جاذبية القصة القصيرة

جاذبية القصة القصيرة

التأمت الدورة الثانية لملتقى القصة القصيرة في الكويت (4_ 6 ديسمبر 2017م) لاختبار قابلية النوع الكلاسيكي على مقاومة الاندثار، واستعمال قواعده المنضبطة في تمديد عمر خطابه. يمنح الملتقى عادة جائزةً لأفضل المجموعات القصصية المنتَجة في عامين، لا تخرج ضوابطها الفنية عن التقاليد الراسخة في الوعي النقدي الاتباعي. ولا ريب في أنّ التراكم التاريخي للنوع قد أنشأ نطاقًا مغناطيسيًّا حول هذه التقاليد، يمنع التأثيرات النظرية لأجناس عابرة من اختراقه. وبذا يمكن تسويغ الرغبة المتصاعدة لدى الفئة الجديدة من كتّاب القصة القصيرة في الاشتراك بالمباراة السنوية التي تذكرنا بتقاليد شهيرة، هنا في الوطن العربي والعالم، احتكرت شهرةَ النوع في بناء أنطقةٍ أجناسية مُحكمَة حول كتّابه ونقّاده. فأولئك المتبارون يمتثلون لجاذبية النطاق التي تحيط ملتقيات القصة بهالات المشاغل الخيالية للجماعات الأدبية المنعزلة عبر التاريخ. فإذا بحثنا عن الأماكن القصية الحاضنة لهذه المشاغل، فلن نجد أفضل من الكويت (لؤلؤة الخليج الراسية على جَونٍ بحريّ جميل) مثالًا صالحًا للمقارنة مع الأمثلة التاريخية المتصوَّرة في الروايات والرحلات التي دلَّتنا على أمكنة اجتمعت فيها عقول شريدة بين عُقَد الطرق وآثار المدن القديمة.

لم يخرج تصوّري عن هذا النطاق، وما يغريني في هذا التصور طريق بحريّ رغبتُ بأن أسلكه بدلًا من الطريق البري القصير بين البصرة والكويت، وحاولت استعادة جاذبيته في أكثر من قصة قصيرة كتبتُها. أعربت للصديق طالب الرفاعي عن هذه الرغبة المضمَرة في السفر البحري، الممتدة في الذاكرة المجاورة لرسو السفن الخليجية في شط العرب. نداء البحر القديم (الذي طالما جذب طالب الرفاعي حتى كتب روايته _ النجديّ _ بحنين متصاعد لا أظنّه سينقطع يومًا) كان أقوى من أية دعوة تسلمتها من الصديق الرفاعي للمشاركة في الملتقى. أردت أن أشارك في دورتَي الملتقى بصفتي «حاجًّا» يحمل في خبايا ضميره القصصيّ مجموعةَ أسئلة متجددة عن فنّ سردي كان قد نما في أماكن منزوية، وتقاليد محترسة، مع أسماء مخضرمة.

أنطولوجيات الماضي

شهلا العجيلي الفائزة بجائزة الملتقى في دورتها الثانية

لم يكن لهذا الفنّ أن يرحل عن مواضعه المتفرقة، ويعبر أنطولوجيات الماضي (المجموعات القصصية المنشورة في سنوات ازدهاره في منتصف القرن الماضي) إلى ضفة القرن الجديد، لولا ذلك الرسّ المتجذّر في بُقْيا عشقٍ وولعٍ غير منطفئين. ولا أقدر من قاصّ «مرسَّس» بحنين متأصِّل في لفظةٍ من معانيها «البئر» و«الجمل» و«السفينة» على حمل معجم السفر والكتابة إلى نفوس تواقة للّقاء والمباراة والمناظرة. وليس في غير هذه اللذاذة ما يدفع بقوة للعبور المتواصل عبر النوع والزمن. وهذا ما أريد الخلوص إليه من وراء حضوري ملتقيات القصة القادمة في الكويت: اختبار قابلية النوع المرسَّس على العبور النوعي، تنظيرًا وتطبيقًا.

عامًا بعد عام، يمتثل لقانون القصة القصيرة (المشرَّع باسم الأساتذة المرسِّسين للنوع وأشهرهم – عربيًّا – يحيى حقي، ويوسف إدريس، وعبدالملك نوري، وعز الدين المدني، وعبدالسلام العجيلي) كتّاب مجددون لا يقلّون عن أساتذتهم هيامًا بالتحليق حول النطاق المغناطيسي الجاذب لرؤاهم الغضة (فازت بجائزة الدورة الثانية للملتقى قاصّة من أسرة الأستاذ عبدالسلام العجيلي هي شهلا العجيلي). لكن الاختبار الأعظم يأتي من تفريعات نصوصٍ تراوغ الانجذابَ الموحّد لقانون النطاق الأجناسي، غالبًا ما تقع خارج اهتمام لجنة تحكيم الجائزة. بين حوالي ثلاث مئة قصة مسجلة على قائمة الجائزة، جرى استبعاد نصوص حاولت الانفلات من جاذبية النطاق الأجناسيّ إلى فضاءات مجاورة. فقد كان مفهوم الجذب على أساس القصص «المجموعة» في نظام كمّي، أقوى من محاولة «تنضيد» النصوص بموجب روابط غير كمية (تفاعلية). وبذاك المعيار (الكمّي) لن تحصل القصة القصيرة على فرصة تمديد خطابها نحو أنطقة السرد المتنافذة في تأثيرها مع نطاق النوع الأجناسي المرسَّس.

تحتوي أنطقة السرد العربي القديم على تفريعات تنضيدية للنصوص في إطار فكرة/ موضوع واحد مما نراه في كتب سردية قديمة شهيرة كالمقامات والليالي وقصص الحيوان والرحلات.

يلغي نظام التنضيد الترابطي قانونَ «المجموعة» المتراكمة النصوص، ويُحِلّ بدلها نسقَ الحكاية الإطارية الكبرى التي تشمل فروعًا أصغر منها، تعمل على إتمام القراءة الكاملة من خلال التفاعل بين أجزاء بنيةٍ كلّية مترابطة. على وفق هذا النظام التنضيدي لن يُهمَل من النطاق الذي يغلّف الأجزاء ركن أساسي من الفكرة، ولا تُستبعد من البنيان شذرة محكيّة. فالمنضَّد من الحوادث متناسب والبنية الحكائية المتخيَّلة، وعدد الشخصيات مساوٍ لعدد الشذرات المحكية، والبنية تتفرع تحت عنوان يجمعها في دلالة عامة. فطنَ بوكاشيو لهذا الاختراع الحكائي فألّف «الديكاميرون» على أساسه، وجاراه في اختراعه إيتالو كالفينو في تأليف أكثر من عمل قصصي تنضيدي من أعماله.

قدرة الانفلات

وما يجمع النصوص القديمة والحديثة في هذا النظام السردي، قدرة الانفلات من جاذبية النوع الأدبي المنفرد (قصة، رواية، مسرحية، رحلة، سيرة، تقرير) وتنافذ الخواص السردية لكل منها في بنيان/ فضاء جامع يتناقل العلامات بسيرورة تناصية/ افتراضية، بمفهوم يوري لوتمان عن الفضاء العلاماتي semiosphere المشابه للفضاء الفيزياوي الاحتمالي. لن يقلل هذا الاحتمال الافتراضي «المستقبلي» من جاذبية الخصائص الداخلية لنوع مرسَّس على أساس المباراة التقليدية بين «مجموعات» كتّاب يتزايد عددهم كلما أحكمَ النطاق الأجناسي طوقَه على مخيلاتهم وقابلياتهم الفردية على العبور وتنضيد البنى المتغايرة في بنيان علاماتي متنافذ الروابط. فخلافًا للفضاء الترابطي الذي يحكم بنى العلم والاقتصاد، فإنّ بنى الأدب التخييلية تسير على الضد من احتمالات التنافذ التكنولوجي. ولعل القصة القصيرة هي النوع الأبرز بين فنونٍ ما زالت «تتزين» بقيود من كنوز أسطورية وتتباهى بجمالها. إنها الفنّ المتناغم مع النبض السرّي لموج البحر، والإيقاع الخفي المتسلل من طبلٍ يُقرَع في أعماق غابة نخيل، والحفيف غير الملحوظ لزحف الرمال، ورفرفة جناح طائر الشقراق.. الفنّ العصيّ على نظريات النصّ التفاعلي (المترابط) ومحاولاتها اختراق العزلة البحرية لمجموعات مرسَّسة تأبى إلا الاجتماع والمباراة على ساحل النصّ المطوَّق بجاذبيته السنوية.. وعلى هذا الاحتمال المتسلسِل سنلتقي في دورة ثالثة لملتقى القصة القصيرة في الكويت..

البصرة – الإسكندرية

البصرة – الإسكندرية

ماتت المهندسة العراقية زها حديد ولم تقدّم تصميمًا واحدًا لمشروع عصري يقام في بلدها الأصلي العراق، مثيلًا للتصميم الذي اقترحته لتطوير أرض المعارض المصرية (كايرو أكسبو سيتي)، أو لمحطات المترو والجسور والمتاحف في مواقع مختلفة من العالم. يتساءل الحضريّون العراقيون عن المسافة الشائكة التي فصلت زها عن الأرض العراقية، فلم تحتضن ضفاف دجلة أو شط العرب واحدًا من تلك الأجنحة الطائرة لتصميمات المهندسة العالمية بلمسات رافدينية على بيئة نائخة بثقلها المعماري الصحراوي.

لا أعرف كيف ضاعت هذه الفرصة الحضارية، لكنني لا أزال أتخيل المنظر الفضائي لزاوية التقاء الأنهر الثلاثة في القرنة (دجلة والفرات وشط العرب)، والمنبسطات السهلية التي ستضيف زها لمساتها على هذا الموقع، وما ستزيده مهندستنا من امتداد قد يفوق تصميم ذلك القرص الدائري المائل لمكتبة الإسكندرية، شاهدًا على اضطجاع الروح المصرية الحكيمة بين أذرع النور والمعرفة والحداثة المادية إلى أزمان قادمة. كان هناك أمل في أن يرتفع قرصٌ للشمس من بين صفوف النخيل جنوبي العراق ليشع بما شعّ به أثر سومري استقرّ في المتحف العراقي، وضاع مع غيره من الآثار في غزوة 2003م.

تستحق مدينة الورّاقين (البصرة) التي يلهو سكانها بألعاب الزمن القديمة، استراحةً وسط غابة من النخيل تتوغل طرقها إلى قلب بناء مبنيّ على سبيل التناظر والتقابل مع مكتبة الإسكندرية. لا حدود لهذا المنظر الافتراضي، حيث تتسلسل المباني من ملتقى شط العرب حتى مصبّه، على جانبي كورنيش طويل (لم يُستغلَّ من طوله حاليًّا غير كيلومتر واحد). ولا عائق أمام هذه النظرة التي تستخرج من السهل الطيني تصميماتِ الخامة السمراء، وجماليات البيئة الخضراء، وموحيات الجدل المعرفي الكلامي الممزوج من هدوء الطبع الإنساني وثورته على الجمود العقلي، هذا الذي قد يسمّى بحوار المدن القديمة، وطريق المعرفة المتصلة بين إسكندرية الفكر الأفلوطيني وبصرة الفكر الإسلامي، وما يجاورهما ويقع على خطَّيْ نهضتيهما من حواضر التنوير والتمدين العربية.

لا تضمّ البصرة العظمى (بتسمية سليمان فيضي، أحد مثقفي مطلع القرن العشرين) في حاضرنا هذا بناءً واحدًا قادرًا على استباق حركة الزمن الكوكبية، ولا يشهد مربّعٌ من مربّعاتها القبليّة أساسًا من الأسس التي بُنيت عليها حوارات فلسفة الإشراق في القرون الهجرية الأربعة الأولى، ولا يُسرع بالظهور نجمٌ مذيَّل على منحنى مستقبلها؛ فهي اليوم مربّع للصمت المطلق يهرع كلامي إليه ليبني تصوّره عن مدينة القواقع والأحياء البرمائية التي تنزلق على سطوحها أفكار الاتصال اليوتوبية. فالمبدأ التصميمي لمنشآت كورنيش البصرة يفارق وظيفته الأصلية ليلتحق بوظيفته الجمالية المكوّنة من سلسلة قواقع حلزونية المظهر، ترتفع في الفضاء وتتبادل الوظيفة الاتصالية بالزمن والمعرفة.

أحلام النهر الشائخ

زها حديد

زها حديد

إنه حلم من أحلام النهر الشائخ يفرزها يوميًّا على ضفتيه، في حركة تشكيلٍ دائبة للصمت النابع من درع الطبيعة. حلم يرتقي لتصميمٍ من تصاميم زها حديد غير المنفَّذة، مركزُهُ هذه الحركة الطبيعية اليومية وإفراز مشغلها الجمالي والمعرفي. أما أعلى قمَّة في هذا التشكيل فستمثله قوقعةٌ هائلة الحجم ذات فضاء داخلي حلزوني، يناظر الجوف الفضائي لقرص مكتبة الإسكندرية المدفون في الأرض، ومشغله الاتصالي الجامع. نُصْبٌ على شاطئ البصرة المديد دالٌّ على زمن الجاحظ والفراهيدي والحريري، يقودك إلى إسكندرية كفافي وداريل والخراط وزمنها الذي طوى في ظلِّ قرصه الروحَ المصرية الشغوف بالأسرار.

البصرة – الإسكندرية توأما الضوء والرياح، مثالا المدينة الممزوجة بلعاب العصور والثقافات، ونصوص الكلمات الهجينة. استبدلت البصرة عمرانها مرارًا، ونسخت خططها من خراب إلى خراب، حتى هجرت الصحراء، واستقرت على جبهة النهر. أنشأت لها أسواقًا لاستقبال تجارة الشرق، وكيّفت أسرار حريمها لنوع معماري من الشرفات الخشبية سمِّي بالشناشيل. تخلّت عن صراحتها البريَّة لتتاخم بيئةً بحريَّة، كانت تأتيها بعجائب المخلوقات، ويخرج منها سندباديُّون مغامرون. انتقل الإرث الشفاهي ليقيم في صوامع الطباعة التي جاءت بها حملات أوربا الاستعمارية مع أحدث المخترعات. لكنها بين حلم وآخر تستفيق على نصّ لم يكتمل، وتصميم ضاع سبيله إليها، فتستدير إلى توأمها الإسكندرية.

مقابل التوأم البصرياثي اصطبغ التوأم الإسكندراني بمعمار الأقوام التي غزتها أو هاجرت إليها منذ تأسيسها على يد الإسكندر المقدوني العام الميلادي 232. حاولت الهوية المزدوجة للإسكندرية أن تختطّ وسائطها العابرة للتحولات السياسية، وأن تستبقي لها ما يدلّ على قبولها القسمة بين الإرث الاستعماري، العثماني والأوربي، فتمسّكت بفنارها البحري، ومسرحها الروماني، وبأسوار قلعة قايتباي، وسراي رأس التين، وقصر المنتزه، ومحطة الرمل، وكوم الدكة، ثم أخلت المكان القديم في حيّ الشاطبي لقرص المكتبة المائل على أنقاض مكتبة بطليموس لكي يمتصّ الفائض الثقافي في الشرخ المتأصل في هويتها، والتنافر السكاني المتعايش في بيئتها.

الإسكندرية والأهواء الأجنبية

وبعد أن مكّنت الإسكندرية الأهواءَ الأجنبية من ناصية أسواقها وملاهيها، وأعطت فورستر مادةَ دليلهِ المفصَّل لمعالمها، وداريل شخصيات رباعيته الروائية الداعرة، وكفافي قصائدَه الكفيفة، عادت فاحتوت الشخصيات النقيضة للإرث الغريب في روايات نجيب محفوظ وإدوار الخراط وإبراهيم عبدالمجيد وبهاء طاهر، وقبلت بإضافة وجودهم البلدياتي العابر على متن هويتها الأممية، كل ذلك لأنّ البحر الذي أنجبها من ظلماته ما زال يطالبها باستقبال هجرات وحملات يولسيسية من الجانب الآخر للعالم.  أن تأخذك الإسكندرية إلى البصرة، أو تدير بصرك عن توأمها فتضيع منك؛ أن تقتبس رؤياك من حوضها المُزبِد بالهويات العابرة أو تهاجر إليها بهويةٍ بصرياثية فقيرة؛ لن تجد ما هو أقرب إلى قلب الإسكندرية من هذه القصيدة التي كتبها كفافي عن مأساة أنطونيو:

«عندما تسمع في منتصف الليل فجأة، فرقةً من المغنين، تمرّ في الطريق غير مرئية، بموسيقاها الصاخبة، بصياحها الذي يصمّ الآذان، كُفَّ عن أن تندب حظّك الذي ضاع وخطّطْ حياتك التي أخفقت، وآمالك التي أحبطت، دع عنك التوسلات غير المجدية.

وكُن كمنْ هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، ودّعْها، ودّع الإسكندرية التي ترحل. وبالأخص، حذار أن تُخدَع، لا تقل: إنّ الأمر كان حلمًا، وهمًا في أذنيك وكذبًا، آمالٌ بالية مثل هذه لا تُصدّق. كمنْ هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، كما لو كنت أهلًا لها حقًّا، أهلًا لمدينة مثل هذه، اقتربْ بخطا ثابتة من النافذة، واستمعْ بحزن، ولكن بلا توسلات جبانة، ولا شكاوى ذليلة. استمعْ حتى النهاية إلى الأصداء المبتعدة، واستمتعْ بها، استمتع بالنغمات الرائعة من الفرقة الخفيّة التي تمضي إلى الزوال.

ودّعْها، ودّع الإسكندرية، الإسكندرية التي تضيع منك إلى الأبد».