ما بين النهرين.. بلاد الأقليات الهائلة

ما بين النهرين.. بلاد الأقليات الهائلة

سعد سلّوم

سعد سلّوم

واضح أن الأعمال العسكرية، والتغييرات السياسيّة في البلدان العربية، قد أحدثت هزّات عميقة في البنى المُكوّنة للنسيج المجتمعيّ. وفي الغالب، إن الصّدمة الأولى التي حرّكت صفائح عديدة، كانت تُعدّ فيما مضى، مُرتكزات اعتمد عليها التمازح المدني والوطني في المنطقة، كانت من نصيب العراق «بلاد ما بين النهرين»، حجر زاوية هذا التداعي المتتالي. فما كان يعد مثالًا تاريخيًّا للاندماج والتلاقح الإثنيّ والدّينيّ لعدة مئات من السنين، بل إن إحدى علامات ازدهاره حضاريًّا في حقب مضيئة من تأريخه، هو أنّه مثّل نموذجًا سلميًّا للتنوّع الثقافيّ.. أصبح مَصدرًا لنقيض هذا التصوّر في تقبل الآخر وتنوّعه. هذا التنوع الذي انقلب وبالًا فيما بعد، ليتحوّل به سحر التنوّع كعنصر تقوم عليه غالب النهضات المدنية والحضرية، إلى تفاصلٍ وتنازعٍ باعتبار النوع. وبهذا اختفى بشكلٍ متصاعدٍ مفهوم الـ«نحن» ليحلّ مفهوما «الأنا» و«الهُم».

وما أن دَبّ هذا الفايروس المُجزِّئ للكتلة الوطنية بمفهومها الحاضن، نحو مفاصل تفرّعت كتفاعل متسلسلٍ مرعب، حتى وُلدت أجزاء أخرى، اتخذت من الطائفة والعِرق والمناطقيّة والعائليّة نماذج للولاء المُطلق. منطقٌ جديد بدأ يسود المشهد، ومن ثمّ تنامى بشراهة، ليُصبح المنطق الأشمل الذي يمكن عبره وحده، تفسير الواقع الجديد. وإذا كانت هنالك حواضن سابقة، احتمت فيها مكونات أطلق عليها اصطلاح «أقلّية» كتصنيف عددي استثنائي من الغالبية المُهيمنة، فإن تلك الأقليّات كانت تحظى بمشاركة قانونيّة وحماية في إطار الدولة. لكنّ تفاقم العُزلة، وتوالي التعمية والغُبن الاجتماعي والحقوقيّ، لدى كثيرٍ من تلك المُكوّنات، أدّى في العديد من الدول إلى نشوء حسٍّ داخليّ لديها، على أنها لا ينظر إليها باعتبارها جزءًا من هذه البلاد أو الدّولة، وبالتالي صارت تبحث في هُويّتها الداخلية، وعن خلاصها التاريخي.

ما زاد الأمر انفلاتًا وتطرّفًا في السنوات الأخيرة، هو الاستهداف المُفجع من الإرهاب لتلك الأقليّات، والإيغال في ترويعهم وإبادتهم جماعيًّا، كما حدث في صفحات سنجار المنكوبة شمال غرب العراق. تورّط كثير من الأطراف الدّاخلية والخارجيّة في هذا الملف الإقليمي في الوقت الحاضر، يقتضي وضعه على الطاولة وتسمية الأشياء بوضوح، إذا كان ثمّة من يبحث عن رَتق الجراح، ومعالجة الشّقوق الخطيرة الآخذة بالاتساع. وما دمنا نتحدث هنا في إطار التجربة العراقيّة في التعاطي مع هذا الملف، فمن المناسب أن نسعى إلى مناقشة عدد من التساؤلات المحدّدة حول واقع الأقلّيات هنا، على سبيل تشخيص بعض الظواهر والمعالجات المجتمعية والحكومية بهذا الشأن. وعلى ذلك، فإنّ طرح تساؤلات عدة في هذا التوقيت تصبح مشروعة وضروريّة.

هل يمكننا إذن، اعتبار أن الحروب التي تندلع اليوم، كانت الأقليّات أهمّ أسبابها؟ ولو كانت هناك أنظمة عربية تؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعيّة، هل كانت شعرت الأقليّات بأنها أقليّات؟ هل كانت مساعي الغرب الإفادة من هذا الاحتقان لدى الأقليّات وتغذيته، وسيلة للذّهاب إلى تمزيق المنطقة على هذا الأساس؟ كيف كان تعامل القرار السياسيّ مع الأقليّات في العراق؟ ما الخطورة في بقائهم كأقليّات، وإلى أيّ حدّ يمكن أن يشكّلوا ضغطًا على الحكومة؟

توظيف حماية الأقليات للتدخل في شؤون المنطقة

%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d9%a3

عائلة إيزيدية في أحد مخيمات اللجوء

في هذا الفضاء، طرحنا هذه التساؤلات على باحثين متخصّصين في شؤون الأقليّات، على أمل الوصول إلى بعض التصوّرات والمعالجات، التي نسعى إلى الإفادة منها، من واقع تجربة ميدانية وإحصائية، تتعلق بالتجربة العراقيّة. سعد سلّوم.. الخبير في الأقليّات العراقيّة، وعضو المجلس العراقي لحوار الأديان، يبسط ها هنا تشخيصاته المستندة إلى رؤية عريضة في قراءة المشهد، حيث يستعير تطبيقات عالمية في فهم جزئيات الحدث والآليات التي يتحرك في فضائها. يرى سلّوم أنّ «توظيف حماية الأقليّات للتدخّل في شؤون المنطقة إستراتيجية قديمة وخبيثة، بالأمس أعلنت فرنسا حماية الكاثوليك والموارنة، واتجهت النمسا وإيطاليا لحماية مصالح الروم الكاثوليك، وأعلنت بريطانيا حمايتها للبروتستانت، وروسيا قامت بحماية الأرثوذكس، قبل أن تدخل الولايات المتحدة على خطّ اللّعبة في منتصف القرن العشرين. ولكن ما كان لهذه القوى الدّولية أن تستخدم الأقليّات كحصان طروادة للتدخّل في شؤون المنطقة، لولا استثمارها في نقطة ضعف الدّولة الوطنيّة في العالم العربيّ، التي كانت دولة قائمة على أنموذج هُويّة أحاديّ طاردٍ للاختلاف والتنوّع. إنّ عدم المساواة وانعدام العدالة الاجتماعية بسبب سياسات حكومات المنطقة منذ الاستقلال عن الاستعمار، والتمييز الاجتماعي والسياسي وعلى جميع المستويات، وعدم توزيع الدّخل بعدالة، وضعف مستويات المشاركة السياسيّة للأقليّات، جميعها عوامل عزّزت من إمكانية التدخّل الدوليّ لحماية الأقليّات في المنطقة، فضلًا عن سيادة ثقافة إلغاء الآخر، وإحساس أفراد الأقليّات غير المسلمة خاصة بالتهديد؛ بسبب النظر إليها من خلال منظور قروسطيّ عن الآخر الذمّيّ والكافر.

لا يمكن تدمير تراث الشرق الأوسط بتنوّعه الغنيّ الدينيّ والإثنيّ واللّغويّ دون تهجير الأقليّات، ومن خلال تهجيرها تُخلَق مناطق صافية إثنيًّا تَسهُل السيطرة عليها وتمزيقها؛ لذا، يُعدّ منح الأقليّات حقوقها، إستراتيجية للحفاظ على الوحدة الوطنية لدول المنطقة، واستقرار الشرق الأوسط بشكل عام. يصبح الشرق الأوسط بحدّ ذاته اليوم أنبوبة اختبار لشكل العالم المقبل، وفي هذا السياق تستخدم الطائفية كإستراتيجية تعبئة، واللّعب على وتر الاختلاف الدّينيّ الإسلامي المسيحي أو المذهبي السّنيّ الشّيعيّ، ليس سوى استثمار في الهُويّات المتخيّلة، سيؤدي إلى تفكيك الشرق الأوسط إلى الأبد، بعد انهيار أنموذج الدولة الوطنية في العالم العربيّ، يُعاد ترتيب العلاقة بين الأغلبية والأقليّات، والعلاقة بين الدولة والدّين، ومكانة المرأة، ودور الشريعة، وحقوق الأقليّات، على نحو قد يؤدي إلى انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان في أعقاب انهيار الأنموذج القديم لإدارة الدولة.

ويقول الباحث سعد: إنّ علينا جميعًا «أن نفكّر في نموذج جديد لدولة مواطنة يتساوى في ظله الجميع ويتقبلون الاختلاف على أنه مصدر غنى. لا يعني دفاعنا عن التعدديّة عدم تشبثنا بالهُويّة الجامعة، أو رفضنا لها، بل إننا نسوق التنوّع بوصفه فكرة حامية للهوية الجامعة من التقسيم وانفراط عقدها، فبقاء الأقليّات في البلاد واختلاطها ببقية الجماعات، صمام أمان من تفكك البلاد إلى هويّات كبرى متصارعة على الحيّز المكاني والسلطة والثروة. يفتح الدفاع عن الحقوق الضامنة للتنوع والاختلاف فرصة لتجاوز الشعور بالاستضعاف وفقًا لمنطق العدد والمقياس الكمّي الأعمى، فترسيخ التمييز الإيجابي يجعل من الأقليات تتصرّف كأغلبية؛ أي بشعور مواطنة كامل، وهو ما يشيع أجواءً إيجابية ونفسية تدفع للتمسك بالهوية الوطنية، وبالكيان الأوسع».

ويضيف قائلًا: «فيما يخصّ تجربة بلد ثريّ بتنوّعه القوميّ والدّينيّ والّلغويّ مثل العراق، فإن تقسيم المنطقة على أساس الجغرافيا الإثنوطائفية سيكون الخاسر الأكبر فيه الأقليات الصغرى؛ مثل المسيحيين، والمندائيين، والإيزيديين، والشبك، والكاكائيين… وغيرهم، ويؤسس لمناطق بيوريتانية الهُويّة، ومثليّة الثقافة؛ كيان كرديّ، وكيان سُنّي، وكيان شيعيّ، يستبعد الأقليات الصغرى، أو يذوّب هوياتها. يؤسس الانتقال إلى ديمقراطية مستقرّة في العراق، ودول المنطقة على الاعتراف بأهمّية التعددية والتفكير بمعاني وإيجابيات التنوع الثقافي لخلق دولة تعترف بحقوق مكوناتها، وحق مختلف الثقافات في حفظ هويتها وتراثها وتميّزها عن ثقافة الأغلبية بوصفها حقوقًا محميّة على صعيد الاتفاقيات الدولية والدساتير الوطنية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية أنموذج دولة مواطنة حاضنة للتنوّع الثقافي».

سياسات‭ ‬تعزز‭ ‬عدم‭ ‬قبول‭ ‬الآخر

خضر دوملي

خضر دوملي

وفي تناولٍ غير بعيد، يرى الباحث خضر دوملي عضو مركز دراسات السّلام وحلّ النزاعات بجامعة دهوك أنّه وفقًا للواقع ومعطياته «فإنّ عامل تهميش الأقليّات يُعدّ دائمًا عنصرًا لحدوث النزاعات، ولكن الحروب التي تشهدها المنطقة الآن ليست أسبابها الأقليّات، فأسباب الحروب الحالية تندرج ضمن عدم وجود العدالة الاجتماعية، وتشريعات تضمن حقوق المواطنين والمشاركة الفاعلة في القرار السياسي، وتلحق بها سياسات تعزّز عدم قبول الآخر المختلف، ومصادرة حقوق وحرّيّات الناس، وفرض الأفكار والرؤى الدينيّة عليهم رُغمًا عن إرادتهم. كما أنّ أحد الأسباب الرئيسة للحروب الحالية هي شكل الأنظمة الحاكمة وعدم إيمانها بالتعدديّة، وعدم وجود رؤية لديها في تعزيز التنوع، بل استخدام التنوع كعامل خوف للغالبية بأن الإقرار بحقوق -للأقليّات- سيقلل من مكانة الدولة والحكومة التي توظف الطابع الديني لمزيد من استغلال السلطة.

إن عدم إيمان الأنظمة في الشرق الأوسط بحقوق الآخرين – الأقليّة، في العيش بكرامة، يُعدّ، في رأي دوملي، سببًا رئيسًا لما يحصل اليوم من انتهاكات وتجاوزات واعتداءات على الأقليّات، «وصلت إلى جرائم الإبادة الجماعية كما حصل من تنظيم داعش ضد الإيزيدية في سنجار أغسطس عام 2014م من جرائم سبي النساء والقتل الجماعي وتدمير البنية التحتية وتدمير الهُوية الحضارية والدينية والتراثية، وهو ما حصل للمسيحيين أيضًا في الموصل وسهل نينوى والكاكائية أو الشبَك والتركمان الشيعة. لذلك فإن شعور الأقليّات بأن السّلطة تصادر حقوقهم أو لا تدافع عنهم، يكون سببًا رئيسًا لكي يهجروا البلد؛ لأنهم يشعرون بأن القانون لا يطبّق لصالحهم، وأبرز دليل على ذلك مثلًا، ووفقًا للمتابعات المستمرة أنه في السنوات العشر 2005 – 2014م رغم حصول عشرات الانتهاكات والاستهداف المستمر للأقليات في وسط العراق وجنوبه، فإنه لم تُحرَّك أيّة دعوى قضائية ضد المتّهمين، حتى إنّ بعض الذين ارتكبوا تلك الجرائم كانوا معروفين للضحايا».

ويوضح خضر دوملي أنّ ربط موضوع الأقليّات بالسيطرة الغربية على المنطقة «ديدن الأنظمة الفاشلة في سبيل تأجيج الأوضاع وزرع الفتنة حتى تبقى لمدة أطول في الحكم. ولذلك فإنّ التحرّك الغربي واضح دائمًا في دعم الأقليات في مواقع سكنها. ولكن في حال عدم استعداد الأنظمة والسلطات لتحقيق هذا التوجّه، يتحول نمط الصراع إلى فرض الإرادة على أنظمة الحكم وقد تتحول إلى فرض نظم سياسة جديدة من خلال نظام فرض الحماية الدولية لحماية الأقليّات، ولا يُستبعد أن يتحقق هذا الأمر في العراق بالنسبة للمسيحيين والإيزيدية». وحول فرصة المشاركة السياسية للأقليات في العراق، يشير دوملي إلى أنها لو استمرت مشاركة شكلية فإنها لا تحقق كثيرًا من الضمانة لبقائهم. لذلك فإنّ السّلطات مطالبة «بتغيير هذا النهج، والسّماح لأن تكون الأقليّات شركاء فعليين في إدارة الحكم والتربية والتوجيه للمجتمع؛ والقبول بهذا الأمر سيكون عاملًا مساعدًا لمزيد من الاستقرار في المجتمع».

وفي الرؤية الخاتمة فإن الأفق الحالي لموضوع الأقليات ضمن المشهد الحالي ينذر بأنّ «بقاءهم كأقليات حقوقهم ليست ضامنة بالشكل أو بالمستوى اللائق سيستمر مدة أطول. وعلى ما تقدم.. فإن تفكير السلطة، في أنّ التعامل بهذه الصّورة مع الأقليّات سيجدي نفعًا، أمرٌ خاطئ. فدون ضمانة حقوق الأقليات وتعزيز تلك الحقوق ومكانتها في المجتمع لن تشهد المنطقة الاستقرار، ولن تتوقف النزاعات».

الشعر العراقي بين راهنية المشهد وارتهان الحضور

الشعر العراقي بين راهنية المشهد وارتهان الحضور

شهد العقدان الأخيران تحوّلات كبيرة في مزاج التلقّي وطبيعة التداول الثقافي للأجناس الأدبية، وربما كانت الهزّات السياسية والاجتماعية والثورة التكنولوجية التي تهيمن على المشهد العام، قد أسقطت الحدود الوهمية ما بين هذا الجنس الأدبي والفنّي أو ذاك، وأسهمت في تبادل أدوار كثيرة ما بين الأجناس النثرية عمومًا؛ إذ لم يكن الشعر العربيّ الذي دخل الألفية الثالثة محمّلًا بأزمات ومخاضات سابقة، ببعيد من احتمال نصيبه من هذه التحوّلات، والانحسار لصالح أنواع صاعدة أكثر فتوّة وأوسع تمثّلًا في بسط مهيمناتها الجمالية والواقعية في مساحة التلقّي.

محمد-مظلوم

محمد مظلوم

وإذا كان انحسار المطبوع الشعري قد أصبح حقيقة واقعة يعرفها الناشر ويقرّ بها الشاعر نفسه، فإن تفشّي ظواهر موازية لتداول الشعر في مواقع التواصل الاجتماعي، قد تكون وفّرت رافعات مبتكرة وغير مشروطة لكل من يكتب الشعر بشكل تفاعلي أو يومي. وعلى الرغم من أن مثل هذه الفضاءات المفترضة لا يمكن الاحتكام إليها في تقويم وحضور أي منجز ثقافي أو أدبي في نهاية المطاف، فالمراهنة هنا على الاحتكاك المباشر بين الأنواع الأدبية الأخرى التي أصبحت تتشابك في حقول شتّى من التجربة الإنسانية، بين ما هو حاضر ومعبّر عن اللحظة، وبين ما هو تأمّلي يتّخذ من العزلة والتعقيب لا المشاركة ملاذًا دائمًا. ومع ذلك، بقي الشاعر العربي يؤمن بأنه لا يزال يمسك بصولجانه الموروث، ولا ضير من بروز أزمة وجود هنا أو إشكالية رؤيوية وتقنية هناك، بالمقارنة بين راهنية واقعه وما يواكبه من تجارب عالمية في مكان آخر.

حول هذه الراهنية في الشعر العراقي والعربي عمومًا، وعن جملة الأسئلة والتّحديات التي يواجهها الشعر الآن، وعن الشاعر نفسه الذي يوصف بأنه كان يتيمًا فأصبح أكثر يتمًا في لحظة انحسر فيها قرّاء الشعر وغابت الجوائز المرموقة عنه، لتحضر الرواية ومواقع التواصل الاجتماعي بقوّة… حول هذه الأسئلة والمحاور نستعرض آراء أربعة شعراء عراقيين من أجيال مختلفة وأساليب كتابية عدّة.

تحديات أزلية

يرى الشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم أن الأسئلة والتحدّيات التي يواجهها الشاعر تكاد تكون واحدة في كلّ العصور، وأنها «أقربُ إلى الأزليَّةِ منها إلى الآنيَّة، فالأسئلة التي كابدها هوميروس الإغريقي، أو فيرجل الروماني، تقاربُ المطامح الغامضة لامرئ القيس أو المتنبي العربيّين، وهي ذاتها التي قد يصطدم بها أيُّ شاعرٍ حقيقيٍّ في كلِّ عصر ومكان. ما يختلف هو الشرط التاريخي، وخصائص المرحلة. الأسئلة الوجودية الداخلية لا تتغيّر، ما يتغيّر هو المعطيات الخارجية. بهذا المعنى، فإنَّ الأسئلة تأخذ صـيـــــاغـــــــات مــتـــعــــدّدة ومـــخــتــلـفـــة لجوهرٍ واحد».

وبهذا المعنى نفسه، يضيف مظلوم، «أعدت توجيه السؤال وأحلته [إلى] الشاعر نفسه، وليس [عن] الشعر؛ ذلك أننا يجب أن نبحث عن الشجرة، قبل أن نسأل عن غياب الظلال والثمر؛ إذ يبدو لي الشاعر الآن مثل الكائنات المهدّدة بالانقراض، وثمّة مِنَ الأشجار ما انقرَضَتْ فعلًا، أو مُسختْ إلى حجرٍ قاسٍ بلا ثمر أو ظلال، وهذا الحشد غير القابل للإحصاء ممّن يكتبون الشعر حولنا الآن أبطال وشهود على مأزق الشعر: انحسار نموذجه العالي، وشيوع الإسفاف والرداءة؛ لذلك فالمحنة هنا ذاتية مزدوجة قبل كل شيء، طرفها الأول أشرت إليه بتلك اللوثة الأزلية وغموض الأسئلة لدى الشاعر نفسه، وطرفها الثاني النماذج السائدة التي توحي بالقحط بل تُفصح عنه؛ حيث التضحية بالفضاء الإنساني، والكوني، والركون إلى التعبير عن أوهام هويات ضيِّقة، والنزوع إلى مطامح رثة».

وعن تعبير الانقطاع و«اليتم» اللذين انطوت عليهما محاور الظاهرة الشعرية الراهنة، يعترض الشاعر محمد مظلوم على جانب الشفقة الذي توحي به المفردة، فالشاعر بحسب قوله: «ليس مسكينًا إلى هذا الحدّ من التوصيف! فهو من جعل من هذا المصير -وإن بمازوخية مريبةٍ- هويةً جماليةً؛ غربة المعري الباطنية، أو منفى أوفيد، مرض السياب لا يُتمُه الأموميُّ! أو متاهة رامبو، كانت صورًا تقريبية، مجازية ربما، لما تسميه اليتم، وأدعوه: لعنة الانشقاق وهاجس البحث الغامض. أما الشعر فهو المجدُ العربيُّ بلا مواربة، فعمر الرواية العربية وأصول نشأتها، لا تنطبق عليهما صفة المجد، بينما نحن نتحدَّث عن شعر مكتمل عُمره أكثرُ من خمسة عشر قرنًا».

ويرى مظلوم أن مواقع التواصل الاجتماعي جعلت من الشعر على قدر غير مسبوق من الإسفاف، «لا في مستواه فحسب، إنما في طريقة عرضه. فنحن إزاء ما يشبه «سوق الهرج» تتداخل فيه الأصوات، وتتكدَّسُ البضائعُ ويُطرح الشعرُ إلى جانب كلِّ شيء، وأيِّ شيء! هكذا يتحوَّل «التواصل» المفترض إلى انقطاع وغيبوبة حقيقيين عن ذلك السحر القديم للشعر، لصالح انبهار عابر هو سمة العصر. صحيح أن الشعر كان محاصرًا في كلّ عصوره، إلّا أن هذا الانحسار الخطير الذي نراه في حياتنا المعاصرة هو نتيجة طبيعية لنكوص شامل في القيم الروحية والجمالية والثقافية».

ويلفت إلى أن القراءة، والنقد، وطريقة التلقّي، تراجعت كذلك، «وربما كان الشاعرُ غيرَ معنيٍّ بهذه التغيُّرات الطارئة، لكن ما يحيط به من هذه الظواهر أسهم في خلق «لحظة اليتم المفترض». أما «الجوائز» وعلى الرغم من أنها أقرب إلى طقوس اجتماعية وتقاليد صالونات، فهي بدل أن تحتفي بالشعر الحقيقي، كرَّستْ عُزلته».

الراهن الشعري وحكايا المندثر

ميثم-الحربي

ميثم الحربي

وعطفًا على محاور الموضوع بإشكالياته المطروحة نحو رؤى شابّة تشكّلت تجاربها في العقد الأخير، يطرح في أولها الشاعر ميثم الحربي فهمًا خاصًّا يلتقي فيه مع الآخرين أو يتفرّد أحيانًا في طريقة قراءته. يقول ميثم: «طالما فهمنا أن مفهوم (الراهن الشعري) يرتبط بالحياة الثقافية، والسياسية، وأطوارها المتحرّكة كما تختزن مفردة الراهن شحنة الزمن، وتبذر لنا في كل مرّة مرحلة المحكّ، ومرحلة الصعب، وحضور الصراع. وعلى هذا الأساس يتغذّى راهن الشعرَيْن العراقي والعربي من بنياته الاجتماعية الحافلة بحكايا المندثر والجديد، والمغايرة، والمشاكسة، والاتهام، ومواجهة سدنة الثوابت. ونكاد نجزم أنّ هواجس التحديث وقيمها نابعة من هذا المأزق أو المآزق المركّبة. لقد هبّت رياح كثيرة وملوّنة على الفنون ومنها فن الشعر، وكانت الإفادة من ذلك تتمحور حول فكرة التخصيب بين الحاجات المحلّية لمجتمعاتنا وبين الرّجّات المَوْجيّة للتثاقف عبر الترجمات من اللغات المختلفة فيما يتعلق بالتأويل الجمالي للعالم».

ويرى بخصوص ثنائية الشعر والقرّاء عدم وجود إشكالية تجاه القارئ المختصّ، «غالبًا ما يُغطي فهمنا لعوامل انحسار القراءة كتلة الجمهور العام. وهذا يمكن أن يحلّ عبر إنشاء برامج فعّالة للترويج. لكننا نصطدم هنا بعقبة دور النشر التي تضع الأرباح في المقدّمة وتتحرّك وفق هذه المعادلة. وبلا شك هناك تأثير واضح لعوالم التواصل الاجتماعي، فالتثاقف عبر «السوشيال ميديا» أبرز غثّه وسمينه على السطح، لكن تبقى التجارب الأصيلة مُفحمة لكل جدال».

أزمة الشاعر والقارئ معًا

رشا-القاسم

رشا القاسم

وتختم الشاعرة الشابة رشا القاسم بجملة تشخيصات تعرض لها ببساطة حول رؤيتها لطابع الإشكال الشعري من خلال عوامله الداخلية، أو بالمقارنة بالرواية وتسيّد الأخيرة المستمرّ على مساحات كانت تُحتسب للشعر فيما مضى. تصف رشا «ما حدث» بأن أحد أسبابه هو «أن لغة المجتمع تغيّرت عن لغة الشاعر، فصار جمهور الشعراء هم الشعراء من ذات جنسه ولونه، بينما التفت المجتمع إلى أجناس أدبية أخرى ذات لغة وأسلوب سهلين ومفهومين. ما يحدث اليوم هو أن الشاعر الحقيقي يواجه أزمة قرّاء، والقارئ المثقف يواجه أزمة في الشعر».

تضيف القاسم «نعم، أصبح الشعر أكثر يُتمًا، ليس لأن الرواية تحاكي بشكل أدقّ معاناة الواقع العراقي أو العربي فحسب، بل إن شروط كتابة الرواية سابقًا اختلفت عن شروط كتابتها اليوم بدءًا من الأسلوب وصولًا إلى عدد الصفحات. أصبحت كتابة الرواية اليوم أكثر سهولة، وذات عوالم متحرّكة؛ من أحداث وأزمان وأماكن تفصيلية، تنقل الحياة «أي حياة» على الورق. كما أنها لا تتداول الرموز التي يتناولها الشعراء في نصوصهم، وقد يتوافر ذلك في بعض النصوص، لكن ليس كما هو في الرواية».

الزمن العربي شعري بامتياز

هاشم-شفيق

هاشم شفيق

من ناحية أخرى، لا يبدو الشاعر هاشم شفيق مرتاحًا لوصف الشعر بالتراجع والانحسار إزاء أجناس أدبية أخرى صاعدة على مستويي الحضور والتداول. فهو يعبّر عن وجهة نظره بطريقة ناقدة؛ إذ يقول: «دائمًا يُثار حول الشِّعر لغط ما؛ مثل أزمة الشعر العربي، وفي حقبة الستينيات برزت مشكلة قصيدة النثر وأثرها في الأصالة والتراث والقدامة في الشعر العربي، لنشهد بعد كل تلك الإرهاصات، ومنذ أكثر من عقد ظاهرة الرواية التي نادى بها بعض النقّاد الذين لم يستطيعوا مجاراة فن النقد وتتبّع الأساليب الشعرية المتطوّرة في سياق الحداثة الشعرية، حتى انبروا يردّدون أنه زمن الرواية التي أصبحت ديوان العرب. إنها تسمية خاطئة، في الزمان الخطأ، والمكان الخطأ؛ الزمن العربي هو شعري بامتياز، والمكان كذلك، نحن أمّة شعرية، ومجبولون على الشعر وعلى قول الشعر حتى في جلساتنا وقعداتنا، وفي مشوارنا الطويل مع الحياة. أما الناقد الذي اتّكأ على هذا التعبير، فهو جهِد ساعيًا إلى تغطية قصوره في فهم النصوص الحديثة، والأجدّ في كتابة القصيدة المعاصرة التي قطعتْ شوطًا كبيرًا، من التحوّلات الفنية والأسلوبية والإستاتيكية في كتابة نسق جديد ومستحدث للقصيدة».

ويمضي هاشم شفيق قائلًا: «لو رجعنا قليلًا إلى الوراء ورأينا حال الشعر وقارنّاه باليوم؛ لوجدنا الشعر في هذه الأزمنة أكثر انتشارًا من السابق. الشعر اليوم بدأ يصعد معراجًا جديدًا مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث، فالفيسبوك ساعد على انتشاره رغم تسميته بفن القلّة، كما جاء على لسان الشاعر الإسباني الكبير رامون خمينيث، وتُدُووِل من بعده، ووسّع من مدلوله الشاعر المكسيكي أكتافيو باث. الشعر لن يموت كما يشيع بعض حسّاده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبيرية وجمالية معيّنة، هو مثل أيِّ فنٍّ آخر، أصابه تطوّر جمالي ملحوظ، وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة والمجاورة له، كالموسيقا والرسم والسرود عالية الفن والمُكنة. لقد تطوّر الشعر وشهد ثورات كثيرة، استهدفت الشكل والمحتوى وطرائق التعبير، وجاءت على كل تاريخه لتقدّمه بحُلّة مختلفة».

ويقرّ شفيق بتحول الشعر إلى بضاعة كاسدة، «هذا صحيح؛ لأنه لا يباع مثل الكتب الإيروتيكية التي ينشرونها، أو مثل كتب المذكّرات، أستثني طبعًا الناشر المثقف والاستثنائي، ناهيك عن المستوى الدراسي والتعليمي للشعوب العربية التي تدنَّى مستواها العلمي والأكاديمي لأسباب لا تحصى؛ أبرزها الحروب المجانية التي حصلت في المنطقة، وهدَّدتْ أمنها وعرّضتها للتخلّف والتراجع لحقب طويلة. كل ذلك في اعتقادي أدّى إلى تراجع بيع الكتاب على نحو عام، وجاء هذا الأمر على حساب التعليم ونهوضه، ونشر الفكر التنويري، ذلك الطامح إلى إلغاء الغايات والمطامح الضيقة كلّها، التي تحاول زرع العتمة عوضًا من إنبات النور وانتشاره».