أغنية تصدح من بيت جاري «الديريّ»

أغنية تصدح من بيت جاري «الديريّ»

في المأوى الجديد الذي استأجرته، ولصقَ الحائط القرميديّ الذي يحوي خلفه في مربع الإسمنت الداخلي عوائلَ من مختلف المدن السوريَّة بعد الخراب الذي لَحِقَ بالبلاد، أستيقظُ صباحًا على أنغامٍ من دير الزور، أتعجَّب، أنا لستُ في الثكنة العسكريَّة حتّى يتسنّى لي أن أسمع هذا النّغم، ولست أحلمُ بكل تأكيد! يباغتني صوت الطفل وهو ينادي والدته: «يُمّه أريد طابتي»، لا شيء يمنعني حينها من النهوض لأفتح باب الشرفة كي أرى الضوء الجديد، وأتأمّل سكينَةَ ساعات الصباح، ولأرى بالذات ما لا يمكن لأحدٍ أن يُبصره، الطفل «الديريّ» بلكنَتهِ التي لم أسمعها منذ سنواتٍ طويلة، وبلمعةٍ في عينه ينظر إلى شَعْريَ الطَّويل مشدوهًا، «يُمّه هاظ مجنون!!» أبتعدُ قليلًا عن مرمى نظره كي لا أُفزعه، أتذكّر دون أن أتحرَّك من مكاني، وكشريطٍ سينمائي زمن الخدمة الإلزامية في الثكنة العسكريَّة، دمشق 2011م، أرى بجلاءٍ «حجّي» من دير الزور، الذي كانَ يأخذ حصّته من الإطعام الصباحي ليبيعها فيما بعد مُجمَّعَةً إلى باقي جنود الثكنة، كي يؤمّن ثمن علبة التبغ التي كانت قيمتها فقط 15 ليرة سورية، والتي لا تساوي شيئًا في ليالي الحرب هذه، أعودُ إلى الفراش كمَن أضاع شيئًا منذ سنواتٍ غابرة، وعثر عليه فجأة في مكانٍ غير متوقَّع.

الآن، فنجان القهوة لا يبدِّلُ من الأمر شيئًا، فقط أثرُ كحول الليلة الماضية في جسدي النحيل يغيّر من تكوين الذكرى لتغدو رحيمةً أكثر.

صباح 12 تموز 2011م:

في نوبات الحراسة يغدو المرء آلةَ رصد، لا شيء يمكنك أن تسهو عنه، طالما أنَّك ستدفع ثمن ذلك إهانةً أمام الملأ العسكري! أو ربمّا على أقلّ تقدير سوف تخدم 30 يومًا مضافةً إلى الأعوام الطويلة من مكوثك في الأرض القاحلة، كان «حجي» الفتى الأصغر في عائلة ريفية من دير الزور، هكذا أسرَّ إليَّ ذات ليلة صيفيَّةٍ باردة، لم يعتد رؤية الطاولات الحجريَّة تلك التي توضع عليها أواني الطعام الصدئة، والتي يعود تاريخها إلى عام 1973م، بحركةٍ واحدة أفرغ «حجي» رصاصةً في رأسه جعلت دماغه الممسوسة تندلق على التراب، اندلقت الصور العتيقة والأنغام التي كانت تصدح من جهاز التسجيل خاصّته، الذي قال لي مرَّة إنّه سطا عليه من أحد الأزقَّة في دمشق القديمة، صودِر الجهاز، وعلّقت ثيابه العسكريَّة على باب الثكنة كرمزٍ للجُبن والخوف!

كيف أمكنه فعل ذلك؟ يتهامس الجندُ فيما بينهم في عتمة المهجع مرتعدين من النقيب الأبله، الممسوس بداءٍ نفسي مملّ، كانَ يهوى تسديد النّار على شاشات التلفزيونات الصغيرة للجنود! لم أعتد كذلك أن أحمل تابوتًا طوال حياتي، حملت تابوت «حجي» وأنا أغني في قلبي نغمةً من دير الزور، كنتُ أبكي دونما دموع، مخافة أن أورَّط أيضًا في الجُبنِ والخيانة للشرف العسكريّ الذي لم ألحظه مطلقًا! بكلّ بساطةٍ وعار رميناه لذويه المنتظرين أمام الباب المعدني الضخم للثكنة خارجًا، رميناه على الإسفلت السَّاخن وسْطَ همهمات الضباط عن الخيانة، لمحت وجه والده الذي طأطأ رأسه آنَ اقترابه من الجثَّة، وكأنَّني رأيتُ أسى خمسين عامًا يتقطَّر وينسابُ على الإسفلت، في نوبات الحراسة يغدو النّغمُ المُدندَنُ خليلَ المرء.

ليل 11 تموز 2011م:

«حجي» ضربه النقيب وصرخ في وجهه: «أنت مجنون، أنت عارٌ على الجيش السوريّ!»، لا عار إلا عار «حجّي» في عموم سوريا، لا خيانة في سوريا إلا خيانة «حجي»، كنتُ أقولُ في سرّي وأنا أنظّف الكلاشينكوف مرتعدًا من فكرة أن تستقرّ إحدى الطلقات في ذاكرتي، آنذاك لم يكن الصراخُ ممكنًا، ولا استذكار خبز التنّور وصباحات الأحد، ضُربَ «حجي» على مرأى من الجنود، نحن الذين قلنا أيضًا إنَّه معتوه ومأفون ولا يغتسِل، كان داخله نظيفًا كمنازل الجدَّات، هذا ما تبيَّن لاحقًا، وإلا فكيف يمكن لمعتوهٍ أن يطلِق رصاصةً بهذه الخبرة؟ ثمّ كيف لنا أن نجرؤ على أن نبدوَ أكثر إنسانيَّةً من شابٍّ انتحر لأنَّه ضُرِب؟

كانت ليلةً ذهبت بنا بعيدًا نحو الخراب، إشارةُ الحرب كانت جليَّةً في ضوء القمر الشاحب، وشوشَ «حجّي» بموته في آذان الجميع: «كلّ معتوهٍ يغنّي ويحبّ النّغَم، وكلُّ ذي عقلٍ يودُّ الحياة، سأرحل». صباحًا، وبعد سنواتٍ من الموت اليوميّ لا تزال الأغنيةُ نفسها تجتاحُني كغيمةٍ باردة على وشَكِ أن تُثْلِج.