الأكاديمي يترك مشعل التنوير ويحمل السلاح وراء الحوثي

الأكاديمي يترك مشعل التنوير ويحمل السلاح وراء الحوثي

لم يتبق من ملامح جامعة صنعاء سوى حجارتها التي مع ذلك لم تنجُ من اعتداء الشعارات الحوثية. فمع القبضة الأيديولوجية والأمنية للحوثيين تلاشى آخر ملمح تنويري لها. أو بصورة أكثر دقة؛ سلبت روح مقاومتها. ساهمت جامعة صنعاء في الفعل التنويري، وخلال حقبة رئاسة الشاعر اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح، استضافت فعاليات ثقافية عربية وعالمية، منها فعالية عن الشعر الفرنسي وأخرى عن الإسباني، وشارك فيها شعراء فرنسيون وإسبان وعرب، إضافة إلى استضافتها أدباء ومفكرين عربًا في فعاليات ثقافية وإنسانية. كما أنها خلال عقودها الأولى ضمت بعض أهم الأكاديميين العرب، ضمن كادرها التعليمي، وامتازت أروقتها بالآمال المفعمة التي انهار معظمها في الواقع. لكنها اليوم تؤول إلى الانحطاط مع سيطرة الحوثيين، وأصبحت مركزًا للترويج لجماعة الحوثي. فجامعة صنعاء أحالها الحوثيون إلى مركز يستضيف كل ما يمجد توجهاتهم وفعاليتهم؛ وصارت لافتات كبيرة بحجم واجهاتها تعلق على الجامعة تمجد صور «الشهداء الحوثيين». وفي سيرة مأساوية شهدت خلالها أكبر جامعة يمنية الكثير من التقلبات، كانت مركزًا للثورة وفي الوقت عينه شهدت أروقتها آلة قمع ناعمة.

يشكل السلاح رمزية لجماعة الحوثي، وتوحي صورة الأكاديمي وهو حامل السلاح وعليه شعار الحوثيين ترويجًا مبتذلًا لأيديولوجية دينية وعسكرية. لا يقتصر الأمر على ترديد ولاء، ففي صور مماثلة سقط الكثير من الأكاديميين والمفكرين ضمن تيارات أيديولوجية وفاشية على مر التاريخ؛ لكنه هنا يحيل مضمونه الأكاديمي إلى هيئة تجعل من مظهر المقاتل الحوثي أنموذجًا يساهم في الترويج له الأكاديمي. وهناك مغزى مزدوج؛ إذ يقوم الأكاديمي بإهانة مركزه كحامل لمشعل التنوير، وفي الوقت نفسه يؤكد من مركزه هذا النموذج الذي يمثله السلاح الحوثي، في إيحاء إلى كونه يتجاوز أي قيمة تعليمية.

وفي صورة أكثر مباشرة دعا أكاديمي، في جامعة صنعاء، على صفحته في الفيس بوك، طلابه للاحتشاد وراء الحوثي في ميادين القتال. ارتفعت الأصوات في السابق لتجنيب الجامعة تدخل السلطات، والحفاظ على استقلاليتها بوصفها منبرًا تعليميًّا بدرجة أساسية. تحافظ استقلالية التعليم على البنية الأكاديمية، ومع تدخل السلطات في الهيمنة على المشهد الجامعي، وُزِّعَت المنح الأكاديمية ضمن عملية استقطاب سياسي، وساهمت في تدهور البنية الأكاديمية؛ لأنها استثمرت في السياسة على حساب الكفاءة التعليمية.

مع هذا، ظلت الجامعة ملمحًا عامًّا للمجتمع بكل أطيافه، وهذا الشكل لا تستسيغه إرادة شمولية تتمتع بالكثير من الأفكار الفاشية مثل جماعة الحوثي. وعلى مدار عقود ظلت جامعة صنعاء مركزًا لكثير من التفاعلات الثقافية والسياسية والإنسانية؛ إذ شهدت تفاعلات الحركات السياسية خلال المرحلة السرية، ومع ظهور المرحلة العلنية للنشاط السياسي في التسعينيات، كان المستوى التعليمي في مرحلة تدهور، غير أنه جزء من إرهاصات وضع عام. ظلت الجامعة مرآة لما يدور في المجتمع اليمني. ففي النصف الثاني من تسعينيات القرن الفائت، حاولت الجماعات الإسلامية المتشددة تكريس أيديولوجيتها داخل جامعة صنعاء.

وفي هذا السياق، منعتْ مجموعة من الشباب المتشددين رحلةً جامعيةً بحجة أنها مختلطة. ما زالت الصورة عالقة؛ حين ألقى أحد الطلاب المتشددين برأسه عند إطار الحافلة مستلقيًا على الأرض، وكانت هناك حشود منهم غاضبة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما ظهرت مضايقات في الحرم الجامعي لأي ملامح اختلاط. كان الأمر أشبه بعاصفة، ولم يتوقع أحد أنها نبوءة لظهور جائحة ستكون أكثر سوءًا وعتوًّا. أما تلك الجماعات فقد كانت جامعة صنعاء مركزًا لظهور بعض ملامح التحرر الاجتماعي والثقافي، وإن بصورة محدودة، لكنها أوَّلتْها كمصدر خطورة على المجتمع.

في عصر النظام السياسي ذي الطبيعة العسكرية الذي ظهر بعد ثورة 26 سبتمبر، كانت الجامعة جزءًا من إنجازاته الثورية. لكن تشكلت حساسية جعلت احتواء جامعة صنعاء جزءًا من قيمها، وفي أروقتها ظهرت أدوات مراقبة على أي نشاط سياسي، بل تشددت مع الكثير من وجهات النظر، كانت ذات طبيعة سياسية أو دينية أو حتى فكرية. ظلت كلية الآداب مقصدًا دائمًا، لفنانين وأدباء وشعراء يمنيين، يجدون تحت أشجارها مسرحًا تأمليًّا، أو فضاءً لنقاش أفكارهم.

أشجار الصنوبر من صورة مزهرة إلى مظهر شبحي

عدا أن تلك الصورة المزهرة لأشجار الصنوبر والكازورينا بأوراقها الإبرية تحولت إلى مظهر شبحي، بعد أن مات الكثير منها. وهذا ليس فقط صورة زائلة عن عهد عاشته الجامعة حمل الكثير من الآمال لأجيال عديدة، ومع هذا الجيل تفسخت الصورة، في ذلك المظهر المهين للتعليم؛ وظهر الأكاديمي حاملًا للسلاح كأنه البديل لأدوات التنوير. تتعامل جماعة الحوثي بحساسية مفرطة تجاه جامعة صنعاء، فساحتها الخارجية شهدت أول عملية احتجاج في صنعاء ضد الحوثيين، نتيجة انقلابهم على العملية السياسية عام 2014م. إلا أن حساسيتهم تجاه الجامعة لا تقتصر على ذلك، فالمشكلة جذرية تتعلق بتركيبة الحركة وخلفيتها السياسية والأيديولوجية. وهو طابع الحركات الأصولية، فهي من ناحية تعمل على توظيف التعليم لمصلحة منهجها الأيديولوجي، ويتعدى ذلك إلى سعيها لتفسير كل شيء ضمن مشروعها المحدود الأفق.

تلوح الصورة الموحشة لما آلت إليه جامعة صنعاء، عند المرور أمام المبنى القديم الواقع على الشارع الدائري؛ وتقف وراء السور صف أشجار الكازورينا الطويلة، والصنوبر والسرو، شبه محروقة بعد أن أهملت خلال الأعوام الأخيرة. وهو أحد الوجوه التي تبرز من خلاله ملامح جامعة صنعاء ضمن تدهور عام واختلال جذري في مظهر الجامعة.

الحوثيون من المظلومية إلى الاستبداد

الحوثيون من المظلومية إلى الاستبداد

منذ ظهر الحوثيون كحركة متمردة في اليمن، استخدم مناصروهم تعريف أقلية لهم ضمن فكرتين، الأولى: منحهم حق التمايز عن الآخرين، وفي الثانية: إثارة مجال متعاطف معهم. لكن هل هذا كافٍ لمنح حروبهم شكلًا مشروعًا؟ وأي نوع من الأقلية هم؟ هكذا حاول الخطاب المتعاطف، عبر استخدام مصطلح أقلية، نقل مشروع الحوثي السياسي من مستوى العنف إلى قضية حقوقية فيها كثير من التضليل.

إذن يمكن التعامل معهم بوصفهم أقلية في سياق النسبة السكانية، وإن ظل هذا التعريف ملتبسًا ضمن احتجاج سياسي تشغله مبادئ عامة عن حقوق الأقليات. لكن على مستوى التعريف النظري لا يمكن حجب الالتباس إذا أردنا تعريف الحوثي كهوية سياسية، أو سكانية، أو حتى إنسانية. والحوثي حرص على إثارة الموضوع الطائفي، على أساس أنه يمثل فئة أو هوية مختلفة، ليس فقط عبر رمزية طقوسية واحتفالية ميزتها أقمشة خضراء، وشعارات كرست التلويث البصري بقدر ما كرس مسلحوه تعكيرًا للسلم العام، بل أيضًا في خطاب وممارسات عرّفت اليمن ضمن هويات مقسمة. فعندما بدأت ميليشياته بحصار صنعاء، استدعى الحوثي التقسيم المناطقي، فكان يخاطب أبناء الجنوب، وأبناء تعز، لكنه أيضًا غازل توجهًا عالميًّا حضرت حسابات مصالحه السياسية في المنطقة تحت مظلة الحرب على الإرهاب.

عند احتفال مناصريه يوم 22 سبتمبر بعد سقوط صنعاء في عام 2014م، وجه الحوثي تحذيرًا إلى مأرب والبيضاء بأنه سيقوم بملاحقة القاعدة وداعش هناك. وكان المسرح جاهزًا لتفسير حروب غرضها شرعنة استيلائه على السلطة، أو انقلابه. إذن لم تعد المسألة صورة أقلية تواجه فضاء عامًّا معاديًا؛ بل ميليشيا منحت نفسها حق العدوان. والدعشنة كان المصطلح الجديد الذي ارتداه الحوثي بعد سنوات من ادعاء المظلومية. وهو المبدأ الذي شرعنت عبره الحكومة الطائفية في العراق تكوين ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية في العراق تحت ذريعة مواجهة داعش، ومارست التنكيل بأبناء السنة.

مشروع ممنهج لابتلاع الأكثرية

منذ اللحظة الأولى كان خطاب الحوثي يضمر طموحه السياسي عبر ادعاءين: المظلومية، وشعاراته ذات الطابع الديني والمعادي لأميركا وإسرائيل. وعندما أتيحت له الدولة، حتى بوصفه حليفًا داخليًّا، أرسل مسلحيه للسيطرة على المدن، وفي الوقت نفسه بوصفه حليفًا ممكنًا لأميركا في حربها ضد داعش والقاعدة. هنا تصبح الأقلية مشروعًا ممنهجًا لابتلاع الأكثرية، مشروعًا يلاحق إرثه السياسي القائم على تغليف اليمن بالعمامة البالية التي مثلها الإمام في القرون الماضية.

استفاد الحوثي من التعميم الذي فرضه مفهوم الأقلية، فهو على مستوى مناصريه يضمن تحفيزهم لوجود عدو دائم، وبالتالي ديمومة استعدادهم القتالي. وفي الوقت نفسه إنتاج ثقافة المظلومية الحاضرة في تراث عقائدي عميق. حتى إن أي حرب سيخوضونها هي دائمًا نحو عدو أميركي، وآخر محلي داعشي صنعه هذا العدو. فحربهم ضد القاعدة هي دائمًا ضد أميركا، يعززها شعار أو مقولة مؤسس الجماعة حسين الحوثي: «القاعدة صناعة أميركية». هذا بالنسبة للخطاب الموجه لمناصريه. وعلى مستوى حقوق الأقليات، يضمن تعاطفًا محليًّا وآخر دوليًّا متناغمًا مع أكلاشيهات خطاب المنظمات الحقوقية. أنتج ذلك مستوى تعريفيًّا، يكاد يكون واحدًا، بصفتهم أقلية مضطهدة. وذلك صاغ إلى حد كبير، مشروعية العنف الذي دشن به الحوثيون ظهورهم المعلن على الساحة اليمنية.

%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%86-%d9%a2

تعميمات دينية وسياسية

منذ البداية تهرَّبَ الخطاب الحوثي من إعلان أجندة سياسية واضحة. كان دائمًا يغلف خطابه وراء تعميمات دينية وسياسية. وعندما كان مسرح وجوده المسلح مقتصرًا على صعدة وأجزاء من عمران، ظل الحوثي يدعي أنها حروب دفاعية. ضد من؟ إنه مجال غير واضح أو محدد. ضد أميركا وإسرائيل، ضد التكفيريين. وأين ستتوقف تلك الحروب الدفاعية؟ فبوصفهم أقلية سيكونون مُطالبين أيضًا بتقديم إيضاحات عامة عن مطالب سياسية. لكنه خطاب يضمر طموحًا بالاستيلاء الكامل على الحكم. مع توسع سيطرة المسلحين الحوثيين، تغيرت النبرة الخطابية، لم تعد حروبًا دفاعية، بل صارت ذات نبرة خمينية «مناصرة المستضعفين»، ما يعني أرضًا مفتوحة. كما أنه بعد طرد «سلفيي دماج» ظل يعلن أنه سيقوم بتطهير البلاد من التكفيريين. كان لهذا الاستدعاء حافز يثير الصراعات ذات البعد الطائفي. اعتقد بعض المراقبين أن الحرب في الجغرافية القبلية جهوية خالصة. وهو المجال الذي منح الحوثي فضاءً يراوغ فيه، ومكنه من إسقاط المدن، أي أن تفتت المضمون الوطني في اليمن أسهم في تصاعد تلك الجماعة، وسيظل يمنحها كل مقومات البقاء.

ولا يمكن تصنيف جماعة الحوثي بوصفها جماعة عرقية، أو لغوية، أو قومية مختلفة بالنسبة لليمنيين. لكنها تحاول بناء هذا الادعاء العرقي، فعندما سقطت إحدى قرى جبل صبر في تعز في يد المقاومة، كانت تحت سيطرة مسلحي الحوثي، روج إعلامهم وأشاع عن حدوث تطهير عرقي هناك. مع هذا، لم يعترف الحوثي بحقوق أي جماعات مختلفة. فعند سيطرته على صعدة قام بطرد ما تبقى من اليهود. ثم إنه مارس كل أشكال القهر والقسوة ضد خصومه، فقام مسلحوه بتفجير مساجدهم ومنازلهم.

ادعاء متعجرف لا يريد مساواة مع الآخرين

يعتقد الحوثي أنه أقلية متمايزة من غيرها، بمعنى أنه يندرج ضمن مفهوم سيطرة الأقلية، وهيمنتها الكلية دون شريك أو منازع. وهذا الادعاء المتعجرف لا يريد مساواته مع الآخرين، لزعمه أنه ينتسب إلى النبي محمد من ابنته فاطمة، أي الهاشمية. ووفق ادعاء مذهبي كرسته الإمامة الزيدية، يَدَّعِي لنفسه، أو لفئته، الحق الوحيد بالحكم، وما يمنحه حق التحكم بالأكثرية، ويشرع له كل أشكال الاضطهاد والقسر، والاستيلاء على مصادر الثروة والسلطة. إن طبيعة هذا الانتساب لا يمكن إدراجه في مستوى واحد مع حقوق الأقليات، إلا في شروط سياسية منحرفة. وهي كفكرة تكشف تمايز مركب داخل الحركة نفسها، بما أنه يعتمد على كيان واسع من أبناء القبائل ووجاهاتها.

يلعب الحوثي على فضاء الموروث السياسي الذي هيمنت عليه جغرافية قبلية محددة في اليمن، استطاعت الإمامة الهادوية توحيدها في الإطار الزيدي. وهو الإطار الذي سيحاول الحوثي إعادة تشكيله في مضمون يستدعي النموذج الخميني، وإن بصيغة زيدية. في ثمانينيات القرن الماضي، ابتدع بدر الدين الحوثي والد حسين مؤسس الجماعة الحوثية وعبدالملك الزعيم الحالي، تقاربًا عقائديًّا بين الزيدية والخمينية، ومنه نسج تقاربًا يضمن لإيران موطئ قدم في اليمن. لكن هذا التقارب لا يحظى بقبول معظم المجتمع الزيدي، إلا في حال استدراجه داخل تحولات سياسية تضمن للحوثي أن يكون حيزه الضيق والوحيد.

يتطابق مفهوم الأقلية، مع خطاب المظلومية الذي يستند إليه الحوثي راديكاليًّا. لكن عبر احتكاره السلطة يمارس القسر والإلغاء ضد مجتمع تمثله أكثرية سنية، وهو ما جسدته ممارسات الحوثي بعد انقلاب 21 سبتمبر. ويمكن أن يكون الحوثي أكثرية على المستوى العصبوي والمتضامن؛ لأنه لا يوجد في اليمن فضاء سني واحد متضامن، وحتى مناطقيًّا، لا يشكل الجنوب كيانًا واحدًا، أو حتى تعز. وبالعودة إلى نصيحة الصيني تزو في كتابه فن الحرب، يقول: «حافظ على أن تكون أكثرية عبر تشتيت العدو». وهو ما سعى إليه الحوثي في خطابه عبر تعامله مع اليمن كهويات منقسمة، تضمن تفوق مجاله العصبوي. وهكذا يتاح للأقلية ابتلاع الأكثرية المشتتة.

المثقفون اليمنيون في ظل الحرب من تسويق الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة إلى «الهروب الجميل»

المثقفون اليمنيون في ظل الحرب من تسويق الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة إلى «الهروب الجميل»

لا تترك الحرب نسيجًا واحدًا في صورة المثقف، إنها أشبه ببورتريه ممزق الملامح ومحطم كما في لوحات بيكاسو. وبالنسبة للمثقف في اليمن، كما يقول الكاتب والفنان التشكيلي نبيل قاسم، لا يربح سواء كان البلد في حالة حرب أو حالة سلم، هو دومًا خاسر. «الحرب هي ذلك السعار الملعون الذي يدفع نصف الآدميين إلى إرسال النصف الآخر للسلخانة»، يقول الروائي الفرنسي سيلين. وفي تلك الثنائيات المميتة لا ينجو المثقف. أحيانًا يصبح بوقًا تحريضيًّا. ومع أن الحرب حالة يأس جماعي، مأساة الكل، هناك صورة إنسان يقف وحيدًا في ظلام شاحب، وهو يرتدي قناع صرخة مكتومة هلعًا. وفي الطرف الآخر حيث الساحات الخربة، أو الأزقة التي لا تبلغها الشمس، يصبح القناع ساخرًا، في نسخة هوليودية لقاتل عابث. النقطة المشتركة في تضاد: هزلية سوداء. ومع ارتفاع وطأة الحرب، هناك من أعاد النظر في ذاته، أو انساق في مفرمة قلق وحشي. هكذا يروي المثقفون اليمنيون بصور مختلفة، انعكاسها عليهم.

قول نبيل قاسم: «خلال فترة الحرب زادت مساحة الظلام، وزادت مساحة الخوف، وجدت بالصدفة أوراقًا بيضاء عادية بحجم A4، وجدت ألوانًا خشبية وقلم رصاص، وبدأت اللعب. رسمت أكثر من 200 لوحة، لنقل إنها بلغة الفن إسكتشات». يلفت المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى العلاقة الوثيقة بين الفن والخوف؛ إذ إن الرسم والنحت تولدا كسعي ثابت ضد الموت. فن الصورة من أجل تخليد سمات زائلة. قرأ نبيل العديد من الكتب والروايات. وكتب أشياء كثيرة لن يعرف كيف سيصنفها. إلا أن الحرب من وجهة نظره، جعلتنا أيضًا نعرف «كثيرًا من المثقفين ظهروا عبر مواقفهم السياسية مؤيدين للحروب والقتل، أحيانًا باسم الدفاع عن الوطن». لقد التقى القبلي، بالمناطقي، بالديني،… وهذا شيء جعله ينأى بنفسه بعيدًا. وأضاف: لم تكن هناك في السابق حياة ثقافية لنخسرها بالحرب. لم تكن هناك مسارح أو دور سينما لتُغلق. يتعلق الأثر السيئ بالحياة اليومية للناس التي كُسرت برأيه، أطفال اختنقت ألعابهم وضحكاتهم. ظهور هذا العدد من القتلة حين يصبح الحديث عن القتل أمرًا عاديًا، أن نرى الأطفال يُستخدمون كأدوات للقتل.

فعالية-ثقافية-في-صنعاءانتصار الحياة بعد كل حرب

الجميع تضرر ماليًّا واقتصاديًّا بمن فيهم المثقف، لا يوجد رابح سوى تجار الحروب. أما الثقافة في نظر نبيل فهي الطريق المعبد للخسران في اليمن. لكن حتى تكون مثقفًا عليك أن تكون عنيدًا. ينشط نبيل مع مؤسسة بيسمنت الثقافية، التي تقدم من خلال منتدى التبادل المعرفي برنامجًا كل سبت، عبارة عن ندوات، ومحاضرات، وحفلات موسيقية، ومعارض فنية. بداية الحرب توقفت الأنشطة الثقافية التابعة لمؤسسات مجتمع مدني، ثم عادت تدريجيًّا. وبصورة استشرافية تحدث نبيل: لم نعترف بالموت، وكنا نصر بأن الحياة تنتصر بعد كل حرب.

مع توقف العمل الخاص، ركز الشاعر محمد الشميري اهتمامه بالتجمعات الثقافية في الحديدة؛ حيث قام وآخرون بتفعيل دور نادي القراءة، من أجل تنويع فعالياته أدبيًّا وفنيًّا. يقول: إنه مع زيادة وقت الفراغ صار يقضي ساعات كثيرة في القراءة، أو متابعة ما يُكتب هنا وهناك. يقول محمد: إن صدمة كبيرة كان سببها مثقفين، أو من كان يعتبرهم كذلك، حين تحولوا فجأة إلى أدوات حرب دقيقة أقسى من القناصة. لكن هل يمكن إزالة صفة المثقف نتيجة سقوطه المدوي سياسيًّا. ماذا عن الفيلسوف الألماني هيدغر، الذي انساق في مناصرة النازية وآلة قمعها القائمة على وهم التفوق العرقي الجرماني. بالنسبة للشميري أخذت الحرب منحيين في أثرها على المثقفين اليمنيين؛ الأول سلبي وتمثل بمثقفين سوّقوا الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة. والآخر إيجابي، وهم بنظره قلة ركزوا في الجوانب الفكرية والجمالية، وأعادوا النظر في إنتاجاتهم، وهو ما اعتبره نوعًا جميلًا من الهروب.

إلا أن أكثر شيء يرعبه هو تصاعد نظرة سلبية تجاه المثقفين، حتى بين المثقفين أنفسهم. وأشار محمد إلى نبرة بدأت تعلو بين الناس: انظروا ماذا يفعل المثقفون. هناك حالة كفر تضرب المجتمع بدور الثقافة، اعتبرها كارثة عميقة في الوعي الجمعي. أما عن نظرته للأمور فيؤكد أنها تغيرت، على الأقل انخفض مستوى الأمل لديه. صار أقل تسرعًا، وأكثر توقعًا للخيبات. كانت اللحظة الأكثر إيلامًا، عندما نزح أقارب له من الموت في تعز، إلى منزلهم في الحديدة. يقول: إنه حين ارتدى ابنه ثياب المدرسة وحمل حقيبته، لمح طفلًا بينهم يبكي بحرقة. سأله عن السبب. رد بحرقة: ليش أنا مش قادر أروح مدرستي بتعز؟ ما زال الشميري منشغلًا عما بعد الحرب، وآثارها العميقة.

إحساس قوي بالخراب

بصورة أخرى يتحدث الكاتب والصحفي لطف الصراري حول كلفة لا تقتصر على القتلى والدمار، إنما تداعيات نفسية سيدفعها جيلان على الأقل في اليمن. أما أكبر أثر على المثقف يقول: إنها «تدفعه إما إلى تجزئة ضميره أو إلى الجنون». إحساس قوي باللاجدوى والخراب يعمه وهو يراوح بين الرجاء واليأس. على الصعيد الشخصي تبدلت حياة الصراري رأسًا على عقب خلال الحرب، بعد توقف الصحيفة التي كان يعمل بها، وتوقف معظم الصحف الأهلية العام الفائت. إلا أن الحرب ولدت لديه دافعًا لإعادة النظر في كثير من مفاهيم الحياة. وفي المحيط السوداوي وجد وقتًا للكتابة، وللقراءة.

حفزت مأساوية الحرب أفكارًا كثيرة لدى الصراري. يقول: إن «بعضها ينضج ومعظمها يتفتت نتيجة الهم اليومي للمعيشة من ناحية، ومخاتلة مخاوف الموت وإغراءات الحياة من ناحية أخرى». مع هذا تمكن من إصدار مجموعة قصصية شغلت الحرب معظم نصوصها. بالنسبة له حياتنا لن تعود كما كانت سابقًا، ومنطلقات الكتابة وموضوعاتها لن تكون هي نفسها. ويضيف: «هذا يشغلني كثيرًا بقدر ما تشغلني أمنيات السلام». فذاكرة الحرب تترك الكثير من الندوب، ليس أولها صراخ أطفاله إثر تجارب الخوف، ولا آخرها أحذيتهم الممزقة وألعابهم الحربية. تجربة الحرب أيضًا تختلف بالنسبة لأولئك الذين عاشوا ظروفها الدامية وسط المدن».

المثقفون-اليمنيون-٢١يصف الكاتب نشوان العثماني، وهو مراسل لـ«مونت كارلو» في عدن، كيف أحاطتهم الحرب من كل ناحية في عدن. ونتيجة القلق زاد إدمانه على مضغ القات. كانت المواد الغذائية تنعدم، أما القات فلم ينقطع عدا أيام قليلة. تضاعفت أسعار المواد الغذائية، لحظات مشحونة بالرعب والمأساة. انعدمت أنابيب الغاز. شاهد الموت حيث سقطت صواريخ كاتيوشا وقذائف جواره؛ لتقتل أبرياء في حيه.

عاش لحظات فاقدًا الأمل، وحاول التماسك، مستعينًا بالروايات؛ ليستدين منها عوالم متخيلة. وبينما كان ينسى ما حوله داخل رواية، تعيده أصوات قذائف أو صواريخ إلى الواقع المرير. لم يقرأ شيئًا آخر سوى الروايات وكتب أوشو والفلسفة البوذية. كان يبحث عن السلام الداخلي؛ لأن أكثر ما يخيفه هو توحش الناس، وفقدان قيم المحبة والتسامح. سأل أصدقاء له في الهند ومصر وسوريا: كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في الحروب ويظل محافظًا على سلامه الداخلي وعُرا المحبة؟ يرى نشوان أن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي. فهل سيأتي هذا الصباح على اليمن، أو سينتج عنه وطن على طريق الأفغنة أو الصوملة؟ لا تتساوى الآمال. لكنّ نشوانًا يحلم بأن يستيقظ الوعي في فترة بهذا الإظلام. فإن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي. كان شعاري في الحرب ولا يزال: لنرَ ما يكتبه الله وكل ما يكتبه الله جميل. لكن الجانب الأكثر قسوة، بالنسبة للثقافة برمتها، هو صورة المثقف المعرضة للتنكيل في المخيلة العامة لليمنيين. تتشكل في الوعي الجمعي، أحكام سلبية ستساهم في ارتفاع الفكر الأصولي، واتساع رقعة العنف.

تداعيات الحرب في اليمن, وداع المكتبة  أو الزفرة الأخيرة

تداعيات الحرب في اليمن, وداع المكتبة أو الزفرة الأخيرة

gamalفي وجود مكتبة يختلف الأمر للذين تجبرهم الحرب على ترك بيوتهم، بما أنها الجزء الأثير الذي يصعب حمله. يمنيون ودَّعوا مكتباتهم من دون عودة، وآخرون أودعوا فيها أمل الرجوع. إنها الجزء الحيّ الذي تركوه بين جدران أو أغلفة ميتة. لا يمرّ يوم من دون أن تفكر إلهام الوجيه (صحافية) بمكتبة تركتها في اليمن، لم يكن فراقها سهلًا؛ قالت: «كان ظلمًا فادحًا».

ثمانية أشهر منذ ألقت إيمان عامر (طبيبة أطفال) نظرتها الأخيرة على مكتبتها المنزلية، هي عمر الحرب في اليمن. على مدار سبع سنوات شاركت أخاها في ملء رفوفها حين تتوافر لهما السيولة. تقول: إن حجمها ليس بالكبير، لكنها الإضافة الأجمل في البيت. يمكن لتلك الإضافة أن تتعرض إلى الفناء أو الدمار؛ لوقوع إحدى القذائف التي تلقيها الميليشيا وسط المدنيين في تعز. كان يوم جمعة، وفي ساعتين قرروا ترتيب أمر السفر والنزوح إلى القرية. «ماذا يمكن لعقلك التفكير في أخذه أو تركه في أثناء حرب الفجأة؟» تساءلت.

كل فرد من أفراد أسرتها ذهب ليجمع أكثر أوراقه خصوصية: جوازات سفر، ووثائق ملكية، وشهادات، وأوراق عمرها عشرون عامًا، وملابس، وغذاء. ربما بعض الأشياء الثمينة. تذكَّرتْ إيمان عوالم مكتبتها؛ الماضي الذي يحمل حكاية للمستقبل. كان بوق السيارة في الخارج يُطلِق تنبيهًا إيذانًا بالرحيل العاجل.

ما زالت إلهام الوجيه تتساءل من منفاها الحالي في إسطنبول، عن الشجاعة التي امتلكتها لترك مكتبتها ذات الألف ومئتي عنوان؛ ذات يوم استيقظتْ من النوم يُغلفها الرعبُ؛ لم تكن فقط مستعدةً أو متحمسةً لما بعد الفراق. غير أن عاطفة غامضة أثارتها الرفوف. فوراء كل كتاب تجلس حكاية وأسرار تخصُّهما فقط.

yamen-booksاستطردت: أكثر من ملايين الأفكار والمشاعر والذكريات والتداعيات الرُّوحيه كنت أظن أني سأتركها ورائي، بكت وهي تخبر أسرتها عن ذلك الفراق. فالمكتبة كانت لها، حسب ما قالته: «الغرفة السرية، وسدرة المنتهى وغيمتها الماطرة» أمام الرفوف وقفتْ تفكر: ماذا الذي ستأخذه؟ وما الذي ستتركه؟ «أنا غير مسموح لي أن آخذ سوى حمولة قليلة من حياة دامت سنوات عمري السابقة!» تقول إلهام وهي تتذكر تلك اللحظة المؤثرة: لو أنها محض كتب، أو رفوف، كان فراقها سيكون سهلًا، ليس فقط القراءة؛ لأن بمقدورها اللجوء إلى الكتب الإلكترونية، لكنها تورَّطت معها في علاقة عاطفية. لم تكن علاقة عادية. فحين لم تكن تتوافر لها سيولة، قالت: إنها باعت من ذهبها لشراء كتب. أَخْفَتِ الأمرَ كأنه جريمة؛ بسبب تقاليد مادية في وعي محيطها؛ أن ينظروا لها كخرقاء تتخلى عن الذهب من أجل كتاب.

يروي الجاحظ في كتابه: «الحيوان» فضائل الكتاب، بوصفه لا يخون صاحبه أبدًا، لكنه أحيانًا يتعرض لخيانة صاحبه. هل يبدو الأمر خيانة لأولئك الذين أجبرتهم الحرب على هجر مكتباتهم؟ لم تجد إلهام سوى البكاء؛ بكت مجددًا وهي تُودِعها أمانةً لدى شقيقتها ندى التي تُقدر القراءة. قالت: إنها على دراية كبيرة وليست كاملة برحلتي مع كل كتاب.

نحو ألف كتاب دفنها وضاح الجليل (كاتب وناشط) في عشرين صندوقًا بأحجام مختلفة؛ استعدادًا لطارئ الرحيل. سيضعها أمانة لدى أحد أصدقائه في مكان مأمون. يرتبط مصير مكتبته بوضع البلد، ووضعه الشخصيّ. يبحث عن مخبأ لثروته الوحيدة. كان يشتري الكتب حسب احتياجاته.

ظلمتُ نفسي في نفقات الأكل واللبس؛ من أجل شراء الكتب. قال: في أثناء الرحيل المفاجئ والطارئ وخز إيمان عامر جوعٌ غير مسبوق للقراءة. أخذتْ من المكتبة ما وقع عليه نظرها. كانت السيارة تلحُّ ببوقها مُحذِّرة، بينما الحرب تتوعَّد بانفلات وحشيّ فوق المدنيين. غادرت الغرفة، لكن ما أخذته لم يكن كافيًا عادت إليها مرة أخرى لتأخذ المزيد: آنا كارنينا لتلستوي، والجذور لإيلكس هيلي، وأحدب نوتردام لهيجو، ومختارات قصصية لتشيخوف، وأربعة كتب أخرى، دسَّتْها بين أوراقها الخاصة.

يرى منير المعمري (مبرمج كمبيوتر) بقاء المكتبة في منزله، على أمل العودة إليها. ليس أملًا شخصيًّا، إنما للبلد أن تعود من رحلة الحرب المدمرة. أخذ معه إلى ماليزيا، مَهْجَره المؤقَّت، أربعة كتب: تقرير إلى غريكو، والهوية والعنف، والشعب يريد، وانتقام الجغرافيا. محض تذكار من مكتبته، جزء من تاريخه في القراءة، وفق تعبيره. في الأغلب يفضل الناس أخذ كتب قرؤوها بشغف؛ ليحتفظوا بأثر من تلك المكتبة في البيت. يضيف منير أن الكتب لم تجعل منه مفكِّرًا أو كاتبًا، لكنها جعلت منه إنسانًا. أن يترك شخص مكتبته، أن يتخلى عن شيء عزيز: أسرة، أو أب أو صديق.

وَقَعتْ يد إلهام أولًا على رواية «لعبة الكريات الزجاجية» لهرمان هسه، ثم راحت تحتضن هنا وهناك: كتاب الضحك والنسيان لكونديرا، وقصائد الخيام، والهوية والعنف، ورائعة دون كيخوتة. قليلًا تلتقط أنفاسها، تستعيد وعيها وتقول، لمن سأترك ديستوفيسكي ونيتشه من سيقرؤهما؟ كان واقعًا مشحونًا ومربكًا.

لهفة شرهة؛ قالت: إنها بدأت خجولة لتنتهي برغبة مجنونة في أخذ كل الكتب. وأخيرًا توقفت يدها يائسة من دون حمل شيء. أقنعت نفسها أنها ستتبعها حيث تكون، وغادرت فارغة اليد، تحمل صورة الحنين إلى مكتبة مهجورة، وذِكرى عن وطن تراجيديّ. بكت مع نفسها وهي تُودِع كُتبَها في صناديق محكمة، لديها أمل أن تلتقي بها عبر شحن متلاحق حين تستقر.

لحظة وداع المكتبة للذين يهجرون أوطانهم تشبه الزفرة الأخيرة، مربط الحسرة والحزن. الحرب تقتل، لكنها –أيضًاتنزع الإنسان من مكتبته. هناك بيوت قليلة في اليمن تزينها رفوف مملوءة بالكتب، هذا الجزء المضيء مهدَّد بظلام تلقيه أفواه البارود والضغائن الطائفية.