم أهميتهما وجاذبيتهما يعكسان مدى حضور الفرد والفردانية في الحضارات والمجتمعات. والمطبعة نفسها كان يمكن أن تظهر قبل عام 1435م بكثير، فقد كانت تقنية الألواح التي تنشئ نسخًا مكررة مطبقة في الصين قبل ذلك بمئات السنين، لكن صعود الشغف بالعلم والمعرفة به وتطور المؤسسات التعليمية أنشأ أسواقًا مزدهرة للثقافة والعلم، وهذه أنشأت المطبعة. وكان البارود معروفًا في الصين كما عرفه العرب أيضًا، لكن لم يطور إلى سلاح منظم إلا في مرحلة متأخرة وبإغواء حركة الكشوف الجغرافية والنزعة إلى الهيمنة على الأسواق والطرق التجارية، وكانت قبل ذلك ولمئات بل آلاف السنين تنظم نفسها على نحو اجتماعي ومدائني لا يحتاج إلى القوة المهيمنة.

نشوء الدولة المركزية

طريق الحرير ظلت نحو خمسة آلاف سنة توحد العالم وتؤمن السلع والخدمات للعالم من خلال شبكة عملاقة وذاتية التنظيم من التجار والمدن والقوافل والسفن والطرق والبريد. لكن مع نشوء الدولة المركزية بدءًا من القرن السابع عشر أو منذ معاهدة وستفاليا (1648م) بدأت تنشأ الجيوش الأكثر تنظيمًا والصناعات الحربية المعقدة، لقد كانت الحرب في قسوتها وتدميرها منجزًا علميًّا وحضاريًّا! وكانت قبل التقدم العلمي والتقني صراعات محدودة وقليلة الكلفة والخسائر، بل لم تكن موجودة في كثيرًا من المجتمعات والحضارات المسماة اليوم بدائية!

وفي عالم الحرب نفسها ظهر السلاح الفردي الناري متأخرًا نسبيًّا، فقد كان الشعور بالحاجة إليه قليلًا أو معدومًا في عالم السيف والفروسية حتى بعد استخدام المدافع لمئات السنين؛ لأن الفرد نفسه لم يكن شأنًا مركزيًّا في عالم الجيوش والدول والمؤسسات المركزية والمنظمة تنظيمًا جماعيًّا.

وظل اللباس حتى أوائل القرن العشرين يعكس انتماءات جغرافية وطبقية ومهنية، ولم يتحول إلى أسلوب حياة فردية إلا في العقود القليلة الماضية، ويشهد اليوم تحولات كبرى تعكس صعود الفرد ومزاجه؛ مثل طبيعته الزوالية في التصنيع والاستخدام، أو الإضافة المميزة في التصميم أو العلامة الخاصة بمستخدم واحد. وبالطبع فإن «الموبايلات» والأجهزة الحاسوبية واللوحية المتحركة في سيادتها اليوم تعكس سيادة الفرد نفسه، وقيم وفلسفة الفردانية، ومنهجية إدراك حقائق الأشياء وتقويمها بناءً على فلسفة الفرد الذي يقرر وجهة الصناعة والتجارة والمعرفة والمؤسسات.

ثم أنشأت الفردية عالمًا من المساواة غير المسبوقة تعكسها بوضوح وبداهة شبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت لكل فرد مستقلًّا بذاته أدواته الخاصة في التواصل والتأثير والتعبير بمعزل عن المؤسسات الإعلامية المركزية التي تحولت هي أيضًا لمجاراة النزعة الفردية في الاستهلاك والثقافة والمزاج، لكنها تترنح اليوم تحت وطأة نِتفلِيكس وغوغل وفيسبوك وتويتر وأمازون، التي لم تعصف فقط بعالم الإنتاج والنشر والثقافة، وإنما تنشئ عالمًا جديدًا متوافقًا مع الفرد نفسه وقيم المساواة المطلقة، التي تجعل كلَّ فردٍ متصلٍ بالشبكة على قدم المساواة مع المؤسسات المركزية والعملاقة في الإعلام والسياسة والفكر. فعندما يخبرك إنستغرام في رسالة واحدة أن سارا (حفيدتك الصغيرة) وناسا وناشونال جيوغرافيك والبنتاغون قد أدرجوا صورًا جديدة، تشعر بالتأكيد أن سارا والبنتاغون متساويان!!

الذين غامروا بالضحك

الذين غامروا بالضحك

لا يزال عيسو غير قادر على فهم درس الولد الشجاع في كتاب القراءة حتى بعد خمسين عامًا أعقبت الدرس؛ كلها قراءة متواصلة، لقد استوعب هيغل وبرتراند راسل وكارل ماركس لكنه ما زال يفكر فيما تعلمه، وما زال يتذكره عن أطفال القرية الذين صاروا يلعبون في الحقول بعيدًا عن الطريق. «الأطفال يلعبون».. صورة مدهشة لم يستوعبها عيسو، كيف يكون اللعب متقبلًا وأمرًا جيدًا كما يبدو في الكتاب، ولكنه كان لدى المعلمين الذين يعلمون الدرس نفسه عملًا بشعًا، يتلقى الأطفال بسببه عقوبات قاسية! والأهل أيضًا كانوا يعتبرونه جريمة!.. كيف كان الأستاذ يعلمهم الدرس الذي يثني على اللعب أو يتقبله، وهو يعاقبهم على الفعل نفسه؟ وبما أن عيسو كان يأخذ الكتاب بجدية، ويتلقى من المعلم بقبول، ويسمع لأهله باحترام؛ ولأن اللعب كان مغويًا ولا يمكن مقاومته فقد كان يلعب ويشعر في الوقت نفسه بالخطيئة وتعذيب الضمير، ظل اللعب والضحك خطيئة يمارسها عندما ينسى أو يضعف أو يستدرج، ثم يحاسب نفسه عليها بقسوة! ويا للخسارة، فعندما اكتشف المعلمون والأهل، واكتشف عيسو أيضًا أن اللعب والمرح شيء إيجابي وجميل، كان قد فات الأوان!

التلاميذ الذين غامروا بالابتسام ظلت مغامرتهم قصة تروى على مدار العقود، ولم يكن للمصير الذي واجهوه علاقة بدرس «الولد الشجاع». جاء الولد، ووقف باسمًا أمام الطبيب، وقال عنه الطبيب: هذا ولد شجاع. ظل عيسو حائرًا أمام كلمة «باسمًا»؛ لم يعرف معناها. كتاب القراءة الذي قرأه كله مرات عدة في أول يوم استلمه من المدرسة، كما قرأ كتب إخوانه الكبار في الإعدادية، وحفظ كثيرًا من قصائدها وما زال يحفظها حتى اليوم؛ ومجلة العربي التي كان يقرؤها خلسة مغامرًا بما يمكن أن يتلقاه من عقاب.. كل ذلك لم يسعفه في معرفة معنى «باسمًا». كيف سيعرف كلمة غير مستخدمة؟ كم جلدة تلقى التلاميذ بسبب الابتسام؟ كم إهانة وشتيمة ظلت ملتصقة بهم لم تمحها السنوات الخمسون بسبب الابتسام؟ اليوم، ما يحيره ويدعوه إلى التوقف طويلًا للتأمل والتفسير، كيف كان الأساتذة «يسلخون» التلاميذ بسبب الابتسام، ثم يقرؤون لهم درس القراءة، ويشرحون لهم بصدق وإخلاص فائضين عن الولد الشجاع الباسم! هو الأستاذ نفسه لمح حسن يضحك، وكان الموقف يسمح للأولاد بأن يتهامسوا ويبتسموا، فقد كان منشغلًا عن التلاميذ ومكبًّا يقرأ أو يكتب شيئًا (يظن عيسو أنه كان يعد خطته المنهجية: صفحات مسطرة طوليًّا وعموديًّا، تشرح الأهداف والوسائل للدروس، وما سيفعله الأستاذ لتحقيق الأهداف. قرأها كلها مرة في غفلة من الأستاذ). لكنه رفع رأسه فجأة ورأى حسن يضحك، «لماذا تضحك يا ابن الـ… تعال هنا منشان أسلخ بدنك» هو لم يضحك، ولكنه ابتسم. كان هناك أولاد كثيرون وأساتذة أيضًا اسمهم بسام وباسم، لكنه لم يعرف معناها،… لعلها أشياء مثل فاكهة المانجا! ولما كبر عيسو صار بلا إدراك واضح، يقوم بالإرهاب نفسه ضد من يقدر عليه كلما رآه يضحك، ويصرخ فيه بكل ما يقدر عليه من غضب: الضحك بدون سبب قلة أدب.

تنازل عيسو عن كبريائه، وهمس سائلًا الصديق الذي كان يجلس بجواره ما معنى باسمًا؟ قال له: ضاحكًا. وازدادت حيرته؛ لماذا يشجعنا الكتاب على الابتسام؟ «حتى عندما كبرنا قليلًا وقرأنا قصيدة إيليا أبو ماضي «ابتسم»، ومقالة أحمد أمين عن الابتسام والتفاؤل، بقيا (الابتسام والتفاؤل) ممارسات جرمية، نمارسها بالسر، ونضحّي لأجلها بعقوبات يجب أن تكون رادعة».

في حصة الرياضة يلعب الأطفال؛ يصبح اللعب واجبًا قاسيًا مثل حصة الإملاء والعلوم، ويتعرض عيسو للتوبيخ؛ لأنه في الملعب مثل «العمود»، لا يضر ولا ينفع. ولكنه تعلم فيما بعد، بسبب فشله في اللعب، درسًا جميلًا من أجمل ما تعلَّم في الحياة.

ففي المدينة التي كان يدرس فيها في الجامعة، كانت ممارسة كرة القدم فرض عين (تقريبًا) في أيام العطل وفي الرحلات،.. كان يجلس وحده والشباب يلعبون، وفي إحدى المرات، انخرط الشباب جميعهم في لعب الكرة، وبقي عيسو وشادي ابن السنوات الأربع جالسين وحدهما يتحدثان، تعلم عيسو من شادي درسًا مفيدًا وجميلًا يتذكره دائمًا. فقد بدأ النهار يرحل. كانت الشمس تغرق في البحر، والقمر يطلّ متسللًا من وراء الجبال. سأل عيسو شادي: لماذا تغيب الشمس في الليل ويأتي القمر؟ قال: الشمس لا تسمح لها أمها بالبقاء حتى الليل، فتذهب إلى بيتها، والقمر تسمح له أمه بالخروج في الليل! ولا يزال عيسو مدينًا لشادي بهذا التفسير الجميل والعميق لحركة الكون والليل والنهار.