الاحتكام إلى الحياة!

الاحتكام إلى الحياة!

ينتاب المرء في أحايين عدة، الشعور بأن حياتنا الثقافية العربية على مدى نصف قرن، على الأقل، قد بالغت في الانشغال بالثنائيات المتقابلة، فيما كانت الحياة الثقافية الفعلية (النتاج الإبداعي) قد حسمت تلك الثنائيات بغير ضجيج وبعيدًا من الشعارات الفارغة. ومنها على سبيل المثال مسألة العالمية والمحلية. وحيث انقسم نقاد وباحثون بين مناصرة العالمية أو الكونية، وبين الانحياز إلى المحلية أو الخصوصية. وفي واقع الأمر، إن المبدع لا يحفل مسبقًا وبصورة قصدية بهذا التصنيف المتعسف. إذ إن جُل اهتمامه يدور حول الإصغاء إلى نبض روحه والبحث عن إيقاع خاص يشتمل على الأسلوبية والهوية الفنية، الذاتية، بالاستناد إلى تجاربه وتفاعله مع الواقع، وتثاقفه التلقائي غير المتعمد مع ثمرات الفكر والإبداع الإنساني ولا يعنيه كثيرًا بعدئذ إذا ما صُنِّف لإبداعه على أنه يعكس خصوصية محلية، أو يستشرف آفاقًا إنسانية تفيض عن أية بيئة محددة. فالفيصل هنا هو جدارة الإبداع وأصالته (ابتكاره الذي لا يُحيل إلى غيره). وليس من المبالغة في شيء القول: إن الحكم على عمل أدبي ما بأنه زاخر بالخصوصية، أو يتوفر على بُعدٍ كوني هو من قبيل الأحكام «الخارجية»، القابعة خارج السياق الذاتي للعمل. فكاتب مثل صموئيل بيكيت لا يقل جدارة عن كاتب آخر مثل أنطوان تشيخوف، رغم بُعد الشقّة بينهما. فكلاهما ترك بصمة لا تُمحى، ومن الخطل الحكم عليهما من زاوية الخصوصية أو العالمية، وإن كان مثل هذا التقييم مفهومًا ومطلوبًا من زاوية سوسيولوجية محضة، لكن هذه الزاوية المهمة ليست ذات علاقة بالنقد الأدبي.

إن الأصل في الإبداع هو التعدد والتنوع، وأن يجترح كل مبدع خصوصيته وتميزه. علمًا أن العواطف والهواجس البشرية الكبرى: الحب، والموت، والطفولة، والوحدة، والشيخوخة، والعَوَز… تكاد تكون متماثلة لدى الشعوب. وإذا اتفقنا مع من يذهب إلى أن العالم قرية واحدة، فإن الانشغالات الإنسانية المشتركة في الإبداع تتخطى التصنيف الثنائي بين عالمية ومحلية، وتجعل كل إبداع متميز على صلة بكل بيئة أو واقع. هذا مع ملاحظة استدراكية مفادها أن السرد أكثر قابلية لتمثيل الواقع الاجتماعي من الشعر مثلًا، ومع ذلك فإن أحدًا لا يملك حق مصادرة الاستثناءات كما في نموذج الكاتب الإيرلندي الفرنسي بيكيت.

وإلى مسألة العالمية والمحلية، فلطالما برزت مسألة أخرى تتعلق بالفصحى والعامية. وهي مسألة تتصل بلغتنا العربية حيث تتسع الشقة بين اللهجة العامية أو الدارجة وبين الفصحى. وفي قناعة المرء أن هذه الثنائية بدورها لا تخلو من افتعال. فالعامية هي لغة الكلام والتعامل اليومي، أما الفصحى فهي لغة الفكر والإبداع. العامية كلام، والفصحى كتابة. والخلط بينهما يشوّه صورة كل منهما. وبما أن العامية كلام فإنه يسع المبدع الاستعانة بها بعض الاستعانة في الحوار السردي القصصي أو الروائي أو المسرحي، لكن السياق العام يبقى فصيحًا. وحين تقتحم العامية السياق أو المتن فإنها تفسد العمل وتُحدث ثقوبًا فيه! إذ إن منطق تداول العامية يختلف اختلافًا بيّنًا عن الفصحى. فعلى سبيل المثال في حوارات الحياة اليومية العملية، فإنه يمكن للمتحدّث أن يكرر النطق بجملة أو عبارة من دون أن يترك ذلك أثرًا سلبيًّا، بينما التكرار في السياق الفصيح يُحتسب ضعفًا وركاكة…

وفي القناعة أن إفراط كاتب موهوب مثل يوسف إدريس في استخدام العامية هو أحد الأسباب التي جعلت درجة الاهتمام به، أقل من الاحتفال بنجيب محفوظ الذي يعتمد الفصحى. أما الشعر الشعبي القائم على العامية، فإنه يندرج في معايير تاريخية الإبداع في خانة الإبداع الشفوي المقترن بأداء الشاعر وبالاحتفالات والمناسبات الوطنية والاجتماعية، لكنه لا يصمد طويلًا في خزانة الأدب مقارنة بالشعر الفصيح، ويشهد على ذلك تراثنا الأدبي منذ المعلقات حتى قصيدة النثر لدى أنسي الحاج! الذي يقاوم التقادم بل يزداد أهمية مع تراخي الزمن. وجملة القول أن الإبداع قرين الأصالة والتجدد معًا، وأن الترجمة تمتحن الإبداع وقدرته على تخطي حدود اللغة والواقع الثقافي المحدود مهما اتسع هذا الواقع.

شيمون بيريز.. نسر ينتحل لقب حمامة

شيمون بيريز.. نسر ينتحل لقب حمامة

شيمون بيريز

شيمون بيريز

شيمون بيريز الذي رحل عن عالمنا عن 93 عامًا مصحوبًا بنعوت لا يستحقها من قبيل أنه رجل المصالحة والاعتدال، وحمامة السلام. لم يكن يحمل هذا الاسم في الأصل، فاسمه الحقيقي شيمون بيرسكي، وقد اختار بنفسه لقب بيريز بعد هجرته إلى فلسطين عام 1934م التي كانت آنذاك خاضعة للانتداب البريطاني، واسم بيريز يعني بالعبرية: النسر. وهكذا فقد اختار الرجل بنفسه أن يكون نسرًا لا حمامة، ومع ذلك فقد انطلى خداعه على كثيرين في عالمنا، بل رغب كثيرون في خداع أنفسهم وخداع جمهورهم، بدلًا من تجشم عناء التماس الحقيقة والجهر بها والعمل بمقتضاها، ومسيرة بيريز المهنية والسياسية تؤكد أنه كان معنيًّا بسلام بمعايير صهيونية خالصة، لا تمتّ إلى حقوق الإنسان وحقوق الشعوب بصلة وبخاصة حق شعب فلسطين في العودة إلى دياره.

لا شك أن الرجل الذي وُلد في بولندا كأحد أبناء ذلك البلد، ثم أدار له ظهره إلى الأبد، كان يتمتع بمواهب دبلوماسية وخطابية مميزة، وقد سخَّر مواهبه في خدمة المشروع الصهيوني القائم على نفي الآخر، لا في خدمة مشروع السلام، وكذلك في خدمة مشروعه الشخصي للترقي إلى أعلى المناصب. لقد منح السلام رطانته الخطابية وموهبته التي تكاد تكون أدبية، ولا تلزم صاحبها بشيء محدد، ومن دون أن يبذل أية تضحية أو يتحمل أية متاعب في سبيل رؤية السلام وقد ساد. ومع هذا فإن كثيرين ظلوا يستذكرون خطاباته وصوته الأجش وتهويماته الإنسانوية، ويتناسون سجله المهني غير السلمي.

عاش مثل لويس الرابع عشر

حتى على مستوى حياته الشخصية، فلم يعش كواحد من عامة الناس أو قريبًا من طبقة وسطى عريضة، فقد كان يميل إلى نمط حياة أرستقراطية مترفة، وقد وصفه الروائي الإسرائيلي من أصل عراقي سامي ميخائيل قبل نحو سبعة أشهر من وفاة بيريز بأنه «عاش حياة بذخ أنفق فيها 20 مليون دولار كل عام كأنه لويس الرابع عشر». ربما يبالغ ميخائيل بعض الشيء، غير أن انتقاده اللاذع لنمط حياة بيريز لم يلق اعتراضًا او تفنيدًا من أحد. وبينما بكى بيريز بمرارة أمام أضواء الكاميرات، في جنازة زوجته سونيا جيلمان التي توفيت عام 2011م، فقد انفصل عنها عند بلوغه رئاسة الدولة عام 2007م، وبقيت تقيم وحيدة في شقة تل أبيب، بعيدة عن أبنائهما الثلاثة، إلى أن وافاها الموت.

منذ مقتل رابين شريكه في الرابع من نوفمبر 1995م في حزب العمل وغريمه في التنافس على مواقع قيادية في الدولة العبرية، لم يعمد بيريز إلى استثمار موجة التعاطف مع رابين والنفور من معسكر اليمين المتطرف الذي ينتمي إليه قاتل رابين، من أجل تعميق خط سياسي سلمي، بل فعل شيئًا معاكسًا، إذ لم يرَ في اندفاع الحكم الإسرائيلي أكثر فأكثر نحو اليمين ما يناقض قناعاته، أو ما يعوقه عن الاستمرار في حياته السياسية، وهكذا كان سلوكه بالفعل، وكأن شيئًا من حوله لم يحدث. فقد عمل تحت قيادة شارون وزيرًا للخارجية، بل إنه انتمى إلى حزب البلدوزر شارون المسمى حزب «كاديما»، متخليًا عن حزب العمل. فقد أدرك بحسه الانتهازي المرهف أن المجتمع السياسي الصهيوني ينجرف نحو اليمين، وسرعان ما تكيّف مع المناخ الجديد.

إذ اشتهر الرجل بأنه أحد صانعي اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما مكّنه من الحصول على نوبل للسلام، لكن ارتداد اليمين الصهيوني المتطرف عن هذا الاتفاق لم يحمله أبدًا على الدفاع عن الاتفاق، والتمسك به والعمل على تطبيقه. لم يكن الرجل عسكريًّا ولم يخض معارك في حياته، لكنه وضع نفسه كبيروقراطي مدني في خدمة المؤسسة العسكرية، فقد التحق بعصابة الهاغاناه عام 1947م وكان مسؤولًا عن الموارد البشرية والتزود بالسلاح. وظل يعمل في وزارة الدفاع بصفته المدنية وكأحد كبار العاملين فيها، وكان بارعًا في علاقاته السياسية الخارجية، وقد شجع كلًّا من بريطانيا وفرنسا على شن العدوان الثلاثي على مصر وبمشاركة إسرائيلية، وكان آنذاك في الثالثة والثلاثين من عمره.

بارع في التلاعب بالعقول

بعد ثلاث سنوات من العدوان وفي حوار أجرته معه صحيفة «هآرتس» قال ردًّا على سؤال: «إن العرب والدول العربية وحكامها لا يعنوني مطلقًا». ومن الطبيعي مع نزعته العنصرية الكامنة، أنه لم يُعرَف عنه الوقوف ضد العنصرية والتمييز اللذين لازما نشأة الكيان الصهيوني وأخذا يتضخمان في العقدين الأخيرين، وبدلًا من ذلك ظل مولعًا بترديد عبارات عامة فخمة عن السلام والتعايش والعلاقات بين الجيران. كانت الدولة العبرية بحاجة إلى مثل هذا الرجل البارع في العلاقات العامة السياسية، وفي التلاعب بالعقول وبالوقائع. لكن نبرة الرجل تتغير إلى حد كبير في الكنيست (البرلمان)؛ إذ كان على الدوام يتحدث بنبرة عدوانية تصل إلى حد الصراخ ضد النواب العرب، وأقل صفة كان ينعتهم بها هي أنهم ستالينيون.

ومن الغريب حقًّا أن سِجِلّ الرجل في الحروب، وبخاصة الحرب على لبنان في عام 1996م حينما كان رئيسًا للوزراء يتم تناسيه؛ إذ ارتكب مجزرة قانا ضد مدنيين لجؤوا إلى ملجأ للأمم المتحدة، فيما تُستذكَر خطاباته الوعظية. كما يتم تناسي قيام مقاتلات إسرائيلية في الأول من أكتوبر بدكّ مقرّات فلسطينية في منطقة حمام الشط أسفرت عن مقتل 17 فلسطينيًّا، وكان الهدف الأول للعملية ياسر عرفات، وقد وقعت هذه القرصنة إبّان تولي بيريز رئاسة الحكومة عام 1985م.

كذلك يتم تناسي أنه أول من أدخل السباق إلى التنافس على امتلاك الأسلحة النووية في المنطقة، فهو أب المشروع النووي الإسرائيلي، وذلك من خلال اتفاقية سرية مع فرنسا أبرمها حين كان مديرًا لوزارة الدفاع، أدّت إلى بناء مفاعل ديمونا النووي في صحراء النقب الذي بدأ العمل به عام 1962م. وعقب وفاته قررت حكومة نتنياهو تغيير اسم مركز ديمونا إلى مركز شيمون بيريز الذي عمل كثيرًا لإقامة هذا المركز المهم جدًّا لأمن إسرائيل، كما قالت الحكومة الإسرائيلية في بيان لها بالمناسبة.

في يوليو 2014م انسلّ بيريز خارجًا من مقرّ رئاسة الدولة في القدس، بمراسيم وداع روتينية وسريعة، وحلّ محله الرئيس الليكودي الحالي رؤوفين ريفلين. منصب رئيس الدولة ذو صفة فخرية، مما كان يرضي غروره من جهة، ولا يتماشى من جهة ثانية مع النزوع السلطوي للرجل. وقد انطوى بيريز خلال العامين الماضيين في عزلته بعيدًا عن الأضواء التي يعشقها، ولعل حياة الظل هي التي تسببت بإصابته بجلطة دماغية أودت به لاحقًا في 28 سبتمبر 2016م.