«كلايمت فيكشن» نوع أدبي جديد…  محوره المناخ والتغيرات البيئية

«كلايمت فيكشن» نوع أدبي جديد… محوره المناخ والتغيرات البيئية

عندما قرُب موعد صدور روايتها الجديدة خطر ببال الروائية الدنماركية شارلوته فايتزه أمر مهم جدًّا، فاتها أن تسأل محررها عنه، فاتصلت به في الحال لتسأله عن نوعية الورق الذي ستُطبع عليه روايتُها التي حملت العنوان: «ما هو مقيت»، إنْ كانت عجينة الورق لكتابها من أشجار مجازة القطع، وإلا سيكون كل ما كتبته مداهنةً ونفاقًا! إنها قلقة بشأن ذوبان الجليد في القارة القطبية، وارتفاع منسوب مياه البحار. وروايتها التي صدرت حديثًا تقع في صنف الرواية الذي يدعى «كلاي فاي» مختصر «كلايمت فيكشن»، وهو الأدب الذي يدور محوره حول المناخ والتغيرات البيئية، وهو صنف حديث تم اشتقاقه على غرار روايات الخيال العلمي «ساي فاي» مختصر «ساينس فيكشن».

والروائية فايتزه كانت من أول الحاصلين على منحة الإقامة الممولة من منظمة «الكلمة الحرة لندن» المخصصة لتقديم الدعم للمهتمين بشؤون البيئة من الباحثين والكتاب الذين يدرسون كيفية معالجة هذه القضايا عبر الفن والأدب، وقد صدرت الرواية بعد سلسلة من البحوث التي أجرتها، والمعارض التي زارتها، والمقابلات التي خصت مشروع «أزمة المناخ».

كان صوتها ناعمًا قلقًا وهي تتحدث في المقابلة عن هواجسها، لدرجة تشعر خلالها بالحيرة، ولا شك أن الأسباب تعود لتلك الفوارق في انشغالات كتابنا عنها في هذه البقعة من الأرض. وهذا لا يعني انحسار الأصناف الأخرى، ولكن لأن مصطلح «كلاي فاي» أخذ يتردد كثيرًا في السنوات الأخيرة، ما يضطرك إلى الإحساس أولًا بالتخلي عن مسؤوليتك إزاء هذا الكوكب، هل تمسّنا حقًّا العناوين التي تتصدر عشرات المقالات والبحوث حول حرارة الأرض التي جعلناها متقلبة بشكل متطرف دون أن ندرك أنها من فعل الإنسان! ولعل أحدنا سيقول مدافعًا عن نفسه: تكفينا همومنا من الحروب والقمع والنزوح واللجوء والأنظمة القمعية لننشغل عنها أو لنوثقها أو نوظفها في أعمال إبداعية، ومن ناحية أخرى ألا نشعر حقيقة بالعجز إزاء هذه التحولات، وما الذي يمكن فعله؟

ضد الأدب السياسي

historien-am-detheleولكننا نكتشف أن موضوع البيئة والمناخ الذي احتل هذه المساحة في الأدب اليوم، لا يمكن إبعاده عن السياسة، إن أتينا على ذكر خلفيات كل هذه التغيرات! وإن لم تصل احتجاجاتنا بشتى الوسائل إلى أصحاب القرارات في العالم لن نستطيع إنقاذ أنفسنا. الكتابة في هذا المجال ليست سهلة كما تذكر فايتزه، كما أن الإيمان بها شرط لا يمكن مناقشته على الصعيد الشخصي، وإن كانت القرارات صعبة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، تذكر فايتزه: إن كنت تريد أن تستخدم الخلايا الشمسية في بيتك كسلوك أخضر يحافظ على البيئة، عليك بالعمل بالطبع فهي مكلفة، وهل يمكنك الاستغناء عن سيارتك إن كان مكان عملك بعيدًا؟ وإن اضطررت إلى ذلك فستساهم بالتالي في زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو.

هذا مثال بسيط على التوازنات التي علينا أخذها في الحسبان لنؤدي الدور الذي يقع علينا في كل هذا. والأصعب -كما تقول- هو في توظيف كل هذه الأفكار والمعلومات والإحصائيات أدبيًّا. ولكنها تهدف مع ذلك إلى استخدام الفن للتحريض والتنبيه، ولكنها ضد الأدب السياسي الذي يعود إلى حقبة السبعينيات. 

هذا ما يؤكده الشاعر الدنماركي المتمرد وعازف الساكسفون لارس سكيناباك الذي رفض بالمقابل تسمية ما يكتبه بالشعر السياسي كتعريف، على رغم أن ما يكتبه يشير إلى فعل سياسي. عندما يخيب السياسيون آمالنا على الشعراء أن يتقدموا، وأن يدعموا من خلال نصوصهم القارئَ ليكون فاعلًا، ذلك هو ما فعله سكيناباك حين أصدر قبل بضع سنوات مجموعة شعرية «04-09» أسماها بطبعتها الأولى «تمارين ونصوص طقسية» وكتبها بخط يده، وصدرت بطبعة أولى محدودة تفرض على مشتري الكتاب -وفق شبه ميثاق- ألا يفكر فيما ينفقه خمسة أيام سوى بـ»البيئة، والمناخ، والفقر، والنزعة الاستهلاكية، والثروات المُهْدَرة». يقول في لقاء له في صحيفة «الإنفورمشيون»: الشاعر الذي لا يتناول خطر التغيرات في المناخ حاليًّا شأنه شأن من يعزفون والباخرة تغرق. إن الوقت قصير جدًّا لتلافي التدهور السريع الذي أخذ يدمر حياة شعوب بأكملها. وهو يميل إلى تسمية شعره بـ»التظاهري» بديلًا للشعر السياسي، وهو المصطلح الذي أطلقه ناقد سويدي على نتاجه الشعري.

يقول: إنه لا يتوقع أن يغير العالم من خلال ربما 30 مشتريًا لن يستهلكوا شيئًا خلال خمسة أيام، «ولكني أشير إلى الاحتمالية التي تكمن في فن سياسي مباشر».

كسر احتكار الرجل

%d8%b4%d8%a7%d8%b1%d9%84%d9%88%d8%aa%d9%87-%d9%81%d8%a7%d9%8a%d8%aa%d8%b2%d9%87

شارلوته فايتزه

كما استعرضنا المثالين السابقين يدفعنا الموضوع إلى تناول أعمال أخرى تصب في هذا المجال؛ إذ إن «بولاك: اسم مشروع دنماركي جديد يجري العمل فيه» يؤكد هو أيضًا أن السياسة والأدب يظهران مترافقين في كثير من الأحيان. «بولاك» معني في البحث في موضوعه بمنطقة القطب الشمالي من خمس كاتبات دنماركيات محترفات في مقتبل أعمارهن، نتاجهن جاد وظلهن خفيف. سينطلقن في صيف العام 2016م ليكتشفن هذا المكان الأسطوري المتخيل في جانب منه، سيبحثن في سر الصراع المستفحل الآن بين الدول العظمى: كندا، وأميركا، وروسيا، حول الحدود التي تطالب كل دولة بها، وبعد أن قدمت الدنمارك مؤخرًا طلبًا أيضًا في حقها بالقاع تحت القطب! سيقفزن، ينبطحن، يغنين ويصورن، لا شيء مستبعد. الخطة أن يصدر كتاب أدبي شعري، وفلم ومعرض فوتوغرافي عند انتهاء البحث الذي اختلفت دوافعه؛ فجزء منه ينطلق من وعيهن المشترك بأهمية هذه الثيمة، ولاسيما أن كلًّا منهن قد سبق أن كان لها نتاج بهذا الخصوص، وجزء آخر من هذا المشروع هو في كسر احتكار الرجل لمجال البحث الوعر، ومن ثم الكتابة أدبيًّا عنه وبقلم نسائي.

أما الكاتب النرويجي الأصل كيم لاينه الذي درس في الدنمارك، وعمل في غرين لاند، وعاد بعدها ليستقر في الدنمارك، فستصدر له رواية دنماركية جديدة بعنوان «الأرِقون» تتحدث بدورها أيضًا عن التغيرات المناخية، وهي من الخيال العلمي أيضًا وتدور أحداثها في غرين لاند (بلدٌ مُنح الحكمَ الذاتي من الدنمارك، وهو يقع بين القطب الشمالي والمحيط الأطلنطي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي). وتتحدث الرواية عن المستقبل القريب للبلد الذي يغمره الضوء الأبدي حين لا تغيب الشمس إطلاقًا، فلا يستطيع الناس النوم حين يقتحم بيوتهم وأعينهم، ويحول دون خلودهم للراحة فيمرضون، يدورون ويعملون، وفي المقابل هم بشوق إلى الليل والنوم، يذوب الثلج وتختفي الزلاجات، وتتغير بالتالي طبيعة الحياة المميزة إجمالًا في تلك البقعة من الأرض!

ولأن ربطنا الفن بالسياسة والبيئة في المجتمعات المتطورة التي تكاد النزعة الاستهلاكية والمادية تجففها تمامًا، فلا بد للعلم من كلمة هنا. «القصة بأكملها، سرديات عن السحر والعِلم» كتاب صدر حديثًا أيضًا، وهو ثمرة تعاون على مدى أربعة أعوام بين الشاعر والموسيقيّ كريستيان ليت من فرقة «وليم بليك»، والعالم الدنماركي البروفيسور إيسكي ويلارسليف المعروف عالميًّا بتخصصه في علم الـ«دي إن أي». يدور الكتاب في بحثه حول الحدود ما بين العلم وكل ما لا يمكن وزنه أو قياسه: هل بإمكان عالِمٍ أن يُقرّ بوجود قوة غيبية ما قد تحرّك جبلاً؟! هذا أحد الجوانب التي تناولها الكتاب، وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات التي دارت حول البعد الروحي في الثقافة الدنماركية، والعلاقة بين العلم والجانب الروحي في الحياة عبر تاريخ البشرية، كما يعرج كذلك على السياسة الحالية في العالم.

ويلارسليف جريء في إعلان إيمانه بوجود الله أو «شيء ما رباني في الأعلى»، مراجعه الداروينية تؤكد أنه لو كان احتياج البشر الروحي بلا قيمة لقضت نظرية التطور على التعصب والتزمُّت منذ زمن بعيد. من ناحية ثانية يرى الشاعر ليت أن الدنماركيين –على خلاف ما يعتقدون- ليسوا بعلمانيين، والكثير من منطلقاتهم عقائدية وبروتستانتية، كما أن المتطرفين من بين المسلمين وغيرهم من الذين ننتقدهم ونريد لهم أن يتبنوا الصورة التي نحن عليها، «نحن كمجتمع متفقون على أن ما يسمى البعد الروحي لا قيمة له، نحن نسعى لكي ننفصل عن الروحانية لأنها تذكرنا بقصص حقيقية مرعبة تم استخدامها من رجال الدين على مر التاريخ، وهو ما أدى إلى أننا لا نتحدث عن شيء آخر سوى المادية أو الأرقام؛ لأنها الحقيقة الوحيدة لدينا. نحن نظن أننا لا نقوى على مواجهة المادية، وبالتالي نعتمد سياسة الضرورة، ولكنه موضع اخترناه بأنفسنا؛ لأننا نظن أننا ما بعد أيديولوجيين، نظن أننا تجاوزنا عصر الحكايات ولا يمكننا لهذا أن نتحدث بلغة غير لغة المعلوماتية».

أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي البعيد

أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي البعيد

البصرة-٤ليس هناك من خيار على الدوام في القرار. وهي لم تكن هجرة ومصطلح «المغتربين» جاء لاحقًا. حين وجد أبي نفسه مرغمًا على ترك العراق في عام 1979م من ضمن المئات والآلاف الذين لاحقتهم سلطة البعث، ولم تترك للكثير منهم فرصة حتى لتوديع أحبتهم اختار أبي الكويت. إنها على الحدود، قريبًا من مدينته البصرة، المسافة قصيرة، والمشوار لا يتجاوز الساعتين. فكر حينها أن الأمر لن يتعدى ربما شهورًا ويعود، والوعد الذي كان يردده يوميًّا بالنوم على سطح البيت من جديد، دام لأكثر من ثلاثين سنة. طبيعة المناخ في الكويت لا تسمح بتحقق الحلم البسيط، (ولا أظنها تسمح اليوم في العراق كذلك). ولم يكن هناك من خيار في مواصلة الرحلة من مكان إلى آخر حتى الاستقرار في دولة من دول المنفى.

عشرات النصوص والأغاني والجلسات التي جمعت الفنانين والرسامين والأدباء كلها كانت تبكي الوطن. كل ذلك اختلف اليوم فقد وجدنا أنفسنا بحاجة إلى تعريف جديد لأنفسنا. ذلك الحلم البعيد تحقق ولكن ما الذي تغير، ذلك التوق والشعور بالنفي وفكرة الحرمان من الوطن صار محض اختيار الآن ولكن… حدث خلل عظيم في واقع الأمة بغالبها، والتجارب تعددت وتباينت من شخص لآخر، ومن عائلة لأخرى، على اختلاف المنابت والأديان والمذاهب واهتمامات دول العالم الكبرى بنا. ما الوطن؟ ما الانتماء؟ وجلدك هل تسلخه لتتجدد وتنفض عنك ما تكلس وسكن القمل بين حراشفه، أم تحافظ عليه لئلا تفقد توازنك وتتهاوى في مكانك؟

البصرة-١السياسة تسري في عروقنا

اختلفنا فيما بيننا؛ كاتبات وكتّاب، اكتشفنا أن السياسة تسري في عروقنا، وصرنا متخصصي تحليل جغرافي سياسي اجتماعي إثني سيكولوجي. مع دخول الأميركان أو ضده، مع المحور الروسي أو ضده، ولاية الفقيه والتكنوقراط، والتوقيع على عشرات البيانات، والانضمام إلى عشرات المنظمات، والمشاركة في التظاهرات. انفجار في المحطات الفضائية والصحف الإلكترونية، ومن ثم حلّت سيول وسائل التواصل الاجتماعي حتى أغرقتنا تمامًا في وحول التطرف والتخوين والتقسيمات. انتشرت الأمراض، وصرنا بانتظار اكتشاف لقاح يقضي على وباء نشعر بعجز تام عن مقاومته.

رحنا نكتب عشرات الصفحات في تأملنا لتلك البقعة من مكاننا في المنفى، بعضنا تمرد على مرجعياته، والآخر واصل على خطاها. الأدب كان الوعاء الذي احتوى نزفنا، وقيحنا، ودموعنا؛ امتزج كل ذلك بخيوط من مرابع الطفولة ونقائها؛ نخيل، وأنهر، وأسماك، وصديقات، وأصدقاء، وجارات، وجدات. إنها بكل ما فيها بمنزلة لحظات صفاء نادرة، مراجعة وتوثيق إنساني حقيقي لزمن متسارع غريب، لا يمكن اللحاق بإيقاعه مع كل المتغيرات التي تحدث خلاله. الأدب هو المرآة والآلة الصادقة لتسجيل ما مررنا به، وما زلنا نمر به.

البصرة-٢من أنا؟

وأنا ما الذي حاولت قوله في كل ما كتبت؟ أين كنت حين كتبت ما كتبته؟ من أنا؟ الكاتب الروائي العراقي والباحث سلام عبود يرى أني «أنظر إلى المنفى المزمن من بصراي التي لم أفارقها قط»، والكاتب والقاص العراقي محمد خضير يراني «أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي البعيد». في المنفى تصدعت الصور، وذهبت بجزء كبير من براءتنا، ولكنها يقظة لا بد منها لنقع على الخلل المشترك الذي نشكو منه. يدٌ تضرب على يد بجسدٍ واحد، أذنٌ تكذب أذنًا في ذات الجسد، عين ترى الجمال، وأخرى ترى الزيف لا غيره، والقلب موزع، يواصل في جسد، ويعلن اعتزاله في آخر. ولكني كما الحياة التي تبدأ بحلم أود أن أختم بحلم، أن أكتب رواية حب خالصة. لست معنية بالتاريخ في ماضيه ولا حاضره، هذا الكره والحقد في العالم، لا أحب مرأى الدم، وشبعت من الأخبار العاجلة السيئة. لن أكتب عن الحرب بعد ذلك، لن أكتب عن المنفى، سأكتب من مكان متخيل حيادي لا جذور لي فيه، ولا هواء مشترك. أن أكتب بقلم قادر على مسح كل المعلومات المدرجة في هويته.

على مسافة قريبة من أعمال المصوّرة الدانماركية ترينه سوناغورد

على مسافة قريبة من أعمال المصوّرة الدانماركية ترينه سوناغورد

«كلّ الصور الفوتوغرافية تذكر أنك ستموت»(1). أن نلتقط صورةً فوتوغرافيةً فهذا يعني أننا نساهم في موت، أو عطب، أو تحويل الآخر إنساناً أو شيئاً. ومن خلال تقطيع اللحظة، وتجميدها تحديداً، فجميع الصور الفوتوغرافية شاهد على ذوبان لا رحمة فيه للوقت(2).

تسير ترينه سوناغورد(3)، المصوّرة الدانماركية، في طريق موازٍ لما تراه سوزان سونتاغ، لكنه أيضاً في اتجاه معاكس؛ فاللحظة التي تقبض فيها عدستها على المشهد تكون هناك حياة ما قد انبعثت في المكان، كأنها تقوم بفعل تحريك عجلة الزمن هنا، بخلاف ما للصورة الفوتوغرافية من فعل أساسي. والتكوين لا يكون محض قنص أو مصادفة، إنما هو آتٍ عن تأنٍّ كبير، ورصد عميق، يتوخّى الابتعاد، ثم التقرّب، ثم الدوران المستمر لاكتشاف المدخل الأكثر إبهاراً وكشفاً له. التقشّف مهيمن على الصورة، لكنه أحد العوامل الموظفة لديها بشكل متقن من أجل تحقيق لغة بصرية مكثفة وبليغة.

الاهتمام بالتفاصيل

تُعنى ترينه سوناغورد بالأجواء الصغيرة وتفاصيلها التي لا تكاد تُرى أو تُلحظ. (الدقة، والتقشّف، والرسوخ)، تكاد هذه الميزات الثلاث تصفها كما تصف المنهج الذي تتبعه في عملها.

كتابها الصادر حديثاً، الأنيق الباذخ الذي حمل عنوان (سكون)(4)، تضمّن سلسلةً من مجموعة مختارة من أعمالها للمعارض5555 الثلاثة الأخيرة بين عامي 2007 و2013م: العنق الذهبي، وصور داخلية، والقناع، وفي جميعها نستشفّ سكوناً وتأملا وحيلةً في الاختيار، يشوبها غموض يدفعنا إلى التمهّل عند تلك الصور الفوتوغرافية التي تجمع بين فنّ البورتريه واللوحة الزيتية التي تعود بأجوائها وإتقانها إلى القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، ومن شأن ذلك -كما يُلاحظ- أن يُبرز مزجها الرصين الحاضر بالماضي.

تقول ترينه سوناغورد فيما يخصّ الهاجس الذي يشغلها في عملها في هذا المجال: إنها مهووسة بمحاكاة الفضاء الذهني للعزلة. وذلك يعني أن العالم الذي تراه لا يخضع للمرئي الممكن فيما نراه، وإنما يخضع لتصوّر تقوم هي بإضفاء مثالية ما عليه وفق عينها الفنية، وإدراكها، ومعرفتها.

(العنق الذهبي) هو عنوان المعرض الذي حوى سلسلةً من صور الفتيات اللاتي لا نرى منهن غير ظهورهن. و(العنق الذهبي) تسمية للقلنسوة، أو لجزء من غطاء الرأس كما يظهر في الصور، وهو بمنزلة إكسسوار من ضمن أطقم ثياب المرأة في الريف الدانماركي في منتصف القرن التاسع عشر: قطعة قماش من الحرير مشغولة بخيوط الذهب بمهارة تنمّ على فنّ متميز يقصد جلب الأنظار في الحفلات والمناسبات إلى مكانة المرأة رمزياً وزينتها بشكل متحفّظ راقٍ، خصوصاً بين عوائل النبلاء والفلاحين الميسورة الحال؛ إذ لا تملك الأغلبية من العوائل القدرة على اقتنائه. ويُذكر أن النسوة اللاتي يقمن بتطريز هذه القبعات كنّ يكسبن دخلاً يمكنهن من إعالة عوائلهن في تلك الحقبة بشكل جيد؛ لأنها مهنة نادرة تتطلب الجهد الدقيق والحرفية في أشغال الإبرة، والتعامل مع خيوط الذهب والفضة والحرير، وقد عدّ هذا المجال من أول المجالات التي ضمنت للمرأة عملاً حراً ودخلاً مستقلاً آنذاك.

تبرز ترينه سوناغورد حساسيةً عاليةً للضوء، ونقاءً لا متناهٍ في الصورة، من خلال قطعة الملابس الصغيرة التي تبدو في الصورة نقطة إشعاع منتصف الفراغ، وقد عمدت إلى اختيار أحجام كبيرة لصورها الفوتوغرافية المعروضة تأكيداً لضرورة التوغل في عوالم التفاصيل الصغيرة.

التداخل بين الأزمان في هذه السلسلة كان في إبقاء الفتيات على ملابسهن اليومية العادية مع ارتداء تلك القلنسوات التي تعود إلى أكثر من مئة وخمسين عاماً إلى الوراء.

 

خلف وأمام

في جوابٍ لها عن هذا المزج تذكر ترينه سوناغورد: «كنتُ مأخوذةً بالزمن في الصورة، إنه يشير إلى الخلف، لكنه يشير -في الوقت ذاته – إلى الأمام. عندما نرتدي الزيّ اليوم كأننا ندخل الماضي، لكن في هذه اللحظة».

ونحن لم نكن لنأبه للصورة إياها ونحن نتصفّح كتاباً تاريخياً عن الأزياء في عصور محددة، لكن تحريكها من زمن مضى بالطريقة التي اختارتها سوناغورد سلّط الضوء على قطعة مهملة سقطت من ذاكرة الناس، ولبثت طويلاً مخبّأة في متحف حتى عثرت عليها ذات مرة، وأعادت علينا سردها مثل قصة بطريقة شائقة آسرة. للعدسة فعل الاستبطان في تقديم الصورة كما للقلم في كتابة نصّ.

في سلسلة الصور التي حملت عنوان (صور داخلية) يظهر لنا ملمح إسكندنافي دانماركي بامتياز من خلال تلك الأجواء التي تكتفي بضوء قليل، وتوزيع متواضع لمكونات اللوحة. غرف واسعة مهجورة، وأبواب ضخمة عريضة مواربة، وضوء متسلّل من نافذة يكشف عن ممرّ طويل مظلم، ليس معروفاً أكان يعود إلى بيت تركه أصحابه أم أبعدوا منه. الظلّ والضوء، البارد والحار من الألوان، يقترنان لا محالة بلوحات وليم هامرسهوي(5)، الفنان الدانماركي الشهير بدكنة ألوانه، وفراغ لوحاته من الأثاث إلا القليل جداً منها، وتلك الخطوط الطويلة المستقيمة التي تحدد هندسة اللوحة في أضلع الشبابيك والجدران والسقوف، كما تمتاز بخلوها من البشر، عدا امرأةً وحيدةً تولّي ظهرها لنا، أو قد لا نفوز إلا برؤية جانب منها وهي منزوية في ركن قصيّ من اللوحة، كأن الوحشة والصمت والغموض يلفّ الأمكنة والبشر.

قد يطرح الكتاب سؤالا عما يجمع المرأة وتلك الصور الداخلية المهجورة في تلك المعارض الثلاثة؟

كما في سلسلة صور (العنق الذهبي)، التي التقطتها سوناغورد للمرأة بهدف جرّ المشاهد الى أمكنة أخرى من أجل رؤية واقع غير الذي يراه، كذلك في سلسلة (صور داخلية)؛ فما تريده -وفق قولها- هو استنطاق الصمت الذي يلفّ الأمكنة، والنبش فيها.

فيما يخصّ تقديم الكتاب، الذي جاء منفصلاً في منشور صغير تحت عنوان: (كيف نرى؟)، تذكر البروفيسورة مايك بال(6)، التي تناولت أعمال سوناغورد بدراسة نظرية مستفيضة لم تكن تخطّط لها عندما شرعت في كتابة التقديم؛ لأنها أخذت فجأةً بالعمل، ووجدت نفسها أخيراً تستعرض نظريات الفن في أوائل القرن العشرين، وتكتب عن فنّ التصوير الفوتوغرافي مقارنةً بأعمال سوناغورد، وعن طرائق الرؤية أو المشاهدة عامةً، تقول: إنها انتهت من خلال تقديمها العمل إلى فكرة أن غير المرئي يمكن أن يكون طريقاً إلى رؤية فضلى.

 

جزء من اللباس الشعبي

(القناع)، أو ما يُطلق عليه في اللغة الدانماركية: السترودة، هي السلسلة الثالثة التي تضمّنها الكتاب، والتي حوت صوراً لمجموعة من النساء والفتيات اللاتي يرتدين القناع بوصفه جزءاً من اللباس الشعبي. كلمة (سترودة) يُعنى بها كلّ ما نتأ وبرز، ولعل المقصود هنا طريقة لفّ الوجه، وتعصيب الرأس، فتبدو ذيول ربطة الرأس موتورةً، منتصبةً، بارزةً. وتعدّ السترودة الجزء الأساسي من زيّ المرأة الفانوية.

قامت سوناغورد -خلال ثلاث سنوات متتالية- بزيارة جزيرة فانو، التي تقع في الجانب الغربي من جتلاند، من أجل إنجاز مشروع معرضها الذي تضمن تصوير شابات الجزيرة بأزيائهن التقليدية.

درجة اعتزاز أهالي هذه البلدة بتاريخهم وتقاليدهم وأزيائهم كبير جداً، ويشارك في الاحتفال السنوي جميع ساكنيها بإحياء يوم تقليدي يعود بزمن البلدة إلى الوراء مئات الأعوام، ويشمل الطعام، والرقصات، والأغاني، وألعاب الأطفال التقليدية، وفي كل عام ترتدي المرأة الفانوية ثيابها الخاصة، وغطاء رأسها الخاصّ؛ ابتهاجاً بالمناسبة.

وبينما كانت قلنسوة (العنق الذهبي) ليست سوى مكمّل لزينة المرأة كان للقناع أو السترودة وظيفة مهمة، هي الحماية من الريح والشمس والرمال وفقاً لتقلّب المناخ؛ فأجواء الجانب الغربي من جتلاند لا تخلو من قساوة، وتطلّ فانو على بحر الشمال الذي تمتزج مياهه بالمحيط الأطلسي من جانب بريطانيا.

 

353قوة المرأة

يُعرف عن المرأة قوتها في تلك المدن الساحلية؛ بسبب تحمّلها أعباء البيت، وجزءاً كبيراً من إعالة العائلة، في ظلّ غياب الرجال الذين يقلّ وجودهم في البيت بحكم طبيعة عملهم؛ إذ جلّهم يعمل في مجال الصيد وصناعة القوارب والسفن والتجارة البحرية. لا تستغني المرأة عن ارتداء القناع بوصفه جزءاً من زيّ العمل في مواسم الحصاد على سبيل المثال، أو شتاءً عند هبوب الثلج والريح في أثناء جلب الحطب والتبضّع وتأدية المشاوير اليومية الأخرى.

لا تظهر سلسلة الصور هنا تعقيداً شديداً؛ فقد اتّخذت الفتيات أمكنتهن على الكرسي، واستسلمن للكاميرا. تبدو خلفية الصورة تقليديةً طبيعيةً من دون مؤثرات أو افتعال ما، وضاعف هذا الانطباعَ تلك النظرةُ المنكسرةُ البعيدةُ الهاربةُ للفتيات والنساء في هذه السلسلة. إعداد الخلفية بهذه الطريقة، واتخاذ هذا الوضع المعين، يجرّ المشاهدين شعورياً إلى الدخول في زمن الصورة بشكل يكاد يكون قسرياً. هاجس المصوّرة يترسخ هنا في إشاحة الوجوه عن النظر إلينا، وإثارة فضولنا لمعرفة ما خلف هذه الثياب وأغطية الرأس. إنه زمن منقطع لا يعيش إلا اللحظة، لا يُظهر أدنى تأثر بالضجيج من حوله في العالم.

سلسلة الصور تجسّد المرأة في مراحل حياتية مختلفة بزيّها الفانوي، ومن الغريب أن المرأة تعتمد في خياطة ملابسها تفصيلاً واحداً لا غير، وليس مثيراً للعجب أن تستخدم المرأة زيّها ذاته بإضافات قطع وفق المناسبة، لكن تبقى القطعة الأساسية هي ذاتها بارتداء التنورة فوقها، أو التنورتين، أو أكثر وفق الحاجة والمناسبة والطقس.

الصور تم التقاطها جميعاً في علّيّة بيت، قريباً من شباك وتحت سقف خفيض في منطقة سوناهاو في فانو. في هذا البيت كانت النسوة يجتمعن ليرتدين ثيابهن، ويعصبن رؤوسهن، وينطلقن مغادرات استعداداً للاحتفال بالعيد السنوي للجزيرة.

تقول ترينه سوناغورد: «في زيارتي الأولى لفانو رأيت بعض الثياب الشعبية معروضةً في المتحف. دُهشت؛ فالأطقم كانت مثيرةً، والألوان كانت مركزةً، وقد صُنعت بعناية فائقة. لم يكن لديّ أدنى سابق معرفة بذلك. القناع كان مثيراً بصرياً، (الوجه المغطّى) كان مفاجئاً بالنسبة إليّ بما له علاقة بتاريخ الثقافة الدانماركية».

«أثارت اهتمامي تلك الأزياء والأطقم بما تحمله من معنى ورموز خاصة. زاويتي في النظر كانت إثنولوجية، وليس هناك من حديث عن دراسة للمكان أو الزيّ. بالنسبة إليّ كانت الجزيرة وثقافتها بمنزلة هيكل أو إطار لعملي؛ فصور المرأة ذات الأقنعة تحمل بين طياتها قصصاً ووصفاً وجودياً أكثر مما يمكننا الحديث عنه شخصياً».