النوبة في أعمال إدريس علي: العنصرية والعنصرية المضادة

النوبة في أعمال إدريس علي: العنصرية والعنصرية المضادة

idrisali

إدريس علي

في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم ظهرت مجموعة من التجليات الإبداعية، ذات الصوت المميز والمختلف عما هو سائد في حقل السرد المصري والعربي آنذاك، جاعلة من النوبة في جنوب مصر فضاءها السردي والتعبيري، منشغلة بهموم النوبة وأحلامها، وأزمة الهوية التي تمثل العصب الرئيس في ذلك المجتمع المنعزل، والقابع في الجنوب بعيدًا عن الاهتمام من العاصمة المركزية القاهرة، فجاءت كتابات: إبراهيم فهمي، ويحيى مختار، وإدريس علي، وحسن نور، وحجاج حسن أدول، متابعة لما كان استهله محمد خليل قاسم في روايته الرائدة في تاريخ السرد العربي: الشمندورة. التي نشرت في عام 1968م.

إذ بدت الرواية «الشمندورة» صرخة مبكرة لما حاق بأهل النوبة من غرق وتهجير وترك للوطن عقب تعلية الخزان الثانية في عام 1932م. ربما كانت تداعيات ذلك التهجير القسري الذي طال بعض القرى النوبية في ذلك الزمن البعيد مستمدة من حالة التهجير الثانية مع بناء السد العالي جنوب مدينة أسوان في عام 1964م. التي عاصرها وعايشها الكاتب، التي ستطول كل القرى النوبية؛ لكن كتابنا الجدد ربما كان بعضهم بدايات شبابه في زمن التهجير الثاني، وهو ما جعل توجهات الكتابة مختلفة، وإن لم تبتعد كثيًرا من الهم العام لأهالي النوبة.

أقلية عرقية

%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%85%d9%86%d8%af%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d9%a2تمثل النوبة أقلية عرقية وثقافية داخل المجتمع المصري، وذلك من حيث منظومة القيم التي تتبناها الجماعة النوبية، ويبدو ذلك واضحًا وجليًّا في الملامح والسمات للشخصية النوبية من حيث اللون وامتلاك لغة خاصة، هي اللغة النوبية، وغير ذلك من المحددات؛ فجاءت واقعة التهجير، وغرق أراضي النوبة عند بناء السد العالي كنكبة حاقت بالمجتمع النوبي، لتصير تلك الواقعة هي النقطة المركزية التي تتمحور حولها أغلب الكتابات الأدبية التي أنتجها أبناء النوبة الذين أشرنا إليهم سابقًا، فواقعة الغرق وحلم العودة لذلك الفردوس المفقود، كما يراه أبناء النوبة، والحنين للبلاد البعيدة الضائعة تحت مياه بحيرة السد العالي ستكون أكثر النغمات ترددًا داخل لحن الكتابة النوبية، في محاولة جادة منها للتمسك بالهوية النوبية، ومقاومة الاندثار والذوبان داخل المجتمع المصري، وهو ما دفع بعضهم لاتهامات تصل للعنصرية ومترادفاتها المتعددة. وعلى رغم وجاهة القضية وجدارتها بالعرض والتحليل، وهو ما فعله أغلب الكتاب النوبيين، إلا أن إدريس علي وقف موقفًا مغايرًا من كل الكتابات التي اتخذت من النوبة مسرحًا لها، إذ بدت عينه تنظر إلى بنية هذا المجتمع المغلق، وترى معوقاته الداخلية، قبل أن يصب اللوم على الخارج الشمال، وهو ما جلب له كثيرًا من المصاعب والمتاعب، كما أنه هو السبب نفسه الذي جلب له الشهرة والذيوع، وترجمة أعماله الأدبية، ونيل الجوائز المرموقة عنها.

بدأ إدريس كتاباته القصصية بعيدًا من حقل النوبة قبل أن يتحول كلية للكتابة عنها، فكانت: المبعدون، وواحد ضد الجميع. تأمل العنوان، لتدرك ما هو قادم من أعمال، وما سيكون بمنزلة النغمة المحورية التي تقود اللحن، فقط تنويعات هنا وهناك، بشكل مختلف تأخذ قالبها لتصير عملًا جديدًا؛ إن فكرة الإبعاد والتهميش داخل نسق الحياة، لأي سبب، وجعلك هامشيًّا وغير مرغوب فيك في أغلب الأوقات، هو أن تقف وحدك، مع روحك وذاتك، ضد العوامل التي تعمل على إبعاد الإنسان وتهميشه، بدءًا من الأفكار العنصرية الأولى للقبيلة والجماعة، والأفكار الطبقية بكل تجلياتها، والنفي المتعمد داخل الوطن وخارجه، ضد القيم السلبية التي يجري التكريس لها، وجعل قانونها هو السائد، بكلمات أقل: أن تقف بعيدًا، خارج الصف، والسطر والطابور، فأنت تحديدًا مبعد ضد الجميع في الوقت نفسه.

استهل إدريس علي رواياته النوبية بالرواية الفاتنة «دنقلة» في عام 1994م، وبقدر ما جرّت عليه هذه الرواية من مشكلات وتهديدات عصبية بالقتل، لكنها أيضًا جاءت بالشهرة والجوائز والترجمة، وهو ما بدا نوعًا من التعويض النفسي والمعنوي، فآخر ما كان يبتغيه إدريس علي هو الفضائحية، لكنه كان يشير إلى مواطن الخلل، ويحث على التبصر بالأخطاء العنصرية لدى الجماعة، التي تتصور أنها نقية وخالية من العيوب، حتى إن وجدت هذه العيوب الراسخة في الطبيعة الإنسانية، فيجب عليه – هكذا تتصور القبيلة والجماعة – أن يقوم بسترها، وعدم التعرض لها، وهو ما كان يراه نوعًا من الهشاشة وعدم الفهم وقبول النقد الذاتي، بل الإصرار على بقاء حالة النقاء المزعومة، وعدم الاعتراف حتى لو بين الجماعة أنفسهم، بأنه يمكن معالجة الأخطاء عقب التعرف والإقرار بوجودها وعدم التنكر لها؛ ذلك ما سوف يكمله أيضًا في متتالياته النوبية: النوبي، واللعب فوق جبال النوبة، وتحت خط الفقر. في كل مرة يرفع الغطاء قليلًا عما هو مسكوت عنه ومتواطأ عليه، وجعله من الأسرار التي تخص الجماعة، وهو ما لا يرضاه إدريس علي، فهو لا يرى أنها جماعة مختلفة، فقط بسبب ظروف خاصة مرت بتجربة مختلفة، لكن حول الادعاءات العرقية والعصبية، فهو ضدها على طول الخط.

اللعب فوق جبال النوبة

%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%b9%d8%a8-%d9%81%d9%88%d9%82-%d8%ac%d8%a8%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%88%d8%a8%d8%a9في رواية «اللعب فوق جبال النوبة» يعكس إدريس علي اللعبة الروائية، فغادة الشابة المولدة من أب نوبي وأم قاهرية يرسلها والدها إلى الجنوب، قريته النوبية القابعة في حضن الجبل متسربلة بعاداتها وتقاليدها القديمة، تلك القرية الهاجعة التي لا يحرك ركودها سوى مركب البوسطة كل أسبوعين، تصل غادة للقرية مبعدة من القاهرة ذات الأفق المفتوح والحياة السريعة وشديدة التبدل، يرسلها والدها كعقاب لها على حبها أحد شباب الحارة التي تقطنها أسرة ذلك النوبي الذي هاجر للشمال في حياته الباكرة بحثًا عن الرزق ولقمة العيش، وهناك تزوج من أم غادة، لكنه كنوبي أصيل سيرفض أن تتزوج ابنته من رجل ليس نوبيًّا، فالنوبية لا تتزوج إلا من نوبي، هكذا العادات، أما الرجل فيحق له أن يتزوج من غير النوبيات، وهو ما تراه غادة، ابنة المدينة، مجحفًا وتمييزًا ضدها، مجبرة تبعد للجنوب، لتقلب سكون القرية البعيدة والمنسية والمهملة رأسًا على عقب، وهو ما سوف يستفز حراس الجمود والتقاليد البالية، والويل كل الويل لمن يحاول أن يغير من تلك العادات أو يخترقها، ستكون حياته هي ثمن جرأته هذه، كما حدث مع غادة.

وإذا كان مبررًا بعض الشيء قبول تلك العنصرية التي يكاد يكون مفهوم مبرراتها والتي يعاني منها المجتمع النوبي، ونظرة الناس له وطريقة التعامل معه، لكن إدريس علي يضرب بعيدًا حيث العنصرية جزء أصيل من كيان الإنسان أيما كان لونه أو دينه ووعيه وثقافته؛ فالمجتمع الذي يعاني العنصرية الخارجية، هو في حقيقة الأمر أشد عنصرية، فنظرة القرية لغادة الجميلة هي في نظرهم «نصف بغلة»، ذلك أن أمها غير نوبية، ومن ثم وحسب هذا التصنيف تصبح أقل درجة منهم، ولا يحق لها أن تتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها غيرها، في الوقت نفسه لا يمكنها أن تتزوج بعيدًا من الحقل النوبي، وبطبيعة الحال لا يمكنها أن تمارس الحرية التي كانت تمارسها في المدينة، حقها في الاختيار والانتقاء للشخص الذي سيتزوج بها، الأدهى من كل هذا لو جهرت برأيها أو فعلها كما كانت تفعل ذلك في المكان الذي قدمت منه؛ يحسب لإدريس علي تلك اللغة البسيطة الدالة والموحية التي صاغ بها عالم الرواية من خلال عين الصبي الذي كأنه الكاتب في زمن بعيد في تلك القرية البعيدة والمهملة، وسوف تغرقها مياه بحيرة السد بعد مدة من الزمن.