حماس احتجنا أن نحقن به أعمارنا

حماس احتجنا أن نحقن به أعمارنا

لنتفق على أن الرياضة ليست شأنًا حكرًا على الرجال، وبالتالي فإن دفاتر مراهقتنا تشهد بكم كنا مولعين بكرة القدم لدرجة حفظ أسماء تشكيلة الفريق الرسمية والاحتياطية والمدربين وأعضاء الإدارة ورؤساء الأندية عن ظهر قلب، جمعنا في تلك الدفاتر صورًا مؤثرًة لصالح النعيمة ومحمد عبدالجواد والمصيبيح وغيرهم، ولم نكن نعرف لعبة غيرها، ولم نكن نعرف لماذا لا يسمح لنا بممارستها على أرض الواقع، إلا أن البساط الأخضر للملعب كان يفترش مساحة في أذهاننا ولو لم تطأه أقدامنا حينذاك، أظن أن ذاك الشغف قد انبعث من الإثارة والحماس الذي احتجنا أن نحقن به حياتنا وأعمارنا، علاوة على أن اللعبة تنطوي على مفاتيح إشعال الحس الوطني والوحدة الشعبية رغم ما يعتريها ظاهريًّا من منافسة وتعصبات. استطاعت لعبة كرة القدم أن تجمع الشعوب بالساسة والعكس، ولم تحصر نفسها في مجالس نخب أو في حواري العامة، هي نشاط إنساني جسدي وعقلي ممتع تميّز باجتماع العشق عليه، وبالجمع بين التكنيكك والخطط والإستراتيجيات والمهارة الفنية والتناسق الحركي والرشاقة، وهو ما يجعل الرياضة تتفوق على مجالات كثيرة بالجمع بين قوة الفريق الواحد وجمالية اللاعب المتفرد.

في فلم خلّاق «ميلاد أسطورة» يحكي سيرة ذاتية عن اللاعب العبقري البرازيلي «بيليه»، ويركز تحديدًا على الظهور المبكر لموهبته وسنوات حياته الأولى مع عائلته وأصدقائه، حيث سرقوا أكياس فستق لبيعها وبثمنها ابتاعوا أحذية رياضية تبينوا لاحقًا أنها أكبر من مقاسات أقدامهم وسط سخرية وضحك الأطفال من أبناء الحارة العشوائية التي نشأ فيها، فـأطلقوا عليهم «فريق الأقدام الحافية»، وصفته هنا بالعبقري؛ لأنه استطاع فرض ثقافة قبائل الجينغا على أساليب اللعب الأوربية المتعارف عليها، وهي ثقافة تعتمد على تشجيع مهارة الرقص والأداء الاستعراضي والدفاعي في أثناء اللعب، لم تكن مناورات فحسب بل كانت عروضًا مشوقة تخاتل الفريق الخصم وتوقعات المشاهدين، وبذلك أقحم بيليه نفسه وفريقه في مواجهة مع قوانين اتحاد كرة القدم الفيفا، تحولت إلى تحدٍّ كبير كاد أن يتسبب في اتخاذ قرار يقضي باستبعاده من مزاولة اللعب في أهم بطولة له وللفريق، حاملًا على كتفيه أحلام والده ومخاوف والدته وملايين البرازيليين المتعطشين لاعتلاء مراتب بارزة في العالم، وكان أن حصدت البرازيل كأس العالم للمرة الأولى عام 1958م، مع العلم بأن بيليه كان في ريعان شبابه – سبعة عشر عامًا فقط، الاستنتاج بأن يواجه الإنسان غروره من جانب ويؤازر أحلامه من جانب آخر مناطق جوهرية تساعد لعبة جماهيرية إبداعية ككرة القدم على سبر أغوارها.

التقيتُ مرة بعد انقطاعي عن المتابعة وضياع دفاتر المراهقة وصور اللاعبين الذين كبروا واعتزلوا باللاعب ماجد عبدالله، وجدتُ نفسي وجهًا لوجه أقف بدهشة أمام هذا اللاعب العريق، مستعيدة ذكريات المستطيل الأخضر ومراقبة أخباره الإنسانية والاحترافية كمراقبتنا لتنقلات قدميه بين اللاعبين لحسم النتيجة برأسه كالعادة في اللحظات الأخيرة للمباراة. خفقات القلوب عند الخسارة أو الفوز لا يمكن أن تُنسى، ولحظة النجاح والانتصار لا تقايض بثمن، لذلك فإن الرياضة تصنع ذاكرتنا داخليًّا، وتمنح العالم رؤية لا مراء فيها عن ثقافتنا وإنسانيتنا ومدى إيماننا الحصيف بمهارات ومُثل ذات قيمة عالية كالقدرات الفردية والتعاون وحب الفريق والإخلاص والولاء للوطن وللجماهير العريضة، وهو الأمر الذي يعكس روح الدولة وارتباط الشعوب بأوطانهم خارجيًّا.

الألعاب الأخرى متقدمة جدًّا، وللسعودية تمثيل ممتاز حتى إن لذوي الاحتياجات الخاصة فرق محترفة في عدة ألعاب مختلفة، وكمثال مشرّف على ذلك فريق البولينغ لفئة الصم الذي أحرز بطولات عدة على مستويات خليجية وعربية وعالمية، وبذلك تغادر الرياضة المفهوم الحصري للترفيه وتقترب بثقة من اعتبارها وسيلة تواصل فاعلة إضافة إلى كونها منارة تثقيف وتطوير ذهني ونفسي وأنثروبولوجي، فلو لم يكن للرياضة إلا ثمرة تقريب الشعوب وزرع قيمة التعايش بينهم لكفتها.

 

عام النزوح

عام النزوح

رحاب أبوزيد

رحاب أبوزيد

في صباح شتوي ذي ندى..

 وبينما كنت أعدّ عناصر فطوري المقدس؛ قطعة جبن أصفر، وكسرة خبز مقرمش، وشاي مزدوج الكثافة، لم أتمكن من شم رائحة الخبز أثناء التحميص، تعجبت فهي المرة الأولى التي يفعل فيها الخبز ذلك!

حككتُ أرنبة أنفي أستحثه على إعادة التشغيل أو على التذكر، ففوجئت بالفراغ، كانت الأرنبة والثقبان جميعهم مفقودين، لم يكن هناك عبث يُذكر بوجهي سوى تسجيل غياب مستشعِر الرائحة..

طفتُ حول المطبخ أبحث تحت الطاولة والمغسلة، وجدتُني أطوف حول نفسي بكوب ينسكب باستخفاف على بلاطات سيراميكية ملساء كانت تفاخر بلمعانها حتى قبل قليل..

هل من المعقول أن يغيب في ليلة وضحاها آخذًا معه كل شيء، لم يكن من بُدّ الركض باتجاه السرير لعله انتزع هناك بين طياتٍ ما، لم أعثر عليه، هرعتُ للحديقة دونما تفكير مدقق، لمحتُ شيئًا يتقافز بين الشجيرات محدِثًا خشخشة كحفيف نسيم وكوقع ضفيرة شمس على غصن مختبئ، إنه هو.. رحت أتبعه بنظري لم ألحق به، كان يعتمد على طريقة لا يمكن التنبؤ بها في القفز، مسافة قصيرة توقف ثم يتابع في اتجاه آخر، «أنفي.. أنفي.. أنا هنا»، ناديته وظننتُ لوهلة يقين أنه حالما يراني سيهفو مرتدًّا إلى مكانه، في حين تابع القفز حتى اختفى عن ناظريّ..

أذكر أن حدثًا جللًا مشابهًا وقع لوجه جارة لنا مطلع عام النزوح، وحينذاك تساءل الجمع دهشًا ما بالها الوجوه غدت تغادر أصحابها.. بل تنقلب عليهم..

«أنف مفقود.. عينٌ ضالة..»

رهف سمعي في جزء من الثانية لهسيس أو حسيس بين عشب أخضر نبت حديثًا، إنه هناك في وقفة مبجِّلة كأنها تبتل أمام شجرة «ملكة الليل» والتي بدت -في سكون- تبادله حالة تجلٍّ ما، بادرتُ بفتورٍ متهدج قبل أن أفقده مجددًا: تعلم أنها تتضوّع مساءً، وتطلق شذاها بمقدِم السحَر، التفت نحوي: تذْكُرينها إذًا؟

في العادة.. نستيقظ ولَم نكمل قط حلمًا حتى النهاية، أما هذه المرة انتهى الحلم ولَم أصحُ، فبقيت العبارة الأخيرة تردد صداها في أذني… .

أتحسس أذني!