العفو عند العجز

العفو عند العجز

هل يملك الضعيف الحق في التسامح؟ وحين يفعل هل سيكون ذلك تسامحًا أم إذعانًا؟ يضعنا هذا السؤال المركب مباشرة أمام فضاءين أساسيين؛ فضاء الحقوق، وفضاء التأويل. فضاء الحقوق هو فضاء العدالة والسياسة والتشريعات والتنظيمات المتعلقة بالتسامح، والفضاء الآخر فضاء التأويل، هو فضاء التداول القيمي للتسامح.

لكننا نعرف، في المقابل، أن السماح والعفو والغفران أمور لا يمكن تقنينها؛ أي أنها تفقد قيمتها حين تتحول إلى قانون. القانون من طبيعته الإلزام والتعاقد بينما السماح والعفو والغفران لا قيمة لها إلا بكونها تطوّعية من دون مقابل. ولكن التسامح تحوَّل، في الواقع، إلى قانون وتنظيم اجتماعي؛ فكثير من الدول تؤكد في تشريعاتها قيمَ التسامح، وتجعلها معيارًا أساسيًّا للسلم الاجتماعي. ما الذي حدث إذن في الانتقال من السماح إلى التسامح؟ السماح الذي لا يمكن تقنينه والتسامح الذي قُنِّنَ.

حين يسامح إنسانٌ إنسانًا آخر فنحن أمام مشهد واحد يجب أن ينتهي في تلك اللحظة. السماح حاسم ونهائي. لا يقبل أحد العدول عن السماح بعد إقراره. السماح بهذا المعنى تحرّر مما قبله وما بعده، أو تحرير للطرف الآخر، إطلاق له وإتاحة له بالذهاب. الظلم والعدوان إيقاف للزمن وتعليق له. إنه تكثيف حادّ لحدث ما، لعلاقة ما، لكلمة ربما. إنه رباط يفكّه السماح. لا بد من التأكيد هنا أن السماح رباط للمعتدَى عليه كذلك؛ لذا فالسماح تحرير لذاته كذلك كما هو تحرير للآخر. فالسماح والعفو والغفران، كما يقول ليفيناس «عمل في الماضي» أي عودة للماضي لتعديل مآل الأمور التي انطلقت منه.

التسامح في المقابل عملية مستمرّة ومتبادلة ومحسوبة. التسامح ليس مشهدًا واحدًا بل حياة كاملة. التسامح حساب ومراقبة، عطاء وأخد. أتسامح معك على أن تتسامح معي. حين يخل أحد الأطراف بهذا التعاقد نعود لمبدأ التسامح من جديد لمراجعته. التسامح بهذا المعنى موقف من الاختلاف والتنوع وليس بالضرورة موقف من عدوان الآخر على الذات؛ لذا التسامح متوقَّع من الأقوى أكثر من غيره. التسامح بهذا المعنى هو إتاحة حق العيش للآخر كما هو حق العيش للذات وفقًا لمنطق المساواة. أعتقد أن السؤال الأول، الذي هو أحد محاور الملف الذي تطرحه «الفيصل»، ينتمي لهذا الفضاء خاصة. وفيه ينشأ سؤال توازن القوى وتأويلات التسامح أم الخضوع. الموازنة تظهر في منطق إذا لم تكن قادرًا على العقاب لن تكون قادرًا على الغفران، أو إذا لم تكن قادرًا على الدفاع عن حقك في العيش لن تكون قادرًا على التسامح. قانون توازن الطبيعة والعفو، كما قيل قديمًا، عند المقدرة وليس من دونها.

عالم الحسابات السياسية

لكننا نعلم أن التسامح الجماعي بالمعنى السابق ليس إلا تجريدًا لتسامح الأفراد ونقلًا له إلى عالم الحسابات السياسية. تسامح الجماعة ليس إلا مجموعًا غريبًا لكل هذا، ومن ثم، من المهم العودة للسؤال الأول؛ سؤال الإنسان والسماح، استعادة للسماح من التسامح، عودة للغفران الأول والعلاقة المباشرة بين الإنسان والآخر. حسب ليفيناس فإننا نعود للأخلاق بعد أن كنا في السياسة. الأخلاق هنا هي العلاقة الأولى المباشرة مع الآخر. العلاقة التي لا تخضع لحسابات ولا تبادلية مشروطة، وهذا ما نعنيه خاصةً بالسماح والعفو.

لا يكون العفو عفوًا إذا كان بمقابل. سيكون صلحًا أو اتفاقًا أو شيئًا آخر، لكنه ليس سماحًا. السماح ليس موقفًا من التنوع والاختلاف والتعددية، بل هو موقف من الآخر المذنب، الآخر المعتدي، الآخر الذي اجتاح الذات خاصةً. نحن لا نسامح إذا لم يكن هناك ألم ومعنى ودلالة. لا نسامح إلا من أحدث في حياتنا أثرًا. بهذا فالسماح والعفو ينشأ من انكشاف الذات للآخر واستجابتها له. من حساسيتها الأولى التي تتلقى أفعاله وأقواله.

الذات التي لا تتألم لا تسامح ولا تعفو. أن تعفو يعني أن تتألم أولًا. العفو يولد من الألم. الأقوياء الذين لا يتألمون لا يسامحون ولا يغفرون؛ لأنه ليس هناك ما يغفرونه. هنا يكون العفو عند الألم خاصةً.

ولكن الألم قد يكون كذلك باب الانتقام وطاقته؛ لذا السماح موقف خاص من الألم. إذا كان الانتقام انغماس في منطق العنف والرد بالمقابل، فإن السماح انسحاب من سياق العنف كله، ومن منطق المبادلة والمساواة. السماح بهذا المعنى رؤية لشيء آخر، أفق آخر للوجود؛ لذا السماح شكل من أشكال الصلاة والخشوع والسكينة. إذا كان المنتقم في حالة من الحيوية والفاعلية والنشاط، فإن المسامح في حالة من الخشوع والسكينة والرضى. إذا كان المنتقِم ينظر للآخر على أنه «يجب أن يعاني كما عانيت»، وهذا منطق المساواة، فإن المسامِح يرى أن الآخر «يجب ألا يعاني كما عانيت». المسامِح هنا يحمي الآخر من الألم؛ لأن الألم ليس طريقه في الاتصال بالآخرين. السماح بهذا المعنى موقف جذريّ من الألم، موقف لم يعُدْ يحدث فيه فرْق بين أن أكون ذاتًا أم آخرَ؛ لذا السماح اغتسال بدموع الألم، تطهّر بها.

إذا كان دريدا يرى أن السماح والعفو غير المشروطيْنِ بهذا المعنى مستحيل، فهو كذلك. الاستحالة هنا ليست بالمعنى الوجودي، فالسماح غير المشروط يحدث في الواقع ولكنه مستحيل، بمعنى أنه لا يمكن تفسيره داخل أي نظرية أو أي منطق. الحسابات العقلية لا تستوعب السماح والعفو والغفران؛ لذا هي غير قابلة للتشريع والتقنين. ليس لدينا هنا سوى الدعوة والثناء والوعد، وهي جميعها رهانات على المستقبل. ليس لنا مع المستقبل سوى الإيمان والأمل؛ لذا العفو إيمان عميق، والانتقام كفر وخوف من المستقبل.

العفو غير المشروط حدث له قداسته. من يعفو بهذا المعنى يعفو في الخفاء وينسحب من مشهد العفو بسرعة، لا يحب الحديث عنه كثيرًا. يشبه مشهد مقدم الهدية التي تُقدَّم بتواضع وخجل ورغبة في التلاشي. العفو والهدية هي من تحضر في المشهد. يختلف العفو عن الهدية من حيث إنه لا ينتظر قبولًا من المستقبِل، مِن المعفوّ عنه. الهدية لا تكون هديةً إلا إذا قبلها المُهدَى إليه. أما العفو فهو هدية يسبق استقبالها إرسالها.

مشهد لاستعراض القوة

لذا العفو عند المقدرة مشهد لاستعراض القوة. مشهد لانتصار الذات. يؤكد فوكو في تحليلاته، أن مشهد العفو في اللحظة الأخيرة بعد أن تجتمع الجماهير ليس إلا إعلانًا للقوة والهيمنة. العفو عند المقدرة استعادة للذات من ضعفها الأول؛ لتحقق الشرط الأول لإمكان الانتقام. إنها الذات التي تملك الخيارات وتختار. الذات المسيطرة والمتحكمة. العفو غير المشروط في المقابل عجز عن الانتقام. العجز هنا ليس بمعنى البحث عن الانتقام وعدم القدرة عليه، بل بمعنى الخروج عن أفق المساواة الذي يولد فيه الانتقام.

يُحكى أن ورثة أحد ذوي المال والسلطة ذهبوا لطلب الصفح من أحد الأشخاص الذين آذاهم والدهم المتوفى. في ميزان القوى كان المشهد هنا مشهدًا من الثراء والسلطة أمام الضعف والعجز. كان ذلك الشخص فقيرًا لا حول له ولا قوة. لكن مشهد العفو كان مدهشًا؛ لأن كل ما جرى فيه ليس إلا محاولة لحماية ذلك الضعف خاصةً واحترامه. لم يكن هناك إغراء ولا تهديد، بل توسّل ورجاء. الإغراء والتهديد سيحيلان المشهد إلى مقايضة لا معنى لها في عالم العفو والصفح والغفران. الإغراء رهان على زيادة قوّة الآخر وصلاحياته، والتهديد رهان على زيادة قوّة الذات وصلاحياتها. كل هذا المنطق لا يُنتِج عفوًا ولا غفرانًا. كان المشهد في المقابل مشهدًا من التوسل والرجاء والانكشاف على كل الاحتمالات. مشهد طلب العفو يشبه مشهد انتظار المعجزة، أو نزول الإلهام. لقاء مع الاحتمالات كلها من دون يقين ولكن بإيمان.

يحدث أحيانًا أن يطلب المذنب العفو والسماح؛ أن يحضر ويكشف عن ضعفه وخضوعه، ولهذا المشهد طقوس وعادات. في بعض مناطق السعودية مثلًا يكون الجلوس الجماعيّ على الرُّكَب أمام بيت صاحب الحق طقسًا لطلب العفو. المشهد ذاته رأيناه مع أفراد من الشرطة الأميركية مؤخرًا بعد مقتل رجل أسود على أيدي الشرطة. هذا المشهد رهان على موازنة القوى واستعادة لمشهد العفو عند المقدرة. لكن العفو غير المشروط عفوٌ قبل طلب العفو.

عفو أول. عفو من موقع العجز عن الانتقام. عفو قبل الاعتذار. من يفعل هذا يغادر المشهد بسرعة، ويرفض مسرحة حدث الاعتذار. أذكر في هذا السياق أحد الأشخاص فقد طفله مطعونًا على أيدي أحد الجيران هنا في الرياض. أعلن العفو مبكرًا قبل أن يُطلَب منه العفو. ذهب لأب الجاني وأخبره عن العفو. رفض استقبال الناس في هذا الشأن ورحل عن المكان. لا يزال هذا الحدث أسطورة ملهمة في المخيال الشعبي. اتصال بالمفارق. العفو هنا لم يعد مسرحًا لأي شيء آخر. إنه حدث يتم في الداخل حيث السلام الذي يولد من الألم، حيث الطهارة في دم الضحية.

كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟

كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟

   هذا المقال يبدأ من الملاحظة التالية: مناقشة القضايا التربوية تكاد تكون محصورة في السياقات الأكاديمية أو السياقات التكنوقراطية والتقنية. أعني بذلك أن مناقشة القضايا المتعلقة بالتربية لا تكاد تحظى باهتمام حقيقي من السياقات الثقافية بدليل محدودية طرحها في الصحف والصوالين الثقافية والقنوات الثقافية وهي المواقع التي تعبر غالبًا عن اهتمامات الوسط الثقافي. في مقارنة بسيطة مع القضايا الأدبية والدينية والسياسية نجد أن حضور القضايا التربوية محدود جدًّا في ساحات التعبير العمومي التي عادة ما تعبر عن وتستقطب اهتمام الجماعات الثقافية في مجتمعنا. في هذه المقالة سأحاول البحث عن تفسير لهذه الظاهرة، ثم سأحاول أشكلة هذه الحالة، وبعد ذلك أقدم مقترحًا لإدماج القضايا التربوية في الاهتمام العمومي – الثقافي في المجتمع.

لكن قبل ذلك لا بد من الحديث بشكل تفصيلي عما أعني بالقضايا التربوية. القضايا التربوية ببساطة هي كل القضايا المتعلقة بالعلاقات التربوية. التربية هنا تستعمل بمعناها الواسع لتشمل القضايا المحيطة بالتواصل البشري، ونقل الخبرات في الأسرة والمدرسة والمجتمع. هذه القضايا تنطلق من الطبيعة الأخلاقية للعلاقات الأولية كعلاقة الطفل بأمه، وعلاقة المعلِّم بطالبه، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض في المجال العام. القضايا تتسع كذلك لكل ما يؤثر في تلك العلاقات من الطبيعة الفكرية المنظمة لتلك العلاقات، المؤثرات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية على تلك العلاقات. التربية بهذا المعنى يمكن أن تدرس فلسفيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا… إلخ. إذا كانت التربية بهذا المعنى المتصل بالسياقات الأخرى ذات الحظوة في الاهتمام الثقافي، فما الذي يجعلها تتوارى عن واجهة النقاشات في الوسط الثقافي؟

  هذا التحليل لا يمكن أن يتجاهل الاهتمام بإصلاح التعليم والمناهج الدراسية الذي اجتاح الجدل الثقافي السعودي ابتداءً من ٢٠٠٣م، وإن كان قد أخذ في الخفوت مؤخرًا. الاهتمام كان حقيقيًّا بالتأكيد، لكنه يمكن أن يعبِّر عن التربية حين تتحول إلى سياسية، وبالتالي هو اهتمام سياسي في الدرجة الأولى. السياسي تعنيه التربية بالتأكيد، لكن اهتمامه بها يختلف عن اهتمام التربوي بها. السياسي تعنيه التربية كأداة لتحقيق أهداف كبرى متعلقة بالدولة والنظام السياسي وخطط المستقبل. التربوي في المقابل مشغول بالتربية كتجربة يومية يعيشها ملايين البشر لها معناها وقيمتها بغض النظر عن الخطط السياسية للمستقبل. التربوي يشاهد النقاش السياسي للتربية كنقاش مهم وجوهري لكنه محفوف بمخاطر الانجرار للصراعات الحزبية على حساب الموضوع التربوي. التربية في الأخير تعني كذلك كائنات ليست حتى الآن أطرافًا في الصراعات السياسية (الأطفال) وليس من العدل أن يفكر في قضاياهم وحقوقهم من منظور سياسي بحت. الآن أنتقل لمحاولة تفسير ضعف حضور التربية في الساحة الثقافية السعودية:

  في التفسير

قضايا-التربيةسأبدأ محاولة تفسير الظاهرة أعلاه من خلال حوار سريع جمعني مع أحد المثقفين الكبار في السعودية حيث كنت أطرح أمامه مقترحًا بمناقشة قضية تربوية في محاضرة ثقافية عامة. قال لي: «هل ستكون عن رواتب المعلمين والمعلمات؟». العبارة تحمل إحالة للقضايا التربوية بوصفها قضايا تقنية تنظيمية يهتم بها التكنوقراط في الوزارات وليست بهذا المعنى مجالًا للنقاش الثقافي. صحيح أن لكثير من القضايا التربوية جوانب تقنية مثلها مثل أي مجال آخر، لكن هذا لا يعني أن تستغرق الجوانب التقنية كل الاهتمام. مثلًا قضايا رواتب المعلّمين والمعلمات يمكن أن تدرس وتناقش بوصفها قضايا عدالة.

أي: إن سؤال العدالة، وهو أحد الأسئلة الفلسفية الرئيسة، يمكن أن يفتح تربويًّا من خلال رواتب المعلمين والمعلمات. هل تعكس الرواتب مساواة بين الذكر والأنثى؟ هل تعكس الرواتب تصورًا معينًا للعدالة التوزيعية التي تتبناها الوزارة؟ أيّ أولويات تعكسها تلك الرواتب؟ هل لدى المعلمين والمعلمات مساحة من التعبير تكفل لهم مناقشة عدالة المقابل الذي يحصلون عليه؟ لماذا تنتشر بين الناس فكرة أن المعلمين والمعلمات يأخذون أكثر مما يعطون؟ ما آلية توزيع ميزانية التعليم على المدارس، وما دلالة هذه الآلية على العدالة؟ هل يصرف أكثر على الفئات الأكثر حاجة أم أن التمييز الإيجابي يتوجه لمن هم أفضل حالًا كالموهوبين؟ هل تأخذ المدارس في الأحياء الفقيرة مثل ما تأخذه المدارس في الأحياء الغنية؟ إلى أيّ مدى هناك مشاركة من المجتمع في ميزانية المدارس وآلية توزيعها؟ كل هذه الأسئلة يمكن أن تشغل النقاش الثقافي خارج الشروط التقنية التي تبدو تفصيلية جدًّا وخارج اهتمام المهتم العام. من النقاش أعلاه يمكن القول: إن أحد أسباب خفوت حضور القضايا التربوية في النقاش الثقافي هو إعطاء تلك القضايا مفهومًا تقنيًّا يجعلها حكرًا على التقنيين أهل الاختصاص الدقيق.

  السبب الثاني برأيي: هو ضعف الاهتمام بالقضايا الأخلاقية بشكل عام؛ مما يجعل القضايا التربوية التي هي أخلاقية بشكل عام، تغادر مناطق المركز في النشاط الثقافي. أحد أسباب تجنب المثقفين للقضايا الأخلاقية أنهم يخشون من الوقوع في إصدار توجيهات للآخرين، كما هي الحال في الفهم التقليدي للأخلاق. تقليديًّا الأخلاق تفهم بمعنى مجموعة من التعليمات التي تطرح للناس لكي تكون قائدة وموجهة لسلوكياتهم: كيف تلبس، وكيف تشرب، وكيف تعامل الآخرين. في المقابل فإن الفهم الفلسفي للأخلاق ليس معنيًّا بإعطاء توجيهات بقدر ما هو مشغول بوصف وتحليل ودراسة العلاقة بين الذات والآخر. العلاقة بين الذات والآخر قد تأخذ شكل الهيمنة، وقد تأخذ شكل الحوار والشراكة، وقد تأخذ شكل العزلة والاغتراب، وقد تأخذ شكل الضيافة. هذه الفضاءات المختلفة من وجود الذات مع الآخر هي لبُّ التفلسف الحديث في المبحث الأخلاقي، لكنها تكاد تختفي من فضاءات الجدل الثقافي المحلّيّ. إلى أي الفضاءات السابقة تنتمي العلاقات التربوية لدينا؟ هل علاقة الذات بالآخر تعبر عن الوجود من أجل الذات (الهيمنة – العزلة)؟ أم الوجود -مع- الآخر (الحوار والشراكة) أو الوجود -من- أجل الآخر كما في (الضيافة)؟ بهذا المشكلة تكون إشكالية التربية في الفضاء الثقافي هي إشكالية السؤال الأخلاقي وغيابه الكبير.

  أحد التفسيرات المحتملة يستمد صلاحيته من الصورة الكبيرة للتقسيم التقليدي للشؤون الاجتماعية حيث يحصر التربية في حدود المنزل والمدرسة، ويجعلها حصرًا من مهام النساء. وبصفة أن الفضاء الثقافي ذكوري إلى درجة كبيرة، فإنه من الطبيعي أن يزيح قضايا التربية للمساحات الخلفية. في محاضرة قدمتها مؤخرًا في جمعية الثقافة والفنون بالرياض بعنوان: «التربية كضيافة» كانت المداخلات النسائية مختلفة. كثير من الحاضرات داخلن بخبرة التعليم وخبرة الأمومة وخبرة العطاء. خبرة العطاء تحديدًا جوهرية للتعاطي مع التربية أو بالتالي للدخول في الأفق التربوي. التربية لكل من عمل بها بحق يمكن التعبير عنها بأنها الوجود -من- أجل الآخر أو أفق العناية بالآخر. لذا فهي ضد لمنطق الأنانية الذي جادلت أنه جوهري في الصورة النمطية للمثقف. في قراءة هيثم حسين لكتاب «حليب أسود» لإليف شافاق تعبير عما أريد أن أقوله هنا:

يقول: هيثم: «تشير شافاق إلى أن الروائي بصورة ما أناني، وعليه أن يكون كذلك؛ كي يستطيع إنجاز أعماله التي تتطلب منه نوعًا من العزلة، أما الأمومة فأساسها العطاء. وتجد أن الروائي يبني غرفة صغيرة داخل ذهنه، ويقفل الباب عليه؛ كي لا يدخل عليه أحد.

يخبئ هناك أسراره وطموحاته عن كل الأعين المتطفلة. أما الأم فعلى كل أبوابها ونوافذها أن تكون مشرعة صباحَ مساءَ، يستطيع أبناؤها أن يدخلوا من أي مدخل يختارونه، والتجول حيث ما طاب لهم ذلك، فليست للأم زاوية لأسرارها». المربية والمربي أقرب لنموذج الأم هنا، فالعزلة بالنسبة لهم خيار صعب جدًّا. الوسط الثقافي يعزز في أفراده الانشغال بالذات والحرص على إنجازاتها وإبداعها وحضورها المستمر. في المقابل التربية عالم من الغيرية حيث يتوجه اهتمام الإنسان فيه للآخر، لرعايته والعناية به. التربية ليست مجالًا للنجومية بل للتضحية. قد يكون هذا سببًا لتواري التربية عن الساحة الثقافية المحلية.

السبب الرابع يعود برأيي إلى كون الحساسية عالية جدًّا تجاه التغييرات المقترحة في المجال التربوي. المجال التربوي بطبيعته محافظ خصوصًا فيما يخص العناية بالأطفال الصغار، وهذه المحافظة تأخذ أبعادًا أوسع وأشرس في المجتمعات المحافظة بالمعنى الأيديولوجي للكلمة. هذا الفضاء غير مضياف للجديد والمختلف والمفاجئ. هذا كله يزيح التربية في مساحات أبعد عن الاهتمام المشغول بالتغيير والإبداع والتجديد.

في الأشكلة

  النقاش أعلاه كان يدفع باتجاه أشكلة غياب التربية عن الجدل الثقافي العام، لكن يمكن التأكيد على النقاط التالية: غياب التربية بهذا الشكل يحرم التربية من الآراء المتنوعة التي غالبًا ما يوفّرها الجدل العمومي. كذلك هذا الغياب يحرم التربية من الرؤى النقدية التي عادة ما تتوافر لدى المهتمين خارج الاشتغال الدقيق والتقني بأي مجال. هذا كله يعني أن تُدَار الشؤون التربوية بعيدًا عن طبيعتها الاجتماعية. إشكال جوهري آخر يتمثل في كون غياب التربية عن المجال الثقافي يحرم التربية من أن تكون مجالًا جذابًا ويتركها مجالًا رحبًا لمن يسعى لتحقيق مكاسب وظيفية محدودة في النفع الشخصي.

البديل

النقاش أعلاه اقترح أربعة أسباب رئيسة لضعف حضور التربية؛ السبب الأول: يعود للفهم المحدود لقضايا التربية بوصفها محصورة في الشؤون الإدارية والتنظيمية للمدارس. السبب الثاني: يعود إلى ضعف حضور القضايا الأخلاقية وقضايا العدالة بشكل عام في المجال العام المحلي. التربية بوصفها مجالًا أساسيًّا للاهتمام الأخلاقي تتوارى كنتيجة لتواري البحث الأخلاقي. السبب الثالث: يعود إلى ذكورية المجال العام؛ مما يعني إزاحة التربية وهي مجال أنثوي بامتياز من دائرة الاهتمام. السبب الرابع: يشير باختصار للمحاذير المحافظة التي تحيط بالتربية بشكل عام، وبالتالي لا ترحِّب بأطروحات التغيير والتطوير. إذا كان التحليل أعلاه دقيقًا، فإن ما يمكن اقتراحه لإدخال التربية في محور اهتمام الوسط الثقافي سيدور حول ذات المحاور. على أهل الاختصاص في التربية الحديث عن القضايا التربوية بالمعنى الواسع للكلمة. ما يلاحظ على كليات التربية في الجامعات أنها لا تعزز هذا التواصل بين المتخصصين فيها والمجتمع بمفهومه الأوسع.

الكليات ذاتها تعزز الانحسار في البعد المدرسي للتربية. المقترح الثاني يدور في أفق تعزيز التفكير الأخلاقي في النقاش العمومي. هذا يتطلب إعادة التفكير في معنى الأخلاق ذاتها وإخراجها من دائرة الأخلاق بمعنى إصدار التعليمات والتوجيهات. الجدل الأخلاقي بالمعنى الفلسفي للكلمة جذاب للتفكير وحافز إلى المشاركة العامة. قضايا مثل حدود الحرية والمسؤولية الأخلاقية وحضور الآخر في علاقته مع الذات تمسّ عصب الحياة اليومية للناس. المقترح الثالث يدفع باتجاه تعزيز المنطق الأنثوي أو المنطق الغيري بشكل عام كمنطق مساهم في المجال العام.

مشاركة أوسع للمرأة في الجدل العام يمكن أن تدفعنا باتجاه الانفتاح على قضايا التربية في المجال العام. كذلك من المهم مناقشة الصورة النمطية للمثقف والمثقفة بوصفهما كائنات مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها الشخصي التي تدفع باتجاه الصورة الأنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية. العامل المحافظ يحتاج لنقاش مستقل، لكن من المهمّ جدًّا للمهتمين بالتجديد في المجال التربوي أن تتحد أطروحاتهم بمنطق الحب والاحترام للآخرين؛ لكي لا تستفز خصومتهم من دون داعٍ. العبء هنا يقع على المهتم بنقد وتجديد الشأن التربوي في تفهم وتقدير مشاعر الناس الحريصة أولًا وقبل كل شيء على تأمين أطفالهم، والتأكيد على أن تربيتهم تتم في فضاءات مطمئنة.