ثمن البندقية

ثمن البندقية

إهداء‭:‬‭ ‬أيها‭ ‬الرجل‭ ‬القديم‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬بن‭ ‬راشد‭ ‬بن‭ ‬خنين‮»‬ إليك‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬إرث‭ ‬الأب‭.‬

يتناقل الناس حكايةَ أبيه. رجع بتقاعد مبكر من الخدمة العسكرية. عاد الجندي يترك لريح الفقد نهب البيت وزوجة خالية اليدين والرجاء. يمتطي رغباته في الدِّمن المحصورة بين جبال «امعارضة، امنجوع، بلغازي، الرّيث، امداير،…» وسهل تهامة(). تغمره السعادة عند «امجبالية»(). ينحر على مسامع رجال الجبال ذكرياته في الجيش. يحكي لهم عن نساء يلهبن أمكنة بعيدة، ويُنازلن القمر حالمات به. يصب على لهفتهم أهازيج السيول ومواويل الأمطار والخريف. كلما حكّه الوجد إلى مجالسهم هبّ متجهًا إلى الجبال أو «اَمّها الصاعد» كما يسمّونها، فلا بدّ من مشقة الصعود، ليقضي على وطر أشواقه هناك. دلقَ كل ما يملك إلى أن جفت يده. التفت إلى أراض ورثها، وراح ينقصها بيعًا حتى خلت جميعها للغير، ثم انقلب على حظّه ساخطًا.. من جديد يمدُّ القلبَ نحو كل الجهات عدا بيته وأهله.

ويأسه حافل، «مطر» يحدّث الأم() عن الأب: «كلهم يعودون قبل الظلام، وهو لا يعود. إنّه لا يخاف الظلامَ مثلهم». شدّتْ من عضد ثقته في شجاعة الأب بنظرة استحسان لِمَا ذكر، وعززت: «حقًّا إنّه شجاع، وهذه المرة لن يغيب طويلًا…».

يُكرر: «ليته يشعر بالخوف ولو لمرة ليعود مثل بقية الرجال قبل المغيب…».

إنّ وقته لا يسع حتى لبهجتهم، فهو معد لكل مباهج الوادي وما تاخمه من ربوع سعيدة، وتعود الأم المعبوبة بالحنق لتذكّر «مطر» بشخص يُعين الآخرين في يوم حصادهم؛ بينما أهله في ذلك اليوم دون مُعين!().

بعد أن يبخسه العائدون أملًا في أن يجد أخباره بين أمتعتهم، إمّا ذكر هنا أو خبر هناك، كثيرًا ما يُردد «مطر» عن الأب بمرارة: «ليته يشعر بالخوف من الليل ولو لمرة واحدة…». هذا بعد أن يقرأ آخرَ خطوةٍ في أزقة القرية، وذلك شأنه في كل ليلة من سنة انقضت على الرحيل الأخير للأب. كل ليلة يعود للأم بخسارة في الجبين.

في مساء أخير.. أقبل يبثّ شظايا تعبه على صدر الأم؛ إذ نقل إليها أنّهم رأوه منذ أيام في سوق «امّشَوف»، فلم تكترث لذلك كما شعر. إنّها تعلم سابقًا أنّه لن يعود إلّا لغرضٍ شقيّ، وراحت تهبه عزاءً في قولها: «… سيأتي، وأنا لست خائفة، فأنت رجلي الوحيد في القرية…»()، ثم نظرت إلى البندقية المعلقة في عرض العشّة، وقالت بصرامة: «رجولتك في هذه. حافظ عليها حتى الموت»، ثم أبصرها تُحدّق بحرقة إلى فرجة البيت المقفرةِ من أمنيةٍ تتغيّاها، ربما().

سألها: «هل يلزمني الرحيل شمالًا لأكون مثل أبي شجاعًا؟».

أسرعتْ تجرحُ حنجرتها بآهة، وتجيبه بوجل: «لا.. لا..() لو حافظت على هذه البندقية فأنت شجاع.. تفهم؟!…»، وتجنبت أن يرى في عينيها جوعًا قديمًا، لكنه يشعر به ويسأل قراره عنه: «ترى أيّ حاجةٍ تبتغيها من غائب بعيد؟».

البندقية طاعنة في الذكريات والرجال. بارودها ينوس في العشّة. هي كل ما بقي لهما. إنّها مدد السماء لإزاحة خوفه من ليال مدلهمة بالأعاصير يقرأ فيها من فرجة العشّة أيادي الخفاء من الغيلان والجنيّات كـ«بُدَة المغرب» حين يلتقيها على عادتها تطوق كتفيها بنهديها، ويشاركها انتظار الغائبين، و«اَمسُلعية» تقتسم معه النحيب على شجعان واديه.. هذه البندقية هي زَهْوهما الوحيد في قرية يفتقر أهلها لبندقية مماثلة.

عاد يفكر: «كيف سأُلاقيه غدًا».

أمضى ليلته مهملًا كسؤاله دون إجابة. يجسّ وجعه الرطب. يقيس مقدرته على تحمل غيابه مرة أخرى. وفجرًا استوى وجعه قبالته عندما رأى وجه الأب العائد يعصفه الحنق، ويحتدّ بخطاب يحتمل فراقًا قاسمًا، فسحق في قلبه احتفاءه الصغير به. ظل يُفرِدُ في خاطره الكثير من الاحتمالات المزعجة، ويعود بنظره إليه. كان الأب يتحرك ساخطًا في العشّة. شاهد الأم جاثية أمامه كأسير، تتشبث بالبندقية كما لو أنّها تحضر نزعها الأخير. كانت تُناضل في الحفاظ عليها. تضمّها إلى جذعها الجاف وتغرقها بدموع مثل «سَمْلَة»(). كانت تبذل كل جهدها ضدّ محاولاته لسحب البندقية. تتلوّى عليها، وتستنجد بأمجاد قومها() حتى أدركتِ العصافيرُ مصابها في فزع من الأشجار وفوق طرقات القرية.

لم يدم مشهدها الجارح طويلًا حتى أظهر الأب تراجعًا عن نيته، وتوارى خارجًا من البيت بسرعة تثير العجب، وكأنّه يخشى أن يشيع مع الصباح صوت نزاعهما().

من فورها وضعت البندقية في خرجها، وقالت لــ«مطر» الصامت: «هو لن يسكت حتى ينال من هذه البندقية. لم يعد إلّا ليأخذها. يريد أن يبيعها. ولا بد أن تُكمل معي الطريق للدفاع عنها فهي فخرك القادم بين الناس. اليوم هو يوم رجولتك يا مطر…»، وفي قرارها المظلم تُسجل رفضًا لغيابه؛ لذا وجب عليها تدبير انتقام يليق بصبرها العتيق.

خرجت تظفر بكل دقيقة كي لا يلحق بهما ذلك الجازع، والبندقية من على كتفها تتدلى و«مطر» يتشوّف لها مفتونًا، فهو حاملها المغوار في غدٍ يُشرق على وادي الحسيني تلعلع فيه بالرصاص من فوق رؤوس الأشهاد، معلنة عن يومي شهرته وختانه، هذا ما تمنّيه به الأم دائمًا.

أعلنت له رغبتها في الهروب بالبندقية إلى جبل «عكوة»()، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي سيتقيان بها شرّه. إنّه لن يدعهما وشأنهما حتى يحقق مراده، وإن لحق بهما فسوف تُلقي بنفسها مع البندقية من الجهة الشمالية الأكثر انحدارًا من الجبل، ولن يُثنيها أحد عن ذلك.. كما قررتْ!.

بإصرار كانت تنتصف الطريق في سيرهما شرقًا، صوب الجبل، وتهذي بنزوات سندبادهما، وذكرتْ شيئًا عن مجيئه مرة واحدة من كل عام ليبذر صغارًا في جوفها ويعود هائمًا دون كلمة!.

والمزارعون والرعاة في حثّ خطاهم صباحًا إلى الحقول كانوا يسألون «مطر» عن سبب تبكيره والأم وعن علامات الفزع التي تشحنهما، فثرثر بالسر جميعه، دون اعتراض من الأم.

ضُحًى استويا على قمّة جبل «عكوة»()، ولم تجدّ الشمسُ بظهيرة قاسية حتى كانت جموع غفيرة تحت الجبل تمور بنية معالجة هذا الحدث الجلل، ويصيحون من أسفل أنّها لن تمسّ بضرّ من زوجها «امهَامِلَة»()، كما نعته بالإهمال كبير القوم الذي نادى في الناس أن يذعنوا لِسنة هذه المرأة وابنها في الحفاظ على كرامتهما.

رفضتْ منهم كل دعوةٍ تُثنيها عمّا عزمتْ عليه، وبقيتْ على حالها مع الفتى، حتى فضّل شيخُهم عصرًا تفرق أهالي الوادي كل إلى حاجته، فلا فائدة تُذكر من قضاء النهار كاملًا هناك، كما رأى وردد عليهم: «هذا زمن امحريم.. تعلموا يا رجال، هذا زمن امحريم».

رأى «مطر» في منظر تلك الجموع المتحركة من تحته، نساءً ورجالًا، إذكاءً لعزيمته؛ ليكون رجلًا مقدامًا في يوم ختانه العظيم، فراح يقبض على البندقية ويُلوّح بها في السماء المخضّبة بالمساء القاني ومن تحته ربوع بلاده تشهر للريح دوالي حقولها وبساتينها مثل زفاف، والأودية يراها حبالَ وصل توثق ارتماءات البحر على السهل الحميم، وقد سلبت هيئته تلك ألباب الجميع بما فيهم الأم، عندما سفك من روحه أناشيدَ الفخر والاعتزاز بهذا المحفل البهيج().

بينما الصبي يُواصل نشيده، والمغادرون يُرخون مسامعهم له، جاء رجل من أقصى غفلتهم، يتسلل. (هذا هو!). تمتم قلبها بذلك في تردد، وتبيّن شخصه عندما تفرق الناس من المكان وغيّب أطيافها ليلٌ بدأ يسيل من الجبال. إثر شهقة مدججة بكل عوالج الحاجة والسؤال أكدت لشخصها الشاخص كصخرة: (هذا هو…)، وعندها أدركتْ حيلة الشيخ وهوان وعوده.

صار الغروب رقعًا ممزقة في الأفق، حينما جلس نصب نظرهما الهلعين عند منبت الجبل تحديدًا، وجواره حمل مسافر.

راح العجز يبلغ فيهما، والتصقت بفتاها الذي لمس فيها استسلامًا لم يعهده عنها من قبل، فأبدى تخفيفه من ذلك: (لا تخافي…)، ثم شدّ قبضته على البندقية، إلّا أنّها لم تُعر موقفه تقديرًا، إمّا لعجزه كما جاء في ظنه، أو لربما تُخفي عنه شيئًا له علاقة برجله الرحّال()، فاحتقن «مطر» بالخوف، وتركته صيدًا سهلًا للحيرة وقوارع الظنون، وغاصتْ في عمقها تتأمل صوتًا خاصًّا يجول فيها.

عاد يُعلن: «سأحمي البندقية لن يأخذها مني أحد…».

تنبهتْ إليه بعد برهة، فأمسكتْ بكتفه مُضيفة لقلبه طمأنينة، وألزمته جوارها طويلًا حتى طمر الليل بسطة الجبل، ما عدا ومضات الفوانيس التي تتعالى بتثاقل من قرى الوادي المحيطة.

وأخيرًا نالت منه مشقّة نهارهما الطويل، فغفا «مطر» يذرع هواجسه على معشوقته الراقدة في حضنه، ومتوسدًا فخذ قائدته في هذه المعركة، التي ظلت تحيك من الظلام درب الأب حين يُداهم عرشهما لا ريب.. وهي تُعيد لازمتها القديمة «يا صابر زمان اصبر ثمان»()، ولا ترى أبعد من ساعة ليقشع الصبر عن كاهله رفقتها طيلة كل هذا الزمن.

في الهزيع المتأخر من الليل فقأ «مطر» عينَ الخيانة الماثلة عندما استيقظ فوجد نفسه مغطًّى بلحاف لم يحملاه في زادهما صباحًا، وما كاد يتلفت حوله للتأكد مما يجري حتى وشَى الليل له برغبة حافية تُدار خلفه؛ إذ كان صليل الأب يشقّ غبار جسد يعرفه بمنجل يصيب حرثه بإتقان، فخَفَضَ لهما جناح السكون، ولم يكن بوسعه إلّا أن يُكمل ليله مستمعًا إلى معالجة تعمير البندقية حينًا، بعد أن أُخذت منه وهو نائم، وحينًا يتناهى إليه تعمير الجسدين لتلك الرغبة النهمة.

عندما أينع الصبحُ على الجبل والقرى كانا وحيدين وخاليين من سلاحهما الفقيد. كان ينظر إليها في حسرة بالغة، وهي تتشاغل مع نفسها بجمع متاع فقير والاستعداد للعودة إلى الديار، ولأول مرة لم يشعر بحاجة لتوضيح ما حدث. عرف أنّ الأب بكّر مصطحبًا ما ظفر به ليلة البارحة، كما علم بما نقده لقاء البندقية.. بعض الأثمان لا يُمكن إظهارها، أو يصعب ذلك، وإخفاء علامة الخسارة؛ بأيّ طريقة كانت، لا يُعطي القدر الحقيقي للفارط من ماء الوجه، كما لا يُمكنه، بأيّ حال من الأحوال، ردع ويل السؤال عن قلب الأم الوحيد جدًّا لحظتئذ.

كانت خاوية الروح وهي ما بين لحظة وأُخرى، تعبر أمامه بوجه يُجعده البؤس، وبها من فرط الخجل ما يؤود الجبل الذي آواهما. يلحقها بنظرات مؤنبة وصريحة العتب. نظرات خالية من خيارات الحياة اللازمة لاقتراح الغفران أو حتى التغاضي أملًا في أن ينمو بداخلهما توءم «لَعَلَّ وعسى».

نظرا طويلًا إلى الجزء الشمالي من الجبل. يتذكر آنذلك المنحدر، والمنتهي إلى هوة سحيقة لا قرار لها، هو تتمة الخطة التي قررت يوم أمس؛ فيما لو أُخذت منهما البندقية، لكنها لم تقدم على إنجاز الخطوة الأخيرة والفاصلة. تبعها نزولًا إذ يقف الناس هناك من جديد على جانبي الطريق مذهولين ومسمولين بأسئلة ملحاحة لا إجابة لها، فيُلقي البعض عليهما أسفه من شدّة أساهما الطافح بالأذية. كان منظرهما مذلًّا، وهما يشقّان دربهما بين الذين خرجوا للوقوف على نتيجة معركتهما في سبيل بندقية لم تعد معهما، وشاع على وجهيهما خنوع فادح أفشى بنهاية مريرة.

كان بصرها يحفر التراب، أما «مطر» يهيل على طموحاته الهزيمة المذلة لجيش قادته امرأةٌ لا جند فيه سواه. كان يطحن صدره سؤال: «كيف أكون رجلًا الآن؟!». أعاد فتيل الحرقة بهذه المواجهة الأخيرة لذاته. وفي لحظة فاصلة دوّت منه صرخة عصفت بالحاضرين والأم، ثم التفت إلى الخلف، وحزم أمره الجلل، ودون تردد أو بادرة خشية انطلق على أعقابه يركض بكل حماسة تواترت من دم إلى دم حتى عظمه، فانفرد بنشر الذهول بين الجميع. راح يمزق الريح صاعدًا الجبل، فلا يلوي على انكسار الأم ولا على صراخ النسوة أو جزع الرجال. واصل ذهابه المرّ عاليًا، والجبل الصامت كشيخ أثقلته الغبطة بفعل الزمن يتلقف خطاه العجلى.. هكذا انسل بعيدًا في المرتفع إلى أن تلاشى خلف القمة، من الجهة الشمالية، وغاب تمامًا.

بعد تلك اللحظة الخاطفة من زمن المكان والفاجعة، لن يُذكر أنّ أحدًا رآه مرة أخرى أو سمع عنه، ولن يتناقلوا حول وجوده حتى ما هو أدعى لمظنّة لا لحقيقة، ولكن قيل: إنّ الأم أكملت حياتها فوق الجبل، ورجل يأتيها في العام مرة واحدة عشاء، ويُغادرها كحلمها في عودة «مطر».

*1976 اختفاء مطر، 1989 الأب لم يعد يظهر أبدًا.

—————————————————————–

(1) وتطول قائمة الدّمن والوجهات التي يقصدها في جبال «ساق الغراب» المحاذية لسهل تهامة من جازان بداية بجنوبها «اموسم ومعاليه امخوبة وجبال العبادل، أما لو قلّش مشايم جنب بساحل الجعافرة وعلى وجهه حتى تقول سلام يا خبت البقر ودرب ابن شُعبة ومن صاعد الريث والربوعة…».. «عادُه هذا الّا امقليل ما اريتي شيْ» يعلق، بأنّها لم تشاهد من زينه إلا القليل، فما زال يكنز الكثير، هذا كلما عاتبته على وضع الكحل وعطور الربيع ليكون في صف الصبايا ورقصة «امّعشى» الغفيرة بزفير النشوة والاتقاد والعيون التي يقر فيها كل حُسن.

(2) يسكنون الجبال، يبثون من مرتفعاتها رقصهم وتسيل من أعاليها أعراسهم، وهو في أول أفراحهم بالختان وعلى درب الرجال.. يزف إلى مسامع القرى المجاورة أخبار الألوان والبهجة ومنازل النجوم وبشرى السيول والحقول الحبلى.

(3) نال بحديثهما ينوش حاجتها في الغائب.. الغائب الذي يعرفه الليل أكثر من النهار. الغائب الذي ينزع غبار جسده خارج البيت، والسادر في الترحل إلى دنيا تخصه، إلى الحياة التي لا هامش لها سواهما.. مطر والأم.

(4) «يا صاربة في بلاد.. واهلك امصوارب!».. يُعزز المكان ثقتهم به كلما ابتدعت لغتُهم أهزوجة أو أمثولة تمجده وتبقيه في أذهانهم أمد الدهر. فمن يعمل في بلاد غير بلاد أهله، ومن في وقت الصرم يتوق لجزّ محصول أرض غير أرض أهله؟!، كانت الأم تُعيد على «مطر» هذا المثل وتعود من جديد للمعنى الشاهق في حفاظه على البندقية وصون بلاده.

(5) (…) فراغات تكشف في مواقفها افتقار حديث الأم لعبارات متممة، وهذا النقصان يُعادل واجب التخفي، وعدم إنجاز الموقف كاملًا؛ فيكفي في شراكتهما مطر والأم نصف الإيضاح، ذلك النصف الذي يفي بقطعهما لمسافة الحياة اليومية معًا، وليس أبعد من ذلك.. هي تتوجع دون أن تنبس بكلمة، وهو يعزي بشجاعة الأب التي لا نظير لها في الوادي. لكن غياب الأب يعني هدر الكثير في التمنّي أن تُردم الهوة بين وعي الأم بقيمة البندقية فعلًا وبين إدراك «مطر» لتلك القيمة، وكل حسب حاجته.

(6) ربما، فهي لم تحدد «العود» ففي الإياب الحياة الواعدة، لكنها قالت: «سيأتي» وفي ذلك استمرار وامتداد لما هي فيه لا أقل ولا أكثر.

(7) «لا.. لا.. إلّا الشام…»، لا بد أن تُوقفه عند قدسية جهلهم بكل الجهات، وعليه أن يلمس وحده مبكرًا عواقب الخروج من الوادي.

(8) والـ«سَمْلَة» لا تركض مياهها سريعة ولا تحدث صوتًا في الوادي، فكان حزنها لا يعلو بصراخ، لكنها إن ناشدت تاريخ أهلها فلا بد من علو صوتها؛ لأنّ مقام الأمجاد لا يكون

(8) والـ«سَمْلَة» لا تركض مياهها سريعة ولا تحدث صوتًا في الوادي، فكان حزنها لا يعلو بصراخ، لكنها إن ناشدت تاريخ أهلها فلا بد من علو صوتها؛ لأنّ مقام الأمجاد لا يكون بصوت خافت. تكتظ الدار بالحكايات التي يسرحها فمها كقطعان وتزدان بآهات الحنين إلى الأجداد الذين عندما وصولوا هذا الوادي كانوا عميانًا لا يقودهم إلى هدى إلّا ظلام.. هكذا يرثون قبض القلب والروح على هذا الوادي فلا يُغادرونه إلّا وينالهم العمى الذي لازم أجدادهم حتى رأوا الدنيا في هذا المكان، كما يأتي في تعاليمهم. وصية واحدة لا ينفكون عنها ولا يربطون على غيرها وهي ألّا يتخلوا عن هذا الوادي الضارب في السر والسحر ما بقي لأحدهم فاه ينادي وحلق رطيب.

(9) «أنا بنت السباع زايدةْ على الشرف بباع».. وتلد من حنجرتها بعد هذا الاستنهاض كل مفاخر قومها.. هم الذين أدموا «أبرهة» قبل «طير سجيل»، وهم الذين يشمّون «امنعقريز» البارود وهو على مسيرة يومين من واديهم، وهم الذين بإيمانهم ينزعون أمطار الغيوم، ويسوقون الماء من صخره حتى طينه.

(10) الحقيقة أنّ نزوعها إلى تعداد مآثر أجدادها يقبض على حجر القلب فينال من نوازع غضبه حتى يلين وتمطر عيناه مذعنًا لرغبة الابتعاد.. وذلك شأنهم كلما تنادوا ببطر ماضيهم‭.‬

(11) جبل «عكوة» هو الملاذ المنيع، هو القلعة الكبرى.. هذا الجبل امتداد تاريخ طويل مع البقاء. يلزمون واديهم كما يلزم الجبل مكانه، ويكررون كل صباح في نشيد روحي خفي «كبرنا يا أبونا.. كبرنا مع هذه الجبال؛ فإلى أي أرض نلوذ وهي لا تغادر. لا نترك هذه الرفقة. ولا نستطيع حملها وإلّا كانت أول متاعنا. باقون في بقائها. مقيمون مثل ثقلها.. وهذه النوق مطعونة مثلنا بالحنين. كبرت معنا وكبرنا مع الجبال.. أخوة في الصخر والثبات.. أخوة في الوفاء». و«جمر بيوتهم يتوكوك مثل نجوم امصيف يسرون امرجال في غارة واحدة كنّهم معصر».. لا بد لهذا الوادي من حماية، وأول حماية هي أن يغيروا على الأودية الأخرى؛ لإثبات سطوتهم لا لإذكاء جذوة الحرب فقط، فيقطعون المطامع من بدايتها، وينزلون على بلاد غيرهم كإعصار جامح لا يذر شيئًا، ويكملون شقّ حبط الجبال حتى يشحذوا الشمس من هاماتها؛ لتبكر إلى أرضهم وزرعهم وولدهم، وبذلك على العهد يصلون الأجداد بتنفيذ الوصية الخالدة أن يعلو الرجل الواحد منهم بـ«البقاء البأس» وليس سواه.

(12) هذا الجبل حصن أولهم وآخرهم.. تقول أكثر حكاياتهم حذرًا وعمقًا: إنّ أول أجدادهم كان قد فُقد من قافلة بعيدة وهو فتى أعمى، ولد بمحجرين مغلقين، وراح يُؤانس الدواب والهوام فلا تُؤذيه، وتتبع في خطوه أصواتها حتى وجد جمعها في هذا الوادي وتحت ذلك الجبل، ومع أول شمس أشرقت عليه هناك تفتق محجراه عن عينين لهما حذق الذئب، فأدرك أنّ هذا المكان هو نوره حتى النهاية. لذلك لا تهمهم الجهات ولا يعرفون حدودًا غير حاجتهم للزمن فيمتد بهم هنا دون توقف.. ولا يكاد «مطر» يذكر الشمال في أي لحظة كانت؛ حتى تنهره الأم عن نوازغ الشيطان، وهناك تستوجب الحال، بل تستنفر كل ذاكرتها؛ لتحكي له حكاية الأب الأكبر، الحافل بالنور البدائي، بالبصيرة الأولى في هذا المكان الذي يمنعهم من كل أرض سواه ويقطع للواحد منهم كل خطوة تُجانبه.

(13) سيستوي عنده أنّه أهملهم أو تشاغل عنهم، فلا عذر له أمام الرغبة في كل الحياة التي يختارها دونهم. «امهَامِلَة» ستكون شرك النبزة التي عمرها ألفا عام بينهم وبين من ينعت عتبات البيوت الفقيرة بـ«عيسى على امكوابي يهمّي» وفي ذلك قصة تطول على «مطر» وتغوص به في «فقه كلام» تخاف عليه منه، فالأم لا تتوسع في الشرح، ومتى نال وسام الرجولة بالختان وحمل البندقية عندها سيدرك المعذور والمحذور.

(14) «سلام يا قصر امثنايا ذهانا.. مكتوب على خده تبارك وياسين»، فلا تضطره الأم للرد على نفسه عندما يعرف بنفسه أنه «مطر». وهذا هو تحت قصر فتاته للسلام على الخد المكلل بالجمال الإلهي، وتحدوه شجاعة كل رجل من دمه، لتحذره العاشقة من أهلها «لا تلمس امدير ترى اَهلي ذهانا .. .. عندهم ناس تغشوا وماسين»، فلا يهابهم إن أخذوا حيطتهم منه، وروحه عامرة بالهمّة وساعده له عتاد سلاح لا يخذله. هو في نشيده والبندقية فوق رأسيهما تعلو كل نايفة لمقامهما الشامخ.. هو مثل زخ المطر فلا وادٍ يسعه ولا سد يرده:

تسليم يوم ماطُره في العرش وكّاد..                  ..من كثر زخه ماطُره ما يحمله واد

يركي على الميلة وعقوم مشرفة

وكانت الأم في غنائه الرجل يختار مكاتفة صبايا الجبال من دونها وتسأله أيّ عطر ليس لها، وقد أنبت ولعه في الجبال وقلبها مولع ببيت تنضج فيه كل الحياة الزكية، ولولا ذلك لكادت أن تقلعها حاجات الدنيا من دار التصبر:

يا دوش في عرض امجبل ما بَقَلْبَكْ                   ولّـعــت قـلب غافل لا عـَقَلْـبـَـك

ما عادني بيد اليمن بـيد شامي                   ما حيث ما تزرع العظي والبشامي

(15) العلاقة ترتبط بجوع لا يطّلع عليه حتى «مطر» وهو رفيق المعركة الحاسمة. إنّه لا يقف على حقيقة نياط مهتاجة

سرت من جسد الأم إلى جذعه لحظة احتضنته مع البندقية.

(16) «يا صابر زمان اصبر ثمان».. «قد صبرت يا مطر كل هذا الزمان ما أنت قادر تصبر أسبوع؟!…»، لن تستطع إقناعه

بأنّه صغير على الصبر والمكابدة، لكن شغله السؤال الكبير، فكيف له أن يكون رجلًا بلا بيت وأب وبندقية. البيت سيعيش

بالحكايات والوصايا المنضبطة، والأب يأتي ويذهب، بينما البندقية هي الخلاص الوحيد، وهي علامة علوه في صف الرجال.