أستاذ علم اجتماع الميديا أكد نهاية التلفزيون التقليدي جون لوي ميسيكا: الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه

أستاذ علم اجتماع الميديا أكد نهاية التلفزيون التقليدي جون لوي ميسيكا: الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه

يؤكد أستاذ علم اجتماع الميديا بمعهد العلوم السياسية بباريس، والباحث في مجال وسائل الإعلام جون لوي ميسيكا نهاية التلفزيون، في كتابه الجديد «نهاية التلفزيون»؛ إذ يرى أن مشاهدة التلفزيون آخذة في الانحسار، إضافة إلى اختفاء تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج. ويذكر أن الإنترنت ستبتلع التلفزيون. ويقول لوي ميسيكا، في حوار معه صدر ضمن منشورات مركز «BNP Paribas» للبحث والاستشراف: إن الرابط الاجتماعي الذي ينشئه التلفزيون يتضمن مجموعة من الإكراهات، فالتلفزيون، في رأيه، يقدم الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت نفسه، بينما الرابط الذي تنشئه الإنترنت يتسم بمرونة أكثر، كما أنّ هذا الرابط يمنح الشعور بالحرية، على العكس من التلفزيون التقليدي.

أصدرتم كتابًا بعنوان: «نهاية التلفزيون». فماذا تعنون بهذه النهاية في زمن تضاعف فيه عدد القنوات التلفزيونية، وتزايد إقبال المشاهدين عليها؟

Missika-Book_ بالعكس، تؤكد آخر الإحصائيات أن الوقت المخصص لمشاهدة التلفزيون يتناقص، بشكل واضح جدًّا لدى الشباب على وجه التحديد. إن القناة التلفزيونية تتحرك وفق العناصر الآتية: توصيل الصور المتحركة إلى البيت، وبرمجة المواد التلفزيونية وبثها وفق مواعيد محددة، والوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين. ففي الوقت الذي تنحصر فيه المشاهدة التلفزيونية وتصبح محدودة جدًّا، وتتشذّر إلى حد أن تصبح فردية، وتختفي تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج تدريجيًّا، تاركة المجال لأنماط أخرى من المشاهدة؛ مثل: التلفزيون الاستدراكي، والفيديو تحت الطلب، والاشتراك في نظام الفيديو تحت الطلب، فإننا نلج عالمًا مختلفًا، فهذا العالم يقترح وجود عدد كبير من الصور المتحركة والبرامج المصورة المقدمة إلى الجمهور، لكنها لا تشكل تلفزيونًا بالمعنى التقليدي للعبارة. ويجب أن نضيف له المنصّات السمعية البصرية في شبكة الإنترنت؛ مثل: «اليوتيوب» و«الديلي موشن» التي تسمح ببث المحتويات التي ينتجها الأشخاص العاديون والهواة، وتغير بعمق العلاقة القائمة بين من يبث الصور ومن يتلقاها، وهي لم تعد ثابتة ومستقرة كما كانت في السابق.

إنتاج مشترك

ألا تعلن شرائط الفيديو في شبكة الإنترنت نهاية البرمجة التلفزيونية بمعنى أنها تتيح لمستخدم الإنترنت حرية أكثر، ومجالًا أوسع للاختيار؟

_ بكل تأكيد. لقد انتقلت سلطة البرمجة التلفزيونية من يد المبرمج التلفزيوني إلى جمهور المشاهدين.

هل يغير «مبدأ»: إنني أشاهد متى أرغب في المشاهدة ما ننتظره من التلفزيون؟

_ في البداية يجب أن نلحظ ظاهرة مساهمات الجمهور المستخدِم في المحتوى، وهو ما أصبح يعرف لدى الأنغلوسكسونيين بــ «User Generated Content» أي أن البرنامج التلفزيوني سيغدو إنتاجًا مشتركًا أو إبداعًا يشترك فيه الباث والمشاهد. ثم إن (فورمات) المواد التلفزيونية -قوالبها- ومدوّناتها، وأوقات المشاهدة، كلها تتطور تدريجيًّا، لكنها لا تحدث بين عشية وضحاها. فعادات وسائل الإعلام راسخة بشكل عميق. فهناك أشخاص تعودوا عادات متعلقة بمشاهدة التلفزيون منذ عشرين سنة، ولا يغيرونها بسهولة. بيد أن الأشياء تتحرك بسرعة نسبية. فعندما نلحظ التزايد الكبير في عدد مشاهدي مواقع «تقاسم مواد الفيديو» video sharing، فإننا ندرك أن طريقة «استهلاك» الصور في طور التغيير. وهذا لا يعني أبدًا أن استهلاك الصور سيقل، بل على العكس.

إذن، ما الذي يجب القيام به تجاه الأشخاص الذين لم يكتسبوا عادات في مجال استخدام شبكة الإنترنت حتى ندفعهم إلى هذه الاستخدامات الجديدة؟

_ أعتقد أن جزءًا من الناس لا يتدافع نحو هذا الاستهلاك، ويجب انتظار قطيعة جيلية (نسبة إلى الجيل) هذا مع تعايش عدة طرق من استهلاك الصور. بكل تأكيد، لن تكون الأمور مغلقة من هذا الجانب أو ذاك، لكن أعتقد أن هناك تفاوتًا هائلًا بين أبناء الجيل الرقمي، والآخرين!

أنحن مشاهدون ومستهلكون أكثر حرية أم على العكس نحن خانعون أكثر؛ لتعدّدية اختيار الحوامل (التلفزيون، والإنترنت، والحوامل المتنقلة)؟

_ أعتقد أن الاثنين يحدثان معًا. ففي التلفزيون الكلاسيكي يوجد نظام من الهيمنة، رغم كل شيء، بين من يَستهلك، ومن يُنتِج، ومن ينشر، ومن يحدد مواعيد البث. فيجب ألّا ننسى أن التلفزيون ظل سنوات طويلة مسيطرًا على ساعة الأشخاص البيولوجية، ويتحكم في إيقاع حياتهم المنزلية ووتيرتها! فمن هذا الجانب يمكن القول: إن العرض «التلفزيوني» الجديد يمنحهم الحرية. لكننا نعرف جيدًا أن الشركات؛ مثل: غوغل وبعض محركات البحث ستقوم بدور حاسم، وستؤثر كثيرًا في أنماط الاستهلاك. فأدوات قياس السلوك وتحليله؛ أي ما يسمى برصد ملامح مستخدمي الإنترنت ومسالكهم في الإبحار عبر الشبكة؛ تطرح مشكلات واقعية في مجال الحرية الفردية واحترام الحياة الخاصة. يجب الإقرار بوجود رصيد من المعارف عن سلوك مستخدمي شبكة الإنترنت لم يحلم به حتى مجانين قياس المشاهدة التلفزيونية.

هل تعدّدية العروض التي تتيحها شرائط الفيديو في شبكة الإنترنت تعلن عن تفوق الصورة على الوسائط الأخرى؟

_ لا أعتقد ذلك. أظن ببساطة أن شبكة الإنترنت لم تكن مدة طويلة وسيلة متعددة الوسائط بالكامل؛ بسبب بسيط يتمثل في بطء تدفق البيانات ومختلف التطبيقات؛ لأنه لم يكن من السهل إنتاج صور متحركة وتوصيلها إلى المعنيّين. لكن ما نشاهده اليوم من سرعة تدفق البث، واستخدام الألياف البصرية، وتطبيق عدة برمجيات؛ مثل: البرامج المتعلقة بالصورة، وكل تقنيات الضغط على البيانات وتحجيمها، ومختلف التطبيقات الجديدة التي تقلل من حجم البيانات في الصفحات، تجعل الصورة المتحركة تأخذ المكانة التي تحتلها بقية الوسائط. إن شبكة الإنترنت أصبحت أداة ذات وسائط متعددة بمعنى الكلمة، تجمع الصوت والصورة والنص والإنفوغرافيا والتفاعلية، وتتيح تحميل الملفات بتدفق عالٍ ومنتظم، أي أن هناك كل الأشياء التي تُحَوّل بعمق طبيعة الإبداع. أعتقد أنه سيتم الطعن في فكرة التعارض بين النص والصورة بفضل هذه العُدّة التقنية التي تجمعهما بشكل ديناميكي أكثر من الورق والتلفزيون.

عدد من الإكراهات

إنّ التلفزيون يجمع جمهورًا متنوعًا حول البرنامج التلفزيوني، فيشكل رابطًا اجتماعيًّا. فهل تنشئ شبكة الإنترنت شكلًا جديدًا من الروابط الاجتماعية؟

_ يتضمن الرابط الاجتماعي الذي ينشئه التلفزيون كثيرًا من الإكراهات. فالتلفزيون يقدم الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت ذاته، على حين يتسم الرابط الذي تنشئه الإنترنت بمرونة أكثر منه، مع جماعات سريعة الاندثار تستند إلى وشائج تسمح للأفراد بمغادرتها وقتما يشاءون. إنّ هذا الرابط يمنح الشعور بالحرية. بالطبع إنّ عائق هذه الحرية يكمن في هشاشة الرابط الاجتماعي، وضعف التضامن، ومخاطر عزل الأعضاء الضعيفة. فيمكن أن نكون أمام وضعيات لا يملك فيها الناس أي سبب للعيش معًا؛ مما يطرح مشكلة حقيقية على الجماعة الاجتماعية. لكن يمكن القول اليوم: إن شبكة الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه أكثر من الوقت السابق.

هل تعتقدون أن منصات التشارك في شرائط الفيديو، التي يكون فيها المستهلك منتجًا ومبتكرًا، تملك مقومات البقاء والاستمرارية؟

مشاهدة-التلفزيون_ نعم، بكل تأكيد. إننا نعيش الآن بروز هذه المنصات ممثلة في كثير من المواقع؛ مثل: «ديلي موشن» و«اليوتيوب» التي تعاني صعوبات في العثور على أنموذج اقتصادي مناسب له مقومات الاستمرارية. لكننا نرى بكل وضوح إلى أين تتجه هذه المنصات، مع إمكانية إنتاج الأشخاص شرائط الفيديو، والاشتراك في إنتاجها. هناك فرص جديدة لاختيار المنتجات التي هي في طور التطور والبروز -الكتالوغات الاجتماعية على سبيل المثال- وذلك لأن هناك بعض شرائط الفيديو لا يُشاهَد في ظل تضخم تعداد ما هو معروض من شرائط في هذه المواقع؛ لذا يجب إيجاد وسائل تسمح بربط إمكانية الجميع في «الاستهلاك» بإجراءات انتقاء شرائط الفيديو، مع وضع سلم لترتيبها وتسلسلها. توجد ثلاثة أنواع من الإجراءات؛ إجراءان منها متاحان، وهما: محركات البحث، ومنح مستخدمي الإنترنت درجة لكل شريط فيديو. ويجب البحث عن الإجراء الثالث في الأنموذج الاقتصادي، أي جعل محترفي العمل التلفزيوني يشاركون في الاختيار والنشر.

هل التهافت على فرص الإنتاج الجديدة سيتواصل أم أن نطلب من الإنترنت أن يكون نمطًا جديدًا من استهلاك شرائط الفيديو؟

_ أعتقد أنه سيستمر وسيصبح شبه حرفي. فما نلحظه اليوم أنه يوجد 10 في المئة فقط من المساهمين في تغذية موقع موسوعة «الويكيبيديا» بالمواد، على حين يوجد 90 في المئة من مستهلكيها. وستزداد الفرصة في المستقبل بفضل المنظومة التقنية، المساهمة في التحرير والاطلاع على المواد. لكن ستظل أغلبية مستخدمي هذه الموسوعة من المطلعين على محتوياتها بكل تأكيد.

هل يملك التلفزيون التقليدي مستقبلًا مزدهرًا؟

_ نعم بكل تأكيد، لكن ما سيحدث هو أن الإنترنت ستبتلع التلفزيون، كما هي الحال الآن، والإذاعة، والصحافة المطبوعة. سيكون هناك تلفزيون في شبكة الإنترنت. والذين يريدون متابعة النموذج التقليدي للتلفزيون بشبكة برامجه التي يعدها غيرهم سلفًا، أو الموجهة بخوارزمات، يمكنهم فعل ذلك، وسيمنحون الأدوات لتحقيق ذلك. سيظل الاستهلاك الساكن والسلبي للتلفزيون قائمًا. استهلاك الصور المريح والبطيء عبر إجراءات البرمجة التلفزيونية المعهودة.

هل يمكن حدوث التواؤم الدائم بين الحاملين؟ إن قناة التلفزيون الفرنسي الأولى، على سبيل المثال، مالكة منصة التشارك في شرائط الفيديو المسماة: «وات تيفي» وهي تعمل على بث شرائط الفيديو التي ينتجها الهواة عبر شاشتها. فهل يمكن تعميم هذه المبادرة؟

_ لا أعتقد أنه من الممكن أن يجري الأمر بهذا الشكل. إن «وات تيفي» فكرة لطيفة فعلًا، لكن ولع مستخدم الإنترنت بشرائط الفيديو في هذه المنصة لا يدل على أنه سيشاهدها عبر قناة تلفزيونية كبرى؛ لأن ما يبث عبر القناة التلفزيونية لا يتناسب مع ما نبحث عنه في شبكة الإنترنت، أي تشكيل الجماعة والاعتراف بها. بينما يمكن لهذا الأنموذج أن يتحقق في مجال الإنتاج، وفق منطق رصد الكفاءات، مع منتجي التلفزيون الذين يستطيعون متابعة الفنانين في شبكة الإنترنت، واختيارهم، والاقتراح عليهم إنتاج أعمالهم. هذا هو الأنموذج الذي أومن به.

شروط‭ ‬نقد‭ ‬الصورة

قال أستاذ علم اجتماع الميديا جون لوي ميسيكا: «إن التعارض الموجود بين الكلمة والمكتوب «هو تعارض بين ما هو مُخَزّن وما هو متدفق. وهذا ينطبق على كل أشكال الاتصال؛ أي ينطبق، أيضًا، على الصورة. إذن الصورة المخزنة في شبكة الإنترنت التي يمكن مشاهدتها أكثر من مرة، ولا «تستهلك»، أو تتلاشى في سريانها المتدفق كما هي حالها في جهاز التلفزيون، تخلق شروط نقد الصورة بقوة أكثر مما كان ممكنًا مع التلفزيون؛ لذا يجري التنديد بالتلاعب بالصورة، وبما تمارسه من التضليل، الذي أصبح مألوفًا لتكراره، وشجب اختلاق الصور المزيفة في شبكة الإنترنت. ولفت إلى أننا «نملك إمكانية المقارنة بين كثير من الصور، وفحصها وتحليلها. إذن يمكن معاينة كل المشكلات ذات الصلة بالتلاعبات بالصور. وبهذا نقترب من المقاربة التي تكون فيها الصورة المتدفقة شبيهة بالاتصال الشفوي، على حين تشبه الصورة المخزنةُ الكتابةَ. أي مع إمكانيات التخزين، والمقارنة والنقد، سيحدث تحوّل أساسيّ في الإنترنت، يرتبط بالسهولة التي يمكن بوساطتها مقارنة صورة بأخرى».

حوار:-ماتلد-كريستياني

أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟

أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟

يتحسّر الفرنسيون على زمن يصفونه بالجميل؛ زمن البرنامج التلفزيونيّ «أبوستروف» Apostrophe، المتخصص في عالم الكُتَّاب، الذي كان يجمع أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد كل أسبوع. لقد كان كثيرون يتلهّفون على متابعة آراء الكُتَّاب والشعراء الفرنسيين والأجانب فيما كتبوا، وتَرهف الأذن للعلاقة الخفية التي كانت تجمع رجال السياسة والحكم بالأدب. ولعل قليلًا منهم يتذكّر الحلقة التي حلّ فيها الرئيس الفرنسي آنذاك، فاليري جيسكار ديستان، ضيفًا على هذاالبرنامج ليتحدث عن الروائي الفرنسي «غي دو موباسان».

لقد مرَّ 26 عامًا على توقُّف هذا البرنامج التلفزيونيّ عن البث إلا أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط المثقفين، والكُتّاب، والناشرين، ولدى ممتهني العمل التلفزيوني. لقد وصف الكاتب والناشر الفرنسيّ «هوبرت نيسن»، في إحدى حواراته الصحفية، هذا البرنامجَ التلفزيونيّ بمفخرة فرنسا، ومحلّ تميّزها من بقية البلدان في المجال الثقافيّ. لكن الحديث عن البرنامج التلفزيونيّ المذكور يفضي، دائمًا، إلى التساؤل عن السر في تراجع مكانة الثقافة في القنوات التلفزيونية المعاصرة عامة، وليس الفرنسية فقط، وإلى النقاش عن الصعوبات التي تعانيها القنوات التلفزيونية الثقافية؛ لتستمر في الوجود، فكثير من المثقفين والفنانين يتساءلون عن مصير القناة الرابعة في تلفزيون «بي بي سي» البريطانيّ، التي توصف بأنها متخصصة في الثقافة.

زمن الحنين

لم يكن طموح البرامج الثقافية في التلفزيون في الماضي لِتكتفي بإعلام الجمهور الجديدَ في مجال الموسيقا والسينما والمسرح والفنون والرواية والشعر، إنما كانت تعمل على تأسيس نقاش ثقافيّ وفكريّ متواصل ليشكّل محركًا لعجلة الصناعات الثقافية. فالناشر الفرنسيّ «جون كلود غواسويتش»، يتذكر جيدًا أنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، كل أسبوع، ساعة الإعلان عن الكُتّاب والشعراء والمفكرين الذين يستضيفهم صاحب البرنامج التلفزيونيّ الفرنسيّ المذكور؛ ليسرعوا إلى استخراج مؤلفاتهم من أَقْبِيَة المطابع وتوزيعها على المكتبات! كيف لا والكِتَاب الذي يحظى بالنقاش في هذا البرنامج التلفزيونيّ تقفز مبيعاته من ثلاثة آلاف نسخة إلى أكثر من ثلاثين ألف نسخة. فبعد أسبوع من استضافة الروائية الفرنسية «مارغريت دوراس» في هذا البرنامج قفزت مبيعات روايتها «العشيق الصيني» من 80 ألف نسخة إلى 240 ألف نسخة! ليس هذا فحسب، إنما اعترف الشاعر والكاتب الفرنسيّ «فيليب دلرم» أن لا أحد من محيطه العائليّ وأصدقائه كان يعُدّه كاتبًا، ويأخذ ما يكتبه مأخذ الجدّ حتى حلّ ضيفًا في البرنامج التلفزيونيّ المذكور. حتى الموسيقيّ الروسيّ الشاب راشمنوف المغمور، نال نصيبه من الشهرة بعد أن جرى اقتباس مقطع من موسيقاه في «تيتل» Title البرنامج المذكور.

لقد أصبحتْ مثل هذه البرامج في حكم الماضي لا تثير سوى الحنين إلى ما فات، والخوف مما هو آتٍ، أي: مِن مستقبل الثقافة في القنوات التلفزيونية، ليس في فرنسا فحسب، إنما في كثير من بلدان العالم. فإضافة إلى تقليص البرامج الثقافية في شبكة البرامج التلفزيونية لتصل إلى نحو 5% من جُلّ القنوات التلفزيونية العامة، جرى تأخير موعد بثّها إلى ساعات متأخرة من الليل؛ لاعتقاد راسخ في أنها برامج نخبوية، ولا توجّه إلى جميع المشاهدين. وغُيِّرت طبيعتها، فأصبحت تسمّى برامج «المنوعات»؛ للتأكيد على خفّتها وذوبانها في الترفيه؛ مثل: المسابقات التلفزيونية، والبرامج الغنائية التي تسعى للرفع من شأن الضيوف والنجوم والترويج لهم على حساب الموضوعات والمضامين.التلفزيون-المعاصر-٢

إن غاية البرامج الثقافية في التلفزيون ليس الإمتاع فحسب، إنما إثارة الفضول، والتزود بالمعرفة، وإرهاف الإحساس، والدفع إلى التفكير والتأمل. إنها تتطلب قدرًا من الانتباه والتركيز، بينما تسعى كثير من القنوات التلفزيونية المعاصرة للاستحواذ على أكبر نسبة مشاهدة؛ لِجَنْي أكبر حصة من سوق الإعلانات؛ لذلك تَستبعد البرامجَ الثقافيةَ؛ لاعتقادها أنها عسيرة الهضم، وتنفّر قطاعًا واسعًا من الجمهور الذي لا يملك المستوى التعليميّ والمعرفيّ الذي يؤهّله لفهمها، وتُقصي بعضًا ممن يَملك هذا المستوى لجمودها. وتنصرف القنوات التلفزيونية إلى بث البرامج الجماهيرية والتوافقية التي تحظى بإجماع، فتجمع المشاهدين ولا تفرّقهم، وهذا ما يفسّر تزايد مدة البثّ التلفزيونيّ المخصّص للرياضة والألعاب والمسلسلات التلفزيونية؛ أي أنها تساير المنطق الاستهلاكيّ في المجتمع.

وهكذا اختفت مواعيد المسرح من الشاشة الصغيرة في كثير من القنوات التلفزيونية، وزالت نوادي السينما من خارطة البرامج التلفزيونية. لقد طبعت هذه النوادي البرامج التلفزيونية، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فكانت تبثّ الأفلام السينمائية الرائدة، وتستضيف مخرجيها أو بعض ممثليها في أستوديو التلفزيون؛ لمناقشة طريقة إخراجها وقيمتها الفنية، وإن أبقت على بعض البرامج الثقافية فقد غيَّرت بنيتها، وأسلوب تقديمها، وغايتها. فالبرامج التلفزيونية القليلة الخاصة بالكتاب، التي لا تزال صامدة ومستمرة في شبكة البرامج التلفزيونية؛ أصبحت تروم الترويج المحض للكتاب، وانزاحت عن مناقشة موضوعه، وتحليل مضمونه وأسلوبه؛ الانزياح الذي لا يشترط من المذيع قراءة معمّقة للكُتب التي يروجها.

كائن يتطور بتطور المجتمع

يعتقد بعض المتخصصين أن التلفزيون كائن حيّ يتطور بتطور المجتمع. فمُعِدّ البرنامج التلفزيونيّ ومقدمه الفرنسيّ المذكور أعلاه يؤكد أن العمل التلفزيونيّ فقد الصبر، ولم يعد يتحمل منح الكلمةِ الأديبَ أو المفكرَ؛ للحديث مدة خمس دقائق متواصلة؛ ليشرح في هدوء آراءه من دون أن يقاطعه المذيع، أو تغيير لقطة التصوير.

بالفعل لم يتغير البرنامج التلفزيونيّ على صعيد التصوير فحسب، ولا في الإيقاع الذي أصبح سريعًا ليواكب سرعة العصر، إنما تغيَّر في نوعية الديكور.

لقد كان ديكور البرامج الثقافية في السابق بسيطًا ومتقشفًا كثيرًا، ويقتصر على كراسِيَّ وطاولة، وحُزْمة من الكُتب أو الصور لأفلام أو مسرحيات؛ لأن هاجس هذه البرامج كان النقاش، ودَفْع المشاهِد إلى التركيز فيه. أما اليوم فالنقاش ذاته تغيّر إن لم يكن فقد مضمونه. لقد كفّ كثير من القنوات التلفزيونية في كثير من بلدان العالم عن استضافة الأدباء والمفكرين في ساعة ذروة المشاهدة، وفتح أذرعه لاستضافة نجوم الفن والطرب والأزياء والرياضة والطبخ الذين يتوددون للجمهور ويمازحونه في ديكور فاخر كثير البذخ، ومبهر إلى حد السحر.

وهناك من يعتقد أن الأمر يتجاوز التلفزيون؛ لأن النظام الإعلاميّ أصبح مكونًا أساسيًّا من مكونات الصناعات الثقافية التي تخضع لمنطق السلعة، وليس الخدمة. فلم يكن للقنوات التلفزيونية أن تنجرف إلى «تسليع» الثقافة إن لم تحظَ برضا الجمهور. وهذا الجمهور هو ابن المجتمع الذي تغيَّر هو الآخر، فتناقص فيه تعداد المكتبات في الأحياء السكنية والمدارس، وقلَّت دُور النشر فأصبحت تطبع نُسخًا أقل من الكتب، وتبيع كميات قليلة جدًّا مما تطبعه. واختفت النوادي الثقافية أو جفّ نشاطها، وتقلّص تعداد رُواد المحاضرات والندوات الثقافية أمام تزايد جمهور الحفلات الغنائية، ورواد ملاعب كرة القدم.

لقد تكاثرت وفرة البرامج التلفزيونية، وتعدّدت حوامل الثقافة وقنوات توزيعها، وتشذّر الجمهور، وتراجعت المشاهدة الجماعية لبرامج التلفزيون في ظلّ استشراء «المشاهدة التلفزيونية المؤجلة» الفردية سواء في مواقع القنوات التلفزيونية في شبكة الإنترنت أم في بعض منصّات التواصل الاجتماعيّ.

حقيقة لقد انتشرت شرائط الفيديو وحوامله، في نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فحرّرت المشاهد من إكراهات توقيت البث التلفزيونيّ. أما اليوم فقد اتسع هامش الحرية كثيرًا في ظل انفصال المحمول الثقافيّ والاتصاليّ عن الحامل، وفي زمن التلفزيون الاستدراكيّ Catch up TV أو الفيديو تحت الطلب (video on demand (VOD.

كل هذه العناصر تفسّر جزئيًّا تراجع البرامج الثقافية في التلفزيون المعاصر. لكن لماذا جزئيًّا فقط؟ لأنها تحمّل الجمهور مسؤولية انصرافه عن متابعة البرامج الثقافية، وتبرئ ساحة التلفزيون والمسؤولين عن إدارته من تراجع هذه البرامج، وتتستّر على العقل المدبّر الذي ضاعف البحوث المتعلقة بالإعلان التلفزيونيّ، وأشكال تسويق برامج (الفُرْجة) والترفيه، واستطلاعات الجمهور لإعادة توجيه رغباته وصقلها، ورسم إستراتيجيات البرمجة التلفزيونية في ظلّ المنافسة الضارية بين القنوات التلفزيونية.

زمن المراجعة

يعتقد كثير من المفكرين والمثقفين أن ما سبق قوله لا يشخّص بكل دقّة العلاقة الملتبسة بين الثقافة والتلفزيون؛ إذ يرون أن التلفزيون يتعارض جوهريًّا مع الثقافة؛ لأنه يميل ميلًا كبيرًا إلى الاستعراض و(الفرجة)، ويروم التسلية والمتعة، ويشجّع الآني، ووليد اللحظة، بينما الثقافة وليدة فكر يستثمر في الزمن، ونتيجة صبر وعناد. وتعتقد الفيلسوفة الأميركية المنحدرة من أصول ألمانية حنا أرنت في كتابها الموسوم بـــ«أزمة الثقافة» أن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة حقيقية ترجعها إلى عملية إضفاء الطابع الجماهيريّ عليها. فجمهرتها تَعْني بالضرورة «إعادة إنتاجها، وتسطيحها، وتكيّفها في الصور حتى تصبح مادة قابلة للتسويق؛ أي سلعة ذات استهلاك واسع».

التلفزيون-المعاصر-٣ولا يمكن تناسي دَوْر التلفزيون في جمهرة الثقافة. والنتيجة، كما تقول الفيلسوفة في الكتاب ذاته، لم تعُدْ هناك ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما يوجد ترفيه جماهيريّ يتغذّى من المواد الثقافية. فالشعر -حسب الصحافيّ الفرنسيّ توماس يادان- تحوّل في بعض الأحيان إلى شعار إعلانيّ، والموسيقا أصبحت موضوعًا للتنافس ومادةً للتدافع، وأضحى الفنان تاجرًا يتاجر بفنّه في التلفزيون. ربما يمكن تصنيف هذا الأمر بأنه حكم، وليس توصيفًا لواقع يتضمن نوعًا من المبالغة، ولا ينطبق على كثير من القنوات التلفزيونية، وبخاصة في المنطقة العربية، إلا أنه يعبّر عن حالة من خيبة الأمل فيما آل إليه التلفزيون في نظر كثير من المثقّفين والفنانين. لقد احتفوا به في الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، واعتقدوا أنه سيكون أداة فعّالة في خدمة المعرفة والتربية، ووسيلة لنشر الثقافة وتحرير البشر، لكنه سقط في مخالب التجارة والترفيه الذي يسطّح الوعي ويبلّد الإحساس، وسقط معه الأمل.

إنها الخيبة ذاتها التي جعلت بعض الفلاسفة والمفكرين، بل الكُتّاب يرون أن الثقافة لا تجني كثيرًا من التلفزيون؛ لذلك نلاحظ أن ريجست دو بري، وجيل دولوز، وفيليب موراي، على سبيل التمثيل، شنُّوا هجومًا كبيرًا على برنامج «أبوستروف» .

فالروائي الفرنسيّ موراي يعتقد أن هذا البرنامج أضرَّ بالأدب أكثر مما نفعه، وخرَّبه لأنه خدم منطق «النجومية»، ودفع بالكاتب إلى الشهرة عوضًا من أن يركّز في الكتاب، وحاول أن يتطرّق إلى الإنتاج الأدبيّ انطلاقًا من موضوعات عامة تبدو أنها بعيدة من الأدب؛ مثل: الشوكولاتة، وآلام المسيح عليه السلام، والأحذية، ومنظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية، والموت، والطفولة، وغيرها من الموضوعات.

بالطبع، إن هذا النقد يعجز عن إخفاء النوايا في محاكمة التلفزيون، وتجريم الترفيه، والتزام التصور النخبويّ للثقافة، وحصر البرامج الثقافية في التلفزيون فيما يسمّيه المختصون بالثقافة الراسخة والمؤسسة؛ أي الثقافة العالِمة؛ مثل: الكتاب والمسرح والسينما.

ويربط انحطاط التلفزيون بغياب هذه الثقافة في برامجه، وهذا ما يفضي إلى النقاش العميق الذي عمر طويلًا، وحاول الإجابة عن السؤالين التاليين: ما معنى تلفزيون ذي نوعية جيدة؟ ومن يملك شرعية الحكم على جودة التلفزيون؟ وهو النقاش الذي أشار إليه الكاتب الفرنسيّ جون أرسي عام 1959م، عندما أكَّد أنه «من الخطأ أن نطلب من التلفزيون أن يقدّم لنا برنامجًا ترفيهيًّا خالصًا، وبرنامجًا إعلاميًّا جافًّا، وبرنامجًا تربويًّا صارمًا وأبويًّا، بالعكس أعتقد أن البرنامج الجيّد هو الذي يمزج الفئات الثلاث؛ أي البرنامج الترفيهيّ والإعلاميّ في الوقت ذاته، والتربويّ والترفيهيّ في آنٍ واحد». من المحتمل جدًّا أن يكون هذا الرأي مقبولًا، ويحظى بإجماع في الخمسينيات من القرن الماضي، لكن اليوم تداخلت هذه الفئات الثلاث، وأضحى من الصعوبة بمكان فصل الترفيه والإعلام والتربية عن التسلية.

ثقافة تلفزيونية أم برامج ثقافية؟

بين اليأس من مساهمة التلفزيون في خدمة الثقافة؛ لسماته التي تتعارض مع مفهوم الثقافة حسبما ذهب إليه أنصار الثقافة العالِمة، والتعامل مع كل ما يبثّه على أساس أنه ثقافة مثلما يؤكّد الأنثربولوجيون؛ اتّجه كثير من الدول إلى إنشاء قنوات تلفزيونية متخصصة في الثقافة، ومن المحتمل أن تكون آخرها قناة روسيا الثقافية، التي قال عنها رئيس تحرير مجلة «فن السينما» دانيل دوندوري: إنها بمنزلة مطعم رفيع يقدم وجبات غذائية جيّدة خلافًا للقنوات التلفزيونية العامة الأخرى، التي تعدّ شبيهة بمطاعم «ماكدونالدز» التي تتميز بأكلاتها الاصطناعية غير اللذيذة والمضرّة بالصحة. لكن هناك من يأخذ على القنوات التلفزيونية الثقافية أنها لا تستقطب جمهورًا عريضًا، وأن متابعي برامجها محدود جدًّا. فمجمل مشاهدي القناة المذكورة لا يتجاوز 5 % من مجمل مشاهدي التلفزيون في روسيا.

تنخفض هذه النسبة لدى جمهور القناة الفرنسية – الألمانية «آرتي» الثقافية ليصل إلى 3 % فقط. إنه المأخذ الذي حدا الباحثَ الفرنسيَّ «دومنيك ولتن» على القول: إن هذه القنوات التلفزيونية الثقافية لا تخدم الثقافة! لقد أكّد أن غاية وجود قناة تلفزيونية متخصّصة في الثقافة ليس محض سدّ حاجة أقلية متميزة من الناس إلى الثقافة، بل يجب أن تعمل على تقريب قطاع واسع من الجمهور من الأعمال الثقافية التي لا يصلها بسُبُل أخرى، وجعلها في متناوله. إذًا إن هذه القنوات التلفزيونية تُبعِد، في نظر هذا الباحث، الثقافةَ من أغلبية مشاهدي التلفزيون؛ لأن قليلًا منهم فقط يتابعها.

وتُبعِد، في الوقت ذاته، متابعيها من بقية المشاهدين؛ أي تحرمهم اقتسام ما يشاهده القسم الأكبر من المشاهدين في القنوات التلفزيونية غير المتخصصة.

إبداع وابتكار وليس بثًّا وتوزيعًا

ربما النظرة إلى علاقة التلفزيون بالثقافة تتغير عما سبق عرضه إذا استخدمنا مفهوم «الثقافة التلفزيونية»، الذي يجعل من التلفزيون أداتَيْ إبداع وابتكار ثقافيين، وليس قناة بث وتوزيع فحسب. في هذا الإطار سعت دول الاتحاد الأوربيّ لفرض مجموعة من القيود القانونية على البثّ التلفزيونيّ، ضمن سياساتها الثقافية. بدأتها بفك الارتباط بين التلفزيون التجاريّ -التابع للقطاع الخاص- والتلفزيون التابع للقطاع العامّ أو الدولة؛ إذ ترى أنه من غير المعقول أن يقدم التلفزيون الذي تموّله خزينة الدولة المضامينَ ذاتها التي يقدمها التلفزيونُ التجاريّ، الذي يعتمد على عائدات الإعلان في تمويله. وإلزام التلفزيون التابع للدولة بتخصيص وقت من بثّ نشرات أخباره للأحداث والتظاهرات الثقافية، وفرض نسبة من الإنتاج التلفزيونيّ الثقافيّ المحليّ المتنوع، ونسبة من بث البرامج الثقافية الأوربية؛ للتخفيف من لجوء القنوات التلفزيونية الأوربية إلى البرامج المستوردة من الدول الأجنبية، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، مع تنويع مواعيد بثها؛ وعدم إدراجها في الساعات المتأخرة من الليل. وتحديد المدة الزمنية المخصصة لبث الإعلانات؛ سواء أكانت المدة مخصصة للقنوات التجارية أم مخصصة للقنوات التابعة للدولة؛لتحرير القنوات التلفزيونية من قبضة الإعلان، وما يمارسه من ضغوط على نوعية البرامج التلفزيونية وبخاصة الثقافية. وتعتقد دول الاتحاد الأوربيّ أن هذه الإجراءات تشكل الحدّ الأدنى الذي يمكّن التلفزيون من تطوير «الثقافة التلفزيونية».

الثقافة التلفزيونية والفهم المغاير

تختلف نظرة الأنثربولوجيين إلى علاقة التلفزيون بالثقافة عن نظرة الكُتَّاب والمثقفين النقديين؛ إذ يرون أن هذه العلاقة تتوقف على تعريفنا الثقافةَ، فالعالِم البريطانيُّ دين إدوارد تايلور عرّفها عام 1870م بالقول: «إنها الحضارة بمعناها الإنسانيّ الأوسع؛ أي ذلك المُركّب الكُلِّيّ الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع». فلو اعتمدنا على هذا التعريف، فالتلفزيون ذاته يتحوّل إلى مؤسسة ثقافية، وكل ما ينتجه أو يُقدّمه يندرج تحت الثقافة: برامج الطبخ،والأزياء، والرياضة، والمسابقات، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، وغيرها؛ لذلك نلحظ أن كثيرًا من الدارسين والباحثين سعَوْا للكشف عن مساهمة المسلسلات التلفزيونية في إعادة بناء الهوية الوطنية، فالباحثة إميلي سياسكا تعاملت مع المسلسلات الأرجنتينية بوصفها مادة ثقافية تسعى لإعادة صياغة هُوِيّة الأرجنتين. والباحث بتراكيم لويس كارلوس بيّن في كتابه الموسوم بـ«وسائل الإعلام والسلطات والهويات» كيفية مساهمة المسلسلات في تشكيل الهوية البرازيلية.

ويمكن النظر إلى تجربة التلفزيون الأستراليّ من هذه الزاوية. لقد تبنّى هذا البلد نظامين للتلفزيون: النظام الأميركيّ، وهو نظام تجاريّ، والنظام البريطانيّ الذي يستند إلى تجربة قناة «بي بي سي» التي تتميّز من غيرها بخضوعها لشروط الخدمة العامة. فقناة إيه بي سي ABC الأسترالية وجّهت مسلسلاتها التلفزيونية في الثمانينيات من القرن الماضي إلى خدمة الذاكرة الشعبية، وتعزيز الشعور الوطنيّ بتاريخ أستراليا. ونعتقد أن بعض المسلسلات العربية التي بثّت في أكثر من فضائية عربية تصبّ في اتجاه تعزيز الذاكرة الجماعية، وتعضيد الهوية الوطنية.