طريقة «جديدة» في النضال؟

طريقة «جديدة» في النضال؟

ليست ظاهرة «منظمات المجتمع المدني» أو «المنظمات غير الحكومية» جديدة تمامًا. فعمر «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» يقارب مئة عام (1920م)، ومنظمة عالمية كـ«العفو الدولية» مثلا، التي ينتمي إليها 7 ملايين شخص، تجاوز عمرها نصف قرن (1961م)، وهي مُمأسسة ومهيكلة بصرامة.. وقس على ذلك الكثير سواهما. بل إن الصليب الأحمر الدولي يعتبر منظمة غير حكومية. وتحوز أكثر من منظمة من هذا القبيل صفة رسمية، لعل أهمها عضوية المراقب أو المستشار في مختلف هيئات الأمم المتحدة، وفي أطر إقليمية رسمية أو تخصصية أخرى، بل في العلاقة مع الحكومات في أكثر من بلد. وهي بالطبع تختلف عن الجمعيات الخيرية، وإن كانت هذه الأخيرة هي نفسها جزءًا من «المجتمع المدني».

انفجار للظاهرة

ما حدث في العقدين الأخيرين تجاوز الجانب الكمي في هذا المجال إلى بروز مفهوم جديد طاغٍ يفترض أن هذا الشكل من التنظيم هو الإطار النضالي الأمثل أو الأكثر جاذبية للناس وقدرة على تحريكهم، وكذلك على التأثير في السياسات العامة. صحيح أنه حدث تكاثر مذهل في أعداد هذه المنظمات، كبيرها وصغيرها، الدولي منها والمحلي، المتابع لعنوان عام كالحريات المدنية مثلًا أو لقضية تخصصية بذاتها كحماية الصحافيين أو مناهضة العنف ضد النساء، بل تشكلت منظمات تطالب بحقوق محددة مباشرة أو بإلغاء بنود قانونية في بلد بعينه… إلخ، وهي منظمات يمكنها أن تتلاشى عند تحقيق مطلبها. وهناك تنوع في أدوات الظاهرة نفسها. فعلى سبيل المثال، «آفاز» Avaaz وهي الأجدد على الساحة الدولية (2007م) تعرّف نفسها كإطار لنشاط على الإنترنت (أون لاين) يمكنه أن ينظِّم تحركات على الشبكة في قضايا عامة كالمناخ (وهي لعبت دورًا فعليًّا في المفاوضات حول المناخ وشاركت في قمته منذ سنتين ونيف في باريس، وهو دور لم يكتف بتنظيم العرائض المليونية والاستعراضات المميزة في المكان).

وقد مثّل «المنتدى الاجتماعي العالمي» (World Social Forum) الذي ولد في عام 2001م كأكبر تجمع (سنوي بالأصل، ثم صار ينعقد كل سنتين، مع تغيير في أماكن انعقاده، ومع منتديات وسيطة، مكانية أو اختصاصية) لمنظمات المجتمع المدني في العالم، لموازاة هيئة مدنية هي الأخرى، لكن نخبوية، كانت سبقته بثلاثة عقود، هي «المنتدى الاقتصادي العالمي» (World Economic Forum، أو ما يعرف بـ«قمة دافوس» السنوية). وهدف المنتدى الاجتماعي إلى بلورة تعريف آخر للعالمية مناقض لتعريف منتدى دافوس الذي يمثِّل عالم الأعمال وكبرى الشركات، (وإن كان يُعلن أن هدفه هو عقلنة «العولمة»)، فتبنى شعار «هناك عالم آخر ممكن». وتُجسِّد المنظمتان العملاقتان حال العالم اليوم.

كان عقد المنتدى الاجتماعي يمثل محاولة للتجميع بعدما خبا وهج الأحزاب، وذلك للإجابة عن معضلة تجزئة الموضوعات التي تخص منظمات المجتمع المدني -وبالتالي تناثر هذه الموضوعات وفقدانها كثيرًا من عناصر قوتها وتأثيرها- وإن كان المنتدى حافظ على «الأفقية»، من دون قيادة رسمية (على الرغم من الوزن الكبير للنقابات، وهي عماده). تفترِض الأفقية أنها وسيلة لتكريس انعدام الهرمية والبنية التنظيمية التي ترافقها، والالتزام بحرية كل نشاط وهيئة، وبالإدارة الذاتية. ويكتفي المنتدى بإصدار بيان ختامي يمثل التوافق المتحقق حول أكثر الشؤون إلحاحًا في العالم، ويؤكد مبادئ وقناعات ومواقف أريد بها، علاوة على تحقيق التجميع في تلك اللحظة، تعويض نقطة ضعف أخرى (كثيرًا ما اعتُبر أنها تُنْقِص من فعالية عمل منظمات المجتمع المدني وتميّع طبيعة المشكلات التي تتصدى لها)، وهي غياب التصور والتحليل الشاملين، والاكتفاء برصد ظواهر بعينها والقتال حولها بلا سند تحليلي لأصلها وفصلها وقواها وأعدائها ومصالح الأطراف المتصارعة حولها… إلخ. وبالتالي وبالطبع، انعدام المقاربة البرنامجية الموحدة التي كان معتادًا عليها في الأمميات الحزبية.

ولكن تلك «العيوب» و«النواقص» تحديدًا هي من سمات العصر، حيث صارت مختلف البنى هي نفسها سائلة ومعها العلاقات الاجتماعية ومؤسساتها، وصار رأس المال زئبقي، بلا مالك حصري، ولا طبقة شغيلة متمركزة في مكان محدد وحول عملية إنتاجية متسلسلة، بل صار بعضه يقوم على أنشطة تجري من ألفها إلى يائها في العالم الافتراضي.. ولكان الوضع سيكون غريبًا لو بقيت وسائل مواجهة المشكلات الناجمة عن هذا العالم الجديد متحجرة. ومع ذلك، فحين تفشل حراكات أو تواجِه ما لا طاقة لها به، يقال بسرعة: بسبب غياب التنظيم وبسبب غياب البرنامج… إلخ. أي يحدث ارتداد إلى أفكار ومفاهيم وأساليب الحقبة السابقة. وهو ما عِيب على حراكات «الربيع العربي» على سبيل المثال، وقيل إن «حركة 6 إبريل» الشبابية التي (قد تكون) من أطلق شرارة الاحتجاجات في مصر، هي ظاهرة هلامية، وإنها لم تكن تعرف الخطوة التالية ولا كانت قادرة على تأطير الدينامية المنفلتة، وكان من السهل على السلطة -أو «الدولة العميقة» حين انهار الحكم ومعه جهاز السلطة المتين، أي وزارة الداخلية بكل ما تمثل- إرباك الحراك وإبطاله وإفشاله، ما بين قمع واحتواء وتلاعب.

تهمٌ، ما بين الحق والباطل الذي يلتصق به

لمدة طويلة، اتُّهمت هذه الأطر وأفكارها بأنها «سهلة»، يمكن للسلطات وللجهات المعنية بها كافة التعامل معها من دون تشنج، أو حتى تجاهلها لو شاءت، باعتبار أن أساليبها لا تتعدى عادة العرائض أو الوقفات الاعتراضية، وأنها ليست لا جماهيرية ولا خطرة، وأنها تُغلّب ممارسة بعض الضغط أو الـ«لوبيينغ»، وأن إثارة مسألة حقوق الإنسان مثلًا (عمومًا أو بأي من فروعها) قد حلت محل إثارة مسائل التفاوتات الاجتماعية وحقوق أكثر حدة تكشفها هذه التفاوتات. أي أن نشاط جمعيات المجتمع المدني عمومي بما فيه الكفاية في مقارباته، بحيث يُضيّع «العدو» وأصل العطب، بل إنه يشبه المقاربات الخيرية التي لا تستفز أحدًا. ولعل ذلك لم يعد دقيقًا في كثير من الحالات والأماكن على السواء، وبالأخص في بلدان منطقتنا وتلك التي تشبهها، حيث صارت السلطات تتوجس من أي تجمع مطلبي مهما كان لينًا؛ لأن الحدود الفاصلة بين نشاطاته وبين ما هو «سياسي» لم تعد واضحة، ويمكن لبعضه أن يهز استقرار السلطة إن لم يصل بسرعة إلى ما يمكن أن يبدو تهديدًا لها.

وهناك تهم أخرى: سهولة الاحتواء من قبل السلطات بحكم جزئية المطالب، مهما عظمت، وما يبدو أنه منسوب عالٍ من الوصولية، حيث هي أطر يسهل «بروز» محركيها على الساحة العامة من دون كلفة كبيرة ولا مخاطر جمة، ومن دون تناقض مأزوم بين منطلقاتهم ومصايرهم (كما هي حال المناضلين السياسيين، الراديكاليين حتى الإصلاحيين). وكثيرًا ما يشار إلى تجارب انتهت بحمل «أبطالها» إلى مناصب ترضيهم، واعتُبر ذلك وسيلة «للتسلق» («مشروعة» أحيانًا تحت سقف ما يقال له تجاوزًا «المصعد الاجتماعي»، ووجود بنية حركية وليس متخشبة)، أو هي في الوقت نفسه دليل على وجود أصلي للقابلية على استيعاب هؤلاء من قبل أصحاب النفوذ أو السلطة. يبقى ذلك -إلا ما هو متطرف منه- في إطار آليات تبلور النخب الجديدة ضمن منظومة مجتمعية بعينها، وهي هنا آليات لا تعتمد على الوراثة انطلاقًا من العائلة أو على الثروة، ولا على تجدد محصور في هذا الوسط، بل على اختراق لمرتبة النخبة بواسطة أدوات جديدة (في البلدان التي «تحترم نفسها»، غالبًا ما يجري هذا التجديد للنخب بفضل التعليم والاستحقاق).

هذا النمط من التسلق يصح في بلادنا خصوصًا، لكنه يجري في كل مكان، وإن اختلفت الميكانيزمات والأدوات، ما بين تأهل يوفره هذا النوع من النضال للترشح إلى مختلف الأطر التمثيلية، وبالتالي الفوز بالانتخابات (بناء على انحياز لتيار أو لمطالبات)، أو العمل كمستشارين لأصحاب نفوذ «متنورين».. ما لا يعني بالطبع أن جميع أبناء هذه الظاهرة ينطبق عليهم الأمر، فكثير منهم يجدون اليوم أنفسهم في المعتقلات وليس في البرلمان ولا إلى جانب زعيم أو وزير.

هناك أيضًا ما يُلحظ بقوة. إذ تنتهي هذه الأطر إلى تشكيل شريحة اجتماعية «منفصلة» عن المجتمع، ولو أنها تعمل في وسطه. الصفة ترتبط بسؤال التمويل، وهو متشعب: فالجمعيات قد تبدأ تطوعية وذاتية التمويل أو هي تطلب من مؤيدي حركتها ومطلبها إسنادها. ولكنها سريعًا ما تواجه متطلبات تخص العمل نفسه ولا تعود هذه الموارد كافية، فتبحث عمن يمكنه تمويلها، وتجد في طريقها جمعيات أخرى كبيرة، دولية وإقليمية ومختصة، وبعضها تابع لوزارات أو سفارات، وهي جميعًا لديها شروط وضوابط وآليات لاختيار من يستطيع تمويلها. والخطوة التالية هي تفريغ أشخاص من الجمعية حين يُقبل التمويل فيصبحون موظفين ويتكاثرون (كما كان حال المتفرغين الحزبيين الذين يخرجون من أعمالهم ليصبحوا «موظفين في الحزب» ويتحول الحزب، كجهاز أو كمؤسسة، وديمومته ورفاهه… إلخ، إلى مركز تفكيرهم وجهدهم وليس القضية التي يناضل من أجلها، ويصبحون عبئًا إذ يميلون لتأبيد حال بعينها وتجنب النقد والتغيير).

والخطوة الثالثة هي إرضاء ميول الممولين ليستمروا في المنح. والخطوة الرابعة هي التأقلم مع «إعلانات» المانحين، وما يهمهم تمويله، وذلك بغض النظر عن الأولويات التي تعتقد هذا الجمعيات أنها الأكثر إلحاحًا.. وفي نهاية المطاف تصبح هذه الجمعيات أدوات تنفيذية لتلك البرامج المقرة في أماكن أخرى وفق وجهات نظر أصحابها ومصالحهم أيضًا. يحكى (والله أعلم!) عن وجود مئة ألف ناشط وناشطة في هيئات المجتمع المدني الفلسطيني مثلًا في الضفة الغربية وحدها والقدس، وهذه شريحة اجتماعية هائلة الحجم ويسود فيها نمط عيش خاص بها لا علاقة له كثيرًا بحال سائر أبناء المجتمع، وهي تستقطب الأفضل تعليمًا والأذكى والأشطر!

هذه اللوحة قد تفسر تهمة «الارتزاق» الملتصقة بجمعيات المجتمع المدني في منطقتنا، حيث هيئات الرقابة المالية والضوابط ضعيفة للغاية. تليها تهمة خدمة أجندات خارجية.. فيذهب الصالح بجريرة الطالح، ويسهل على السلطات منع كل شيء عبر تحريم الحصول على أي دعم مالي من الخارج، أيًّا كان هذا الخارج.. وهو ما تنوي إسرائيل مثلًا تطبيقه وفق قانون صار إقراره في مراحل متقدمة، بغاية ضبط الجميع تحت سقف سلطتها وإجبارهم على تلقي التمويل من صناديقها المختصة ووزاراتها، وهو قانون سيطول جمعيات فلسطينيي 1948م ومشاريعهم الثقافية والإعلامية، كما المشاريع الإسرائيلية نفسها التي يقوم بها مناهضون لسياسات تل أبيب وكانوا يتجنبون طلب تمويلها لهم.. وهي واحدة من مخططات مكافحة فكرة المقاطعة وحركتها (BDS) وإسكات النقد.

الحراك المدني في لبنان

يلي ذلك قمع كل شيء على أساس مشروعية الارتياب بهؤلاء «الجواسيس» بل معاملتهم بمقتضى ذلك. حتى في بلدان من منطقتنا، كلبنان مثلًا الذي ينخفض فيه بشدة منسوب القمع ويسود تساهل قانوني ورسمي واجتماعي حيال تلك التهم نفسها، وتقاليد من محاكاة الغرب في كثير من الأمور، و«حرية» مجتمعية تتعايش في نطاقها ممارسات يحظرها القانون ويجرد عليها أحيانًا حملات قاسية (كالمجاهرة بالمثلية الجنسية مثلًا التي تسببت أحيانًا في اعتقالات جماعية وفحوص طبية مذلة، في حين تنتشر في الوقت نفسه جمعيات للدفاع عن حقوق المثليين وتنجح في الحصول على أحكام قضائية تعتبر المثلية «ممارسة طبيعية» (حملة تابعتها ورافعت فيها «المفكرة القانونية» مع جمعية «حلم»)، مقدمة تفسيرًا مغايرًا للمادة 534 من قانون العقوبات الذي يعتبر «كل مجامعة على خلاف الطبيعة» جريمة جزائية تؤدي بالمدان فيها إلى الحبس حتى السنة.. وقد صار متداولًا أن المادة القانونية نفسها ستلغى، ولن يُكتفى باعتماد تفسيرها الجديد. كما خاضت «جمعية كفى عنفًا واستغلالًا» (من بين برامج متكاملة ومتنوعة تشمل الأطفال والمستخدمات في البيوت والاتجار بالنساء.. إلخ) حملات ضد العنف اللاحق بالنساء ولمناهضة الأحكام المخففة على مرتكبي ما يقال له «جرائم الشرف». وهي لقيت أصداء إيجابية بشكل عام، مخترِقة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية، وكان ذلك ملحوظًا في التغطية الإعلامية. كما جعلت القضاة أكثر تشددًا في أحكامهم. ولكنها نجحت خصوصًا في تحسيس الرأي العام حيال العنف ضد النساء بكل أشكاله، وهو ما لم يعد يجرؤ الكثيرون على المجاهرة بتبريره أو الاستخفاف به. وهذا يثير نقطة في غاية الأهمية تتعلق بدراسة موضوعة «القناعات العامة» وسيروراتها باعتبارها ليست جامدة، ورصد متى تصادف حملات من ذلك النوع «اللحظة» المناسبة لتُحدِث الانقلاب فيها (وفق قانون فيزيائي في الأصل، يلتقط كيفية انتقال التراكم الكمي إلى التغير النوعي).

كما أن هناك موضوعات أخرى لم تشق الطريق نفسه، مثل حملة «جنسيتي حق لي ولأطفالي» وهي في الأصل إقليمية، تخوضها في لبنان عدة جمعيات. وهي تمكنت من الحصول على وعود انتخابية قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة مايو 2018م، إلا أنها تبدو وقد تبخرت، وعادت المسألة لتدخل في أَتُون الصراعات المذهبية والسياسية، بغض النظر عن المبدأ والحق. بل هناك جمعيات تواجه صعوبات في خوضها لمطالب تبدو بريئة، ولكن تقف خلفها مصالح متنفذين، كما كان حال «حرش بيروت» الذي تَطلّب تأهيله وفتحه معارك كبيرة ومديدة خاضتها جمعيات نشأت لتلك الغاية وساندها خبراء بيئيون ومهندسون… إلخ، ليس بسبب الاستهتار بحق الناس في التنزه فيه (رفاهية فائضة عن الحاجة!!) فحسب، بل كذلك لوجود قضم له أو تعديات عقارية عليه من الخاصة ومن البلدية.. وهناك التعديات على الأملاك البحرية التي لا تنجح الجمعيات في إبطالها، ومنها مثلًا حالة شهيرة هي، كما يبدو، مصادرة لـ«مرفأ الدالية» للصيادين في بيروت لتحويله إلى منتجع سياحي («الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» سَمّت ذلك «نهبًا»).. والأمثلة في هذا المجال (كما في سواه!) لا تحصى.

من يحق له هنا الاهتمام بـ«الشأن العام»؟

الحصول على المعلومات التي تهم منظمات المجتمع المدني لتتمكن من العمل الجدي بحسب ميدانها أصعب في منطقتنا، حيث تُعتبر المعلومة سرًّا ثمينًا غير متاح إلا للخاصة أو لأجهزة الأمن والمخابرات، أو حيث المعلومة غير متوافرة أصلًا بسبب الفوضى العارمة وعدم الهيكلة، والتزوير العمد للواقع، إلا أنه يمكن في نهاية المطاف وعلى الرغم من ذلك، تكوين ملفات عن مسائل مثل الاعتقال أو الإخفاء القسري -وهي الأشد حساسية- أو مسائل الفساد، وإخراجها إلى العلن بفضل الانتشار المهول لوسائل التواصل الاجتماعي ومحدودية قدرة السلطات على الرقابة والملاحقة أو حتى الحجب. وهذا ينطبق على منظمات غير حكومية كبرى ودولية، حتى عندما لا يكون وجودها مجازًا في البلاد، ولكنها تعمل بفضل تقنيات تقاطع المعلومات و«حفر الجبل بالإبرة»، بمهنية بعيدة عن الارتجال والهواية. وتنطبق إلى حد بعيد السمات ذاتها على منظمات محلية عديدة. ونذكر هنا كمثال منظمات مصرية أغلقتها السلطات (إن لم تحلّها أصلًا، وما أكثرها).. منها: «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب» الحائز على سمعة عالمية قوية، وكان يركز على العناية الطبية والنفسية بالذين خضعوا للتعذيب عند اعتقالهم، أو بضحايا ممارسات منتشرة اجتماعيًّا كختان البنات (الذي يُعرِّفه المركز كـ«تشويه للأعضاء التناسلية للإناث»)، وفي هذا السياق، وبسبب التطورات في أوضاع البلد، وجد «النديم» نفسه يُصدر بيانات دورية بمنطق قانوني عن أرقام الضحايا، وهو ما جعل السلطات تعتبره تجاوزًا لصلاحياته التأسيسية، فأجاز لها منعه من العمل وختم مقره بالشمع الأحمر.

والمثال يوضح في حقيقة الأمر الهامش الضئيل المتاح للحفاظ على التعايش بين هذا النمط من التدخل المدني في الشأن العام وبين الممارسة السلطوية. فما أسهل أن تتخذ هذه الأخيرة قرارًا بمنع النشاط أو حتى باعتقال النشطاء وتوجيه تهم مغلّظة لهم، ولا سيما أن فصل السلطات يعاني الأمرّين في بلداننا، واستقلال القضاء معطى مجازي، ولعبة التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ملغاة، وهو ما يعني الانكشاف التام لأنشطة هذه المجموعات، بلا مرجعية حامية أو حتى قدرة على مراجعة قرارات الحكومة. وهو ما يؤدي إلى اختلالٍ مظهره الأساسي سرعة اندراج أي نشاط في «السياسة» بما هي هنا اصطدام بالسلطات وكذلك اندفاع إلى مناهضتها.

وهذا يثير سؤالًا آخر عن مدى إقرار الحكام بوجود حق للناس في الاهتمام بـ«الشأن العام»، بطريقة مستقلة تخصهم في تعريفه واختيار مجالاته وتعيين مطالبهم بخصوصها. افتراض وجود هذا الحق (أو الحرية)، وافتراض أنه يمكن ممارسته بلا خضوع للوصاية السلطوية أو تدخل منها، يتضمن بعض السذاجة. فالمنطق هنا هو أن ذلك يستولد سلطة شعبية موازية أولًا، مهما كان وزنها، ومجموعة ضغط تتوسل تأييد الناس ثانيًا، وهو شكل من أشكل التنظيم حتى لو كان رخوًا. وكم شاهدنا مجموعات تتشكل للاهتمام بمسائل لطيفة وناعمة مثل نظافة الطرقات مثلًا أو أطفال الشوارع، فتجد نفسها مضطرة للبدء من عند رضا الحاكم وإلا شملتها الشبهات. فهل يمكن أن تنشأ فعلًا منظمات مجتمع مدني في ظل سلطات أبوية ووصائية، أو تسلطية وقمعية، وهي على كل حال متعالية أو مذعورة؟ ثم إن الشأن السياسي هو فعلًا جزءٌ من الشأن المدني العام، فما الحدود بين المشروع والممنوع؟ ولعل هذه النقاط هي ما يجعل منظمات المجتمع المدني في أكثر من بلد من منطقتنا (مع ملاحظة التفاوتات، وهي كبيرة) ضعيفة إجمالًا.

قد تُفسِّر هذه الحال بعض أسباب الصعوبة الملحوظة في تحقيق تغيير في التوافقات الاجتماعية أو ما يمكن تسميته القناعات العامة. وهذه ليست مجرد «أفكار»، بل هي ترتبط بالطبع ببنى راسخة كما بمصالح يبدو أصحابها مستعدين لأي شيء من أجل حمايتها. هنا أيضًا، وفي الشروط المذكورة، تبدو المعادلة مختلة لغير صالح المنادين بالتغيير أيًّا كانت درجته أو موضوعاته. لا متنفَّس إذًا.. أليس ذلك أحد أسرار العنف القائم، علنيًّا كان أو كامنًا؟

ماذا يعني انتخاب دونالد ترمب؟

ماذا يعني انتخاب دونالد ترمب؟

نهلة الشهال

نهلة الشهال

قيل: إن هذا الاختيار يُثبت كم أن أميركا ليست مانهاتن أو بروكلين في نيويورك، وقيل كذلك: إنه يثبت عيوب الديمقراطية (وإنْ النسبية)، لكون منافِسة ترمب، هيلاري كلينتون، نالت مليوني صوت أكثر منه، ولكن طريقة هندسة الانتخابات على مرحلتين أفشلتها. وبالطبع قيل: إن كلينتون القاسية والباردة واليمينية إلى درجة مناهضة الإجراءات الأكثر تقدمية للرئيس المغادِر مثل الـــ «أوباما كير» أو التغطية الصحية للأكثر عوزًا. لم تكن بديلًا جذابًا بشكل كافٍ ولا نقيضًا بالطبع إذا ما قورنت بباراك أوباما. وتذكّر الجميع أن رئيس الجمهورية، حتى في نظام رئاسي كما الولايات المتحدة، يبقى محدود الصلاحيات، ليس فحسب لاضطراره لمراعاة متطلبات وتوازنات عديدة وإرضائها، بل لأن الحاكم الفعلي هو الدولة العميقة، أي تلك المؤسسات السياسية والدبلوماسية والترستات المالية والصناعية والعسكرية التي لا يمكن للفريق الحاكم التحكم بها تمامًا ومهما كان؛ لأنها نُسجت على مر السنين والعقود، كشبكات صلبة متغلغلة. ورُدد بشيء من التعالم أن «الرئيس هو بالضرورة مختلف عن المرشح»، لتهدئة الصدمة وجعلها ملساء، وهي حكمة تصلح لكل زمان ومكان، لكونها مرتبطة بتعريف ممارسة السلطة. لكن كل ذلك، على صحته، يبقى بديهيات ابتدائية.

ومن جهة أخرى، يمكن ولو بصعوبة، التحرر من الابتذال المقيت الذي يجسده شخص دونالد ترمب، ولا سيما حين كان يخوض غمار معركته الانتخابية، كما يمكن التحرر من الاندهاش المتكرر حيال اختياراته لفريقه، المصبوغة بتعيين الرجال البيض، المسنين نسبيًّا، والأكثر تطرفًا في اليمينية من بين السياسيين الأميركيين، كستيف بانون، أول من سمّى بعيد انتخابه، كمسؤول الإستراتيجية (منصب جديد) وكناصحه الأول. وهو المدير السابق لوكالة الأنباء «بريتبارت» التي تقع في أقصى هذا التيار، وتمتاز من بين أشياء أخرى، بكونها تُعبِّر عن أفكار شديدة الصهيونية ولو أنها، وفي الوقت نفسه، معادية للسامية (والموقفان ليسا متناقضين). وبانون ذاك يقول عن نفسه: إنه لينيني؛ لأن هدفه هو «تدمير الدولة وكل المؤسسات القائمة اليوم». وقد حاول ترمب تمويه ذكوريته البدائية وعنصريته البيضاء بتعيين نيكي هالي، السيدة الشابة من أصول هندية مهاجرة، سفيرة في الأمم المتحدة، وكانت من أشد معارضيه في الحزب الجمهوري، وبتسي ديفوس، امرأة الأعمال المليارديرة البيضاء والمنتمية للجناح الأكثر تقليدية ومحافَظة في الحزب الجمهوري، وزيرة للتربية، وهو بالطبع موقع حساس للغاية. لكن كل ذلك، على بشاعته، يبقى متوقعًا!

ذلك أن اختيار ترمب، الذي بدا ترشحه كمزحة ثقيلة الدم في البداية، يقول الكثير عن حالة العالم وليس فحسب عن الولايات المتحدة. ترمب معجب بنيكسون الذي لم يعد يُذْكر منه سوى فضيحة ووترغيت (التي انتهت بالإطاحة به في عام 1974م بعد إعادة انتخابه في عام 1972م، وهي تتعلق بنصب سماعات تجسس في مقر غريمه من الحزب الديمقراطي، ولو حدثت اليوم لكانت على الأرجح لا تطيح بأحد!). نيكسون ذاك كان يتبنى شعارًا في أثناء حملته الانتخابية الصعبة الأولى في عام 1968م، بعد قانون الحقوق المدنية عام 1964م الذي ألغى التمييز القانوني ضد السود، وأدخلهم كفاعل يُحسب حسابه في توازنات البلاد السياسية. أعاد ترمب تبني الشعار علانية، قائلا عن نفسه: إنه مرشح القانون والنظام، معتبِرًا أن «البلاد تحتاج لرجل قوي لحمايتها وقيادتها في ظل الفوضى»، كما قال نيكسون في زمانه. ما يُذكِّر، على الرغم من الفروقات الأيديولوجية والظروف، بنظرية إدارة التوحش التي قدّمت بها حركة داعش نفسها!

فوضى العالم اليوم

ليس تفصيلًا أن يتخلص ترمب من مرجعية ريغان، أبي الليبرالية القصوى في الاقتصاد، والبوريتانية في الاجتماع، وعراب العولمة بوصفها نيوليبرالية السوق على مستوى العالم، وبوصفها تجديدًا لشباب النُّظْمة الرأسمالية (System)، تمامًا كما كانت تاتشر عرابتها. تاتشر تلك التي تُدفَن اليوم مع الـــــــ«بريكسيت» في بريطانيا، فيما يسود الجنوح إلى الانعزال والتقوقع وتعزيز الانتماء الهوياتي في السياسة، والحمائية الجمركية في الاقتصاد. أي كل ما يخالف ما بُني على مدى نصف قرن، منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت، كأيديولوجيا فكرية وقيمية مُهيمِنة (مع العالم قرية واحدة بحجة ثورة الاتصالات)، وكبحث عن التوضعات المالية (رأس المال المالي بكتلته الهائلة، العابر للقارات والمعتمد على المضاربات بكل صنوفها)، وعن الإنتاجية المربحة في الصناعة بغض النظر عن التوطين والأوطان، وهو ما جعل الصين مصنع العالم، وأدى إلى موجات إفلاس للمصانع في الولايات المتحدة وأوربا العجوز. لم تعد نهاية التاريخ هي صرخة النصر، مع انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي.

يعني ذلك أن مرحلة العولمة انتهت، ومعها فكرة الإمبراطورية الشاملة. فقد خلصت هذه العولمة إلى التسبب بأذية الرجل الغربي الأبيض، وأطاحت به إلى البطالة أو العمل الهش. والكتلة الأساسية مِمَن ليسوا في قمة الهرم الاقتصادي الذي ما زال مزدهرًا، سواء في قطاعات التقنية الجديدة أو في التوظيفات المالية (التي تقلصت بعدما عرفت أزمتها المزلزلة في عام 2008م)، يرون أمامهم أشباح روايات جون شتنبيك حتى تشارلز ديكنز تعود إلى الأفق. وهذا تغيير في شروط حياتهم، وفي تصوراتهم عن أنفسهم، يطال قرنين من الزمان، ويطال معه مؤسسات اختُرعت لتلائم فرضيات التفوق والسيطرة والازدهار.

من المواقف الأكثر تعبيرًا عن اللحظة (بمعناها التاريخي)، أن يدافع رئيس الصين (التي ما زالت تقول عن نفسها شيوعية!) عن اتفاق التبادل التجاري الحر في الباسيفيكي TPP الموقع في عام 2015م مع الولايات المتحدة، ويخص 12 بلدًا في منطقة آسيا-الباسيفيكي، فيما يُعلن ترمب بتسرع، وقبل تسلمه منصبه، أنه ينوي إلغاءه كما وعد في أثناء حملته الانتخابية. بل يمعن الرئيس الصيني بمناشدة ترمب بعدم الانغلاق، ويؤكد أن بلاده تتبنى مزيدًا من الانفتاح. ثم تقترح الصين اتفاقًا بديلًا للتبادل الحر (RCEP) بين عشر دول أعضاء في تحالف آسيان وست أخرى، منها الصين نفسها واليابان. ويستثني المشروع المقترح الولايات المتحدة الأميركية.

أعداء الرجل الأبيض

يشخصن ترمب في المكسيكيين أعداء الرجل الأبيض المتوسط الخائف، أو ذاك الذي بات فقيرًا وحتى من غير سقف يؤويه، ومن غير عمل. وهؤلاء تعاظمت أعدادهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع قطع المساعدات الاجتماعية في ظل حكم رونالد ريغان وأبوته للنيوليبرالية، ثم قفزت ثلاثة أضعاف منذ عام 2008م، لتصبح أرقامًا مرعبة. نسبة البطالة الفعلية بحسب الدراسات الاقتصادية تلامس 23% ممن هم في سن العمل في عام 2015م، وقد تصل إلى 94 مليون إنسان (من أصل نحو 320 مليونًا)، مع أن الأرقام الرسمية ما زالت تضعها بحدود 7.4%، وهناك للمدة نفسها 3.5 إنسان بلا مأوى، والجديد منذ مطلع الألفية الثالثة أن عدد العائلات – أي مع أطفال – بلا مأوى قد تعاظم، على حين أن الرقم الرسمي يحددهم بأقل من ثلاثة أرباع المليون. وهذا يطرح إشكالية التزوير الذي تمارسه الأرقام الرسمية، ولكنه تزوير قابل للاكتشاف لكثرة أعداد مراكز الإحصاء الرسمية كذلك، ولكن المتخصصة بمجالات بعينها، مثل مكتب إحصاء العمل BLS ، أو التقرير السنوي عن عدد المشردين، وكذلك مراكز الأبحاث الجادة. وقد ارتفعت نسبة من هم من البيض الفقراء، ويبقى السود هم السكان الأكثر فقرًا. كما أن بين العاطلين عن العمل أو المشردين بلا مأوى نسبة قليلة جدًّا من المقيمين غير النظاميين. ومن المعلوم أنه بحلول عام 2050م سيصبح البيض أقل عددًا من السود بين السكان، وهذا مصدر آخر للخوف والتصلب المتعاظمين.

ويَعِد ترمب بحجز المكسيكيين داخل بلادهم بواسطة سور كبير، وبطرد 12 مليون مقيم غير شرعي. ولكنه يعرف، أو أن مستشاريه يعرفون، أن تلك صورة غير حقيقية عن الواقع. تمامًا كما يعرف ممثلو التيارات اليمينية المتطرفة في أوربا كلها أن من يخطف خبز العمال والكسبة الصغار من فم الرجال البيض الأصليين ليس البولوني المهاجر إلى بريطانيا، أو المغربي أو الإفريقي المهاجر إلى فرنسا، وكذلك ليسوا أبناء الهجرات الأخيرة من اللاجئين بسبب الحروب أو الخراب البيئي لبلادهم. وأن تعيين المشكلة على هذا النحو يتناول جزءًا صغيرًا منها فحسب، وأنه تجارة ديماغوغية شعبوية، إلى آخر الصفات. وأن غلق الحدود، سواء بال«بريكسيت» أو بسواه قد يطيح بالاتحاد الأوربي مثلًا، وبكل المؤسسات التي بُنيت في هذا الإطار المشترك (ما لا ينفي أنها مؤسسات بيروقراطية ومتعالية على شعوبها ومليئة بالعيوب). كما أن غلق حدود الولايات المتحدة كما يتصوره ترمب يمكنه الإطاحة بالبنك وصندوق النقد الدوليين، وبكل ما نتج عن اتفاقيات بريتون وودز في عام 1944م مع بدء انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبروز الولايات المتحدة كالقوة الغربية الأولى عالميًّا على حساب أوربا، وهي الاتفاقيات التي جعلت من الدولار مذّاك الوقت العملة المرجعية في العالم.

ترمب ونحن

ولكن ماذا عن قضايا المنطقة العربية؟ وعلى الأخص مع تركز كل الصلاحيات في يد الحزب الجمهوري، من الكونغرس بمجلسيه، إلى المحكمة العليا التي ينوي ترمب تعيين القضاة الأكثر رجعية فيها. وكل هذا يجعل إمكان عرقلته أضعف، على الرغم من وجود كثير من المعارضين له في حزبه، ممن يخشون نتائج جموحه.

صحيح أن الرجل زئبقي (يقول المهذبون: غير قابل للتوقع) وجاهل، ولكن ما قاله أو فعله حتى الآن يعطي مؤشرات. فهو ينوي، بحسب تصريحاته، نقل سفارة بلاده إلى القدس، فتكون واشنطن أول دولة في العالم تعترف بها عاصمة لإسرائيل، بحسب رغبة قادتها اليوم. ويكون في ذلك مخالفة للقرارات الدولية في الشأن. كما ينوي ترمب الاعتراف بضم المستوطنات إلى إسرائيل على أساس أنه يرى أن حل الدولتين مستحيل، ويرفض استخدام صفة دولة مُحتلَّة بشأنها ويعده مفهومًا خاطئًا. وهو أكثر قربًا من الطَموح نفتالي بينيت، وزير التربية الحالي ورئيس إسرائيل بيتنا، والممثل الأبرز لكتلة المستوطنين، الذي جعل من نتنياهو يبدو معتدلًا بالمقارنة! وهذا الأخير يبدو قلقًا من تسلّم ترمب الرئاسة، لقربه من غريمه الصاعد ذاك، ولأنه كان يُفضِّل عليه كلينتون التي لا يشك في وفائها لإسرائيل ويعرفها جيدًا جدًّا، ويعرف كذلك مقدار استعدادها لإظهار قوة الولايات المتحدة (بما فيها تلك العسكرية) في كل مكان.

وترمب يتبادل الإعجاب مع بوتين، ويرى أنه ينبغي نسج علاقات جيدة مع روسيا، وذلك كجزء من مفهومه المبسَّط عن الصراعات في العالم، وكذلك كجزء من ميله للتقوقع والانسحاب من الميادين التي لا يرى فيها فائدة، بعكس موقفه مثلًا من الصين التي يعدها الخطر الأكبر على بلاده، وبعكس كلينتون التي هددت باستخدام القوة العسكرية مع روسيا لو لزم الأمر، سواء حيال ملفي جورجيا وأوكرانيا المشتعلين، أو حتى حيال الملف السوري الذي يشهد حضورًا عسكريًّا وسياسيًّا روسيًّا حاسمًا. ويريد ترمب إلغاء الاتفاق النووي المبرم مع إيران، مع ما يعنيه ذلك من رفع منسوب التوتر والصراع معها، ودفعها للعودة إلى سياسة أكثر عدوانية. ولكن زئبقية الرجل تجعل من المتوقع منه كذلك أن ينسحب من المنطقة ويتركها بالتالي ساحة مفتوحة أمام روسيا وإيران!

وقد عين ترمب مايكل فلين مستشاره القومي لشؤون الأمن، وهو الجنرال المشهور باستخفافه بالانضباط والمتباهي بتلك الصفة، (وكان يحلو له نعت نفسه ورئيسه أيام العراق، الجنرال ماك كريستل بالأزعرين الإيرلنديين، بالنظر إلى أصولهما). وقد كان الأخير قائد وحدة سرية في الجيش الأميركي، القيادة المشتركة للعمليات الخاصة (JSOC) في أفغانستان والعراق، وصرفه أوباما في 2010م بسبب سخريته العلنية في الصحف من أعضاء في الفريق الحاكم. وبرز فلين ضابط استخبارات لامعًا، وزاد طرق عمل تلك الهيئة، فضاعف التجسس والخطف والاغتيالات لمن يرى فيهم «إرهابيين» أو مقاتلين معادين في مناطق الحروب. وقد عُين في عام 2012م لإدارة وكالة الاستخبارات التابعة للبنتاغون، لكنه أقيل في عام 2014م بسبب «أسلوبه في الإدارة» الذي نُعت بالمزعج أو المثير للاضطراب. ولكن فلين يمتلك خصوصًا نظريته عن الحرب العالمية التي تخوضها بلاده ضد «الإسلاميين» الذين يرى فيهم سرطانًا مستشريـًا حتى في الولايات المتحدة، يجب استئصاله أينما كان وبالقوة، ويعتقد لذلك بضرورة التحالف مع روسيا ضدهم. وهو اليوم يتسلم أعلى منصب في المجال العسكري.

وإزاء فلين، يشحب تمامًا وليد فارس، مستشار ترمب الآخر الذي عينه لشؤون الإرهاب. وفارس لبناني الأصل وأحد قادة ميليشيا القوات اللبنانية حتى مغادرته إلى الولايات المتحدة في عام 1990م، وتحوله إلى خبير وأكاديمي، وإلى أحد مراجع فوكس نيوز بخصوص الشرق الأوسط والإسلام.

وأخيرًا وليس آخرًا، فترمب، يرى (ربما كرجل أعمال!) أن على الدول الحليفة التي تحميها الولايات المتحدة أن تُقدِّر ذلك، وتدفع مالًا مقابل الحماية فتكون بهذا العلاقات متوازنة وباتجاهين، وأنها لو لم تفعل فسيتركها تتدبر أمرها بنفسها. ويخص بالذكر دول أوربا الغربية وحلف شمال الأطلسي، وآسيا، ودول الخليج، والعراق! وهو يقول: إنه لن يرسل قوات أميركية إلى الخارج إلا عند الضرورة القصوى، ولكن ذلك سيكون بغاية النصر. فهو رجل قوي، ويريد استعادة عظمة أميركا، وهي تندرج عنده كأولوية مطلقة، كما يجعل أمن الأميركيين أولوية.

وهمان عقيمان

خلاصة.. وهي مؤقتة بالضرورة، فكل تلك المجالات ستستمر في الاتضاح قبل 20 كانون الثاني/ يناير موعد دخول ترمب إلى البيت الأبيض، ثم بعد ذلك خلال الممارسة. ولكن ذلك لا يمنع النظر إلى أبعد من الوقائع (وبعضها عنيف وبعضها الآخر ساذج).

وبالعودة إلى تقويم معنى اختيار ترمب لرئاسة أميركا ودلالاته (كما بريكسيت، وكما أمثلة أخرى في أكثر من بلد من أوربا وقعت أو يُتوقع وقوعها)، فما يبدو جليًّا هو أن آفاق التحرر والعصرنة التي رُبِطت في الوعي السائد بعالم المال، تنهار، في مقابل نداءات العودة إلى ماضٍ غائم، والحلم بالأمم القديمة. لقد اصطدمت العولمة كما مورست بحدودها، وانتهى بها المطاف إلى إنتاج نقائضها: انهيار عالم الصناعة في مواطنها الأصلية (حيث ديترويت مثلًا في الولايات المتحدة، وهي رمز صناعة السيارات الأميركية، تكاد تصبح مدينة أشباح). ويدعو ترمب إلى العودة المكثفة لاستخراج الفحم كمادة للطاقة (ومعه النفط الصخري)، بغض النظر عن اغتيال الطبيعة بالتلوث. لقد وصل الأمر إلى حد تهديد الوجود البشري نفسه على الأرض، وبخطا متسارعة، على حين أن الأيديولوجيا السائدة تبحث عن وسائل توفير أعلى معدلات للربح في ظل التنافس المنفلت من عقاله، بغض النظر عن الأثمان المدفوعة، أو تميل بالمقابل إلى الانسحاب من السوق العالمية التي أنشأتها هي نفسها، والانطواء، انطلاقًا من الفرضية الوهمية القائمة على استعادة السيطرة (يقول هؤلاء المحافظون من نمط جديد الصاعدون: استعادة السيادة الوطنية!) على مجالاتها الحيوية بما فيها تلك الخاصة بالإنتاج، التي عَصفت بها رياح العولمة النيوليبرالية.

سيضطر عشرات ملايين البنغاليين إلى ترك سهولهم الواطئة خلال السنوات القليلة المقبلة لأن المياه ستغمرها، على حين يعين ترمب مايرون إيبل، وهو من أبرز من يُطلَق عليه منكرو الأزمة البيئية على رأس وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA). وسيصبح هؤلاء البنغاليون مهاجرين بيئيين مثلهم مثل من يتركون قراهم في إفريقيا (مثلًا، وفي غيرها كذلك) بسبب التصحر، أو بعدما استولت على أراضيهم شركات عابرة للجنسيات، بحجة استئجارها واستصلاحها. وهو ما يحدث بالتواطؤ مع حكام محليين خاضعين تمامًا لسطوة تلك الشركات والدول الكبرى التي تدللها، وفاسدين حتى النخاع. ويجري تحويل الزراعات إلى نمط ممكن يقرر بحسب حاجات التجارة العالمية، ولا علاقة له بتوفير الغذاء للسكان (لا المحليين ولا المجاورين)، وإنما مهندس لتلبية تسيير عجلة الصناعات الغذائية المعلّبة أو منتجات أخرى متنوعة، تتم في مكان آخر تمامًا من الكرة الأرضية، معززًا بذلك سطوة رأس المال المالي الطائرة، والذي راحت تضيق به الكرة الأرضية برمتها، ويقف، هو الآخر أمام حدود الممكن، ويبدأ بالتهام ذيله.