في النقد الثقافي:  فوبيا الخوف من الآخر

في النقد الثقافي: فوبيا الخوف من الآخر

لعل من أهم العوامل التي تشكل ارتباكًا وخللًا في تقاسم الثروات والكنوز الإنسانية الثقافية والمعرفية والاقتصادية ظاهرة الخوف؛ خوفنا من الآخر، وخوف الآخر منّا. وفي هذه الحال تتكاثر الحروب وتتشعب وتتوالد الكراهيات، وتتشكل القطائع، وترفع الحدود، وتنتج الأمراض الثقافية والاجتماعية والسياسية، وتلك هي الأسس الأولى لبذرة التخلف، بل التعصب الذي يتستر بستار حماية الذات والخوف عليها مما يسمى بالذوبان، أو التفكك، أو التلوث، أو الاحتواء. وإن الخوف الإبستيمي، الخوف المعرفي، حالة تاريخية يعيشها الشمال كما يعيشها الجنوب على حد سواء. يعيشها الشرق كما يعيشها الغرب على قدم المساواة. ويمكن عدّ الخوف الثقافي صناعة تمارسها الشعوب التي تعيش حالًا من التخلف، وأيضًا حالًا من العلاقة المضطربة تجاه ما يسمى بمشكلة الهوية الحضارية أو الوطنية أو القومية.

تجليات الخوف الإبستيمي في الغرب:

أنتجت الثقافة الغربية في أوج حالة توسعها الاستعماري في إفريقيا ما بعد الصحراء، أنتجت ثقافة احتقار ذوي البشرة السوداء الذين ظلوا إلى زمن قريب بمنزلة سلعة تباع وتشترى لخدمة السيد الأبيض. وعلى الرغم من الاستقلالات الوطنية التي حازت عليها كثير من الدول الإفريقية، وبعد وصول جالية من هذه البلدان على شكل يد عاملة إلى أوربا، ومع انتشار ثقافة حقوق الإنسان في العالم، وبتوسع خبرات المعرفة والعلوم، فإن مجموعة من الأوربيين الذين ظلوا على نوسطالجيا (الأسود السلعة) تولدت لديهم بوادر مرض يمكن أن نسميه:

أولًا- الزنجفوبيا « Negrophobie»: في مرحلة لاحقة، ومع انحسار الفكر الاستعماري المباشر الكلاسيكي اتخذ هذا المرض «فوبيا الآخر» تجليات وصورًا أخرى كثيرة عكست حالة من الارتباك والتأزم السياسي والثقافي والاقتصادي الذي دخلته أوربا قبل توحيدها، وقد عبر عنه من خلال كثير من الممارسات التي تجلت في الحياة الاجتماعية اليومية وأفرزت جراء ذلك سلسلة من المفاهيم المعرفية والاصطلاحية التي ننحتها في العربية كما يأتي .

ثانيًا- العربوفوبيا Arabophobie: وهي علّة سياسية ثقافية لغوية محورها الخوف من الإنسان «العربي»، خوف يُغلف دائمًا بكثير من الأوصاف العنصرية التي تلحق بالعربي الخائن، الوسخ، غير الوفي، الخداع، العنصري، المهووس بالجنس ،غير الحضاري، المنتقم … ثقافة في مرجعيتها كثير من مخلفات النظام الاقتصادي الكولونيالي والعنصرية التي تأسس عليها منذ بداية القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التهم والتوصيفات الملحقة بالعربي لا تستثني الأمازيغي «سكان إفريقيا الشمالية الأولون من غير العرب». وإذا كان الاستعمار في السابق، وهو يملك اليد الطولى المنبسطة على بلدان المغرب الكبير وبشكل خاص الجزائر، يعمل جاهدًا على التفريق العرقي والسياسي بين العرب والأمازيغ – ويطلق عليهم أيضًا اسم البربر- بقصد التجزئة حتى تترسخ الهيمنة، فإنه وبعد الاستقلالات الوطنية، لم يعد يفرق بين هذا وذاك، فالجميع في عين الثقافة العنصرية، وفي نظر الثقافة المصابة بمرض العربوفيا، هم كتلة واحدة تصدر ذات الريبة، وتنتج الخوف، ومن ثم تتطلب ذات المقاومة وتستدعي التهميش.

ثالثًا- المغاربوفوبيا Maghrébophobie: إنها الفوبيا التي ينتجها الوجود المغاربي في الحيز الأوربي بشكل عام، وفي بلجيكا وهولندا، وفي فرنسا على وجه الخصوص. ونظرًا لعدد المقيمين المغاربيين الذين يبلغون نحو خمسة ملايين نسمة فإن الوجود الاجتماعي la visibilité sociale الواضح، والمكثف ، يوجد ردة فعل ثقافية سياسية رافضة وخائفة، تتأكد يوميًّا في ثقافة أحزاب اليمين المتطرف التي أصبحت تحقق وجودًا سياسيًّا كبيرًا، وبدأت تنتقل إلى حقول النخب حيث ظهرت بعض بوادر هذه المغاربوفوبيا في خطابات النخب الفلسفية والأدبية والإعلامية والفنية، وهو ما يعمق المرض، ويجعل الخوف من المغاربي سلاحًا سياسيًّا في الخطاب الاقتصادي وأيضًا في بناء أو خلخلة الاتحاد الأوربي.

رابعًا- الإسلاموفوبيا Islamophobie: ولعل بقايا الإسلاموفوبيا تجيء من بقايا ذاكرة الحروب الصليبية، إلا أنها تتجدد سياسيًّا، وبشكل واضح في العشريتين الأخيرتين، وقد تقننت سياسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا بعد هجوم 11 سبتمبر ضد المجمع التجاري الأميركي. لقد مثلت أحداث 11 سبتمبر المفصل التاريخي للإسلاموفوبيا، بحيث أصبح كل ما يمت للإسلام مرتبطًا عضويًّا بالإرهاب، وانتقلت عدوى الإسلاموفوبيا من النخب إلى العامة، فأضحت الإسلاموفوبيا مرضًا اجتماعيًّا عامًّا متفشيًا في كل الطبقات الاجتماعية الأميركية والأوربية. ويجب التنبيه إلى أن كثيرًا من المصابين بعلّة الإسلاموفوبيا لا يفرقون بين «العربي» و«الإسلامي»، فهم لا يتصورون أن هناك عربيًّا مسيحيًّا، أو عربيًّا يهوديًّا، فكل عربي في مخيال الإسلاموفوبي الأميركي أو الأوربي، هو مسلم بالضرورة. ومن ثم فهو إرهابي بالحتمية الدينية. وقد ساعد على تنمية ثقافة الإسلاموفوبيا، ظاهرةُ الإرهاب التي أصبحت مادة الإعلام العالمي، وشبكات القنوات التليفزيونية؛ إذ تحولت إلى أجهزة ملحقة بوزارات الدفاع وبالجيوش، التي تجوب العالم برًّا وبحرًا، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، ومن هذه الحال تعممت الإسلاموفوبيا في الاجتماع، والسياسة، والدين، والثقافة، والإعلام، والسياحة، والاقتصاد، والمال، والأعمال.

إن الحرب على الإرهاب وما أعقبها من تفكك في بنية الدولة التي تنحدر من منتصف القرن الماضي، وهي دولة نتاج الأيديولوجيا الوطنية أو القومية التحريرية التي لم تعد صالحة للاستعمال السياسي في هذا القرن، نتج عنه بروز ظاهرة ثقافة الاستبداد، والغضب، والرفض، وتَمَثَّل كل ذلك في ما سمي بالربيع العربي: تونس، ليبيا، مصر، اليمن، سوريا، السودان .. هذا الوضع هذا وسّع من مساحة ثقافة الإسلاموفوبيا، وأنتج بالمقابل تنويعات في الدين السياسي.

ولقد زادت العمليات الإرهابية في أوربا، وفي فرنسا خاصة -منذ مجلة شارلي إيبدو واعتداءات 13 نوفمبر 2016م، وأخيرًا العملية الإرهابية التي عاشتها مدينة نيس في 14 يوليو 2016م- من حدة هذا الوضع، وتوسيع ثقافة الإسلاموفوبيا بشكل واضح، وتجاوزت رقعة الخطاب السياسي لليمين المتطرف فأضحت مادة في الثقافة والفن والمسرح والإعلام.

خوف الجنوبي من الآخر:

الخوف من الآخر الغربي، شعور ورثه الفرد في بلدان الجنوب من أيام الاستعمار، ويتميز بخصوصيات بعضها يجد منبته في المجال السياسي، وبعضها في الديني، والآخر في اللغوي- الثقافي، وبعضها في اضطراب الهوية.

أولًا- المستعمِر: يحاول أصحاب الدعوة إلى فوبيا الآخر، أن ينقلوا الماضي إلى الحاضر، وذلك باستعادة الذاكرة الاستعمارية، لا لنقدها وإدانتها، وهذا واجب الذاكرة، والذهاب في البحث عن علاقة جديدة مع هذا الآخر، مؤسسة على الاحترام المتبادل والاستقلال والشراكة، بل تُستدعى لتغليب ثقافة التوجس والحذر من هذا الآخر عدو الماضي، والنظر إليه على أنه عدو الأبد. الأمر الذي أحدث ردة فعل لدى المستعمَر «سابقًا» من أن يقف موقف الريبة من الغرب،ويعده غربًا واحدًا متجانسًا لا يزال يتربص به لاحتلاله من جديد.

ثانيًا- مقولة عداوة العروبة: يركز حاملو فيروس فوبيا الآخر على مقولات أيديولوجية جاهزة، وهي أن الغرب عامة و(بالجمع) يقف ضد العروبة، وأنه لا يبحث سوى عن التخلص منها ويعمل على القضاء عليها. وقد ظهر مصطلح «حزب فرنسا» في الجزائر خاصة للترميز إلى حالة التربص بالعروبة ومحاربتها من الداخل، من خلال فيلق المثقفين المفرنسين. ولعل من أهداف هذا كله قطع أوصال الحوار بين المثقفين الجزائريين على أساس اللغة، وبتر كل ما يمكن أن يجمع الضفة الجنوبية بالشمالية، من خلال الثقافة واللغة المشتركة التي يمكنها أن تتحول إلى عامل لتطوير علاقة شراكة لبناء مستقبل مؤسس على ما هو إيجابي، من دون نسيان ما هو سلبي. يبدو أن الروائي الجزائري كاتب ياسين تفطن مبكرًا إلى هذه العلاقة المرتبكة حين قال عن اللغة الفرنسية بأنها «غنيمة حرب».

ثالثًا- القضية الفلسطينية: لغرض إذكاء نار العداوة بين الجنوب والشمال، يوظف دعاة فوبيا الآخر القضية الفلسطينية التي لا أحد يشكك في عدالتها، وذلك لتأجيج ونشر ثقافة الكراهية عن طريق تعميم الأحكام، وعدّ موقف الغرب موحدًا تجاه هذه القضية التي تعد في جوهرها قضية تصفية استعمار، وحق شعب في استعادة أرضه واستقلاله. وجب التنويه إلى أنه كما كان للثورة الجزائرية أصدقاء من الأوروبيين ومن بين الفرنسيين أنفسهم، ومنهم من ضحّى بحياته من أجلها إيمانًا منه بعدالتها، فإن للقضية الفلسطينية رأس مال مهمًّا من أصدقائها في أوربا وأميركا، يدافعون عنها بشتى السبل، ولعل الاستثمار فيه يعد ورقة رابحة للدفاع عن هذه القضية العادلة. هذه بعض من مداخل قراءة الزلزال الذي يضرب الإنسان منذ بداية العشرية الأولى من هذه الألفية، حيث يسود الخوف ويتلاشى السلام وتظهر بوادر حروب ثقافية وقيمية جديدة.