محجوب كَبَلَّو: ذاكرة الاستثناء الشعري في السودان

محجوب كَبَلَّو: ذاكرة الاستثناء الشعري في السودان

ارتبطت قصيدة النثر في السودان، كما في غيره من الدول الناطقة بالعربية، بذاكرة تقليدية اشتغلت على إزاحتها وطردها، باستمرار، عن مزاج جماهيري عام في تذوق الشعر نتيجة لما عززته موسيقا الأوزان الخليلية، تاريخيًّا، كعلاقة شرطية لتذوق الشعر العربي العام، من ناحية، ولمكانة الشعر، أو للأدلوجة التي ربطت الشعر العربي تحديدًا، كخيار أممي ماز العرب من غيرهم من الأمم، من ناحية ثانية، ناهيك عن العلاقة التي جعلت من الشعر الجاهلي أحد المراجع الكلاسيكية لفهم التفسير اللغوي للقرآن الكريم.

أمام هذا الاستعصاء الذي ظلت ترهنه الذاكرة الشعبية للشعر العربي الكلاسيكي، عانت قصيدة النثر في الفضاء العام اختبارًا قاسيًا حيال اختراقها لذاكرة عامة عن الشعر كالتي أسلفنا الوصف فيها!

وحيال اغتراب كهذا لتلك القصيدة، عاصر رواد قصيدة النثر السودانيون -وهم قلة قليلة على كل حال- حرجًا مستمرًّا حال دون أي محاولة لإعادة تعريفهم كشعراء في مدونة الشعر العام، في ظل واقع ثقافي بدا هو الآخر أكثر مساهمةً في الإعاقة التي طالما عبرت باستمرار عن عجزها عن تحديات فك الارتباط بين ما هو ثقافي مندرج في إشكالات مانعة من تأسيس نظم إدراك لنظرية نقدية تشتغل على تسويق قصيدة النثر في الفضاء التعليمي والإعلامي، وبين الإبداع المتجاوز والمستفز الذي تقترحه قصيدة النثر كاختيار شعري حديث على الذائقة العامة لذاكرة الشعر العربي الكلاسيكي في السودان.

بين هذين الامتناعين ظل الشاعر السوداني محجوب كَبَلَّو -منذ أن أصدر مع أصدقائه بيان قصيدة النثر السودانية عبر نشر نصوص «جماعة الغجر» في عام 1971م في مجلة «الشباب» الخرطومية، آنذاك- رائدًا منفردًا يشتغل بعناية على نسج مزاجه الشعري في قصيدة النثر، من خلال نقيض شكل تحديًا مستفزًّا في كسر النسق العروضي، بكتابة صفَّت نظامها النثري عبر مجاز لم يدرجها يومًا فيما هو عادي، لكل باحث عن الاختلاف في الدهشة التي تقف عليها قصيدته، سواء من ناحية إحالاتها وموضوعاتها على هوية البناء المعكوس والمفارق للذائقة العامة من داخل نظام الاصطناع الشعري الفريد لقصيدة النثر، أو من ناحية التمادي الجسور في ترك ملحوظات بيانية أخَّاذة ولافتة على هوامش قصيدته.

شعرية من معجم خاص

أشغال المجاز الذي ينحتها كبلو للكلمات في علاقاتها الشعرية تعكس لمعةً عارية عن روح الشاعر فيما هي تخوض مغامرات جسورة من أجل خلق شعري مقطَّر وصافٍ يضع المتلقي أمام حالة متوترة لسلطتي اللغة والغواية؛ حالة تجسد الفتنة التي تجول بها نفس الشاعر في أنحاء نصه الباذخ كمعمار لتلك المجازات بوصفها محاولة دائمة للإمساك بلحظات شعرية محضة داخل اللغة والخيال، وانفعال مركَّز يراهن على بلورة المعنى بأشد الاحتمالات التي تضغطها الحواس في اللغة ليستبين معها المتلقي عالمًا مغايرًا فيما يصنعه محجوب كَبَلَّو بلحظته الشعرية الفاتنة.

في معجمه الشعري، يشتق كَبَلَّو عالمًا مفتونًا بحياة سودانية جدل فيها وعي لحظة الحداثة الشعرية داخل مجال تقليدي لملامح بلدية أحبها كبَلَّو كخيارات ومذاقات مازت تجريبه الشعري وأسست، بغير وعي ربما، لظاهرة هوية سودانية طالما انبثقت عفوًا لتضمر، فيما تضمر، اختيارات اللغة والذاكرة والتجربة في تلك الحياة العريضة التي تتجلى مفرداتها في نصوصه لتعيد بها تركيب مزاج انفرد به كبلَّو شاعرًا في الموضوعات كافة التي تنطرح بقوة ذلك الشعر لتكون موضوعًا له لا شعرًا للموضوع!

وحيال شعرية كهذه تملك، من ناحية، قوتها المحولة للكلمات والأشياء إلى كائنات شعرية ساخنة، كما تملك في الوقت ذاته، فرادة في تركيب مخصص لفاعلية خيالية جسورة، كان محجوب كبلو أكثر الشعراء أناةً -على الرغم من ريادته المبكرة لقصيدة النثر- في كتابة استغرقت منه نصف قرن من كتابة الشعر منذ تاريخ قصيدته الأولى: «نوستالجيا الاستقلال» التي نُشرت ضمن نصوص بيان جماعة الغجر في عام 1971م.

هكذا ظل محجوب كبلَّو يختبر كتابة شعرية من معجم خاص، يتركب مجازه عبر هوية لا يكاد ينفصل المعنى فيها عن دقة الكلمات الخادمة لدلالاتها في قصدية معبرة عن كثافة جاذبة للمفردات، وبطريقة قد لا ينتبه القارئ إلى مجازها المتصل بمعجم الشاعر الخاص عن مطلق دلالات الألفاظ في معجم اللغة العام. «البَرَازِيلْيَا والهواءُ يُزَيّفَانِ خَطَوَاتِكِ،/ فَأُحَدِّقُ في مَمَرِّ اللَّيْلَة،/ وإذْ لا يَتَدَحْرَجُ مِنْكِ تَسَلُّلُكِ/ يَحْتَرِقُ بِي فِرْدَوْسٌ صغير». «قصيدة ألواح الرعي».

ثمة ما يسقط هنا من دلالة المعنى العام لكلمات اللغة ليدخل في أشغال مجاز شعري شفاف لتجربة عاطفية يلحظ المتأمل فيها عبر هذه القطعة؛ ترددًا لهواجس حميمة لا يسقط إيحاؤها على المتلقي من مصدر الذات الشاعرة، بل ينعكس من حركة الأشياء الخفيفة فيما ينسج التعبير فيها سبكًا لمفردات مشهد ممزوج بخفة الهواء في اللحظة التي ينتظرها قلب ملهوف لموعد غرامي متأرجح!

إن‭ ‬سردية‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬تشف‭ ‬عن‭ ‬‮«‬شقاوة‮»‬‭ ‬مواعيد‭ ‬‮«‬الحارات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترسمها‭ ‬مجازفات‭ ‬الشاعر؛‭ ‬فالاهتزاز‭ ‬والإيحاء‭ ‬والتوجس‭ ‬وإرادة‭ ‬الخفاء‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الليل‭ ‬المتأخرة‭ ‬يصفها‭ ‬خيال‭ ‬مشبوب‭ ‬بعاطفة‭ ‬الموعد‭. ‬فالحركة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬حركة‭ ‬النفس‭ ‬الجائلة‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الشاعر‭ ‬والمُصَوِّرَة‭ -‬عبر‭ ‬خياله‭- ‬أحوال‭ ‬الموعد‭ ‬الغرامي‭ ‬ومآلات‭ ‬الخيبة‭ ‬المحتملة‭ ‬التي‭ ‬يعلقها‭ ‬الشاعر‭ ‬شرطيًّا‭ ‬باحتراق‭ ‬فردوسه‭ ‬الصغير‭ ‬حال‭ ‬تلك‭ ‬الخيبة‭!‬

لغة‭ ‬لا‭ ‬تكذب

اشتغل‭ ‬كبلَّو‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ألواح‭ ‬الرعي‮»‬‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬للعشق‭ ‬عكست‭ ‬إيحاءً‭ ‬غرائبيًّا‭ ‬مفتونًا؛‭ ‬فالموعد‭ ‬الليلي،‭ ‬وطقس‭ ‬الخروج‭ ‬وهالة‭ ‬الأناقة‭ ‬‮«‬الشيطانية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬حالات‭ ‬افتتن‭ ‬بها‭ ‬كبلَّو‭ ‬ليختبر‭ ‬عبرها‭ ‬ضغطًا‭ ‬متوهجًا‭ ‬في‭ ‬الكلمات،‭ ‬ناسجًا‭ ‬بخياله‭ ‬الغريب‭ ‬أسطورته‭ ‬المتماهية‭ ‬مع‭ ‬مزاج‭ ‬سوريالي‭ ‬للعشق‭: ‬‮«‬كانَ‭ ‬سَيِّدُ‭ ‬المَاءِ‭ ‬في‭ ‬كاملِ‭ ‬أناقَتِه‭:/ ‬السّتْرَةُ‭ ‬السَّمَاوِيَّةُ،‭/ ‬المِنْدِيلُ‭ ‬الأحْمَرُ،‭/ ‬عَصَا‭ ‬الطُّحْلُبِ،‭ ‬وقُبّعَةُ‭ ‬النُّعَاس‮»‬‭. ‬‮«‬قصيدة‭ ‬ألواح‭ ‬الرعي‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬محجوب‭ ‬كبلو‭ ‬‮«‬مشغولًا‭ ‬بابتداع‭ ‬لغةٍ‭ ‬يستحيل‭ ‬الكذب‭ ‬بواسطتها‮»‬‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬شفافية‭ ‬الشعر‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬بورتريه‭ ‬خريفي‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬قارب‭ ‬تأويلًا‭ ‬سورياليًّا‭ ‬للسياسة‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬الانهمام‭ ‬بالسياسة‭ ‬بوصفها‭ ‬مادة‭ ‬للشعر،‭ ‬يشبه‭ ‬ما‭ ‬فكر‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬رامبو‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الأخير‭ ‬يشتغل‭ ‬على‭ ‬تمثيلات‭ ‬مرمزة‭ ‬للسياسة‭ ‬في‭ ‬شعره‭. ‬فمقطع‭ (‬الخرطوم–‭ ‬يناير‭ ‬1956م‭) ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬الطويلة‭ ‬‮«‬نوستالجيا‭ ‬الاستقلال‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬كبلو‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1971م‭ ‬يقارب‭ ‬تأويلًا‭ ‬للسياسة‭ ‬بما‭ ‬يكاد‭ ‬يتجرد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تحيل‭ ‬إليه‭ ‬مفرداتها،‭ ‬إنها‭ ‬مقاربة‭ ‬تضمر‭ ‬انهمامها‭ ‬بوعي‭ ‬سوريالي‭ ‬للتاريخ‭ ‬يحوم‭ ‬حول‭ ‬الرموز،‭ ‬ويقترح‭ ‬بالإشارات‭ ‬البعيدة‭ ‬ليقع‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬الدلالات‭ ‬والإحالات‭ ‬السرية‭ ‬المدهشة‭ ‬المتكشفة‭ ‬في‭ ‬طوايا‭ ‬نصه‭ ‬الفاتن‭. ‬

‮«‬لندنٌ‭ ‬من‭ ‬الشُّوكُولاتَة‭/ ‬تَسِيلُ‭ ‬على‭ ‬رَبَطَاتِ‭ ‬العُنُقِ‭ ‬المُزَرْكَشَة‭. / ‬أبْيَضُ،‭ ‬تَبْغِيٌّ،‭ ‬فضِّيّ‮»‬‭:‬

ألْوَانُ‭ ‬مَشْهَدِ‭ ‬السُّودَانِيِّينَ‭ ‬يَوْمَ‭ ‬القِيَامَة،‭ ‬وثَمَّةَ‭ ‬رائحَةٌ‭ ‬رَسْمِيَّةٌ؛‭ ‬رَوَثٌ‭ ‬وفَنِيْكْ،‭ ‬تُرَفْرِفُ‭ ‬من‭ ‬أكْفَالِ‭ ‬خُيُولٍ‭ ‬لامِعَةٍ‭ ‬تَحْتَ‭ ‬ضوءِ‭ ‬الشمسِ؛‭ ‬طاهِيَةِ‭ ‬العَدَم،‭ ‬وهي‭ ‬تُنْضِجُ‭ ‬شَعْبًا‭ ‬من‭ ‬ذُرَةٍ،‭ ‬على‭ ‬أَرْضٍ‭ ‬تَفْتِنُ‭ ‬السُّحُبَ‭ ‬الهَرِمَةَ‭ ‬لِتَتَنَاسَل‭: ‬آذَانَ‭ ‬فِئْرانٍ‭ ‬خَضْرَاء؛‭ ‬صِيْصَانًا‭ ‬خُضْرًا،‭ ‬دَجَاجًا‭ ‬أَخْضَرَ‭: ‬حَصْدٌ‭ ‬بِمَنَاجِلِ‭ ‬مَكْسِيم‭ ‬الوَلِيد‭ -‬كُمْبْرَادُورِيَّة‭ ‬كَرَرِي‭ ‬‮«‬الآن‭ ‬مَحَلِّيَّة‭ ‬كَرَرِي‮»‬ـ‭ ‬1898‭- ‬بَعْدَ‭ ‬مِيلادِ‭ ‬المَسِيح‮»‬‭.‬

ففيما‭ ‬يعنون‭ ‬كبلو‭ ‬نصًّا‭ -‬الخرطوم،‭ ‬يناير‭ ‬1956م‭- ‬بتاريخ‭ ‬واقعة‭ ‬استقلال‭ ‬السودان‭ ‬عن‭ ‬بريطانيا،‭ ‬يرسم‭ ‬مشهدًا‭ ‬آخر‭ ‬عائدًا‭ ‬بالزمن‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭: ‬معركة‭ (‬كرري‭ ‬عام‭ ‬1898م‭) ‬التي‭ ‬حصدت‭ ‬فيها‭ ‬مدافع‭ ‬المكسيم‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الجديدة،‭ ‬آنذاك‭ ‬12‭ ‬ألفًا‭ ‬من‭ ‬السودانيين‭ ‬خلال‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬ثلاث‭. ‬فيوم‭ ‬قيامة‭ ‬السودانيين‭ ‬في‭ ‬‮«‬كرري‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يومًا‭ ‬داميًا‭ ‬لدخول‭ ‬‮«‬كُمْبرادورية‮»‬‭ ‬الدولة‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة،‭ ‬سيبدو‭ ‬معه‭ ‬تاريخ‭ ‬المقطع‭ (‬1956م‭) ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬إيحاءً‭ ‬مضللًا،‭ ‬كمدخل‭ ‬إحالةٍ‭ ‬عميقة‭ ‬لمعنى‭ ‬مضمر‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬قناع‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬1956م؛‭ ‬معنى‭ ‬ينفتح‭ ‬على‭ ‬مشهد‭ ‬قديم‭ ‬لكنه‭ ‬ذو‭ ‬ارتباط‭ ‬عضوي‭ ‬بمشهد‭ ‬الانتظام‭ ‬المدني‭ ‬الأنيق‭ ‬في‭ ‬احتفالية‭ ‬استقلال‭ ‬1956م،‭ ‬فبين‭ ‬لحظتين‭ ‬لا‭ ‬يُشبه‭ ‬شعبُ‭ ‬الكمبرادورية‭ ‬الحديثة‭ ‬شعبَ‭ ‬الذرة‭ ‬الحصيد‭ ‬الذي‭ ‬نضج‭ ‬بمدافع‭ ‬المكسيم‭ ‬تحت‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ (‬طاهية‭ ‬العدم‭) ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬قبل‭ ‬58‭ ‬عامًا‭!‬

إن‭ ‬قوة‭ ‬التأويل‭ ‬السوريالي‭ ‬لمحصدة‭ ‬‮«‬كرري‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬معناها‭ ‬بذلك‭ ‬الوصف‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬الشاعر‭ ‬للربط‭ ‬بين‭ ‬تاريخين‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬البداية‭ ‬فيهما‭ ‬النهاية،‭ ‬حيث‭ ‬الأمثولة‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬اختبار‭ ‬دلالة‭ ‬متوترة‭ ‬بين‭ ‬تاريخين‭ ‬يشحذان‭ ‬ذهن‭ ‬القارئ‭ ‬بمفارقات‭ ‬يلتقطها‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬الحدثين‭ ‬ليختبر‭ ‬الواقعة‭ ‬التاريخية‭ ‬محولًا‭ ‬إياها‭ ‬إلى‭ ‬واقعة‭ ‬شعرية‭ ‬غنية‭ ‬بحمولات‭ ‬العنف‭ ‬والذاكرة‭!‬

مختبرًا‭ ‬هوية‭ ‬الشعر‭ ‬الخالصة‭ ‬ومجربًا‭ ‬أقاصيه‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬المعنى‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬اللفظ‭ ‬بحدود‭ ‬متناهية‭ ‬الدقة،‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬كبلو‭ ‬عن‭ ‬اكتشاف‭ ‬ذاته‭ ‬شعريًّا،‭ ‬فالقصيدة‭ ‬عنده‭ ‬كشف‭ ‬روحي‭ ‬يترجم‭ ‬عبره‭ ‬مجازًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬للمخيلة‭ ‬إذ‭ ‬يضفر‭ ‬عوالم‭ ‬الوجود‭ ‬والميتافيزيقيا‭ ‬منديلًا‭ ‬يلوح‭ ‬بتعويذة‭ ‬العشق‭ ‬الأبدي‭. ‬‮«‬بِغَفْلةِ‭ ‬البَشَرِيِّ‭ ‬وهو‭ ‬يَعْبرُ‭ ‬نَفَقَ‭ ‬الوَقْتِ‭/ ‬ولا‭ ‬يلْحَظُ‭ ‬أنَّه‭ ‬كَوْكَبْ‭/ ‬عَبَرْتُ‭ ‬زَمَنَ‭ ‬مُصَادَفَتِكِ‭ ‬الحَرِيرِيْ،‭/ ‬نَظْرَتُكِ‭ ‬التي‭ ‬تُخَبِّئُ‭ ‬الآبَادْ‭/ ‬على‭ ‬ضَوْئِها‭: ‬وعَيْتُ‭ ‬تَرْجَمَةَ‭ ‬القديرِ‭ ‬الرِّيفِيَّةِ‭ ‬لِلْعَاَلمْ‮»‬‭. ‬قصيدة‭ ‬‮«‬نفق‭ ‬الوقت‮»‬‭.‬

روح‭ ‬مقطرة

يقترح‭ ‬كبلو‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬الكلمات‭ ‬هويةً‭ ‬عارية‭ ‬عن‭ ‬الزوائد،‭ ‬فتقطير‭ ‬الشعر‭ ‬اختبارًا‭ ‬لتجربته‭ ‬في‭ ‬الحياة؛‭ ‬عكس‭ ‬تمامًا‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تكثيف‭ ‬لـ«جوهرانية‮»‬‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬قصائده،‭ ‬حيث‭ ‬الوقت‭ ‬صفرٌ‭ ‬حيال‭ ‬اختبار‭ ‬صفاء‭ ‬ذلك‭ ‬الجوهر‭ ‬الشعري‭ ‬لنصوصه‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭. ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬المجاز‭ ‬الحر‭ ‬بحياكة‭ ‬ماهرة،‭ ‬تلتقط‭ ‬نصوص‭ ‬محجوب‭ ‬كبلَّو‭ ‬لمعًا‭ ‬فلسفية‭ ‬مضفورةً‭ ‬في‭ ‬نسيجها،‭ ‬أحيانًا‭ ‬تأتي‭ ‬تفسيرًا‭ ‬داخليًّا‭ ‬ضمن‭ ‬اشتغال‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬الشعر،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬تأتي‭ ‬كوصف‭ ‬تعبيري‭ ‬دال‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬يضمر‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬كبلو‭ ‬فرادةً‭ ‬في‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬النادرة،‭ ‬فهي‭ ‬صور‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬ندرتها‭ ‬غرائبيةً‭ ‬مذهلةً‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ترسم‭ ‬انطباعًا‭ ‬قويًّا‭ ‬بحركة‭ ‬مغايرة‭ ‬لخيال‭ ‬يفاجئ‭ ‬وعي‭ ‬المتلقي‭ ‬بخلخلته‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬فرادة‭ ‬سلطة‭ ‬التأثير‭: ‬‮«‬شَيْخُ‭ ‬السُّحُبِ‭/ ‬يَلْتَفِتُ‭ ‬ناثِرًا‭ ‬لُعَابَهُ‭ ‬في‭ ‬الهَوَاءِ‭/ ‬فَتَحُزُّ‭ ‬عُنُقَهُ‭ ‬النُّونُ‭ ‬العَرَبِيَّة؛‭/ ‬حَاجِبُ‭ ‬بَقَرَةِ‭ ‬الوُجُودِ‭ ‬النَّائِمُ‭ ‬من‭ ‬أوانٍ‭ ‬بَعِيدٍ‭/ ‬والمُسْتَيْقِظُ‭ ‬الآنَ‭ ‬بَيْنَنَا‮»‬‭.‬

إن‭ ‬لعاب‭ ‬السحب‭ ‬لا‭ ‬يفسر‭ ‬دلالة‭ ‬المطر،‭ ‬بل‭ ‬يحيل‭ ‬–كما‭ ‬يوحي‭ ‬ختام‭ ‬القصيدة‭- ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬مؤسطرة‭ ‬للوجود‭ ‬المستقر‭ ‬بين‭ ‬قرني‭ ‬ثور‭ (‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬حوت‭) ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬لكنه،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬وجود‭ ‬متحرك‭ ‬بالأسطورة‭ ‬الشخصية‭ ‬للشاعر‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاهتزاز‭ ‬الكوني‭ ‬الذي‭ ‬يرسمه‭ ‬الشاعر‭ ‬لحركة‭ ‬الوجود،‭ ‬اهتزاز‭ ‬مثقل‭ ‬برموز‭ ‬ودلالات‭ ‬دينية‭ (‬هي‭ ‬بحسب‭ ‬دلالة‭ ‬أثر‭ ‬معين‭) ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬فارس‮»‬‭ ‬في‭ ‬ترميز‭ ‬إلى‭ ‬إرادة‭ ‬إنسانية‭ ‬مطلقة‭ ‬لتحريك‭ ‬الوجود‭!‬

يستغرق‭ ‬محجوب‭ ‬كبلو‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬الهدوء‭ ‬بسلاسة‭ ‬لا‭ ‬تجرح‭ ‬الهواء‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬‮«‬فيرميري‮»‬‭ (‬نسبةً‭ ‬إلى‭ ‬الرسام‭ ‬الهولندي‭ ‬يوهان‭ ‬فيرمير‭) ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الجميلة‭ ‬‮«‬أعباء‭ ‬خفير‭ ‬النائمة‮»‬‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬بِحِذَاءَيْنِ‭ ‬مِن‭ ‬هُلام‭. /‬أُعِيدُ‭ ‬إلى‭ ‬بَهْوِ‭ ‬أَحْلامِكِ‭/ ‬طَوَاوِيسَهُ‭ ‬الهَارِبَةَ‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬الجرأة‭ ‬على‭ ‬تمثل‭ ‬القدرة‭ ‬القابضة‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬بما‭ ‬ينفخ‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كلماته؛‭ ‬لهي‭ ‬مما‭ ‬يقع‭ ‬عليه‭ ‬محجوب‭ ‬كبلو‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬متحيزًا‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬أقاصٍ‭ ‬مطلقة،‭ ‬ومنتظرًا‭ ‬وجوده‭ ‬النادر‭ ‬في‭ ‬نظامه‭ ‬الشعري،‭ ‬عبر‭ ‬تدبير‭ ‬معالجات‭ ‬نقية‭ ‬للمجاز‭ ‬في‭ ‬أطوار‭ ‬تجريب‭ ‬الكتابة؛‭ ‬فأثر‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬كبلو‭ ‬حفرٌ‭ ‬يبقي‭ ‬منه‭ ‬روحًا‭ ‬مقطرة‭ ‬في‭ ‬الكلمات‭. ‬إنها‭ ‬تجربة‭ ‬انتظار‭ ‬الوجود‭ ‬المغاير‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬ليست‭ ‬للمحو‭ ‬أو‭ ‬النسيان‭!‬

يحتفل‭ ‬كبلو‭ ‬في‭ ‬نصوصه‭ ‬بمعجم‭ ‬شعري‭ ‬خاص‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬رهانه‭ ‬الذي‭ ‬يتماس‭ ‬مع‭ ‬فردية‭ ‬حرة‭ ‬للمجاز‭ ‬في‭ ‬شعرنة‭ ‬الحياة،‭ ‬وهي‭ ‬فردية‭ ‬تنهل‭ ‬من‭ ‬اشتغالها‭ ‬الجسور‭ ‬على‭ ‬نثر‭ ‬عالم‭ ‬متشظٍّ‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬التفاصيل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفردية‭ ‬اقتراحًا‭ ‬للشعر‭ ‬كمجاز‭ ‬للتعبير‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كفعل‭ ‬ذاتي‭ ‬للكينونة‭ ‬ومصدرًا‭ ‬للمعرفة‭ ‬يجعل‭ ‬الشاعر‭ ‬رائيًا‭ ‬على‭ ‬تخومٍ‭ ‬تختبر‭ ‬الفضاء‭ ‬الرحب‭ ‬لـ«دستوبيا‮»‬‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة،‭ ‬جاعلًا‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬المدينة‭ ‬الآثمة‭ ‬أفقًا‭ ‬لمعانٍ‭ ‬متجاوزة،‭ ‬ومكتشفًا‭ ‬طاقة‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬كبلو‭ ‬عن‭ ‬تركيبها،‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬يمارس‭ ‬عزلًا‭ ‬استثنائيًّا‭ ‬لنظامها‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬وكاشفًا‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬لاستثناء‭ ‬شعري‭ ‬مدرك‭ ‬لـ«العناصر‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬مهبِّ‭ ‬حساسية‭ ‬العصر‭ ‬ومتغيراته،‭ ‬والنابعة‭ ‬من‭ ‬مرونة‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬وحيويته‭ ‬وتطوره‭ ‬التاريخي‭ ‬وحواره‭ ‬الغني‭ ‬مع‭ ‬سياقه‭ ‬الحضاري‭ ‬ولحظته‭ ‬الثقافية‭ ‬الراهنة‭ ‬والمستقبلة‮»‬‭ ‬بحسب‭ ‬الناقد‭ ‬السوداني‭ ‬هاشم‭ ‬ميرغني‭.‬

فعالم‭ ‬محجوب‭ ‬كبلو‭ ‬يتوسل‭ ‬الشعر‭ ‬بالشعر‭ ‬لا‭ ‬بالكلمات،‭ ‬ففي‭ ‬شعره‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬هاشم‭ ‬ميرغني‭: ‬‮«‬لن‭ ‬تعودَ‭ ‬الكلمة‭ ‬تتحدَّثُ‭ ‬عن‭ ‬الشيءِ،‭ ‬إنما‭ ‬هِيَ‭ ‬عَيْنُ‭ ‬الشيءِ‮»‬‭. ‬تتغيا‭ ‬اشتغالات‭ ‬كبلو‭ ‬الشعرية‭ ‬مجازفات‭ ‬تنتهك‭ ‬اللغة‭ ‬احتفاءً‭ ‬بفضح‭ ‬أسرار‭ ‬الجسد‭ ‬وتمعن‭ ‬فوائض‭ ‬سيلانه‭ ‬الرطبة،‭ ‬كاشفًا‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬نقيضة‭ ‬وصادمة‭ ‬لتراتبية‭ ‬الذائقة‭ ‬العامة،‭ ‬لكن‭ ‬جموحه‭ ‬البرِّي‭ ‬ذاك‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬نسغ‭ ‬التجربة‭ ‬مزيجًا‭ ‬متوحشًا‭ ‬لمجازات‭ ‬وعرة‭ ‬في‭ ‬تقطير‭ ‬الشعر‭: ‬‮«‬‭… ‬عَبَقُ‭ ‬أرْضٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬نَبِيذِ‭ ‬الذُّرَةْ‭/ ‬وسَمَاءٌ‭ ‬مُرَصَّعَةٌ‭ ‬بِأزْهَارِ‭ ‬البِرْسِيمْ‮»‬‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬فَرَسان‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬الفردوس‮»‬‭.‬

ثمة‭ ‬قاموس‭ ‬لمزاج‭ ‬سوداني‭ ‬يحيل‭ ‬إليه‭ ‬كبلَّو،‭ ‬معيدًا‭ ‬تعريفًا‭ ‬خاصًّا‭ ‬لمعاني‭ ‬الألفاظ‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬نصه‭ ‬الشعري‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المتن‭ ‬التداولي‭ ‬للعامية‭ ‬السودانية،‭ ‬وهذه‭ ‬الخاصية‭ ‬يشتغل‭ ‬عليها‭ ‬كبلَّو‭ ‬ليوحي،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬خفي،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬القراءة؛‭ ‬من‭: ‬‮«‬إتقان‭ ‬وعي‭ ‬لحظة‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬داخل‭ ‬مجال‭ ‬تقليدي‭ ‬لملامح‭ ‬بلدية‭ ‬أحبها‭ ‬كبلو‭ ‬كخيارات‭ ‬ومذاقات‭ ‬مازت‭ ‬تجريبه‭ ‬الشعري‮»‬‭.‬

إن‭ ‬نقض‭ ‬الدلالات‭ ‬المحيلة‭ ‬للمعاني‭ ‬المحايدة‭ ‬ينحرف‭ ‬إلى‭ ‬مجاز‭ ‬ذي‭ ‬معجم‭ ‬شعري‭ ‬خاص‭ ‬ينفذ‭ ‬إلى‭ ‬مشارف‭ ‬وتخوم‭ ‬جديدة‭ ‬للمعنى،‭ ‬فمجازات‭ ‬كبلو‭ ‬هي‭ ‬غريزة‭ ‬الشعر‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الدهشة‭ ‬على‭ ‬خيال‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المداخل‭ ‬غرابةً‭ ‬وسورياليةً؛‭ ‬إذ‭ ‬فيما‭ ‬تتحول‭ ‬الكلماتُ‭ ‬شعرًا‭ ‬صافيًا،‭ ‬تبدّل‭ ‬تلك‭ ‬المجازات‭ ‬لحظة‭ ‬وجود‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬العشق‭ ‬إلى‭ ‬ماهية‭ ‬ناسخة‭ ‬لذكوريته،‭ ‬محيلةً‭ ‬إياها‭ ‬فريسةً‭ ‬خائفة‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬الحب‭!‬

‮«‬صَوْتُكِ‭ ‬الذي‭ ‬يَتَنَاهى‭ ‬نَاعِمًا‭ ‬كالْحَرِيرْ،‭/ ‬يَبْدُو‭ ‬لِي‭ ‬زَئِيرًا‭ ‬أحَاطَ‭ ‬بِغَزَالةِ‭ ‬الصَّبرْ‮»‬‭.‬

بيتر باول فيبلينغر.. ومضة على جسر الليل!

بيتر باول فيبلينغر.. ومضة على جسر الليل!

لطالما ظل الشعر قوةً بين الكلمات (وليس في الكلمات ذاتها)، فالقدرة على شعرنة العالم بالكلمات تختبر هوية اللغة بتأطير معنى المجاز والوجود في منظور الشاعر وتفاعله المركب مع الأحداث والأشياء. ليس الشعر، إذن، خيارًا في معالجة العالم بالكلمات، وإنما هو اضطرار لذلك عبر طاقة سحرية لعلاقة الكلمات باللاوعي الذي يختزنه الشاعر في حواره مع العالم.

الكلمات التي ظل يشكل بها الشاعر النمساوي الكبير بيتر باول فيبلينغر، ألوان الوجود في شعره هي طيف لشعرية باذخة عرفت كيف تختبر معناها الإنساني في مواقف الحياة بوصفها لحظات باقية في الشعر؛ لهذا فإن مما يقف المرء حائرًا أمامه في مجموعته الشعرية «علامات الحياة» (التي ترجمتها لأول مرة إلى العربية الشاعرة والمترجمة السودانية الدكتورة إشراقة مصطفى، وتصدر عن دار الآن- الأردن) هو ذلك المعجم الساحر لحياة العلاقة بين الكلمات في نصوصه الشعرية، فالتاريخ لا ينعكس في شعره بوصفه أحداثًا، بل بوصفه حالة شعورية يشتغل الشعر على تأبيد لحظتها الإنسانية.

هكذا يشتغل بيتر باول فيبلينغر على تدوير حياته في الشعر، ومن خلال ذلك الاشتغال الساحر يتدفق شعره على سطح مرايا الكلمات ليختبر كينونة الشاعر وموقفه الأنطولوجي بوصفه عابرًا أولًا وأخيرًا.

القصائد في هذه المجموعة متفاوتة الطول والقصر، لكن موضوعاتها الإنسانية تشتبك في عوالم وأمكنة وأزمنة عاش فيها الشاعر ليُبقي أثرها الشعري بالغ العذوبة والجمال. فالتجربة الإنسانية بحسب الشاعر فيبلينغر؛ اختبار لمعنى الكلمات مع العالم وفق معجم شعري لا يعكس الثيمة الأبدية المتصلة بمعالجة المعنى في الحياة فحسب، بل كذلك بهوية شخصية لقراءة الوجود من داخل التجربة الإنسانية.

حوار الأشياء والكلمات

إنها تجربة يمتلك فيها الشاعر رؤية تجعل من إحساسه بهوية الأشياء إحساسًا خالدًا في الصور والخيالات والمجازات التي يبدعها. بل يمكنا القول: إن الطبيعة المتحولة صورًا في مشاعره هي تجسيد عميق لجزء من الكينونة عبر ذلك المزيج الفاتن لحوار الأشياء والكلمات في شعره.

موقف الشاعر من الوجود في هذه المجموعة؛ مجاز تنعكس إحالاته هويةً شعريةً بقوة الكلمات ومعجزاتها الصغيرة؛ ذلك أن إحساس الشاعر بالطبيعة بدا بديلًا لإيمانه الميتافيزيقي. إنه شاعر مترع بحبٍّ للحياة على نحو مادي، ولكنه حميمي إلى درجة تجعلنا نبصرُ إحساسًا هائلًا بعبور الحياة عبر جسده، فيما هذا الجسد يلاحق حياته مصورًا انقطاعها بحسرة على العمر القصير للكائن.

وبإزاء قراءة نص فيبلينغر، تتجلى تلك السردية الخالدة، وهو ما يجعل شعره امتدادًا للسرديات الشعرية العظيمة التي عبر عنها شعراء ألمان من أمثال الشاعر هولدرلين.

ووفق هذا الوعي الشعري الحاد بمجاز الوقت وتحول الكينونة مع ثبات العالم؛ يتحايل الشاعر على الزمن. ومن هنا تبدو لنا فكرة تحيين الوقت في علاقة جدلية بتأبيده، فَلِلْكلمات حين تتحول إلى شعر مهمةٌ أخرى في ذات الشاعر؛ تتصل بشعور الامتداد في الحياة والزمن، وهكذا، فيما يمنح الشاعر خلودًا لكلماته؛ تمنحه الأخيرة طاقة على امتداد الحياة.

علاقة الشاعر بالزمن هنا علاقة لحظية متجددة. فالذات لا تكترث بالزمن الماضي؛ لأن الماضي لحظة واحدة منقضية، فيما تبدو اللحظة الراهنة هي الزمن كله: «أن تعيش/ وتحس الحياة كما المرة الأولى:/ في هذه اللحظة/ قبل دفقة الليل».

ويقول في قصيدة أخرى: «أنا أعلم:/ أن النهاية ستلوح يومًا ما/ ولكني أشدو بلحظة المسرة الراهنة».

هذه اللحظة هي ذاتها الومضة التي تسبق الظلمة (وتلحقها الظلمة أيضًا) لهذا تأتي اللحظة في زمن الشاعر مرادفة للومضة؛ إن اللحظة هي ذاتها الومضة لأنها نور الحياة في الظلمة والحقيقة العابرة في مجرى الزمن. «لسنا سوى/ جسر الضوء/ نومض/ ثم نحترق».

لمسات الحواس على أسطح الكلمات هي أكبر علامة تكشف عن هوية الشاعر الوجودية. يتأمل بيتر باول فيبلينغر حياة الأشياء عبر الأزمنة ويلاحظ معنى الحس الوجودي فيها، فيما هو يوثق عبرها أهوال الوقت وزمن الجحيم الذي صنعه الإنسان الحديث في المحرقة النازية. لهذا تبدو مقولة تيودور أدورنو (أحد فلاسفة مدرسة فرانكفورت) عندما قال: «لا شعر بعد أوشفيتز» -تعليقًا على أهوال النازية- مفتتحًا قصيدة الشاعر عن المحرقة يقول فيها: «لا شعر بعد أوشفيتز/هكذا تحدث تيودور أدورنو/لحياة موتى منطفئين/ ماذا يعني؛ أن يصمت الشعر؟».

وعلى الرغم من أن أدورنو كان يراهن على عجز الشعر حيال ما يمكن قوله عن أهوال المحرقة النازية، فإن الشاعر يقول في ختام قصيدته: «ليتكلم الشعرُ إذن/ وليعلو صوته مجددًا/ وليكن وعدنا الأبدي:/ لا شيء، بعد، سيكون؛ مثل أوشفيتز».

الشاعر بيتر باول فيبلينغر مع الشاعرة والمترجمة السودانية د. إشراقة مصطفى

نعي الموت

وكما راهن الشاعر الكبير باول تسيلان على كسر مقولة أدورنو عبر إيمان الأول بقوة الشعر وطاقته العظيمة على نعي الموت، في قصيدته الطويلة «كوة للموت»، يبدو أن بيتر باول فيبلينغر في قصيدته هذه أكثر إيمانًا؛ لأن الشعر حين يَنْعَى الموت سيكون أقوى منه. قدرة الشاعر على استنطاق الحواسّ في وعيه الشعري بالأشياء هي المجاز العظيم لفهم ذلك الشعر. أحيانًا يستنطق الشاعر حواسّ الأشياء فقط باستعراضها عبر رصد يبدو عاديًّا، لكنه منظوم بخيط الشعرية الرهيف في كل كلمة منه: «حدائق اللفت المزهرة/ أعبرها محاذيًا لغروب الشمس/ ماضيًا دون أن أسأل نفسي حتى:/ إلى أين يفضي بي هذا الطريق؟».

الشرط الإنساني للحرية هاجس كبير في شعر فيبلينغر. فبحسب رؤيته، لا يزهر الشعر بعيدًا من الحرية، في غياب الحرية يفقد الشاعر غنائيته ويصبح بوقًا؛ لأن الحرية هنا هي الشرط الشارط لمقاومة الظلم بالشعر. ولعل أبرز ملمح لتاريخ الظلم البشري في الأزمنة الحديثة هو المحرقة النازية التي يستعيد الشاعر تأويلها في كل مأساة إنسانية معاصرة. يقول الشاعر: «فيما كان طفلًا بنجمة يهودية صفراء على معطفه الرمادي، ذلك الزمان/ تفجّر رعبٌ في عينيه ما إن أبصر:/ فوهة البندقية/ الحذاء الأسود/ الوجوه المحدقة/ الرجال النظاميون/ بخوذاتهم الفولاذية/ بعد ذلك بسنوات:/ ثمة فتاة صغيرة عارية/ تصرخ في ذعر/ وتبكي هاربةً من قنابل الفوسفور في فيتنام/ يمضي الوقت…/ الرجل العاري المقنع/ بأسلاك كهربائية في عضوه المخفي!/ فيما يتدلى بقربه رجل مشنوق مثل كلب!/ على ممرّ سجن أميركي بارد في العراق».

هكذا تستدعي ذاكرة المظلومية في وعي الشاعر الحاد توحيدًا وتداعيًا لفعل الظالمين في مختلف الأزمنة والأمكنة كما عبر شريط واحد من الأفعال التأسيسية للظلم؛ فالشاعر في هذه القصيدة يحرص على تداعي صور كثيرة في أجزاء مختلفة من العالم؛ منها مجزرة صبرا وشاتيلا، ومجزرة سربنيتشا، وغيرهما.

وعلى الرغم من أن للشاعر فيبلينغر مجموعات شعرية كثيرة صدرت له وترجمت إلى لغات عدة فإن هذه المجموعة الشعرية هي الأولى للشاعر في اللغة العربية، بتوقيع الدكتورة إشراقة مصطفى التي بذلت جهدًا استثنائيًّا في تدبير النقل الإيحائي لعوالم الشاعر الكبير بلطف ورهافة.

العلاقة والرؤية والصداقة الشخصية والإنسانية العميقة بين الشاعر بيتر باول فيبلينغر والشاعرة السودانية الدكتورة إشراقة مصطفى (التي تقيم في النمسا) أدّت دورًا كبيرًا في قدرة المترجمة على نقل هذه التجربة الشعرية الكبيرة في هذه المجموعة إلى اللغة العربية. وهي تجربة تستحق التقدير كما تستحق أن تكون فاتحةً لاطلاع قراء العربية على تجربة هذا الشاعر النمساوي الكبير.

قصائد من الديوان

ترجمة: إشراقة مصطفى

غروب

السماء محمرةٌ في الأفق

جدران المبنى قاتمة

نافذة

ضوء ذهبي يلمع

كم من الوقت تبقَّى

لأحيا؟

فيينا، 14 /10/2017م

موسيقا شوبان

بستان زاهٍ في الربيع

السماء تمطر زهرًا

أطفال يضحكون

خيمة بيضاء

كستناء أخضر

ذكرى حب قديم

وعلى وجهي:

شمسٌ تَشِعُّ

فيينا، 22 ديسمبر 2005م

في كاتدرائية القديس مرقس

في البندقية:

فسيفساء الذهب الداكن

الملائكة في كل مكان

هنا

يأخذني هذا السكون:

المذْبَح المضاء

ثمة نورٌ أبدي

في ضريح باذخ

مقوسة هي الأرض الحجرية

كأنما الوقت يغطس معها

البندقية، 2-3/2/2007م

البريق الأخير

من لغة الأشجار

كرسالة من السماء

ظلال الليل قاتمة

تسمع هذا الصمت

وتسمع أنفاسك

إنه دليل الوقت!

هاغنبورن، 25/11/1984م

1 ستصدر مجموعة «علامات الحياة» عن دار (الآن) في الأردن – يناير 2021م.

وُلد بيتر باول فيبلينغر عام 1939م في هاسلاخ (النمسا). يعيش في فيينا منذ عام 1960م. درس المسرح والأدب والدراسات الألمانية والفلسفة. شاعر وصحافي ومصور، صدرت له مجموعات شعرية ونثرية كثيرة. نشر مجلَّده الشعري الأول: «حدود» في نيويورك عام 1978م، باللغتين الإنجليزية والألمانية. تُرجم شعره إلى عشرين لغة. حاز جوائزَ أدبيةً، آخرها وسام الشرف العظيم لجمهورية النمسا.

زمن مختلف للشعر السوداني

زمن مختلف للشعر السوداني

مامون التلب

مامون التلب

لا يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته، أو أزمته، إلا تصورًا جزئيًّا مستقرًّا على هوية مفترضة، أو منعكسًا من تمثلات خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة. والحال أن تلك الأزمة ربما تتعين، فقط، إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خلال نظم إدراك نخبوية! أما الشعر في الحياة، كحاجة، فهو موجود أكثر منه، بكثير، من كونه حيازة متوهمة لنخبة ما، تحدد هويته بمقاييسها.

الشعر متصل بالحياة. وتجلياته المتلبسة بالفنون الأخرى كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة الأزمة التي يتصورها بعض المهتمين عن مطلق معناه.

اتصال الشعر بحاجة البشر، أكبر من الظن بقبول فكرة أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة المعاصرة. ربما يغيب تفصيل من الشعر يراه بعض المتابعين مقياسًا للشعر وهويته، فيزعم وهم الاختفاء والأفول.

أنس مصطفى

أنس مصطفى

غياب الشعر عربيًّا، كمدونة ثقافية مشغولة، وانكفائها عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط الإبداع الأساسية (كما هي الحال في اللغات العالمية الحية) إنما هو في الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية، أكثر منها إبداعية. فالإبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها، لكن الحالات الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة علاقة للشعر باللغة ترتبط به وجودًا وعدمًا. فالشعر إذ يظل كامنًا بين الكلمات (وليس في الكلمات) يظل في حاجة إلى تسوية لغوية؛ إلى علاقة ما تجعل من امتلاك اللغة امتلاكًا لمادة الشعر ذاتها. إن حالة الاعتلال اللغوي العامة، عربيًا، (ليس بالنسبة لقراء الشعر فحسب، بل للشعراء كذلك) هي التي تساهم بقوة في تلك الإزاحة المستمرة للشعر إلى الهامش.

ثمة اغتراب في اللغة ينزاح على الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، فيغيبها عن المشهد الثقافي العام، لكنه بكل تأكيد اغتراب لا يغيّب الشعر. فالشعر، بوصفه حاجة وصيرورة، يتشكل باستمرار في خامات متنوعة؛ من الغناء إلى السرد إلى الأناشيد حتى عبارات الدعاية والإعلان، ففي كل ذلك ثمة وجود قوي للشعر. وفيما يعزو بعض المهتمين انسحاب الشعر من الحياة الحديثة؛ لأنه الأكثر اتساقًا مع رعويات الحياة الإنسانية الأولى وبراءتها ــ احتجاجًا على صخب الحداثة المعاصرة وتذررها وقسوتها المادية ــ مسوغًا بذلك ما ليس مسوغًا في ذاته؛ فإن قوة الشعر تكمن أساسًا في قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها الأكثر شراسة في مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة المجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد إليها الشعر في كل منعطف من منعطفات الدهشة، والبداهة المتجددة مع الحياة.

تجربة الحركة الشعرية

نجلاء عثمان التوم

نجلاء عثمان التوم

في الخرطوم، أحدث شعراء شباب حراكًا جماهيريًّا مذهلًا للشعر، اقتربوا به كثيرًا من حياة الناس، وجالوا على الساحات، والأسواق، والشوارع، والميادين، عبر تجربة ملهمة، خلصت الشعر من العزلة والانكفاء اللذين فرضتهما سياسات عزل طاردة أكثر من ربع قرن تقريبًا. يقول الشاعر الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية: «يوم الثلاثاء 28 يوليو 2015م، حَدَث حدثٌ عظيم، بالنسبة لي على الأقل. وتتلخّص العظمة في انعدام التخطيط: رأيتُ حركةً لم أخطِّط لها، كما تفعل الأحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك: تخطط وتخطط وتنسى، تمامًا، أن العالم ليس خُطَّة! لقد نَشَأت هذه الحركة اليوم وحدها، نبتت على الأرض كما تنبتُ الغابة. كنتُ أصرُّ على أنني لن أضع خططًا ولا تنظيمًا لفعالية اليوم ـ وما كنتُ سوى داعٍ للقاءـ مع انطلاقة الحركة الشعريّة، وقد كانت النتيجة مذهلة: لقد تكوّنت الفعاليّة من تلقاء نفسها، تمامًا كما يحدث للنبات منذ قرون. لقد بادر الناس بالقراءة حتى ذُهلت!» لقد لقي الحراك الشعري الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال: (مأمون التلب، وأنس مصطفى، ونجلاء التوم، وحاتم الكناني) في ساحة مشهورة بالخرطوم تدعى «أتنيه» تفاعلًا كبيرًا بلغ المئات من المتابعين، وبدا واضحًا، من خلال التفاعل الكبير مدى أهمية الشعر للناس.

حاتم الكناني

حاتم الكناني

لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها؛ لحظة إدراك مباشر لأثر الشعر على الناس، أدرك بها الشاعر مأمون التلب سرّ الشعر وطاقته الخفية على البشر حين قارن تجربة عام 2014م التي لم يتفاعل معها الناس كثيرًا، مع تجربة عام 2015م التي وجدت صدى وتفاعلًا كبيرين بفضل قوة الشعر وتعبيره عن الإنسان وتأملاته في الكون والحياة.

يقول مأمون: «في الفعاليّة الماضية، كانت النصوص المستثيرة للتأمل قليلة، بينما النصوص المستثيرة للعاطفة والانفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه كثيرة، النصوص ذات الطابع السياسي تستثير الناس بكل تأكيد… وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة، فبتلك الصورة يخدم الشاعر حركة أخرى مكّارة، سلبته قيمته واعتداده بخياله. إننا لا نريد أن نخلق مساحةً للتعبير عن الحريّة السياسيّة، نريد أن نصنع مساحةً لحريّة التأمّل في الحياة والكون». ويعلق على الرواج الذي لقيه النشاط الشعري المكثف في تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية: «لقد أصبحت «أتنيه» ساحة مشهورة عالميًّا، بالمناسبة، ومحليًّا كذلك. بمجرّد أن تقول: أتنيه، فإن الناس يفهمون عما تتحدّث. لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تقام في تلك الساحة مكتوبٌ لها النجاح، وذلك يمثّل جزءًا أصيلًا لنجاح فعاليّة تدشين الحركة الشعريّة».

خارجيًّا، اغترب الشعر السوداني على جغرافيا واسعة لـ«الدياسبورا» السودانية، وشكلت تلك الحالة السودانية الخاصة والاستثنائية لشعراء سودانيين معاصرين (جلهم خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر السوداني؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر على زمن مختلف للشعر السوداني في الخارج.

بين زمنين، لا تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية الخفاء والتجلي التي طبعت الشعر كمدونة تعبيرية في أجناس الإبداع، عربيًّا، فغياب الفعل الشعري لا يعني غياب القوة الكامنة للشعر والموازية لممكنات وجوده في تعبيرات أخرى.