خيارات خاطئة دهورت الجامعة التونسية عقب البدايات المرموقة

خيارات خاطئة دهورت الجامعة التونسية عقب البدايات المرموقة

إلى أي حد لعبت الجامعة التونسية دورًا في رفد المشهد الفكري العربي بباحثين وباحثات، قدموا معالجات مهمة وجريئة لعدد من القضايا والإشكاليات الفكرية المعقدة؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة في المجتمع؟ وما التحديات التي تواجهها الجامعة في تونس خاصة، وفي الوطن العربي عامة؟

أسئلة طرحتها «الفيصل» على عدد من المفكرين والباحثين التونسيين؛ مثل الدكتور عبدالمجيد الشرفي الذي يُعَدّ من المتخصصين في تاريخ الفكر الديني. وقد شارك مؤخرًا في إعداد مشروع قانون الحريات والمساواة الذي أثار جدلا كبيرًا وينتظر أن يبتّ فيه مجلس النواب قريبًا. والدكتور محمد محجوب وهو أستاذ التأويلية وتاريخ الفلسفة، ورغم مشاركته المكثفة في الحياة الجامعية، فإن للدكتور محمد محجوب موقفًا صارمًا من الوضع في الجامعة التونسية اليوم، وهو ناقد لاذع للمسار الذي اتخذه التعليم العالي اليوم، وينادي باستعادة الجامعة لموقعها ولدورها في تكوين النخبة. إضافة إلى الدكتورة أسماء نويرة رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس. والدكتورة سنيا مبارك وهي الجامعية ووزيرة الثقافة سابقًا، وهي أيضًا مطربة وملحنة والمدرِّسة في المعهد العالي للموسيقا.

محمد محجوب

لا تمثل الجامعة التونسية رافدًا إلا في مجال التدريس

ويذكر الدكتور محمد محجوب أنه لا يمكن تصوُّر الدور، الذي يتحدث عنه السؤال، «خارج إطار المجادلات العلمية والفكرية، التي من شأنها أن تقع بين الباحثين والمفكرين.. وعندما ننظر في واقع هذه المجادلات فإننا نجد أنها منعدمة أو تكاد. وباستثناء بعض الريادات الفكرية في مجال الحضاريات، وهو مجال يبقى انطباعيًّا ما لم يتقيد بمناهج النقد التاريخي والفيلولوجيا، أي ما لم يتخذ لنفسه موضوعًا محددًا، فإن المشهد يبقى مقفرًا من كل إشكالية حقيقية. إذ لا بد من طرح السؤال عن «شروط الدور الذي تسألين عنه: وفي تقديري أن هذا الدور لا يمكن تصوره كتفوق أو كسبق تفوز به الجامعة التونسية على غيرها من الجامعات.. لا يمكن طرح هذا الإمكان إلا في حدود انخراط المفكّرين والباحثين الذين يؤثِّثون المشهد الفكري العربي في إشكالية أو إشكاليات محددة الصياغة والأبعاد. ما هذه الإشكاليات؟ وما الذي يتيحه الواقع العربي كإشكاليات للمعالجة؟».

ويلفت إلى أن المتتبّع لما يجري على هذه الساحة «يمكنه أن يعتبر بعض الأسئلة المهمة المطروحة على الوعي العربي دون أن تتحول هذه الأسئلة إلى إشكاليات حقيقية: أولًا- كيف يمكن إعادة صياغة المعطى التراثي العربي الإسلامي على نحو يجعله مقروءًا لنا اليوم؟ ثانيًا- كيف يمكن صياغة الحياة السياسية [علاقة الحكم بالحرية] على نحو يمكنها من الخروج من الرسم المعطّل للسلطة التي تستمد شرعيتها من المتعالي؟».

ويمضي الدكتور محجوب يقول: «من اللافت أنّ الجدل الذي يقوم بين الباحثين والمفكرين التونسيين والعرب، هو جدل يظل اليوم بوساطة المفكرين الغربيين الذين يعودون إليهم ويستمدون منهم تأسيس مواقفهم، بل ينخرطون فيها. هو ليس جدلًا أفقيًّا بقدر ما هو جدل عمودي أعني بوساطة مرجعية فكرية غربية عمومًا. أيّ دور يمكن أن تلعبه الجامعة التونسية بل أي جامعة عربية في هذا السياق؟ وكيف يمكن تصور أي دور عندما لا يتوافر أي فضاء للمساهمة المتراكمة، أو لمراكمة المساهمات: لا تمثل الجامعة التونسية رافدًا إلا في مجال التدريس وضمن حال من المبادرات الشخصية، أي خارج أي سياسة علمية وجامعية وثقافية مبرمجة ومخطط لها إستراتيجيًّا. ومع ذلك أعتقد أن المجال الوحيد الذي كان للجامعة التونسية دور فيه هو مجال التعريف عبر الترجمة بمصادر الفكر العلمي الغربي في مجالات المعرفة الفلسفية واللسانية، وفي مجال المعرفة ذات الصلة بالإنسانيات ومناهجها عمومًا. ولكنه دور تعريفي وليس إسهامًا في فضاء البحث وضمن الجماعة العلمية العربية فضلًا عن العالمية: لا بد أن ندرك أنه لا وجود أصلًا لجماعة علمية عربية مهيكلة رغم وجود العناصر الضرورية لها».

الجامعة دفعتني لأكون فاعلة

وتقول الدكتورة سنيا مبارك: «يذكر ابن خلدون في مقدمته أهمية الثقافة في ازدهار الشعوب بتثقيفهم على المستويين الشخصي والجماعي، بالحفاظ على هويتهم من جهة وفي نشر ثقافة التحابب والتوادد والسلم الاجتماعي من جهة أخرى. أَنطلِقُ من هذا التعريف لأُقدِّم تصوري للدور الأساسي المناط بعهدة الباحث أو الباحثة الجامعية، فالمثقف هو الشخص الذي يساهم من خلال أنشطته في ظهور الأفكار المبتكرة وإنتاج المعرفة النظرية والتطبيقية في مجتمعه. وأعتبر أن مسيرتي الجامعية الإدارية والفنية مكنتني من جمع وجهين من المعرفة، النظرية والتطبيقية». وتضيف مبارك أنها وجدت في الجامعة، «دافعًا أساسيًّا لأكون فاعلة في المجتمع التونسي: امرأة ومواطنة تتمتع بحقوق وتلتزم بالواجبات، وتعمل على تنمية منظومة القيم المشتركة. ويجعلنا هذا الموقع نَعِي حقًّا أهمية المسؤولية المناطة بعهدتنا وخطورة دورنا الأساسي، بمعنى أهميته، المتمثلة في التأكيد على النموذج المجتمعي التونسي القائم على الشراكة ما بين المرأة والرجل في بناء مجتمع متوازن ومتفق على مجموعة من القيم المستلهمة من المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وكذلك من ثقافتنا وتراثنا وانتمائنا الحضاري».

سنيا مبارك

وترى مبارك أنه لا يمكن للمثقف والجامعي خصوصًا، «أن يضطلع بدوره تمام الالتزام من دون أن يكون مقتنعًا بضرورة العمل على تعميق الوعي بقيمة الثقافي في حياة الشعوب، ومن دون أن يدفع نحو نشر ثقافة تكافئ الفرص والعمل على أن يتمتع كل فرد بحقه في الوصول إلى الثقافة بمفهومها الشامل، بما في ذلك منظومة حقوق الإنسان. ولن يتسم دور المثقف والجامعي والجامعية بالنجاعة المطلوبة إذا لم تكن من ضمن أهدافه العمل على الارتقاء بمستوى الوعي الجماعي في المجتمع».

وتوضح أنه حان الوقت «لكي نعيد النظر في الوظائف التي يؤديها المثقف بشكل عام والجامعي بشكل خاص، ويمكن أن نقول: إن المثقفين والجامعيين يشكلون اليوم قاطرة أفكار ومواقف تساعد على فهم المسائل المعقدة وإيجاد حلول للقضايا الشائكة التي تواجه المجتمع. فلعلنا بذلك نخفف من هيمنة مفهوم دور المثقف العضوي (غرامشي) لننتهي إلى دور المثقف الجماعي الذي ينادي به بورديو. وأعتقد أن القضية المركزية في علاقة المثقف بالدولة والمجتمع هو مدى التزامه بالقضايا الجماعية لمجتمعه، مثلما أشار إلى ذلك المفكر إدوارد سعيد».

أسماء نويرة: حضور مهم للباحثة التونسية…

والجامعة في طريقها نحو التأنيث

توضح الباحثة أسماء نويرة أن التونسيين سواءٌ الناشطون بالجامعة التونسية أو المشتغلون بمراكز البحوث الوطنية والعربية والأجنبية، أسهموا إسهامًا مهمًّا في إنتاج المعرفة، وطرحوا قضايا فكرية معاصرة بجرأة، وتميزوا في مجال العلوم الإنسانية خاصة. وتلفت إلى أن تونس بعد ثورة 2011م شهدت «انفتاحًا كبيرًا على المحيط العلمي والمعرفي، العربي والدولي، وهو ما ساعد مراكز بحوث عدة على فتح فروع لها في البلاد، واستقطبوا كفاءات تونسية يشهد لها المحيط العلمي وما يسمى بالمجموعة العلمية العالمية بالكفاءة والجرأة والسبق».

وإن كانت نويرة تنفي وجود دراسات كمية تحدد بدقة نسبة الإنتاج المعرفي (الناحية الكمية)، فإنها ترى أن بعض الباحثين التونسيين «لهم إشعاع حقيقي ولا سيما في مجال معالجة القضايا التي تشغل العالم العربي، وبخاصة مجال الدراسات الحضارية وتاريخ الفكر الديني». وترى أسماء نويرة أن باحثات مثل آمال قرامي وزهيّة جويرو وناجية الوريمي مثلًا، «إذا ما اقتصرنا على مجال العلوم الإنسانية، لهن وزنهن في ساحة الفكر والمعرفة في تونس وخارج البلاد».

أسماء نويرة

ولا تنفي نويرة أن الجامعة، «إذا ما استندنا إلى القراءة الكمية، هي اليوم بصدد التأنيث. فقد ارتفع عدد الأستاذات الجامعيات في تونس مثلًا بشكل مطّرد، وهو ما من شأنه أن يسهم في تغيير المعطيات التي كانت سائدة. فعندما دخلت المرأة إلى الجامعة كانت هناك هيمنة ذكوريّة، ولم تكن المرأة تحظى بالتشجيع، بل يمكن القول: إن الباحثين كانوا يرفضون أن تقتحم المرأة مجالات بحثية تتعلق مثلًا بتاريخ الفكر والحضارة الإسلامية، التي يعتبرونها حكرًا عليهم، وهو ما خلق لدى المرأة الباحثة والجامعية، نوعًا من التحدي ودفعها إلى مضاعفة الجهود لفرض نفسها والتفوق على زملائها الرجال. وقد انعكس ذلك إيجابيًّا على المرأة الجامعية وعلى مناخ الجامعة كله، الذي شهد تغييرًا واضحًا، وخرج شيئًا فشيئًا من الهيمنة الذكورية». وترى نويرة أن مراكز البحوث الدولية التي تشتغل كثيرًا على موضوع المرأة، وكذلك المنظمات الدولية، أسهمت في توجيه البحوث توجيهًا يأخذ في الحسبان زاوية النظر الجندرية، وساعدت على خلق تقاليد بحثية جديدة في المنطقة العربية، وعملت على تشجيع القراءات الجندرية، وهو ما نتج عنه مزيد من الوعي بأهمية دور المرأة الجامعية وبخصوصية هذا الدور».

وتقول: إن باحثات عربيات (هي إحداهن) يشتغلن ضمن مشاريع بحثية مشتركة، لكنها عادة ما تكون تحت إشراف جامعات أوربية أو تحت إشراف شبكة بحوث أجنبية. وإن كانت هناك مبادرات لدعم التعاون العلمي والمعرفي والفكري العربي- العربي مثلًا، على غرار المجلس العربي للبحوث الاجتماعية مثلًا، فإن أغلب مشاريع البحوث التي تستقطب الكفاءات العربية والتي تطرح قضايا تهم المنطقة العربية ما زالت بإشراف أوربي أو كندي أو أميركي». فالتمويل يعدّ عائقًا كبيرًا، وفق أسماء نويرة، ولا سيما في مجال العلوم الإنسانية. «فجُلُّ الأنظمة العربية لا تشجع كثيرًا على البحث في مجال العلوم الإنسانية، وذلك رغم حاجة مجتمعاتنا لبحوث كثيرة في هذه المجالات، وهو الأمر الذي يحدّ من طموح الجامعي والباحث العربي رغم امتلاكه لجُلِّ المفاتيح التي تخول له المشاركة الفعالة، في طرح القضايا المهمة».

الجامعات العربية هجرتها الكفاءات… ويمكن أن أتحدث عن أزمة جامعية

عبدالمجيد الشرفي

لقد بدأت الجامعة التونسية بداية حسنة، بل مرموقة عندما أُنشئت سنة 1958م، وبقيت التقاليد الجامعية موجودة فيها تقريبًا إلى نهاية القرن، ثم بدأ الانحدار شيئًا فشيئًا؛ لأسباب سياسية واجتماعية، وخيارات خاطئة أدت إلى تدهور المستوى. فقد أنتجت الجامعة التونسية أجيالًا من الباحثين والباحثات الذين شرّفوا تونس في الداخل والخارج وفي ميادين مختلفة؛ لأنهم يؤمنون بأن دور الجامعي هو الإضافة وليس الاجترار وتكرار ما قاله الماضون أو الآخرون. ويمكن أن نعتبر أن هناك خميرة ما زالت لحسن الحظ موجودة في الجامعة من الكفاءات، والأمل معقود على أن تؤدي هذه النخبة إلى رفع المستوى، وإلى العودة إلى التقليد الجامعي الذي انطلقت به الجامعة وبذلك تبتعد من الرداءة.

والمقصود بالتقليد الجامعي هو تجنب الاجترار والمساهمة في إنتاج المعرفة. فهذا هو دور الجامعة الأساسي أي أنها تأتي بما ليس يوجد في المخابر ولا في الكتب، ولا لدى أي طرف كان. بمعنى آخر تساهم الجامعة في هذا الإنتاج العالمي الكوني للمعرفة البشرية. وفعلًا، لقد كان لأساتذة الجامعة التونسية إضافات في ميادين مختلفة يمكن أن نستعرض من بينها مثلًا، الإضافات في مجال اللسانيات المعترف بها في جميع الدول العربية حتى خارج المنطقة العربية».

وللتونسيين كذلك دور مهم في الدراسة الدينية وتاريخ الفكر الديني، ويمكن أن نعتبر أن الجامعيين التونسيين قد أنتجوا في هذه المجالات وغيرها معرفة تتميز بالجدة والجرأة، وهي تستجيب بالخصوص للمعايير المعمول بها فيما يسمى بالمجموعة العلمية التي لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا اللغوية ولا الدينية ولا غيرها. فأن تكون منتميًا إلى المجموعة العلمية، معنى ذلك أنه معترَف بك في أي جامعة من جامعات الدنيا، وعندما تكتب أو تتكلم يستمعون إليك.

أما ما يتعلق بفرضية انفراد الجامعة بتحمل مسؤولية تطوير المشهد الفكري، وطرح الإشكاليات الفكرية المعقّدة وإيجاد الحلول المناسبة لها، فإني أعتقد أن الجامعة لا تنفرد بهذه المسؤولية، وفي نظري هناك تكامل بين التكوين الجامعي والتكوين الذي يمكن أن يكون عصاميًّا. فالتكوين الجامعي يؤهل للبحث ولا يؤهل بالضرورة للإبداع، والمبدع محتاج إلى ثقافة ذات مستوى راقٍ موجودة في الجامعة. فيمكن أن يكون الجامعي فنيًّا في ميدانه ومختصًّا في علم من العلوم أو في فرع من فروع المعرفة، ويمكن أن يكون إضافة إلى ذلك مبدعًا سواءٌ في الأدب أو في غير الأدب. وهذه الخصومة بين الجامعيين والنخبة غير الجامعية لا أرى لها شخصيًّا مبررًا؛ لأن العبرة ليست بالشهادات الجامعية بقدر ما هي ببلوغ مستوى في الإنتاج المعرفي يفرض نفسه، سواءٌ كان ذلك بإمضاء الجامعي أو غير الجامعي.

أما ما يتعلق بمساهمة الجامعات العربية في إنتاج المعرفة الكونية فهي للأسف مساهمة ضئيلة. فعندما أستعرضُ الجامعيين العرب الذين ينتمون بحق إلى هذه المجموعة العلمية العالمية، فإني لا أجد عددًا كبيرًا مع الأسف، وأغلبهم هاجروا إلى الغرب؛ إذ لم يبقَ إلا الذين ربما ليست لهم نفس الخبرة والتجربة التي كانت في الجيل الذي سبقهم. وعندما أقول الخبرة فإن ذلك لا يتعلق فقط بمعرفة النصوص، وإنما أيضًا بجوانب أخرى مهمة؛ من بينها الاتصال بالباحثين مثلًا. فالجيل الجديد من الجامعيين تنقصهم العلاقات المتينة بأقرانهم في الجامعات الراقية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا،… إلخ.

وهناك أسباب موضوعية أدت إلى ذلك، من بينها صعوبة التنقل، ومشاكل التأشيرة، وتدني الإمكانيات المادية للجامعي. فالجامعي اليوم لم تَعُدْ له الإمكانيات التي تسمح له بالإنفاق على تكوينه بنفس السهولة التي كانت للجيل الذي سبقه. فسعر المجلات وسعر السفر والإقامة بالخارج لم يعد متاحًا للشباب الجامعي والأساتذة الشبان الذين هم في بداية حياتهم المهنية. والوضع لا أعتقد أنه أفضل على المستوى العربي، فالجامعات العربية هجرتها الكفاءات، بل يمكن أن أتحدث عن أزمة جامعية عامة. نعم هناك أزمة جامعية تهم كل مستويات التعليم في الحقيقة. فغلبة الاعتبارات المالية على غيرها من القيم المجتمعية جعل الجامعة حتى في البلدان الراقية والغنية تمرّ بأزمة؛ لأن مردودية الجامعة مردودية بعيدة ولا تكون مردودية مباشرة بينما رأس المال يبحث عن الربح السريع، وهو ما جعل الجامعة اليوم تعمل تحت ضغط هذه الاعتبارات الاقتصادية والمهنية بعد أن كانت تعمل في نطاق أريحية معرفية ومالية واعتبارية وسياسية وثقافية لم تعد اليوم موجودة بنفس المستوى. إن رئيس الجامعة في الغرب مثلًا، هو اليوم شبيه بمسؤول عن شركة تجارية وصناعية وخدماتية، ولا بد له من أن يعتبر الانعكاس العاجل في مستوى الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهذا لا يمكن أن توفره الجامعة، فهي تبتعد من طبيعتها إذا ما اقتصرت على البحوث التطبيقية وعلى المردودية السريعة.

عبدالمجيد الشرفي: الحلول لا ينبغي البحث عنها في القياس

عبدالمجيد الشرفي: الحلول لا ينبغي البحث عنها في القياس

يعد المفكر التونسي عبدالمجيد الشرفي من بين أبرز المختصين في تاريخ الفكر الإسلامي، وله مجموعة كبيرة من الدراسات والبحوث والمؤلفات حول مجال تخصصه، لكن اهتمامات الباحث ورئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة بقرطاج) والأستاذ الزائر بعدد من الجامعات بالخارج لا تقف عند الفكر الإسلامي إنما تشمل الظاهرة الدينية كلها. فمعرفة الخلفية الدينية وفق الباحث التونسي الذي كان أول شخصية من العالم الإسلامي تشغل كرسي اليونسكو للأديان المقارنة (بين 1999م و2003م) مهمة جدًّا بل ضرورية لفهم كل جوانب الحياة في المجتمع. بل إنه يرى أن الغاية من دراسة الظاهرة الدينية في الأساس هي فهم انعكاساتها في حياة الناس اليوم، وهو ما يفسر عدم تردده في ترؤس أو الانضمام إلى لجان وفرق بحثية مهمتها صياغة حلول للإشكاليات التي تطرح على المجتمع في العلاقة بالنصوص الدينية وفهمها، ولا سيما أن التأويلات القديمة لم تعد تقدم أجوبة مقنعة تتوافق مع التغييرات الجوهرية التي تشهدها مجتمعات هذا العصر.  ولذلك فهو اليوم، مثلًا، ضمن لجنة تناقش إمكانية إعادة النظر في التشريع التونسي فيما يتعلق بالميراث. في حواره مع «الفيصل» تطرق المفكر عبدالمجيد الشرفي إلى عدد من القضايا والموضوعات المطروحة على المجتمع التونسي الذي يشهد نقاشات ساخنة حول عدد من المسائل ذات العلاقة بفهم الدين وتأويله، إضافة إلى قضايا مهمة أخرى تشغل العالم العربي والإسلامي بصفة عامة.

إلى نص الحوار:

● أنت من المختصين في تاريخ الفكر الإسلامي، رغم أنك لست من خريجي الجامعات الدينية بل من خريجي كلية الآداب في الجامعة التونسية، فكيف أصبحت باحثًا في علم الأديان؟

في الحقيقة تكويني مزدوج لأن البكالوريا (امتحان ختم الدروس الثانوية قبل التوجه للجامعة) كانت تتم على جزأين. في الجزء الأول كنت في شعبة العلوم ثم اخترت شعبة الفلسفة في الجزء الثاني، وفي قسم الفلسفة كان يمكن لكل تلميذ ينجح في البكالوريا أن يختار أي شعبة في الجامعة حتى إن كانت شعبة علمية ومن بينها الطب مثلًا. وفيما يخصني، اخترت دراسة العربية وآدابها (العربية فيها اللغة والأدب وما يسمى بالحضارة) وتخصصت في الحضارة. وفي الحضارة هناك جوانب مختلفة من بينها الفكر الديني، لكن اهتمامي بالفكر الديني كان سابقًا لظهور الإسلام السياسي وانتشاره في تونس؛ لأنني لاحظت أن كليات الآداب في البلدان المتقدمة تولي اهتمامًا بالفكر الديني من ناحية هو مكوّن من مكونات الثقافة في كل بيئة من البيئات، سواء كانت بيئة «معلمنة» كما في فرنسا مثلًا أو بيئة تقليدية. ولا يمكن فهم الأدب والفن والسياسة والاقتصاد من دون الرجوع إلى الخلفية الدينية. ولم أهتم بتاريخ الفكر الإسلامي فقط، بل توجه اهتمامي للفكر الديني في غير المجال الإسلامي واهتممت بالمسيحية خصوصًا وبعدد من الديانات الأخرى، وكنت صاحب كرسي اليونسكو للأديان المقارنة، وهو أول كرسي في العالم الإسلامي.

وفي اعتقادي لا يمكن فهم الإسلام إلا بوضعه في نطاق الظاهرة الدينية عمومًا، وهو ما حاولت القيام به في كامل مسيرتي العلمية، وهو مسار مختلف اختلافًا جذريًّا عما يجري في الجامعات الدينية كالزيتونة (تونس) والأزهر (مصر) والنجف (العراق) وقم (إيران) والقرويين (المغرب) وغيرها. والغاية من دراسة الفكر الديني بعيدًا عن الدوغمائية والوثوقية هي محاولة لفهم هذه الظاهرة وفهم انعكاساتها في حياة الناس اليوم، وهذا أمر صعب؛ لأنه تتقاطع فيه اختصاصات متعددة فلا بد من الإلمام بشيء من علم النفس والفلسفة والتاريخ وحتى الديموغرافيا، وهي عوامل تتضافر ونحاول من خلال استغلالها أن يكون فهمنا للظاهرة الدينية فهمًا أفضل لا فقط لأسباب ذاتية بل لأسباب معرفية.

● تدافع في بحوثك عن فكرة الارتقاء بالفكر الإسلامي نحو الحداثة وأشرت مثلًا في كتابك «الإسلام والحداثة» إلى ضرورة الأخذ في الحسبان وجود أربع ثورات كبرى شهدتها البشرية منذ بداية النهضة الغربية، وهي على التوالي ثورة كوبرنيك وإثباته أن الأرض ليست محور الكون، ونظرية التطور منذ داروين، وما أثبته فرويد من استدلال على السلوك الإنساني (ثنائية الوعي واللاوعي)، والتطور التكنولوجي المهم، وفي هذه الأثناء حدث ما يسمى بالربيع العربي. هل يمكن أن نعتبره ثورة كبرى خامسة وجب أخذها بعين الاعتبار في العلاقة بإعادة قراءة الفكر الديني؟

ما يسمى بالربيع العربي هو علامة على أن طرق الحكم التقليدية في البلاد العربية وصلت إلى مأزق، ولذلك فإن خروج ملايين المواطنين إلى الشارع والمطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة ظاهرة كانت في حد ذاتها متوقعة لكن لا في شكلها. فالشكل الذي اتخذته هو الذي كان غير مسبوق لكنها حركة طبيعية في مسار التاريخ فهذا ليس غريبًا؛ لأن ما حصل في تونس حصل في ليبيا وسوريا ومصر واليمن. وهذا الربيع العربي لا شك أن تقييمه الآن ربما ما زال سابقًا لأوانه لأن فيه هذا البعد الذي ذكرته، وهو أن الشعوب لم تعد تقبل طرقًا في الحكم أصبحت غير متماشية مع تطلعات الشباب بصفة خاصة. هذا واضح، لكن هناك عوامل خارجية كان لها دورها فيما شهدته المنطقة العربية في الأعوام الأخيرة. ليس هذا واضحًا في تونس كل الوضوح لكنه واضح في ليبيا وواضح في سوريا بصفة أخص، فلا ننسى أن الولايات المتحدة خططت للشرق الأوسط الجديد ولا ننسى أن هناك مخططًا إسرائيليًّا لتقسيم مصر على أساس طائفي، ولا ننسى ضرب قوة العراق العسكرية (الحرب الأميركية وحلفاؤها على العراق سنة 2003م) وحرب بالوكالة في سوريا وهذا المخطط موجود فعلًا، يعني أننا لا نتحدث عن مؤامرة بل عن مخطط منشور ومعروف لدى القراء.

وهذا التفكيك للعالم العربي يندرج في إطار مخطط إسرائيلي تسانده الولايات المتحدة ويسانده الغرب بصفة عامة؛ لأنه يمكّن لإسرائيل من قوة تنفرد بها من دون سائر الأنظمة العربية. وهنا لا بد من أن نشير إلى أن المعضلة الفلسطينية رغم المحاولات الراهنة لتهميشها تبقى هي قلب القضية القومية والوطنية في البلاد العربية وهذا يطول فيه الحديث. وأنا شخصيًّا أعتبر أن الغرب في هذه القضية كان من مصلحته إقامة إسرائيل لأنه لولا مساندة الغرب لما قامت إسرائيل، وإسرائيل تقوم بأدوار مختلفة في هذا الشأن. أولًا، هي تخلص الأوربيين من يهودهم فيهاجرون إلى إسرائيل ونعرف أن اللاسامية متغلغلة في أوربا الغربية والشرقية، فالمآسي التي عاشها اليهود في أوربا بالطبع أحدثت نوعًا من الشعور بالذنب في الغرب، لكن الحل بالنسبة لهم لم يكن في تجاوز العنصرية واللاسامية وإدماج اليهود في المجتمعات الغربية، ولكن التخلص منهم بأن يُوجَّهوا إلى فلسطين. ثانيًا، ومن الناحية الجيوستراتيجية، فإن إسرائيل تعتبر رأس الحربة بالنسبة للغرب تمكّن لهم من بيع الأسلحة للأنظمة القائمة في الشرق وفي الآن نفسه تمنع شعوب هذه المنطقة من أن تتوجه نحو بناء المستقبل بحسب المواصفات التي يقتضيها العصر الراهن، أي التوجه نحو المعرفة والتمكن من العلوم الحديثة والتكنولوجيا لذلك فإن ما حصل في الربيع العربي فيه هذا الجانب أيضًا الذي لا يمكن إنكاره.

ضياع مستحقات الشعوب

● كنتَ عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، ولك علاقة بلائحة تخص تأييد الثورة في سوريا؟

عندما قامت الثورة في سوريا كنتُ عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة (الهيئة التي تولت زمام الأمور مباشرة بعد فرار الرئيس بن علي) وكنت بادرتُ بتحرير لائحة صادقت عليها الهيئة العليا لتأييد الثورة السورية لكن قبل أن تنزع نحو التسلّح. وعندما سلحت هذه الثورة من طرف الأنظمة الموجودة في المنطقة العربية وغير العربية، فإن الثورة إذ ذاك حادت عن طريقها ولا يمكن مساندة ثورة مسلحة على حاكم أيًّا كان؛ لأن الثورة المسلحة تتدخل فيها المصالح الأجنبية وتضيع مستحقات الشعوب وهذا ما حصل في الربيع العربي.

● هل تجاوزت تونس الأزمة، بعد الثورة؟

تونس نجحت إلى حد كبير في تجاوز أزمتها، أعني أزمة الحكم لا الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فهي ما زالت قائمة، لكن أزمة الحكم لم تنحل في مصر وفي سوريا وفي اليمن وفي ليبيا؛ لأنها أدت إلى الدمار والفوضى وإلى حكم الميليشيات، ولا يمكن أن نعتبر أن الربيع العربي هو كل متجانس بل إن ظروف كل بلد تختلف عن ظروف البلد الآخر.

تحديث الفكر الديني في تونس ليس مصادفة

● لنعود إلى علاقة الربيع العربي بتحديث الفكر الديني، ماذا يمكن أن تقوله في هذا الصدد؟

يمكن القول: إن من الأسباب التي جعلت تونس تنجح نسبيًّا في تجاوز المرحلة التي عاشتها إبان حكم الترويكا (الحكومة التي أفرزتها أول انتخابات ديمقراطية بعد ثورة 14 جانفي 2011م، واتسمت بالاضطراب وببداية تسرب الإرهاب إلى تونس) هو أن الفكر الإصلاحي متجذّر منذ القرن التاسع عشر وهناك حركات فكرية واجتماعية عصرية لا مثيل لها في البلاد العربية الأخرى وبخاصة الحركة النقابية. فلا ننسى أن الحركة الفكرية ليست منعزلة عن السياق التاريخي الذي ترد فيه. فالمُصلِح الطاهر الحداد مثلًا كان من دعاة تحرير المرأة وكان لكتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» تأثير لا ينكر، لكن لا بد من التذكير أنه في المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي سنة 1946م (المنظمة النقابية الوطنية الأهم في تونس وساهمت في معركة التحرير الوطني) كانت هناك لائحة تطالب بتمكين المرأة من حقوقها وتطالب بتحديد تعدد الزوجات. إذن كانت هناك حركة فكرية وكانت هناك أيضًا حركة اجتماعية فاعلة، كما أن وجود طبقة وسطى مهمة في البلاد والقرب الجغرافي من أوربا من العوامل التي ساعدت التونسيين على تجنب بعض المنزلقات التي شهدتها بلدان أخرى، ولهذا فالفكر الديني التحديثي هو موجود في تونس لا من باب المصادفة، إنما هناك عوامل تاريخية جعلت الجامعة التونسية المعلمنة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يدرس فيها الفكر الديني لا عن طريق رجال الدين والمشايخ، بل يقوم بالتدريس والبحث باحثون لا صلة لهم بالمؤسسة الدينية التقليدية، وهذا المثال غير موجود لا في مصر ولا في السنغال ولا في إندونيسيا ولا في أي بلد. وعندما حاول المرحوم نصر حامد أبو زيد في جامعة القاهرة أن يكون مدرسًا للفكر الديني وهو غير منتمٍ للجامعة الدينية التقليدية نعرف جميعًا ما آل إليه أمره من تكفير وهذا ما لا يحصل في تونس، فالذين يدرِّسون الفكر الديني من غير رجال الدين ومن غير المتخرجين من المعاهد الدينية. ونحن في نطاق بيت الحكمة نظمنا ندوات شاركت فيها مجموعة من المختصين في الدراسات الدينية وليسوا كلهم من خريجي الزيتونة أو من علماء الزيتونة، فهذا تقليد موجود في الساحة الثقافية التونسية وفي الساحة الدينية التونسية.

● التركيز على وجود مؤامرة خارجية ومخطط أجنبي عدواني وعلى وجود متربصين بالمنطقة العربية الإسلامية، هل يؤدي بنا إلى السقوط في منطق الوثوقيّة – التي تحاربها أنت شخصيًّا – التي تؤمن بأن الآخر هو سبب الوضع المتردي للمسلمين اليوم وأن يحيد بنا إلى نوع ما من السلفية التي تحمّل المسؤولية للغرب الكافر؟ هل يكون العيب فينا وليس في الآخر؟

ليس هذا ما قصدته البتة؛ لأنني ذكرت المخطط الأجنبي للمنطقة العربية والإسلامية باعتباره عاملًا من العوامل. فهو ليس العامل الوحيد ولا هو ربما العامل الرئيسي وهذا أمر معروف؛ لأن الاستعمار والاستغلال والهيمنة لا تسلط إلا على الشعوب التي هي مستعدة لقبول هذه الهيمنة؛ لأنها هشة وغير متقدمة وقابلة للاختراق. ولذلك فإن العيب ليس في الآخر وإنما فينا نحن. ومن المهم أن نكون واعين بمسؤوليتنا لكن يجب أن تكون أعيننا منفتحة على العوامل الخارجية كذلك. فهي ربما ليست هي المحددة ولكنها موجودة ولا يمكن إنكارها. ونحن عندما نقول ذلك لا نسقط في نظرية المؤامرة؛ لأن المخطط الهادف لتفكيك المنطقة العربية للأسباب التي ذكرنا موجود ومنشور، لكنه تحليل للقوى الإقليمية الدولية الموجودة ولا يعفينا البتة من المسؤولية الذاتية وهذا لا شك فيه ولا يعود بنا إلى أي نوع من أنواع السلفية، بل على العكس من ذلك تمامًا فالسلفية لا معنى لها في هذه الحالة لأن الحلول التي كانت صالحة لدى السلف لم تعد صالحة لهذا العصر، والدليل على ذلك أن «داعش» ولأنه تبنى مقولات سلفية على غرار تركيز الخلافة وتطبيق الشريعة، نعرف ما آل إليه الأمر مع هذا الاقتداء الأعمى بالسلف من دون اعتبار الفروق بين الظروف التي فكّر فيها السلف والظروف التي نعيش فيها نحن، وليس هناك أي خطر من هذه الناحية.

● يتردد في بحوثك ودراساتك ما تسميه بالخطاب الميثي الذي يكبل الفكر الإسلامي من منظورك، كيف يبرز ذلك؟ وكيف يمكن تجاوز هذا الخطاب للوصول إلى العقلانية التي تعدها شرطًا من شروط الوصول إلى الحداثة؟

لا شك أن الجانب الميثي مثل البعد الرمزي بصفة عامة والمتخيل، موجود باعتباره ملكة من الملكات البشرية وباعتباره يتحكم في سلوك الناس والجماعات بصفة خاصة، لكن إلى جانب الميث والرمز والمتخيل، هناك العقل. وواجبنا أن نجعل الجانب العقلي حاضرًا في تفكيرنا وفي سلوكنا حضورًا يستجيب للواقع الحضاري الكوني اليوم. لا يمكن لنا ألا نكون عقلانيين وعقلانيتنا هي التي تجعلنا نأخذ بعين الاعتبار الملكات الأخرى التي ذكرتها. فهذا في صلب العقلانية فنحن نميز بين الميث والرمز والمتخيل بواسطة العقل؛ ولهذا فإن العقلانية لا تلغي الأنماط الأخرى إنما تأخذها بعين الاعتبار. أعرف أن في الغرب تيّارًا كاملًا ضد حركة التنوير وما آلت إليه، وأن هناك مفكرين يعتبرونها مسؤولة عن المآسي التي عاشتها البشرية وبخاصة في القرن العشرين وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين خلفتا الملايين من الضحايا، لكن هذا ليس صحيحًا، وأنا أومن أن العقلانية ليست السبب في ذلك.

ويحضرني أني شاركت بمداخلة في المغرب الأقصى وكان من بين الحضور المفكر الأميركي فوكوياما المعروف بنهاية التاريخ، وكان عنوان مداخلتي «المراهنة على العقل والتقدم». وهي مراهنة فعلًا، يعني أن ما يصلح لنقد العقلانية في الغرب لا يصلح لنا اليوم. وعندما نصل إلى عقلنة تصرفنا في حياتنا اليومية وحياتنا السياسية وعندما نصل إلى الدرجة التي وصل إليها الغرب، يمكن لنا ربما أن نقلل من شأن العقلانية، لكن في هذه المرحلة الحالية التي نمرُّ بها، نحن مضطرون إلى التخلص من كثير من طرق التفكير الميثية والمعتمدة على المتخيل وعلى تمثل الماضي تمثلًا غير تاريخي. وهذا من مقتضيات الحداثة بالنسبة إلينا نحن، وليس بصفة مطلقة لأن الحداثة من أهم مقوماتها العقلانية. هناك أساسان للحداثة وهما العقلانية والفردانية التي هي ليست الأنانية بل الاعتراف بقيمة الفرد باعتباره حرًّا ومسؤولًا. وإذا ما كنا في تفكيرنا وفي سلوكنا نولي الفرد مكانة غير المكانة التي له في القديم، فإننا نطمع في أن نكون حداثيين. نحن اليوم نعيش فترة يتداخل فيها التفكير الميثي والخرافي واللاعقلاني مع التفكير العقلاني والرصين والعلمي؛ لأن المرحلة التي نعيشها، مرحلة انتقالية في تاريخنا، ولا أتحدث عن تونس فقط، وإنما عن العالم الإسلامي عمومًا.

العيش في مرحلة الترميق

● لكن هذه المرحلة الانتقالية التي من المفروض أن تحولنا إلى مرحلة قادمة، مرحلة عقلنة حياتنا في مختلف جوانبها لم تحل دون وجود جانب مهم من الشباب المسلم لا يحلم إلا بالانتقال إلى مرحلة ما بعد الحداثة من دون انتظار ما ستؤول إليه الأمور في المنطقة. ويمكن القول: إن شبابنا اليوم وعلى الأقل الكثير منهم إن كانوا موجودين جسديًّا في المنطقة العربية والإسلامية فإن عقلهم في الضفة الأخرى من العالم وتحديدًا في الغرب الذي دخل مرحلة ما بعد الحداثة؛ فكيف نفسر هذا الوضع؟

إذا أردنا تلخيص الوضع، فإننا نقول: إننا انتقلنا من المرحلة الأولى التي كانت انبهارًا كاملًا بالغرب إلى مرحلة أصبحنا نميز فيها بين ما هو إيجابي في الغرب وما هو سلبي. مثلًا فيما يخص بناء الدولة. الغرب بنى منذ قرنين على الأقل ما يسمى بالأمة الدولة لكن لم يكن يعترف بهذا الحق في بناء الأمة الدولة للشعوب المستعمرة، ولذلك فليس لنا أن ننبهر بما تحقق للغرب وللشعوب الغربية بما أن هذه الشعوب كان سلوكها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان وفيما يتعلق بالحقوق السياسية والفردية سلوكًا لا مثاليًّا ولا حتى إنسانيًّا. ثم نحن الآن بعد تجاوز مرحلة التمييز بين ما هو إيجابي في الغرب وفي الحداثة الغربية، في الفترة التي تسمى العولمة التي تشعبت فيها المسائل إلى درجة غير مسبوقة وضعفت فيها رغم كل شيء المؤسسات الوطنية القائمة لفائدة الشركات المتعددة الجنسيات ولفائدة رأس المال العالمي، الذي هو أساسًا يمتلكه الغرب قبل أن تدخل قوى أخرى على الخط من بينها الصين مثلًا. وشبابنا اليوم ممزق بين ما يراه وما يسمعه ويقرؤه في وسائل الاتصال الحديثة من أنماط حياة غربية وما يعيشه في مجتمعه. بهذا نفسر هذا التوق إلى الهجرة مثلًا لدى الكثير من شبابنا؛ لأنه يتصور أن الغرب هو ذاك الذي يراه على شاشة التلفزيون أو في الإنترنت ولا يعرف الصعوبات التي يعانيها الغربيون أنفسهم. المهم أننا دخلنا الآن مرحلة كنت وصفتها في بعض المناسبات بمرحلة الترميق. ومرحلة الترميق هذه ليست خاصة بنا فنجد هذا الترميق كذلك في الغرب. فما معنى أن ينخرط بعض الغربيين في الحركات الجهادية وهم قد عاشوا في بيئة بعيدة جدًّا عن قضايا الإسلام والمسلمين؟ السؤال كذلك ما معنى أن نجد عند الشباب من يعتنق مذاهب وأديانًا لم تكن موجودة في بلادنا أو في البلدان العربية الأخرى. فهذا كله يدل على أن الترميق هو السمة الغالبة على السلوك اليوم ويتجلى ذلك مثلًا في تقليد الغرب في اللباس وفي إطلاق اللحية عند الشباب وفي استعمال وسائل الزينة لدى النساء وفي الآن نفسه هناك ردة فعل على هذه العولمة من خلال إرادة التميز. فالكثير من النساء يشعرن بطريقة غير واعية بأن إثبات الذات يمرّ عبر تميّز المرأة المسلمة عن المرأة غير المسلمة بلباس الحجاب مثلًا. طبعًا هناك أسباب اقتصادية واجتماعية، لكن في العالم الإسلامي الظاهرة موجودة وظهرت في البداية بتأثير من حركات الإسلام السياسي.

ونعرف اليوم مثلًا أن في إيران التي تفرض نوعية معينة من اللباس يشترط تغطية الرأس، هناك حركة نسوية تطالب بحق المرأة في ألا تلتزم باللباس المفروض على المرأة (التشادور) وما أعتبره ترميقًا هو أن تأخذ ما تراه مناسبًا لك في ظرف معين وترفض شيئًا آخر من دون أن يكون هناك منطق داخلي يربط خياراتك هذه.

في القديم كانت الأمور واضحة. فقد كانت هناك منظومة متكاملة بين الفكر والسلوك والآن هناك تشظٍّ لهذه المنظومة في المستوى الفكري والسلوكي. ولهذا فإن الشباب بصدد البحث عن إثبات الذات بطرق مختلفة، تؤدي في بعض الأحيان إلى الانتحار، وعدد المنتحرين في السنوات الأخيرة في تزايد وليس في تونس فحسب، وهو نتيجة صعوبة التوفيق بين الإيمان التقليدي والإيمان الذي يأخذ بعين الاعتبار المعارف الحديثة من ناحية وصعوبة التوفيق بين مقتضيات الحرية الذاتية والضغط الأسري والاجتماعي من ناحية ثانية. الشباب يعيش كذلك التمزق بين الطموح والإمكانيات. وكل هذا يجعل هذه العولمة تخلق وضعًا يمكن أن نقول: إنه وضع مأسوي بالنسبة إلى العديد من الشباب بصفة خاصة، ولهذا ترين أن الجواب عن سؤالك يثير قضايا من طبيعة مختلفة ليست كلها فكرية، بل فيها ما هو فكري وأيضًا ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي إلى غير ذلك.

● تلاحظ في مسيرتك البحثية أن القوانين في البلدان العربية والإسلامية كلها وضعيّة إلا فيما يتعلق بقضيتي الحكم والأسرة، فهي محكومة لدى أغلبية الفقهاء بنصوص غير قابلة للتأويل في حين أنك تعتبر أن ليس هناك ثوابت في الإسلام ما عدا ما تسميه بنواة صلبة؛ علامَ تستند في ذلك؟

يلتقي الرئيس الباجي قائد السبسي

ليست هناك نصوص غير قابلة للتأويل، هناك مقولات نسمعها بكثرة ونقرؤها في الأدبيات الإسلامية مثل المعلوم من الدين بالضرورة. وليس هناك شيء معلوم من الدين بالضرورة وإنما هناك ما هو معلوم من الدين بحكم الثقافة والتكوين والقيم إلخ. وليس هناك شيء ثابت في الدين باستثناء نواة صلبة وهي التوحيد والإيمان بنبوة محمد ما عدا ذلك فإنه نسبي وليس ثابتًا، وإذا ما اعتبرنا ذلك فإننا نلاحظ أن التشبث بالتأويل التقليدي للنصوص القرآنية إنما يعكس مصالح فئات اجتماعية محافظة. نحن ورثنا مجتمعًا أبويًّا بطريركيًّا حسب عبارة هشام شرابي وهذا المجتمع يصعب عليه أن ينتقل إلى مجتمع فيه المساواة بين الرجل والمرأة وهذا – مرة أخرى- ليس خاصًّا بتونس. في الأسبوع الماضي، نشرت جريدة «لوموند» الفرنسية بحثًا عن العلاقة بين الرجال والنساء في السويد التي يضرب بها المثل في المساواة، يعني أن هذه المساواة ليست كاملة وهناك صعوبات في تحقيقها في كثير من المجالات. ومجتمعاتنا لا مناص لها من أن تحقق في يوم من الأيام هذه المساواة بين الرجال والنساء؛ لأن هذا الأمر ينخرط في حركة التاريخ في نهاية الأمر. فنحن أحببنا أم كرهنا بصدد الانتقال من مجتمع يعتمد على تراتبيّة معيّنة إلى مجتمع فيه نوع جديد من العلاقات بين الأفراد غير التراتبية. فهذه التراتبيّة لم تعد مقبولة في الضمير الجمعي ولا تؤيدها أنماط الإنتاج الحديثة، ولذلك فالأفضل بالنسبة للمسؤولين السياسيين وقادة الفكر كذلك أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه التحولات، فهي من مقتضيات الانخراط في العصر. والمساواة بين النساء والرجال في جميع المستويات من سمات هذا العصر، وإذ ذاك فإن تأويل النصوص يجب أن يتلاءم مع يقتضيه هذا الانخراط في العصر. فظروفنا تغيرت وينبغي أن يتغير تأويلنا لهذه النصوص، ونحن اليوم نعرف ما لا يمكن للقدماء أن يعرفوا، فما توافر لنا من أدوات المعرفة لا صلة له بما كان يتوافر للقدماء. لنتذكّر أن الكتابات كانت مقتصرة على طبقة من الكتاب الرسميين الذين يدوّنون لجهاز الحكم فقط ويدوّنون على البردي أو على الجلد أو على الحجر، ثم تم اكتشاف «الكاغط» وأصبحت الكتب المخطوطة باليد متوافرة أكثر من البردي أو من الرقوق وغيرها من الأدوات التي يكتب عليها، ثم تم اكتشاف المطبعة وأصبح الكتاب متوافرًا لأعداد لم تكن تحلم بأن تقرأ؛ لأن الكتاب المخطوط كان نادرًا وحكرًا على طبقة ضيقة لكن المطبعة وسعت من جمهور القراء.

والآن نعيش عصر الإنترنت والمعلومات أصبحت مذهلة، ولذلك نحن اليوم نعرف عن مجتمع القرن السابع الميلادي الذي ظهر فيه الإسلام أضعاف ما كان يمكن لآبائنا وأجدادنا أن يعرفوه عن خصائص المجتمع، وعن تكوينه وعما كان يوجد فيه من موازين القوى في نطاق العشائر والقبائل والعلاقات مع الخارج، فعندما نستحضر هذه الظروف التاريخية فإننا نفهم لماذا فهمت الآيات القرآنية وأوِّلت بطريقة معينة، ولماذا وضعت الآلاف المؤلفة من الأحاديث لتبرير القيم السائدة، فهذا لم يكن ممكنًا منذ قرن لأن المعلومات لم تكن متوافرة. أنا نشرت منذ بضع سنوات مقالًا في الحوليات التونسية حول ملكة سبأ وهو نتيجة سنوات من البحث، وإذا ما قارنت بين ما يمكن لمن يعيش سنة 2018م أن يعرفه ومن كان يعيش منذ خمسين سنة فقط وهو يبحث عن المعطيات التاريخية، فإن المعلومات المتوافرة لمن يعيش اليوم أكثر بكثير من التي كانت متوافرة منذ خمسين سنة، أو بالأحرى لمن عاشوا منذ عشرة قرون. فالتفاسير التي نجدها والمتعلقة بهذه القصة من سورة النمل عند الطبري وعند الرازي والزمخشري والقدماء كلهم إلى الطاهر بن عاشور، هي معلومات تجاوزها الزمن ولا يمكن أن نفهم النص القرآني وأن نهمل في الآن نتائج المعطيات التاريخية التي تتوافر لدينا نحن، وقس على ذلك مئات الأمثلة.

● هل نقيس ذلك على مسألة الميراث مثلًا؟

ناجية الوريمي

نحن نسمع بالنسبة للمساواة في الإرث أن القاعدة القرآنية مطلقة ولا سبيل إلى عدم تطبيقها. طيب إذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر أن مئات الآلاف من الحالات لا يمكن أن نطبق فيها بعض الآيات القرآنية وخاصة الآيات المتعلقة بالإرث، أضرب على ذلك مثلًا يمكن أن يعيشه أي إنسان، وهو أن يموت شخص في حياة أبويه ويترك زوجة وابنتين. وإذا ما أردنا أن نطبق ما يوجد في النص القرآني على هذه الحالة المتكررة، فإننا نلاحظ أن أنصبة الجميع تتجاوز التركة نفسها. البنتان لهما الثلثان والزوجة لها الثمن والأب والأم لكل واحد منهما السدس، وعندما نجمع نجد أنها تتجاوز نسبة المئة بالمئة من التركة. وهذه ليست حالة شاذة فماذا فعل الفقهاء الذين عاشوا هذه الحالات؟ لقد احتالوا بأن أنقصوا من نصيب كل واحد من الورثة بطريقة يسمونها العول ولهذا يقولون: هذه المسألة عالت.

وهذه الآيات ليست قابلة للتطبيق في كل الحالات؛ مما يدل على أنها وضعت لحل مشاكل ظرفية عاشها المجتمع الإسلامي، وهذه الآية وغيرها إنما جاءت لفض مشاكل معيشة لا مطلقة. ويفسر التأويل التقليدي بأن الناس في القديم يحتاجون للمبررات الدينية للقوانين التي يسنّونها للمجتمع. أما اليوم فلسنا في حاجة إلى مبررات دينية لسنِّ القوانين للمجتمع وهذه ليست دعوة للعلمانية، بل هو واقع. بالطبع، الفقهاء يحاولون دائمًا عن طريق القيم والقياس، لكن الأوضاع تختلف اختلافًا جذريًّا والحلول لا ينبغي البحث عنها في القياس، وإنما ينبغي البحث عنها في القيم الحديثة التي تلخصها حقوق الإنسان التي من بينها الحرية والمساواة الديمقراطية والعدل …إلخ.

إنتاج الجهل

● بما أنك مهتم بتاريخ الفكر الإسلامي وبما يجري من أحداث على الساحة العربية ولا سيما الاضطرابات وبؤر التوتر؛ كيف تتوقع من المفكرين والمختصين في العلوم الدينية أن يساعدوا على تجاوز هذا الوضع، ثم كيف تنظر أنت شخصيًّا إلى آفاق المنطقة عمومًا من موقعك بوصفك مفكرًا وباحثًا وملاحظًا ومحللًا للأحداث؟

لو حاولت أن ألخص السؤالين في قضية واحدة لقلت: إنها مشكلة التعليم والبحث في البلاد الإسلامية. وفي تعليمنا، نعلِّم أبناءنا وبناتنا بطريقة دغمائية لا تحملهم على التفكير؛ لأننا لا نعطيهم إلا وجهًا واحدًا مما نعتقد أنه الحقيقة. وكنت منذ بضع سنوات ألقيت محاضرة افتتاحية في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بتونس وعنونتها بنوع من الاستفزاز وهو مقصود بـ«إنتاج الجهل في عصر العلم»، وضربت العديد من الأمثلة عن الطريقة التي تؤكد أننا نقدم لأبنائنا وبناتنا معلومات ناقصة. هل نقول لهم: إن القدماء قد اختلفوا في تولي المرأة القضاء وفي تولي المرأة للمناصب السياسية العليا، وإن المرأة في تاريخ الإسلام تبوأت مناصب مهمة؟ هل نحدثهم عن موقف ابن عربي من إمامة النساء؟ الحقيقة، إننا نعلمهم جانبًا من الحقيقة ونسكت عن البقية، ولا نسمح لهم أن يختاروا، في حين أن الفكر النقدي لا يمكن أن ينشأ إلا إذا وفِّرت إمكانية للاختيار. فعندما نعلّم الرياضيات لأبنائنا نعلمهم: واحد مع واحد يساوي اثنين، وهذا صحيح لكنه ناقص، فنكيف تفكيرهم بطريقة لا تسمح لهم بأن يكونوا يقظين تجاه المشاكل المتجددة التي تعترضهم كل يوم. وبالنسبة للمسائل الدينية فغالبية الذين يدافعون عن النظريات التقليدية هم لم يعرفوا غيرها، إضافة إلى موضوعات أخرى يطول الحديث عنها؛ من بينها ما هو الفرق بين العلماء التقليديين وزعماء الإسلام السياسي اليوم. إن العلماء التقليديين كانوا مطلعين على هذه النظريات والمقولات المختلفة، أما زعماء الإسلام السياسي والجيل الذي تربى في المدرسة الحديثة فقد لقّن بعض المعطيات التي اعتبرها الوحيدة والصائبة، ولذلك تنكر لتدين أبويه وللوسط الذي يعيش فيه لأن العلاقة بالكتابي حديثة في مجتمعاتنا. الحقيقة كانت مقصورة على فئة ضيقة وعندما عمّم التعليم أصبح هناك فئات اجتماعية لها صلة بالمكتوب غير قابلة للإطلاقية وهذه الوثوقية، لذلك لخصت مشكلتنا في طريقة التعليم وفي مناهج التعليم، وإذا ما استطعنا أن نعمم المعرفة الحديثة يمكن لنا أن نتجنب الكثير من العقبات التي تعترضنا.

زهية جويرو

● ازداد عدد الكتابات النسائية حول الإسلام، إلى درجة أصبحت مثيرة للجدل داخل تونس وخارجها؟

إنها مثيرة للجدل لأن الرجال كانوا مستأثرين بمسائل الدين، وهذه الذكورية ما زالت تعمل عملها في الضمير، ولهذا يعسر على هذا الضمير الجمعي أن يقبل أن تكون المرأة صاحبة قول في المذهب، وينكر عليها أمرًا كانت مقصية عنه تمامًا. بهذا أفسر موقف المعارضين؛ لأن استئثار الرجال بالخوض في مسائل الدين يولد نوعًا من البداهة بأن أمور الدين مقصورة على الرجال، وهذا يعود إلى التراتبية في المجتمعات القديمة وهذا ما نظّر له الإمام الشافعي عندما ميز بين المكلفين في أنفسهم (عامة الناس) والمكلفين في أنفسهم وفي الآخرين (رجال الدين).

● إنه التقسيم اليوناني القديم نفسه؟

المجتمع الإسلامي القديم لم يكن يختلف عن بقية المجتمعات القديمة، لكن الاختلاف عن بقية المجتمعات الأخرى هو وليد اليوم. هل المرأة في تونس مثلًا حرة رغم ما حدث من تقدم في منزلتها، هل يمكن لها أن تتصرف كما لو كانت في باريس أو لندن أو برلين؟ لا أظن ذلك…

● كيف تقيّم ما تكتبه النساء حول المسألة الدينية، ومن بينهن باحثات تتلمذن عليك؟

الكثير من الأبحاث جيدة وما تنتجه باحثات في تونس في مستوى ناجية الوريمي أو زهية جويرو وغيرهما من الأسماء، كان يمكن أن ينتج في جامعة هارفارد أو جامعة بكين أو غيرهما. في مقابل ذلك، هناك باحثات اقتحمن المجال من دون اختصاص مما يجعلهن لا يحسنّ قراءة بعض النصوص فيُؤَوِّلْنَها تأويلًا غير مقبول، وأخص بالذكر الكتابات التي تتأثر ببعض الأيديولوجيات السائدة في الغرب وتسايرها.

● وأنت المهتم بالأديان المقارنة، عادة يُطالَب المسلمون بضرورة القيام بعملية النقد الذاتي، هل تقوم الأديان الأخرى وخاصة المسيحية واليهودية بما هو مطلوب من المسلمين؟ وهل تُطالَب بدورها بالقيام بالمجهود نفسه إزاء المسلمين ولا سيما في باب النقد الذاتي لطريقة تعاملها معهم مثلًا وفهمها للإسلام؟

ما يوجد عندنا في النطاق الإسلامي موجود في المسيحية وفي اليهودية. وفي اليهودية هناك تيار يسمى اليهودية الليبرالية موقفه من التشريع في اليهودية لا يختلف عن موقف الكثير من العلماء المسلمين فيما يتعلق بالتشريع الإسلامي. أما بالنسبة للمسيحية، كل التيارات الموجودة في الإسلام موجودة فيها لكن بخصوصية معيّنة؛ لأن المسيحية مشكلتها مشكلة عقدية وليست مشكلة تشريعية خلافًا لليهودية والإسلام. والمسيحيون في المشرق العربي منهم من هو منفتح على النظريات المسيحية الحديثة، وفيهم من هو منغلق على التراث المسيحي التقليدي مثلما يوجد عندنا في الإسلام. ولا أظن في هذا المستوى أن هناك فروقًا كثيرة…

الطاهر لبيب: التشبّث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة – حياة السايب

الطاهر لبيب: التشبّث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة – حياة السايب

إنه، كما يصف هو نفسه، «لا يتحمل الاستقرار في الأفكار المنمّطة ولا في الأفكار السائدة»؛ لذلك تتعدد الاهتمامات المعرفية للطاهر لبيب عالِم الاجتماع والمفكر العربي والباحث والكاتب التونسي الذي حقق منذ نشر كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي» في السبعينيات من القرن الماضي بالفرنسية، ثم ترجم للعربية وصدر في طبعات عدة بتونس والمشرق العربي، صيتًا في الشرق وفي الغرب. وقد لفت كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» الانتباه بسبب أن مؤلفه لم يطمئن كثيرًا لكل ما كتب من قراءات حول شعر الغزل العربي، وركز مبحثه على المكانة الاجتماعية لشعراء الغزل العربي، مُعِدًّا أن وجودهم في منطقة الهامش في المجتمع من جهة ومعايشتهم لـ«الهجر» و«الحرمان» و«العذابات» التي يتردد صداها بقوة في قصائدهم من جهة أخرى، إنما هو ناتج من التهميش الاجتماعي وليس من التمرد على قيم أخلاقية أو دينية كانت تحكم المجتمع.

الطاهر لبيب الذي درس في البداية في تونس، ثم انتقل إلى باريس، وحصل هناك على الدكتوراه في علم الاجتماع، وعلى الأستاذية في اللغة والآداب العربية، عاش في مسيرته العلمية الطويلة مراحل عدة، من بينها المرحلة الأوربية واللاتينو- أميركية غير أنه، وفق تأكيده، لا يشعر أنه موجود حيث يجب أن يكون إلا في مرحلته العربية. لماذا يعدّ الأمر كذلك؟ وكيف تفاعل مع الأحداث السياسية التي تشهدها المنطقة العربية منذ انطلاقة ما يسمى بالربيع العربي من تونس وما تبعها من اهتزازات اجتماعية ونزاعات وصراعات وإرهاب في أرجاء عربية؟ وكيف يقيّم دور المفكر العربي اليوم في ظل التغييرات المتسارعة وفي ظل تعدد مصادر الخبر وسيل المعلومات وبخاصة أنه من المهتمين بسوسيولوجيا الثقافة في الوطن العربي؟ ثم هل يمكن أن نتشبث اليوم بمفهوم المفكر العضوي وفق ما طرحه غرامشي، والأخير من بين المفكرين الذين تأثر بهم الطاهر لبيب وترك بصماته في مسيرته؟

… أسئلة طرحتها «الفيصل» على الباحث وعالم الاجتماع الذي اعترف بـ«أن إيقاع الحركة الثقافية، رغم كل المبادرات الفكرية الفردية، لم يساير، في العالم العربي، إيقاع التغيّر في مستويات ومجالات أخرى». وبطبيعة الحال كان لا بد من طرح الإشكال المتعلق باللغة العربية، فالمعروف عن الباحث أنه عبّر في مناسبات عدة عن خشيته على لغة الضاد ولديه أدلة علمية، تؤكد انحسار استعمالها وترجّح تحولها إلى مجرد لغة للمقدس… إلى نص الحوار:

موسولوجيا-الثقافة● هناك اليوم مسافة زمنية طويلة تفصلك عن تلك اللحظة التي نشأت وعشت فيها في قرية صغيرة تحمل دار الثقافة بها اليوم اسمك، وهي تقع بمحافظة وسط البلاد لها مكانة رمزية واعتبارية مهمة بما أنها المحافظة التي انطلقت منها الشرارة الأولى لما يسمى بالربيع العربي. هل كان لعامل النشأة دور في «صناعة» شخصية الطاهر لبيب أستاذ علم الاجتماع والباحث والمفكر المعروف عربيًّا ودوليًّا؟

أن يكون للنشأة تأثير في مسار الشخص فهذا مبدأ عام يمكن إثباته من أوجه مختلفة. ولكن عندما يطول المسار وتكثر محطاته ومنعطفاته وتتراكم تجاربه يصبح من الصعب التمييزُ، في بناء الشخصيّة، بين ما يعود إلى ظروف النشأة وما لا يعود إليها. وإذا كان لا بد من المجازفة بإرجاع بعض الملامح إلى ظروف نشأتي فيمكن القول بأن هذه الظروف هيّأتني للترحال وجعلت منه، مع الزمن، سلوكًا فكريًّا. هذا الترحال جعلني لا أتحمل الاستقرار في الأفكار المنمّطة ولا في الأفكار السائدة. لقد بقيت أميل إلى المعارف ذات الحدود المتحركة وأستمتع كثيرًا في مناطق التداخل بينها، من دون السكون في اختصاص ضيّق. ولعلّ انتمائي إلى العلوم الاجتماعية ساعد على هذا الترحال الذي هو، في نهاية الأمر، اعتراف بنسبيّة الحقائق والظواهر. الأهمّ من هذا أنّ الحديث عن النشأة يثير إحساسًا قاسيًا بالتباس العلاقة بين المثقّف وبيئته الأصليّة. أنا كغيري من المثقفين الذين يمدّ بهم الريفُ المدينةَ أشعر بالعجز أو التقصير في إيجاد علاقة عضوية وفاعلة مع موطن النشأة، تتجاوز مجرد الإحساس بالانتماء والوجدانيات المتصلة به. قد يكون هذا الانتماء وراء اهتمامي الفكري بالعدالة الاجتماعيّة وبالصراع من أجلها وبالمفكرين الذين نظّروا لها. ولكن هذا لا يعوّض الإحساس بالعجز أو التقصير.

● كنت قد حذّرت منذ الأيام الأولى التي تلت الثورة التونسية من السلطة، واستمعنا إليك تقول في لقاء انتظم بتونس بحضور المفكر والشاعر أدونيس وتنشيط الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد: إن السلطة وإن كانت بأيدي الثوريين تنزع نحو التسلط، ويبدو أن ما حذرت منه قد وقع فعلًا في تونس وفي سوريا وفي اليمن وفي ليبيا ومصر بعد نحو ست سنوات على قيام ثورات أو انتفاضات شعبية، فهل ما زلت تتمسك بفكرة الفصل بين الحدث الثوري والمد الثوري؟

حين قامت الثورة في تونس كتبت مقالًا قصيرًا قلت فيه: إن الثورات تأكل أولادها وإن الخوف هو من أن تأكلهم باكرًا. هذا الخوف بدا لبعض متشائمًا، ولكن تبيّن أنه كان حدسًا في محلّه. لقد غاب الفاعلون بسرعة وعادوا إلى مواقعهم، سالمين وغير سالمين. لماذا عادوا؟ ليس اختيارًا وإنما لأن السلطة حتى لو كانت ثورية أو سمّت نفسها ثوريّة تنبني على صراع من أجل التموقع فيها، مع تبرير هذا الصراع بمواجهة الثورة المضادة. هذا الصراع الذي سرعان ما يتحول إلى صراع سياسي، بعيدًا عن المطلب الاجتماعي، دفع مَن في السلطة الجديدة إلى إقصاء الفاعلين الاجتماعيين حتى لو بقي يتكلم باسمهم. هذا، فعلًا، ما حدث مع أبناء الثورة، أي أولئك الناس العاديون الذين قاموا بها وضحَّوا من أجلها. من هذه الوجهة، لا يمكن القول بأن الثوريين استلموا السلطة، وبالتالي لا يمكن تحميلهم مسؤولية تعطيل أو انحراف المسار الثوري في تونس. أما المفارقة الأساسية فهي أن الثورة التي هي حركة تغييريّة كبرى نحو المستقبل أفضت، سياسيًّا، إلى سلطة سياسيّة ماضويّة ذات جناحيْن من الماضي.

● الطاهر لبيب من المفكرين التونسيين والعرب الذين لم يختاروا الغرب كوجهة مطلقة للعيش والعمل، بل اخترتَ السفر بين الشرق والغرب، وأقمتَ في دول عربية من بينها دولة البحرين اليوم. كيف تقيّم تجربتك في التعاون مع مراكز بحوث عربية وهل يمكن القول: إن المنطقة العربية أصبحت تنافس البلدان الغربية في استقطاب الكفاءات العلمية العربية؟

شاءت ظروف تكويني ومساهمتي أن يمرّ مساري الفكري بمرحلة أوربية ثم بمرحلة لاتينو أميركيّة كان لهما تأثير في مستوى النظريات والمقاربات والاهتمامات، ولكني لم أحس بأني حيث يجب أن أكون إلّا في مرحلتي العربيّة التي هي الأطول والأكثر حفزًا للتفكير والإنتاج. صلتي بالمشرق العربي قامت على أساس اهتمامي بالمسألة العربيّة، من وجهة سوسيوثقافية بالدرجة الأولى، وكذلك للمساهمة في مبادرات العمل الجماعي المستقل، خصوصًا في مجال العلوم الاجتماعية، ومنه تأسيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع. من الصعب، في الواقع، وإلى حد الآن، الحديث عن استقطاب فكري في العالم العربي. هناك انتداب كفاءات علمية متخصصة، بحسب حاجات بعض الدول، لا يتسع لها المجال، في الأغلب، لكي تشتغل أو تنتج، فكريًّا، خارج وظيفتها التي تنتدب من أجلها. الوضع إذًا مختلف عما هو في بلدان غربيّة حيث حرية التعبير والإنتاج هما عامل استقطاب أساسي.

● أنت اليوم الرئيس الفخري للجمعية العربية لعلم الاجتماع والمنطقة العربية، كما تعلم تعيش تحولات متواصلة، وهي تحولات نتجت عنها تغيرات اجتماعية وثقافية بالأساس جعلتها محل دراسة المستشرقين والباحثين بالغرب. كيف تقيم ردة فعل علماء الاجتماع العرب؟ وهل كانت الهزات الكبرى والارتدادات كفيلة بدفعهم نحو تجديد مناهج البحث وتطوير أدواتهم لفهم أفضل للظواهر الاجتماعية؟

إجمالًا، يمكن القول بأن علماء الاجتماع العرب، كغيرهم من المفكرين والمتخصصين فوجئوا بما حدث، وكما حدث، مكانًا وزمنًا. هذا لا يعني أنهم لم يتوقعوا حدوثه، في المطلق أو من جهة الحدس التاريخي، فهم كثيرًا ما أشاروا إلى التناقضات المجتمعيّة التي من المفترض أن تؤدي إلى مطالب تغييرية كبرى، وبالتالي إلى تحريك التاريخ العربي، لكن استشرافهم للمستقبل لم يدرج ضمن توقعاته سيناريو الثورة، في المدى المنظور. ومهما يكن، فقد تأكد أن النظريات والمقاربات والأجهزة المفاهيميّة المعتمدة لم تكن لها القدرة المعرفيّة والتحليليّة لاكتشاف ما كان يتفاعل ويتراكم من فعل اجتماعي، وراء الظواهر الظاهرة التي شغلت الباحثين. إن ما يحدث في العالم العربي منذ ربع قرن، سواء كان كثورة أو كفوضى أو كتوحش غير مسبوق، هو مخبر جديد تمامًا للبحث العلمي ولكنه لا يبدو أنّه حفز، بالقدر الكافي، على تجديد آليات البحث الاجتماعي. إن الخطاب العربي، إجمالًا، لم يتغيّر، بل إنّه تراجع في مواقع كثيرة، حيث تسرّبت إليه رؤى وأفكار كان يُظنّ أنه تمّ تجاوزها.

العلوم الإنسانية بقيت تلقينية

سوسولوجيا-الثقافة● تصاعدت التحذيرات بعد انتشار العنف في البلدان العربية وتوسع بؤر التوتر وظهور آفة الإرهاب من إهمال العلوم الإنسانية، هل ترى أن الإشكال يطرح بهذه الطريقة فعلًا ثم هل ترى أن المنطقة العربية تولي العلوم بمختلف أصنافها الاهتمام اللازم من خلال تخصيص الاعتمادات وتشجيع البحوث العلمية وبناء مراكز البحوث؟

إذا استثنينا بعض المجالات التي لها استمرار تاريخي كاللغة والآداب وإلى حد ما الفلسفة فإن العلوم الإنسانية عمومًا والاجتماعية بصورة خاصّة بقيت مدرسية تلقينيّة، في الأغلب، ولم تترسخ في المعرفة العربيّة كعلوم تحليلية نقديّة، وهذا لأسباب متنوعة يطول الحديث عنها. ومع الطفرة التكنولوجية حدثت هجرة واسعة إلى العلوم التطبيقيّة التي نادت بها أسواق العمل، ولم يبقَ في «الإنسانيات» إلّا ضعفاء الحال في المعرفة. وقد نتج عن هذا ما نلاحظه من تدنِّي مستوى العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات العربيّة. قد يقال: إن الظاهرة كونية، ولكن ننسى أن البلدان المتقدمة لها متاريس حصينة وقديمة في هذه العلوم، خلافًا للبلدان العربيّة التي فقدت فيها هذه العلوم حتى سلامة اللغة التي تسمح لها بأن تكون دقيقة. لا يمكن أن نوجد حلولًا لمسائل لا نفهمها فهمًا سليمًا. وإذا اعتبرنا التحديات المركّبة التي منها ما هو غير مألوف في العالم العربي فإن إعادة الاعتبار إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية تصبح ضرورة بديهيّة. إن المجتمعات العربية، وكذلك أنظمتها السياسية، هي الآن تدفع ثمن الجهل بذاتها الناتج عن تهميش أو إقصاء هذه العلوم، خارج معارفها. وإذا أمكن تدارك الوضع فلن يكون ذلك إلّا بناءً على قناعة وعلى قرار سياسي يعيد هيكلة التدريس وينشئ مؤسسات جديدة للبحث، بتصورات وإمكانات وآليات متطورة، وييسّر عمل الباحثين ويحفزهم إليه. هذا هو الحل الذي يتبادر تلقائيًّا إلى الذهن.

● استفاق التونسيون وشعوب عربية أخرى عاشت محنة العنف والإرهاب التي تلت سقوط الأنظمة الدكتاتورية على ما يسمونه بالتصحر الثقافي. فقد تبيّن أن الشعوب ليست محصنة بالقدر الكافي ضد محاولات التدجين، وليست مسلحة بالمعارف وبالثقافة كي تواجه المشاريع الظلامية والدعوات للعودة إلى ما تسميه بالمجتمع القروسطي… كيف نفسر ذلك وبلدان مثل تونس عرفت منذ القرن التاسع عشر حركات إصلاح للمجتمع قادها مثقفون ومفكرون ورجال دين إضافة إلى وجود مجتمع مدني نشيط ويقظ؟

إيقاع الحركة الثقافية، رغم كل المبادرات الفكرية الفردية، لم يساير، في العالم العربي، إيقاع التغيّر في مستويات ومجالات أخرى، وهذا لأسباب سياسية ودينية بالدرجة الأولى. الحراك الثقافي مصدر ريبة عند كل الأنظمة العربية ويزداد حذرها منه بقدر ما يتجه نحو الإبداع الذي لا يخلو، بالضرورة، من «البدعة» الفنّية، على الأقل. شخصيًّا، أرى أن غياب مفهوم القطيعة في الثقافة العربية الإسلامية هو وراء كل العوامل الذهنيّة التي تعرقل المسار الثقافي العربي وتجعل انتكاسته ممكنة في كل لحظة. مقولة التراكم في الفكر العربي السائد مقولة ساذجة لا تتضمّن التجاوز، ولذلك يتناضد فيها كل شيء، وتتداخل فيها كل الأزمنة وكذلك كل الأنساق الفكرية والذهنية، من الأساطير والخرافات والشعوذات إلى أكثر المبادئ عقلانيةً. هذا ما نراه يتتابع ويتحاذى، يوميًّا، في القنوات والكتب والصحف. والواقع، كما أثبتت تجارب المجتمعات المتقدمة، أن التغيُّر الذي ينقل مجتمعًا من مرحلة إلى أخرى لا يكون من دون قطيعةٍ مع ثقافة وذهنيات مراحل سابقة. إن ظهور الكائنات المتوحشة الآتية من تخيلات القرون المظلمة لم يكن ممكنًا لولا التشبُّث السائد، في الحس المشترك، بماضٍ متخيَّل وغير تاريخي. هذا التشبث الساذج والعبثي، في أغلب حالاته، لا يتطلب أي مجهود معرفي؛ لأن الطريق إليه ميسَّرة ورصيده جاهز. ولهذا السبب يمكن أن يتجلى في أي بلد عربي، ولو بدرجات وأشكال مختلفة. تبدو تونس من بين المجتمعات العربية الأكثر تحصُّنًا باعتبار تجربة مجتمعها المدني وغياب الطائفية ونزعة الاجتهاد الفكري والديني والميل إلى الوسطية،… إلخ، لكن وسائل الاتصال الحديثة تعرّض بعض الفئات فيها إلى تأثير الفكر الظلامي. وقد تبيّن للأسف، أن هذا المجتمع التحديثي المنفتح هو، أيضًا، أنتج وحوشًا نادتها الدماءُ فاستجابت لها في أرضها وخارج أرضها. مثال تونس يبيّن أنه لا بلد عربيًّا في مأمن من هذه الوحوش. من يظنّ خلاف ذلك لم يفهم الدرس.

الاستغناء عن مفهوم النخبة

الطاهر-لبيب-٢● هل نطبق على الحال التونسية ما أشرت إليه في كتابك «سوسيولوجيا الثقافة» عندما وجهت نقدك للمفاهيم المقترحة للثقافة، وبخاصة تلك التي تضع مقابلات بين الثقافة والحضارة أو الثقافة والطبيعة إلى وجود مفهوم للثقافة ينتهي إلى عزل المعرفة عن الواقع، استقلالًا بعالم «أرقى» خاص بنخبة لها قيمها وتصورات «عليا». ثم كيف نميز المثقف اليوم؟ وما هي وظيفته في ظل تعدد القنوات ومصادر المعرفة ووفرة المعلومات بفضل الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات؟

مفهوم النخبة انبنى في مراحل سابقة كمراحل التحرير الوطني وبناء الدولة الوطنية أو في مراحل نضالية كتلك التي عرفتها الستينيات وبعض السبعينيات في أغلب البلدان العربيّة. في تلك المراحل أسند المثقف إلى نفسه أو أُسندت إليه أدوار كانت مرتبطة بأحلام جماعية وبمشاريع وبدائل مجتمعية لم تعد قائمة اليوم. انتهت هذه الأدوار التي على أساسها كان المثقف عنصرًا أساسيًّا في تركيبة النخبة. مفهوم النخبة نفسه أصبح غير ذي معنى، بل استُغنِي عنه. إن العلاقة التي تعوّدنا على رصدها وتحليلها بين الثقافة والواقع قد تفكّكت أو تميّعت، خصوصًا مع انتشار ثقافة معولمة من الصعب ربطها بمكوّنات البنية الاجتماعية المحليّة. إن الكثير مما كان يعدّ ثقافة النخبة أصبح من الحسّ المشترك الذي تنشره وسائل الاتصال الحديثة. وإذا أردنا المحافظة على حد أدنى من التصنيف فليكن بين المثقف والمفكر. كل الناس مثقفون بطريقة أو بأخرى، ولكن ليسوا كلهم مفكرين.

● يعدّ الطاهر لبيب من المهتمين بفكر غرامشي، ووجهت لومًا للعرب على اكتشاف فكر المثقف الإيطالي بعد تأخير كبير، لكنك حذرت في الوقت نفسه من نسخ أفكاره؛ لأن لكل بيئة خصوصياتها والبيئة العربية تختلف بطبيعة الحال عن البيئة الإيطالية وعن البيئة الغربية عمومًا. فكيف يمكن لفكر غرامشي أن يكون مفيدًا للمنطقة إذًا في ظل التحولات التي تشهدها سياسيًّا واجتماعيًّا بالخصوص؟

لفت النظر إلى المفكر والمناضل الإيطالي غرامشي كان في فترة تبحث فيها الماركسية العربيّة عن مخارج نظرية من بعض الانغلاق الدوغمائي الذي عطّل تحليل الخصوصية العربية. فكر غرامشي فكر ماركسي لكنه منفتح على أبعاد ومجالات لم تكن الماركسية التقليدية تأخذها بعين الاعتبار. لقد قارن بين الوضع في روسيا التي حدثت فيها الثورة بصورة غير منتظرة وبين الوضع في أوربا الغربية، واستخلص أن وجود مجتمع مدني معقّد في أوربا يجعل من الصعب على الطبقة العاملة القيام بثورة فيه من دون هيمنة أيديولوجية، وهو ما يعني أن الصراع الاجتماعي يتطلب عملًا فكريًّا يلعب المثقفون فيه دورًا أساسيًّا. لقد أبرز غرامشي بُعدًا ثقافيًّا لم يكن مألوفًا في الرؤية الماركسية للصراع الاجتماعي السياسي. هذا البعد بالذات هو الذي أغرى المثقفين العرب، خصوصًا في المغرب العربي؛ لأن مثقفي المشرق العربي اهتم أغلبهم بالجانب النضالي العملي. المغاربة جعلوا من غرامشي «مثقفًا» بالدرجة الأولى والمشارقة جعلوا منه «مناضلًا» بالدرجة الأولى. اليوم يعود غرامشي، بعد غياب، لأن الظواهر الثقافية، في معناها الواسع، اتخذت أشكالًا خطرة على الصعيدين العالمي والمحلّي. أما في تونس فاستدعاء غرامشي، في المدة الأخيرة، هو لفهم صعوبات التحوّل الثوري، ومن المتوقّع أن يكتشف المحللون أن هذه الصعوبات مرتبطة بعدم قدرة القوى الثورية على الهيمنة الأيديولوجية. لقد كانت الثورة بمنزلة «حرب حركة» سريعة في وضع يتطلب «حرب مواقع» أيديولوجيّة. «حرب الحركة» قد تزيل نوعًا من السلطة لكنها لا تستطيع إزالة الترسانة الأيديولوجية التي تقوم عليها، وقد تضمن استمرارها بطريقة أو بأخرى.

● هل تعد ما يسمى بالربيع العربي قد أفقد مفهوم المثقف العضوي الذي دافع عنه غرامشي بقوة آنيته؟ وهل المثقف اليوم في المنطقة العربية فاعل في المجتمع في ظل انتشار القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وبرامج ما يسمى بتلفزيون الواقع واكتساح من يسمون بالخبراء المشهدَ الإعلامي؟

أتذكّر أن تدريسي في الجامعة لم يستقطب الطلبة مثلما استقطبه الدرس حول المثقف العضوي عند غرامشي. كان الطلبة أنفسهم يريدون أن يكونوا مثقفين عضويين. كانوا يبحثون عن طريق الارتباط بطبقات وحركات اجتماعية كانت تبدو لهم صاعدة. والواقع أن تعبير المثقف عن عضويته، في المعنى الذي أراده غرامشي، كان صعبًا في الظروف العربيّة، رغم السّعي الفكري والنضالي إلى اكتسابها. على أنّ المفارقة التي ظهرت في المجتمع العربي عمومًا وإلى حد ما في المجتمع التونسي هي أن من كان يُعَدّ مثقفًا تقليديًّا، حسب غرامشي، أصبح أكثر عضويّةً من العضوي كما هي حال مثقفي الحركات الماضوية التي كان يظنّ أنّها مرتبطة بطبقات وحركات في طريقها إلى الزوال. ومهما يكن فإن درس غرامشي هو في ضرورة تطويع النظريات والمقاربات حسب خصوصية المجتمع الذي يراد التفكير أو العمل من أجل تغييره.

لغة لا يتكلمها أهلها مآلها الاندثار

أنطونيو-غرامشي

أنطونيو غرامشي

● يَعدّ الطاهر لبيب أن اللغة العربية مهددة بالتهميش وبانحسار دورها الاجتماعي وتحولها إلى لغة المقدس لا غير. هل يمكن مطالبة شعب أو أمة بالحفاظ على لغتها في ظل انتشار لغة عالمية جديدة، لغة الويب: وهي لغة يتحكم فيها من بلغ مرحلة ما بعد الحداثة أي صناع تكنولوجيا المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، في حين ما زالت المجتمعات العربية تناقش مسألة الانتقال إلى الحداثة؟

اللغة التي لا يتكلّمها أهلها أو يستغنون عنها بلغة أخرى هي لغة مآلها الاندثار. هذا مبدأ عام لا أرى سببًا مقنعًا لاستثناء اللغة العربية من الخضوع له. وإذا نظرنا إلى وضع اللغة العربية الفصحى نظرة ميدانية موضوعيّة فإن تراجعها، بل غيابها في فضاءات حيويّة، إضافةً إلى عدم الاكتراث بسلامتها، يؤشّر على توجّه نحو اندثارها. الاندثار يعني أنها لن تبقى، عمليًّا، لغة قوميّة أو وطنيّة، بل لغة فئة خاصة ومحدودة، هي في الجملة فئة مرتبطة بالمقدس. هذا ما حدث مثلًا للُّغة اللاتينية، وهذا هو المقصود، في نهاية الأمر، حين يقول بعضٌ بأنه لا خوف على العربية لأن القرآن يحفظها. صحيح أنه قد يحفظها، لكنه يحفظها لهذه الفئة لا للمجتمع، مثلما حفظها في بلدان إسلاميّة غير عربيّة. وفعلًا، هناك بلدان عربيّة لم يعد فيها وجود حقيقي للغة العربية خارج هذه الفئة وبعض المناسبات الرسميّة. لا أناقش ما هو مفروغ منه من ضرورات المعرفة باللغات الأجنبيّة وبخاصّة المعولمة منها كالإنجليزيّة، لكني أشير فقط إلى أن اللغة العربية الفصحى هي، كغيرها من اللغات، ستندثر إذا تواصل مسارها الحالي، وأن التغنّي بها وتمجيدها لن ينقذها من ذلك. لقد أشار طه حسين، قبل ستين سنة، إلى أن اللهجات قد تتحول إلى لغات، وأنه قد يأتي وقت يحتاج فيه التونسي، مثلًا، إلى من يترجم له ما يقول السعودي. المسألة مسألة وقت. المهم أن يدرك العرب ذلك، وأن يتحمل أصحاب القرار السياسي مسؤوليتهم التاريخيّة.

● يرى بعض المفكرين العرب من بينهم مثلًا الدكتور هشام جعيط أن الصراعات اليوم في بعض البلدان العربية، وإن كانت بين العرب فيما بينهم، أنها موجهة ضد الغرب؛ لأن الغرب تحكّم مطولًا في شؤون العرب والمسلمين في حين ترى أن الآخر بالنسبة لنا لا ينبغي أن ينحصر في الغرب فقط. هل يمكن أن نطمئن اليوم لصورتنا لدى الآخر؟ وهل يمكن أن نراها في مرآة الآخر من دون أن ترافقها مخاوف من رفضه لنا بسبب ارتباط صورة المغاربي والعربي والمسلم اليوم بالعنف والإرهاب؟

عندما كان العرب في مدّهم الحضاري كان الآخر عندهم متعدّدًا ولم يكن للغرب ما يعطيه للعرب فلم يهتموا به ونظروا إلى أمم أخرى وأخذوا منها. تغير هذا منذ أن وجد العرب أنفسهم تحت سيطرة الغرب، بدءًا بالحروب الصليبية ومرورًا بالاستعمار إلى اليوم. هذا ما يفسر أن الغرب هو الآخر بالنسبة إليهم، وكأنه لا يوجد غيره في الدنيا. صحيح أن هناك خلفية صراع متخيّل مع الغرب ولكن التغيّرات، خصوصًا منذ تسعينيات القرن الماضي، بعثت مواجهات بين العرب أنفسهم وخلقت آخَرَ جوَّانِيًّا تراجعت العداوة معه إلى الداخل العربي. أما صورة العربي فلن تتغيَّر إلّا إذا تغيّر العربي. وضعه الحالي يجعل من السهل إسقاط كل الأحكام السلبية عليه. من العجيب أن العربي الذي يجلد ذاته لا يقبل أن يجلدها غيره. ثم إن العربي الذي يتشكّى كثيرًا من تشويه صورته لا يتنبّه إلى أنه هو أيضًا يشوِّه صورة الآخر؛ لأن معرفته به مشوَّهة ومحدودة. عندما نسمع بعضًا يتحدث عن الغرب، خصوصًا من وجهة معياريّة، لا نشك في أن ما يتحدث عنه لا وجود له إلّا في خياله. هذا، بالمناسبة، لا يختلف عما يقوم به عند الحديث عن البعيد من تاريخه. ومهما يكن فإن خوف العربي الدائم من تشويه صورته هو علامة ضعف وقلّة ثقة بالذات.

● تكتسح الأحزاب اليمينية أوربا، كما أن وصول دونالد ترمب للبيت الأبيض أكد رغبة البلدان الغربية في الانغلاق على الذات والاحتماء بالقوميات ضد الآخر، وهو بالأساس الإنسان العربي والمسلم، هل ترى أننا دخلنا في منطق جديد تسيطر فيه على المجتمعات ثقافة جديدة تدير ظهرها لكل المكتسبات الناتجة عن الثورات الشعبية في العالم وبخاصة الأفكار التقدمية والقيم الكونية؟

Arab-Other الضعف العربي هو الذي يخلق عند العرب هذا التوهّم بأن صعود اليمين في أوربا وأميركا هو صعود يستهدفهم. إنهم يردّون الفعل وكأن أوربا وأميركا لا ترى غيرهم في العالم، هذا في حين أنهم ليسوا إلّا بؤرة من بؤر الصراع الجيوسياسي، خلقتها مصالح مرحليّة. وراء الشعارات والإجراءات المعادية للعرب والمسلمين أسباب تتصل بالصراع الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات الأوربية والمجتمع الأميركي، أي في صلب النظام الرأسمالي الباحث عن تجاوز أزماته. نمط ترمب وأشباهه في أوربا هو من إفرازات مرحلة من مراحل ما يسمى نظامًا عالميًّا جديدًا. ومهما كان رأينا فيه، ورأينا طبعًا غير مطلوب وغير مؤثّر، فإن صعود هذا النمط إلى السلطة هو نتيجة تصويت الناس له. الديمقراطيات الأوربيّة أنتجت أغرب من ترمب ومن اليمين العنصري؛ أنتجت الاستعمار المباشر، والنازية، والفاشية، وحربين عالميتين. هناك رؤى ومقاربات متفائلة تستشرف مستقبلًا لا يتحمّل استمرار عدم توازن النظام العالمي الحالي وكوارث النيوليبرالية المعولمة. هناك قوى كبرى صاعدة أو عائدة إلى قوتها من المتوقّع أن تعدّل مصالحها من هذا النظام، ولكن أين العرب في هذا؟ قطعًا، لن يكون لهم مكان ولا وزن إن واصلوا مسارات التفرقة الحالية، ولم يجدوا صيغًا تجمع بينهم وتتجاوز الشعارات المستهلكة التي أصبحت للتندّر أكثر مما هي للفعل.

ما ينتشر باسم الإبداع لا إبداع فيه

● تمكَّن كتابك «سوسيولوجيا الغزل العربي» من الانتشار عربيًّا وفي الغرب كذلك بفضل ما ورد فيه من رفض للمسلمات حول الشعراء العذريين وعدم التعامل معهم كمجرد تجارب فردية إنما كمعبرين عن فئة اجتماعية عاشت مهمشة في بيئتها، لكن كل ذلك أفرز من جهة سِيَرًا تاريخية مثيرة حتى وإن كانت الوقائع التاريخية تختلط بالأسطورة، ومن جهة ثانية إبداعًا ظل خالدًا إلى اليوم… لماذا برأيك عجزنا اليوم إلا ما ندر عن إنتاج فكر وإبداع حقيقيين حتى إن الثورات لم تستطع إنتاج خطاب ثوري حقيقي، وهذا أمر تؤكده بنفسك؟

لا أحد يمكنه الشكّ في قدرة العربي على الإبداع. المشكلة هي في صعوبة انتقال هذه القدرة من القوة إلى الفعل، أي في عدم توافر ظروف الإبداع. من المفروغ منه أن الحريّة شرط أوّل للإبداع، وهي، في الجملة، محاصرة في البلدان العربيّة، سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، ولو بدرجات مختلفة. تتضح هذه المحاصرة عندما ننظر، لا إلى ما ينتجه المبدعون إنما إلى ما يتحاشون إنتاجه أو يُمنَعون من إنتاجه. الكثير مما ينتشر باسم الإبداع لا إبداع فيه؛ لأنه مجرد تغطية رسمية مبتذلة لهذه المحاصرة. كل مجالات المعرفة والحياة تتسع للإبداع، لكنها محدودة، عمليًّا، في العالم العربي لغياب الظروف المناسبة، لا من جهة الحريات فحسب، إنما أيضًا لغياب المؤسسات والقوانين والتمويلات الحافزة على ذلك. الإبداع العلمي، مثلًا، سواء كان في العلوم التطبيقية أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية غير ممكن من دون توافر هذه الظروف، ولذلك نلاحظ انحسارًا عامًّا نحو الإبداع الأدبي والفنّي؛ لأن فيه مرونة تستطيع، نسبيًّا، مواجهة الظروف الصعبة. الإبداع العربي سردي بالدرجة الأولى، وهو، بالمناسبة، الإبداع الوحيد الذي يُترجَم إلى لغات أخرى، أي أنه النمط الوحيد الذي يُعترَف بالإبداع العربي فيه. الإبداع هو إنتاج المعنى. هناك نصوص فكرية وأعمال أدبية وفنية عربيّة لها طابع ريادي أو تأسيسي، هذا لا شك فيه، ولكن الثقافة السائدة، عربيًّا، تنتج اللامعنى وتعيد إنتاجه. كل ما هو تكرار، وكل ما هو مفروغ منه، وكل ما هو لغة خشبية أو كلام فارغ لا ينتج المعنى، ورغم ذلك فهو السائد، للأسف. الثورة نفسها أعطت الكلام إلى من كانوا محرومين منه، لكنها لم تنتج خطابًا متماسكًا، ولم تقلّل من إنتاج اللامعنى.

الترجمة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬عناوين‭ ‬العجز‭ ‬الفكري‭ ‬السياسي‭ ‬العربي

من الأسئلة التقليدية التي تُطرَح باستمرار لكن الإجابة عنها بقيت معلَّقة، هي تلك التي تخص علاقة العرب بالترجمة وأنت تهتم بالترجمة من قريب، وكنت لسنوات مدير عام المنظمة العربية للترجمة ببيروت. فكل الأرقام والدراسات تؤكد أن الترجمة ضعيفة في بلداننا العربية كمًّا وكيفًا رغم الإقرار بأهمية الترجمة والانفتاح على ما ينشر في الخارج. أين يكمن الخلل برأيك وانطلاقًا من تجربتك؟ وهل عملية الإصلاح ممكنة؟

الترجمة من أبرز عناوين العجز الفكري السياسي العربي. فكريًّا، لم يُفهم بعدُ أن الترجمة ليست خيارًا، إنما هي ضرورة لنقل المعارف، وللحياة الفكريّة، ولإنعاش اللغة العربيّة أيضًا. سياسيًّا، لم يُفهم بعدُ أن المبادرات التي يقوم بها بعض الدول العربية، هنا وهناك، مهما كان حجمها، لا تمثّل شيئًا ذا بال، مقارنةً بما هو مطلوب على الصعيد العربي؛ لتدارك الفجوة في المعارف التي يزداد إيقاعها سرعةً. أظن أنه لو كان العرب في حجم دولة صغيرة واحدة لكان وعيهم الوطني بالترجمة أكثر عمقًا من وعيهم القومي بها. يطول الحديث عن الوضع الكارثي للترجمة، في العالم العربي، وهو وضع لا أراه قابلًا للإصلاح إلا بمعجزة سياسية عربيّة، تتمثّل في قرار سياسي عربي صارم ونافذ ببعث مؤسسة قومية، ذات هياكل وفروع وآليات متطوّرة وذات إمكانيات مادية وكفاءات بشريّة واسعة. في انتظار ذلك ستبقى الترجمة رهن مبادرات عابرة وخيارات تجاريّة، وسيبقى ضرر أغلبها أكثر من فائدته؛ لانعدام دقته المعرفية وأمانته الأخلاقية.

هشام جعيط: الفكر يلزمه فترات من الدعة والعالم اليوم في تغير واضطراب

هشام جعيط: الفكر يلزمه فترات من الدعة والعالم اليوم في تغير واضطراب

يعد الدكتور هشام جعيط من بين المفكرين والمؤرخين المعاصرين الأوائل في تونس والوطن العربي، الذين اهتموا بتاريخ الإسلام المبكر والكلاسيكي، وبقضايا الحداثة والهوية التي تفرض نفسها على الفكر العربي الحديث والمعاصر. ألف جعيط مجموعة مهمة من الكتب حول نشأة الإسلام، والمدينة في الإسلام، والصراعات التي عاشها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبرز المؤرخ والمفكر هشام جعيط خصوصًا بكتابته التاريخية الدقيقة العلمية والنقدية التي اعتمد فيها على مناهج العلوم الإنسانية ولا سيما علم التاريخ؛ ما مكنه من التفوق على غالبية المستشرقين، كما يقول هو نفسه، وعلى قراءاتهم السردية لتاريخ الإسلام، فهو صحح الصورة التي نشروها حوله.

لاقت كتابات هشام جعيط التاريخية والفكرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي اهتمامًا كبيرًا في فرنسا وفي تونس وفي المشرق العربي، تحديدًا كتبه الآتية: «الشخصية الإسلامية والمصير العربي»، و«أزمة الثقافة الإسلامية»، و«أوروبا والإسلام». ومن آخر مؤلفاته ثلاثيته حول السيرة النبوية التي اهتم فيها بالوحي والنبوة والدعوة إلى الإسلام في مكة، والهجرة إلى المدينة، وانتصار الإسلام.

درس هشام جعيط مادة التاريخ في الجامعة التونسية، وتوّج مسيرته العلمية بترؤسه للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» مدة أربعة أعوام.

في بيته في ضاحية المرسى (المدينة الساحلية الهادئة والجميلة، وتعد من الضواحي الشمالية المعروفة لتونس العاصمة) يعتكف المؤرخ والمفكر، ويعيش وحدة اختيارية بعد انتهاء مهامه على رأس بيت الحكمة، وبعد رحيل زوجته ورفيقة دربه، وهي وحدة تقطعها من حين إلى آخر زيارات بعض الأصدقاء والمريدين وأفراد العائلة، وبخاصة ممن يستجيبون لرغبة المفكر في إعفائه من الحديث عن تفاصيل الحياة السياسية في البلاد التي يصر أنها تزعجه أكثر مما تثير انتباهه.

في هذا البيت وتحديدًا في مكتبه الذي تعبق فيه رائحة الكتب المنتشرة في كل زاوية من زواياه، التقت «الفيصل» الدكتور هشام جعيط، فكان هذا الحوار.

al-fetna

احتفلت مؤخرًا في تونس ومعك عدد مهم من تلامذتك والمهتمين بتجربتك، بعيد ميلادك الثمانين وبمرور ما يزيد عن خمسين عامًا كرستها في البحوث والكتابة في التاريخ وفي مجالات معرفية وفكرية عدة. وكان الاحتفال في ملتقى مهم نظم بمبادرة من مركز الدراسات والأبحاث حول السياسات العربية بتونس، وتداول باحثون ومختصون في علم التاريخ والأديان وكذلك فلاسفة على تقديم قراءات عملية ونقدية لمجمل آثارك التاريخية والفكرية، ولاحظنا أنك أعربت عن رغبتك في نشر هذه الأبحاث وتمنيت أن يبادر المنظمون إلى نشرها. هل تعدّ فكر هشام جعيط بعد المؤلفات العديدة والتحاليل والنقد والحفريات في أعمالك لم يصل بالقدر الكافي إلى الجمهور في تونس وربما حتى خارج تونس؟

استمعت في هذا الملتقى الذي خصص لتكريمي إلى دراسات معمقة ونقد وإبراز لعناصر قد تكون انفلتت عن الكاتب، ورجوت أن تنشر هذه المحاضرات الجيدة؛ لأنها متعمقة جدًّا، ولأنها كذلك من إنتاج تونسيين، فقد كتب عني إلى الآن الفرنسيون كثيرًا، وكتب عني باحثون عرب، وبخاصة المغاربة، وأدين لهم كثيرًا في التعريف بجهودي البحثية وبكتبي ومقالاتي، لكن في تونس لم تُقرأ كتبي، وإن قُرئت فإنها لم تفهم…

لماذا تصرّ على أنه لم يُقرأ لك في تونس وأن التونسيين إن قرؤوا لك فإنهم لم يفهموك، مع أننا لاحظنا في الملتقى التكريمي عددًا من الباحثين أظهروا دراية وإلمامًا كبيرين بتجربتك الواسعة؟

في الفترة الثانية بعد الشباب وبعد أن كتبت كتبًا فكرية، كتبت كتبًا تاريخية علمية كانت تلاقي دائمًا الاهتمام في فرنسا. والحقيقة لم يدرسوا كتبي ولم يحللوا الأفكار الواردة بها في فرنسا فحسب، وإنما لقيت اهتمامًا في لبنان وفي بلدان الشرق عمومًا. فهي تترجم دائمًا للعربية إن كتبت بالفرنسية، وتترجم للفرنسية إن كتبت بالعربية.

أما فيما يتعلق بالاهتمام في تونس بما كتبت فإني أعتقد أن الصدى الذي حظيت به بعض الكتب إنما هو ناتج عن التأثير الفرنسي، وبما أننا بعد الاستقلال بقينا مستعمرين ذهنيًّا، فنحن نهتم بطريقة آلية بما يكتب في فرنسا، وبما أن كتبي الأولى قد لاقت صدى في فرنسا واهتمت بها الصحافة الفرنسية، فإنها لقيت صدى في تونس كذلك. ورأيي أنها لم تُقرأ حقًّا، ولم يكن لها صدى حقيقيًّا، بمعنى لم يقع تحليل هذه الأفكار، ولم تقع الاستفادة منها.

وإذ لم يحصل اهتمام في تونس بالكتب الثلاثة التي نشرتها حول السيرة المحمدية، أو حتى بالنصوص التي نشرتها من قبل، فلأن الذي كان طاغيًا بعد تأسيس الجامعة التونسية هو المسار الجامعي الوظيفي، حتى المختصون في التاريخ الروماني، فإنهم يركزون على ما يقع في حدود إفريقية أي في تونس. وكل الباحثين التونسيين كانوا مهتمين بالدولة الوطنية حديثة النشأة تحت التأثير البورقيبي، وفي الواقع عندما دخلت الجامعة التي عدت إليها عام 1976م لم يكن يوجد أي مؤرخ أو أي فيلسوف يهتم بالتاريخ الإسلامي العام أو بالفلسفة الإسلامية.

وشخصيًّا لم أر مفكرين إلا لما انتقلت إلى المشرق. وحتى في الملتقيات التي دُعيت إليها وشاركت فيها في بلدان المشرق قلما كان هناك من المشاركين مفكرون من بين التونسيين. لكن لا بد من الإشارة إلى أن هناك مفكرين جيدين تأثرت بهم من المغرب الإسلامي، وأذكر بالخصوص عبدالله العروي ومحمد أركون..

أما فيما يتعلق بتلاميذي فإني أؤكد أني كنت الأول الذي كون تلاميذ، وكتب كتبًا في تاريخ الإسلام. وطبيعي أن يتكون جيل جديد في تونس من الباحثين في مادة التاريخ الإسلامي ممن تتلمذوا عليّ، وهم اليوم يكتبون ويحللون وينقدون وهذا جيد جدًّا…

تأسيس-الغرب-الأسلاميكنتَ مهتمًّا بالفلسفة في البداية، لكنك اخترت في النهاية التاريخ. وتخصصت في التاريخ الإسلامي القديم، فكيف حدثت هذه السيرورة؟

فعلًا كنت ميالًا في شبابي لدراسة الفلسفة. لكن شاءت الظروف فيما بعد أن اهتممت كثيرًا بالعلوم الإنسانية، ومن العلوم الإنسانية اتجهت إلى التاريخ، وبعد فترة طويلة من دراساتي وأبحاثي التاريخية رجع لي اهتمامي بالفلسفة، لكن بصفة خاصة فأنا مغرم بقراءة الكتابات الفلسفية. ورغم تخصصي في علم التاريخ فإنني لم أتخلّ عن رغبتي في المطالعة في عدة مجالات، فقرأت كثيرًا عن الإثنولوجيا وعن علم التحليل النفسي، وكانت لي مطالعات أخرى في تاريخ الأديان مثلًا، واستفدت من فترة التدريس بالجامعة الزيتونية في تنمية مطالعاتي بحكم أنه كان لي ما يكفي من الوقت لإشباع نهمي من المطالعة.

غير أنني أشير إلى أنني وفي أول ما كتبت لم أكتب كتبًا تاريخية وإنما كتبًا فكرية فيها عنصر فلسفي، وقبل أن أكتب أطروحتي التاريخية الدقيقة العلمية، كتبتُ في موضوعات تهمّ حال العالم العربي والإسلامي، وفلسفة الدين، وأمور من هذا القبيل، فألفت كتابين في هذا المجال وهما: «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» و«أوروبا والإسلام» ثم هاجرت في فترة معينة إلى فرنسا وعندما رجعت إلى تونس رجعت بالطبع إلى التدريس في الجامعة. بطبيعة الحال اختصاصي هو التاريخ، والتاريخ الإسلامي بالخصوص، وألفت ما لا يقل عن ستة كتب عن التاريخ الإسلامي الأوّلي وهي كتابة دقيقة وعلمية، راجعت فيها العديد من المسلّمات الدينية، وسلّطت فيها نظرة نقدية على العديد من المصادر التي اهتمت بتاريخ الإسلام.

البدايات والأفكار الكبرى

شغلت الدكتور هشام جعيط في البداية الأفكار الكبرى التي كانت منتشرة في فترة التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية في أواسط القرن الماضي، وشدت القومية العربية اهتمامك قبل أن تحسم في الموضوع فكيف كان ذلك؟

أردت الاهتمام في البداية بفكرة القومية العربية التي كانت سائدة لدى المثقفين العرب حتى في النظم السياسية، وخرجت بفكرتين:

أولًا أن القومية العربية كانت تبتعد -حتى نشأة الوطنيات وتأسيس الأوطان- من وجهة نظر النخبة المثقفة أو السياسية، بقوة عن الإسلام في حين كنت أعدّ الدين مترسّخًا في تلك الفترة لدى الشعوب، ولا يمكن تخيل نجاح مشروع وطني بدون مساندة الشعب؛ لذلك اعتبرت أن العروبة والإسلام يندمجان خلافًا للفكر الماركسي الذي كان طاغيًا لدى النخبة العربية المثقفة، ولكنني لم أكن ماركسيًّا…

ثانيًا اعتبرت باكرًا أن الإيمان بالهوية ورسوخها في التاريخ العميق لا يمكن أن يحصل بدون أن ندخل بجدية فيما أسميته بالتحديث والسيرورة العربية نحو المستقبل. فأنا أومن بأهمية تحقيق التوازن بين الهوية الجماعية والدخول في التاريخ المعاصر. وقد حاولت أن أجد خطًّا فكريًّا في هذا المجال، ثم تابعت في فرنسا الكتابة، فأصدرت كتاب «أوروبا والإسلام» وقارنت فيه بين الحضارتين في الماضي بالأساس، ومكنني اهتمامي بالتاريخ من مواصلة أطروحتي وتوسيع أفق الكتابة. فأوليت اهتمامًا خاصًّا بالحضارة الإسلامية، وقدمت دراسات حول المدينة في الإسلام، فاهتممت بالخصوص بمدن الكوفة وبغداد والبصرة، مع العلم أن دراستي للمدينة في الإسلام لم تكن من وجهة نظر ضيقة؛ لأنها تدخل في حضارة كبيرة، ودرستها تمامًا مثلما يدرس الآخرون مثلًا تاريخ اليونان… إلخ.

عبدالله-العروي

عبدالله العروي

أعلنت مرارًا أنك تفوقت على المستشرقين، بل أعلنت أن عهد الاستشراق قد انتهى بعد صدور ثلاثيتك حول السيرة المحمدية؛ كيف ذلك؟

لم يعد هناك مستشرقون من ذوي الأهمية في الغرب، فأغلبهم قد مات، ولم يأت جيل جديد، وهؤلاء كانوا ينزعجون من أن يدرس عربي مسلم أساسَ الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، ويهتم بتورخة الإسلام.

أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ، وكان مسارهم يقوم على تعلم العربية أو الفارسية، وليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي. كانت كتاباتهم سردية، وتطغى عليها أحكام مسبقة، واعتبارات خارج الحقل العلمي، وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي. وأنا كمبرّز في التاريخ كان لي اطلاع على التاريخ، وعلى المنهجية التاريخية، وشخصيًّا انتقدت البعض منهم، ويمكن القول من خلال ثلاثيتي حول السيرة المحمدية: إن الاستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين.

هناك مفارقة عجيبة في علاقة المفكر هشام جعيط بالساحة الثقافية الفرنسية والتونسية، فقد وجدت كتاباتك الأولى صدى واسعًا في فرنسا، ثم في تونس، لكن خلافًا لما كان متوقعًا فإن ثلاثية السيرة المحمدية وعلى الرغم من اتباعك في كتابتها لمنهج عملي دقيق ونقدي، وإصرارك على أنها من أفضل الكتب التاريخية التي اهتمت بالسيرة النبوية، فإنها لم تحظ بالاهتمام المتوقع في فرنسا بالذات؟

لم تجد الكتب الأخيرة التي تخص حياة الرسول صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أجزاء) صدى كبيرًا على الرغم من أن فيها -حسب اعتقادي- تجديدًا كبيرًا. فقد اعتمدت على عدد مهم من المصادر إضافة إلى سيرة ابن إسحاق؛ لأنه أول من كتب في السيرة النبوية، وقبله كانت الأحاديث تنقل شفويًّا، وسلطت على كل المصادر نظرة نقدية، والغاية من ذلك تقديم دراسة تكون قريبة من الحقيقة التاريخية. وقد اهتم كتاب «حياة محمد» بأجزائه الثلاثة بأهم المحطات الحاسمة؛ من بينها الوحي والدعوة والحروب والتحالفات والتنظيم السياسي والحياة الاجتماعية في المدينة… إلخ.

وقد قمت بترجمته إلى الإنجليزية؛ لأني أردت أن يتعرف عليه المسلمون المثقفون والعلماء في آسيا والهند والباكستان، الذين لا يقرؤون بالفرنسية ولا العربية بل يقرؤون باللغة الإنجليزية. لم تجد هذه الثلاثية صدى في فرنسا؛ لأنني أعتقد أن المستشرقين المهتمين بالتاريخ الإسلامي القديم والكلاسيكي ماتوا ولم يتجددوا. والمهتمون اليوم بالعالم الإسلامي في أوربا وحتى في أميركا إنما يهتمون بما هو معاصر من حركات إسلامية، ويركزون على الإسلام السياسي، وليس على الإسلام الحضاري والديني.

arkoun

محمد أركون

لكن الكتب التي تهتم بشخصية الرسول الكريم وبحياته وبالسيرة ما زالت تصدر بكثافة في أوربا، وبخاصة في فرنسا، وتجد رواجًا مهمًّا؟

إنها الكتب الشعبية المكتوبة للقراء الشعبيين، أما كتابي فهو مبني على التاريخ الدقيق العلمي والنقدي. من جهة أخرى لا بد من الإقرار بأن العلوم الإنسانية في فرنسا مثلًا سقطت الآن؛ لأن كبار الباحثين الاجتماعيين وكبار المؤرخين وكبار الأنثربولوجيين ذهبوا ولم يتجددوا، وغلبت على الساحة الثقافية الميديا. لا أنكر دور التلفزيون لكن الحوارات بما فيها التي شاركت فيها مع غيري حول النبي الكريم والقرآن والمسيح ليست سيئة لكنها تبقى موجهة لوسط واسع من المثقفين.

إن دراسة تاريخ الإسلام المبكر أو الإسلام التأسيسي هي في نظر نقادك إنما هي محاولة لفهم مغلقات الحاضر، وبحث عن حلول للمشاكل الآنية. هل يمكن فعلًا أن نبحث عن حلول لمشاكل الحاضر عبر دراسة الماضي؟

المشاكل الآنية درستها بالخصوص في كتبي الفكرية الأولى أو كتابي الأخير، وكذلك في كتاب «أزمة الثقافة الإسلامية». فيما يخص التاريخ الدقيق أردت فيه محاكاة المستشرقين القدامى وتحسين الرؤية لهذه الحضارة؛ لأني لا أعدهم قاموا بعمل جيد لترويج الصورة القريبة من الحقيقة التاريخية والبعيدة من التأثيرات السياسية والأيديولوجية إلا البعض.

لكن من ناحية ثانية فإن كتاباتي لا تتوقف عند الفكرية والعلمية من الموضوعات، ففي حقبة الثمانينيات دخلت في الجو الثقافي العربي. كنت من التونسيين القلة الذين يشاركون في الملتقيات التي تنتظم في الشرق أو في العاصمة المغربية الرباط وفي تونس أحيانًا، وهي تنتظم عادة بمبادرة من مراكز ووحدات البحث العربية. شاركت في ملتقيات حول الواقع العربي، وكنت أشارك مع النخبة العربية، وكانت لي علاقات وطيدة مع المثقفين العرب الذين يهتمون بالواقع الأيديولوجي الثقافي السياسي. وكنت كثيرًا ما أكتب في كتب وفي مجلات عربية وفرنسية، وحتى في أميركا، حول هذا الواقع الحديث.

أعتقد أن العالم الإسلامي كله في مخاض، وهذا المخاض في الحقيقة ابتدأ بعد الحرب العالمية الثانية عندما قامت تغييرات متعددة في النظم الحاكمة في الشرق وفي بلاد المغرب، ونشأت حركات استقلالية، وطرأت تغييرات، وكثرت التساؤلات حول المستقبل، ثم وقعت تطورات وجاءت الحركات العروبيّة، ثم الإسلامية، ثم حصلت حروب متعددة في الشرق، من بينها حرب لبنان التي دامت 15 سنة، واندلعت حروب أخرى في أفغانستان مثلًا، وجاءت الثورة الإسلامية الإيرانية، واهتممت بهذه المشاكل. وأعتقد أننا لا نعيش مخاضًا فحسب في المنطقة، وإنما أحدث كل هذا زلزالًا.

وكما عرفت أوربا فيما بين عامي 1914 و1945م حربين عالميتين مدمرتين، انتقل العنف إلى الشرق الأوسط وإلى المغرب، ولكن الشرق الأوسط ليس العربي فقط، فإيران الإسلامية تتدخل في الشؤون العربية، وأفغانستان في حالة اضطراب منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وأتت أمور جديدة لم تكن في الحسبان على غرار الصراع بين الشيعة والسنة، وهو صراع دامٍ في كثير من الأحيان. سننتظر ماذا سينتج عن هذا الزلزال؛ لأنه سيأتي يوم وتتوقف الحروب كما توقفت من قبل في أوربا وغيرها، وسنرى ما يمكن أن ينتج من كل هذه الاضطرابات…

حروب المسلمين ضد الغرب

al-sakhsiaترفض كل المقولات التي تعد التنظيمات العنيفة والمسلحة الناشطة في المنطقة العربية والإسلامية اليوم، هي حركات دخيلة وصنيعة فاعلين غرباء على المنطقة؛ ماذا تستند في تأكيدك ذلك؟

أعتقد أن الصراع في المنطقة العربية والإسلامية اليوم هو صراع سياسي وصراع حضاري يلتحف بغطاء الدين، وهو صراع حضاري بمعنى أن العالم الإسلامي يريد التخلص من هيمنة الغرب.

صحيح أن الحروب هي فيما بين المسلمين، ولكنها أيضًا حروب ضد الغرب، والواقع أن الغرب إلى الآن تدخل كثيرًا في شؤون العرب والمسلمين، سواء دبلوماسيًّا أو اقتصاديًّا أو حتى عسكريًّا. وكأن العالم الإسلامي يريد التخلص من هذه الهيمنة -وفي بعض الأحيان ومثلما يمارسه تنظيم الدولة المعروف بـ«داعش»- بعنف كبير؛ لأن الحركات الإصلاحية فيما يخص الإسلام وموضوع الإسلام وعلاقته بالحداثة ابتدأت منذ القرن التاسع عشر، وكانت الحركات فكرية وسياسية أحيانًا، مثلما نجد ذلك عند الإخوان المسلمين، ولكنها لم تكن حركات عنفيّة، وإنما حركات أيديولوجية مرتكزة على الإسلام.

كأن العرب والمسلمين عدوا تأخرهم لا يمكن أن يُحَل إلا من طريق العودة إلى الإسلام، وليس من طريق تغييرات أخرى، لكن الأمور تطورت أكثر فأكثر، فلم تعد المسألة أيديولوجية وإنما أصبحت مسألة حربية. دخلت كذلك مشكلة الديمقراطية على غرار ما حدث في تونس وانتشر بسرعة فائقة في كل العالم العربي تقريبًا، والتقى بأرضية إسلامية أخرى، فارتبكت الأمور وازدادت تعقيدًا.

غير أنه لا بد من التسليم بأن العالم أصبح موحدًا، وكل ما يجري في نقطة محددة له صدى في العالم أجمع، وهذا ما يسمونه بالعولمة، وهي ليست فقط عولمة مالية وتكنولوجية، وإنما عولمة بالأيديولوجيات وبسريان الأخبار بسرعة فائقة، ثم إن العالم كله اليوم في تغيّر وفي اضطراب.

ألا ترى أن أميركا اللاتينية التي عرفت مثلنا دكتاتوريات وأزاحت هذه الدكتاتوريات هي مضطربة الآن، فالبرازيل التي كان يعول عليها في أن تكون قوة صاعدة، هي في حالة اضطراب، وكأن الديمقراطية التي تأسست في هذا البلد بعد الدكتاتورية لم تترسخ؟

إن أميركا اللاتينية تشبه العالم الإسلامي، فعندما نرى حالة المكسيك التي دخلت شيئًا ما في الديمقراطية، إلا أنها اليوم في اضطراب كبير، وفينزويلا كذلك في اضطراب. نزداد اعتقادًا بأن العالم كله يتحرك، وأن شيئًا ما بصدد إعادة التشكل في المجتمع الإنساني. ومن بين المؤشّرات على هذا الحراك الذي يشهده العالم أن الأميركيين الذين ازدادوا إمبريالية منذ تغلبهم في الحرب العالمية الثانية وسقوط الاتحاد السوفييتي يواجهون اليوم مجددًا منافسة روسية، ولحسن الحظ الآن أن روسيا الحالية استرجعت بعض قواها على النطاق العالمي الجيوسياسي. فقد عاش العالم فترة كانت فيها السيطرة الأميركية قوية جدًّا، وكانوا وحدهم تقريبًا في الساحة العالمية؛ لأن الصين كانت مهتمة بالتنمية الاقتصادية، ولم تظهر اهتمامًا بالسياسة الخارجية. ولكن أين نحن إزاء هذا المشهد العالمي الذي يتأكد يوميًّا أن لا دور لنا فيه أمام اللاعبين الأجانب من روس وأميركان وغيرهما.

العالم الحديث لا يعطي الشباب هدفًا في الحياة

George-Buschألا تعتقد أن هذا التدخل الأجنبي يزيد في دفع الشباب العربي والمسلم نحو حلول طوباوية على غرار الانضمام لتنظيمات عنيفة وإرهابية مثل تنظيم «داعش» مثلًا؟

لكن الشباب الذي انضم إلى «داعش» ليس فقط من المسلمين، وإن كان في أغلبيته يتكون من العرب والمسلمين، فهناك أوربيون من أصل أوربي دخلوا في المعمعة مع داعش. هذا يعني أن العالم الحديث لا يعطي الشباب هدفًا في الحياة.

هناك فراغ بالنسبة للشباب، والشباب دائمًا مثاليّ يبحث عن مَثل أعلى، لكن هذا النمط المجتمعي لا يوفر المُثل العليا، والشباب في البلدان الغربية يعيشون في مجتمعات استهلاكية ليس لديها أي هدف روحي، وتفككت العائلة هناك أو هي في تفكك. وهناك عدد كبير من الغربيين أنفسهم اتجهوا نحو الجهاد.

أما بالنسبة للشباب المسلم فنجد المشكلة نفسها، أي غياب الهدف الروحي مع زيادة أنهم في بلدانهم لديهم مشاكل اقتصادية ومشاكل تشغيل، وفي البلدان الغربية حيث يوجد مسلمون على غرار فرنسا بالخصوص يهان الشباب المسلم صباح مساء وليس لهم موقع في هذا المجتمع، والغريب أن نسبة من الشباب المغاربي بالخصوص ما زالوا يتصورون أن الجنة في أوربا، ويلقون بأنفسهم في البحر على أمل الوصول إلى الضفة الأخرى ولو كلفهم ذلك دفع حياتهم ثمنًا لهذا الحلم الطوباوي.

من ناحية أخرى يريد الشباب التضحية وهذا منذ القدم، إنما طريقة «داعش» ليست كغيرها من التنظيمات على غرار القاعدة وجماعة الإخوان، فهي عنيفة جدًّا، ورجوعها إلى الإسلام هو رجوع بدائي، لعلهم يريدون تحدي القيم الغربية سواء الديمقراطية أو حقوق الإنسان، والرجوع إلى حالات حتى في الإسلام القديم لم تكن موجودة بكثرة، مثل العبودية للنساء، وكأنهم يريدون أن يكوّنوا إسلامًا متشددًا جدًّا مثل الخوارج القدامى، وهذا يستجلب الشباب من دون أن ننسى تدخل عنصر السياسة وحب التسلط.

ولكنّ هناك اعترافًا حتى من بعض القادة الأميركيين أنفسهم على غرار وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي ذكرت في كتابها الأخير أن «داعش» صُنع أميركي بحت؟

hishamjeitأولًا أنا إنسان ضد أن يتدخل الغربيون في شؤون المسلمين. أما عن سؤال: من صنع «داعش»؟ فإني أعتقد أن حرب العراق التي قام بها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن كانت كارثة حقيقية. فبعد سقوط بغداد واحتلال العراق، وضعوا على الحكم الشيعة فقط، وهمّشوا أهل السنة، وقسموا السكان. وهناك عدد كبير من الضباط من البعثيين القدامى لم يهضموا هذا الاحتلال، وصاروا من القيادات العسكرية في هذه التنظيمات، ودخلوا في النطاق الإسلامي بعد أن كانوا لائكيين، وانضموا لتنظيمات يعدونها أنجع. فالقومية العربية اليوم سقطت وعوّضها الجهاد الإسلامي، لكن لا بد من الإشارة إلى أن الإسلاميين ليس كلهم من أهل الجهاد؛ الإخوان المسلمون في مصر مثلًا لم يكونوا من أهل الجهاد بل كانوا متسيّسين أكثر، والإسلاميون في تونس كذلك لم يكونوا جهاديين بل كانوا معتدلين. إنما جاءت هذه الحركات القوية بتسلسل، فبعد تنظيم القاعدة نشأ تنظيم «داعش» ودخلت السياسة والتنافس والعداء الكبير بين دول المنطقة، وتحديدًا بين السعودية وإيران في الميزان، فتكوّن هذا المشهد المتوتر.

العرب والمسلمون ساهما في بناء الحداثة

يوجه بعض الباحثين نقدًا إلى المفكر هشام جعيط؛ لإيمانه بقيم الحداثة الغربية، وقراءته النقدية لتاريخ الدين الإسلامي. ونرى في هذا الحديث معك أنك حاسم في توصيفك للغرب، وتطالبه بالتوقف عن التدخل في شؤوننا. كيف يمكن إذن أن نستفيد من قيم الحداثة، وتحديدًا من الحرية والديمقراطية، من دون أن نخشى الانحرافات عن الذات وعن الهوية وعن الأصل؟

_ إن الحداثة هي ابنة الغرب، وقد نشأت مع النهضة التي شهدها الغرب، ولكنها نتيجة تراكمات وتفاعل الحضارات وجهود التحديث المتواصل، ونحن كعرب ومسلمين ساهمنا في بناء الحداثة التي أعتقد أنها انطلقت من الأندلس مع الثورة العلمية. اليوم نحن في حالة تأخر وتقهقر ما في ذلك شك، وسنظل مرتبطين بالغرب، وسنبقى تبعًا له، وسيواصل التدخل في شؤوننا ما دمنا نكتفي باستهلاك الثقافة الغربية وفي أحسن الحالات نستهلكها استهلاكًا جيدًا.

lavieالعالم كله يتحرك اليوم لكن ما زال هناك تردد في المنطقة العربية حول تبني قيم المدنية، وحول أهمية المشروع الثقافي الذي يقوم على السمو والإبداع، وعلى الخلق وعلى التميز… لن ننخرط في حراك العالم إلا بثقافة متميزة لا تكون نتيجة مبادرات فردية فحسب، وإنما تتحول إلى ثقافة جمعية. والحداثة عندي مرتبطة بالهوية، والهوية ما زالت تقوم بدورها الإستراتيجي في مقاومة الهيمنة الإمبريالية التي أخذت شكل الهيمنة الاقتصادية، وما دعوتي للغرب بالكف عن التدخل في شؤون العرب والمسلمين إلا انطلاق من اعتقادي في ضرورة التمسك بخصوصياتنا، وبالعناصر الأساسية التي انبنت عليها هويتنا وحضارتنا. لكن الهوية لا ينبغي أن تبقى دائمًا نبشًا في التاريخ ولا انغماسًا في التراث وتمترسًا وراء الدين واللغة. إنها لا تقوم كذلك على الذاكرة فحسب، بل تعني بناء الذات والمستقبل، واحتكاك الهويات الفردية، وانفتاحها على الأخلاقيات التي تقرّب بين البشر وتبني القيم، التي تفتح آفاقًا أمام الإنسان، وتعطي لحياته معنى، وتجعل منها قيمة عالية.

أليست الديمقراطية هي أساس الحداثة، إذن لماذا تعطلت عجلة التقدم في البلدان التي عاشت مؤخرًا ثورات، ونتج منها تغيير في الأنظمة الدكتاتورية، وبناء تجربة في الديمقراطية، وأصبحت معظم بلدان ما يسمى بـ«الربيع العربي» ساحة حرب، وكثرت بها بؤر التوتر؟

لا بد من الإقرار بأننا اليوم في تونس أحسن حالًا بكثير مما كنا عليه في حكم الرئيس ابن علي، لكن أساس الديمقراطية ليس الانتخابات. الأساسات هي القيم التي تستقيم عليها الديمقراطية. والقيم الأساسية هي أولًا الحريات إذا أحسنّا استعمالها، ونحن بلدان لم تحسن استعمال الحريات، وعادة ما ندخل في نوع من الهمجية في استعمال الحريات، في حين أنه لا بد من نوع ما من الانضباط؛ لكسب هذه الحريات. وثانيًا احترام قيمة الحياة الإنسانية. ما معنى القتل في نهاية الأمر؟ إنه عدم احترام للنفس البشرية، وهذه هي القيم الأساسية، وهذه هي أسس الديمقراطية، فكل إنسان فرد له حقوقه، ولكن في الحقيقة هذه الأسس موجودة في التراث الديني، ولسنا في حاجة للبحث عنها عند الآخرين، فالدين الإسلامي يحرم التعذيب والظلم والقتل من دون حق. القتل ممنوع في القرآن، والشتم كذلك، والعنف ممنوع أيضًا في القرآن إلا من ظُلم، والعدوان ممنوع، ولكن الطبيعة البشرية هي طبيعة حيوانية أيضًا.

لا جدوى من حركة معادية للأديان

fee-alseear-2عندما كان الغرب في سيرورته نحو الحداثة كانت هناك فكرة أساسية تتمثل في مناهضة الدين أو تحييده عن السياسة والاقتصاد، ولكن الدين عاد بقوة في العقود الأخيرة، فهل تعدّ من راهن على زوال المسألة الدينية وبخاصة في البلدان اللائكية قد أخطأ التقدير؟

المسألة لا تهم الغرب ككل، فالمجتمع الأميركي مجتمع متدين، وإنما تهمّ عددًا من البلدان الأوربية وبخاصة فرنسا التي أسقطت دينها القديم وعوّضته باللائكيّة المتشددة، لكن الدين لم يغب في بريطانيا وفي ألمانيا وبولونيا وغيرها.

صحيح أن السيرورة الاقتصادية والسياسية للدولة في ألمانيا وفي بريطانيا وغيرهما خارجة عن الدين لكن ليس هناك في هذه البلدان لائكية متشددة، وهناك قسم كبير من المجتمعات الأوربية متدين، أما فيما يخصنا كعرب ومسلمين، فإننا قبل أن ندخل في الحداثة (دخلنا في الحداثة في الخمسينيات من القرن الماضي) كنا مستعمرين، وكان الدين يسيطر على البلدان الإسلامية كلها تقريبًا، وفي جميع أشكال حياتها. ثم ماذا نعني بإلغاء الدين؟ هل هو فصل الدين عن السياسة أم فصله عن الاقتصاد؟ والإجابة على ذلك أن هذا الفصل هو اليوم أمر واقع تقريبًا حتى في بلداننا.

ومثلما أرى أنه لا داعي لفكرة بعث ميثاق لحقوق الإنسان المسلم، وكانت قد بادرت بها بعض الدول الإسلامية؛ لأني أعتقد أن المسلم ليس كائنًا مختلفًا، وأن مواثيق الأمم المتحدة عامة تسري على الناس جميعهم، فإني لا أرى كذلك ضرورة أو أهمية لظهور مثل هذا التيار الداعي لإلغاء عنصر الدين؛ لأن الدين موجود ومتغلغل داخل غالبية الفئات الاجتماعية، أما الفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد فهو كما سبق وذكرت قد أصبح أمرًا واقعًا.

بقي أن هناك قسمًا أو فئة من الشباب أو من المثقفين يريدون وهم يحاولون تطبيق كل العناصر الدينية، أن يكون لهم نوع من الحرية، وهذا في اعتقادي يدخل في باب حرية المعتقد فعلًا، ولكل شعب عاداته وتقاليده المرتبطة بالدين، وليس هناك أي ضرورة للقيام بحركة ضد الدين ما دامت هذه المسائل تدخل في باب الحرية وترسخها.

وعمومًا فإن مشكلة الدين ليست مطروحة في تونس فقط، وإنما في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة الحالية حصل نوع من العودة بقوة إلى الدين، فالنظام الإيراني مثلًا جاء بأيديولوجيا جديدة تشبه بالضبط ما كان عليه الاتحاد السوفييتي زمن ستالين، فالشيوعية هي دين حديث يربط المجتمع كله بأيديولوجيا دينية. عمومًا المسلمون لم يجدوا نوعًا من الأيديولوجيا على غرار الماركسية تربط بين المجتمع بقوة، وتبتعد من لائكية الشاه وجماعته، التي كانت خاضعة تمامًا للغرب.


fee-alseear_3كتبت في خاتمة كتابك «أزمة الثقافة الإسلامية» (صادر عن دار النشر الفرنسية فايار سنة 2004م) أنه حتمًا سيأتي يوم ويتحقق فيه مطمح المسلمين في نشر ثقافة السمو التي تمنح طعمًا للحياة، وأشرت إلى أن الدولة ليست سوى محرك للتنمية المادية والمعنوية، وأن المجتمع المدني سيقوم بدوره المطلوب منه، وأن التغيير في العالم العربي والإسلامي يتطلب عدة شروط، وهي الديمقراطية والسلم بالداخل والخارج، والتضامن بين الشعوب، والإيمان بقيمة حياة الإنسان كفرد وداخل المجموعة. أين نحن من هذه «النبوءة» أو هذه البشرى والعالم العربي يعيش اليوم حروبًا دموية، وتعصف به الصراعات من كل جانب؟

_ لا يمكن الجزم بما سيحدث في المستقبل القريب، والقول بأن هناك مؤشرات توحي بمزيد من التقسيمات داخل الأراضي العربية، لن يحدث إلا في فرضية واحدة، وهي نجاح تنظيم «داعش» في توحيد سوريا والعراق مع العلم أن فرضية «غلبة» داعش ليست مستبعدة، حتى روسيا التي هي في الظاهر تحارب تنظيم «داعش» في سوريا إنما هي تتدخل أساسًا لمساندة نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وفعلًا هناك أزمة كبيرة في المنطقة العربية والإسلامية، لكن وراء الأزمات عادة يأتي وضع جديد، بقي أن العنصر الإيجابي في العملية أنه من قبل ومنذ خمسين سنة تقريبًا كانت العروبة شيئًا والإسلام كان شيئًا آخر، وداخل العروبة كانت هناك نظريات الوطنية على غرار نظرية بورقيبة، وكانت هناك انقسامات. واليوم هناك رقعة في العالم هي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحتى بعض بلدان آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتي سابقًا والعالم الإسلامي الذي خرج من الاستعمار يريد تأكيد ذاته في مسار التاريخ بالصيغة التي يراها، وتوجد داخل هذا الصراع وحدة إسلامية، والعرب لم يعودوا وحدهم في الصراع، هناك اليوم أفغانستان وإيران وإندونيسيا والباكستان، على حدودها على الأقل. ثم لا ننسى أن هذه الرقعة لها تاريخ كبير جدًّا، وهي التي كوّنت الحضارة وهي مهدها الأصلي.

الانحدار الأوربي

تصر على أن أوربا في حالة انحدار وفرنسا التي عشتَ فيها حوالي عشرين سنة ونشرت فيها كتبك، تراجعت كثيرًا وأصبحت تابعة لأميركا، والعالم بأكمله مضطرب، كيف يبدو لك مستقبل العالم ككل؟

_ بالنسبة لأوربا فقد عرفت أوجها في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، لكن في التاريخ الإنساني -وقد عشنا التجربة في العالم الإسلامي في القرون الأربعة الأولى بعد التأسيس- يتكون فكر وفن كبيران، ثم تتوقف الحركة. ومن علامات هذا الانحدار في أوربا ليس فقط التبعية السياسية والضعف الثقافي الفادح والتراجع على مستوى العلوم الإنسانية… إلخ، إنما أيضًا سيطرة المشاعر السلبية على المجتمعات، وبخاصة المجتمع الفرنسي، وعلى رأسها مشاعر الكراهية ورفض الآخر والإسلاموفوبيا التي ما فتئت تزداد حدتها، ليس فقط بسبب العمليات الإرهابية؛ لأنه إن سقط بضع عشرات من الضحايا في باريس وبروكسل، فإنه يسقط يوميًّا ما لا يقل عن 50 ضحية في العراق. لكن مشاعر الكراهية لا تقتصر فقط على المسلمين الذين نقول عنهم عادة إنهم يرفضون الاندماج في المجتمعات الغربية، إنما هناك عنصرية واضحة ضد اليهود في فرنسا، والسؤال: أليس اليهود متفرنسين كفاية، فلماذا هذه العنصرية ضدهم إذن؟ وينبغي أن يكون المرء قد عاش داخل المجتمع الفرنسي سنين طويلة مثلي، لا أن يكون مجرد زائر، حتى يعرف حقيقة هذا المجتمع. وواضح جدًّا أن أوربا في طريقها نحو التفكك، فهي لم تبن دولة فيدرالية وإنما بنت اتحادًا هشًّا.

وعمومًا لقد تغيرت الأمور كثيرًا على مستوى العالم، ولم تعد فكرة انتقال العلوم والفنون إلى أمكنة أخرى صحيحة؛ لأن العالم الرقمي سيغلب الكتاب، والصورة ستغلب النص المكتوب، والعالم مرتبط بقوة بشبكات الإنترنت، والمجتمع العالمي أصبح مرتبطًا بقوة عن طريق شبكات الميديا. وللإشارة فقط فقد قرأت ضمن مطالعاتي وفي دراسة علمية جدية أن شركتي «أبل» و«غوغل» ستصيران المسيطرتين على العالم في المستقبل، وهذا ممكن جدًّا.

fee-alseearترى أن السؤال حول دور المثقف اليوم في المجتمع سؤال تقليدي، لأن دوره تراجع، لكن المنطقة العربية شهدت من قبل ميلاد شخصيات مثقفة كان لها تأثيرها في بناء مستقبل الأمة العربية والإسلامية، فهل يعني ذلك أن علينا أن نقفل باب الأمل في ظهور ابن عربي جديد وابن خلدون آخر وابن رشد هذا العصر وغيرهم في المنطقة؟

لقد تراجع فعلًا دور المثقف العربي واحتلت مكانه أطراف لها قدرة كبيرة على التأثير في الجموع على غرار القيادات السياسية والحزبية، وحتى وسائل الإعلام الجماهيرية. جاءت من قبل فترة ازدهر فيها العلم والمعرفة، وظهر مثقفون في حجم الأسماء المذكورة وغيرها، وحتى الشخصيات الفكرية والإصلاحية التي برزت في الفترة المعاصرة، وبخاصة في المغرب الإسلامي هي من الشخصيات التي تشبعت بالثقافة الغربية، لكن الثقافة العربية والإسلامية كانت أيضًا راسخة لديها، إلا أن الفكر يلزمه فترات من الدعة، ونحن اليوم في حالة صراع. ننتظر أن تهدأ الأمور لأنه لا بد أن يأتي يوم وتنتهي فيه هذه الحروب، فأنا أصر على أنها ليست أبدية.

بقي أني أعتقد أن هناك أشياء إيجابية تحدث اليوم في الساحة الإعلامية العربية، والذي جلب اهتمامي أن اللغة العربية الحديثة تقدمت تقدمًا باهرًا، ويمكن لها أن تكون قادرة على التعبير عن كل شيء. وشخصيًّا تابعت مؤخرًا حوارات على قناة البي بي سي عربي وعلى قناة فرنسا 24 تقال بلغة عربية جيدة جدًّا، واستمعت إلى تحليلات سياسية مهمة أيضًا بلغة عربية سليمة جدًّا وقيّمة.

أبي كان «زيتونيًّا» وعمي أول مُفتٍ للديار التونسية

ينحدر الدكتور هشام جعيط من أسرة تونسية عريقة، فوالده وجده من خريجي جامع الزيتونة ومن علماء الدين ومن الفقهاء، فهل ساهمت هذه النشأة الأسرية في توسيع دائرة اهتمامه؛ لينشغل بالجو العربي العام، ولم يقتصر على المسائل الوطنية الصرفة؟ يجيب الدكتور جعيط قائلًا: فعلاً كان والدي زيتونيًّا لكن كانت له ثقافة حديثة، وكان مغرمًا في شبابه بما يجري في الشرق، وكانت تصله عدة مجلات من مصر ومن لبنان ومن الشرق عمومًا، وكنت أطالعها معه، ونتناقش في العديد من الموضوعات التي تهم الشأن العربي والإسلامي.
كان جدي كذلك من خريجي جامع الزيتونة وكان أديبًا، ولكنه دخل في الوظيفة العمومية، وقد شجعاني على الدراسة بالمدرسة الصادقية، (المدرسة التي أحدثت في نطاق الإصلاحات التي أدخلت على التعليم في تونس، وتتميز المدرسة الصادقية بتقديمها علومًا عصرية، وقد تخرّج منها عدد كبير من أدباء البلاد ومثقفيها).
وكانت لي علاقة وطيدة بعدد من مشايخ البلاد من آل جعيط على غرار عمي الشيخ عز الدين جعيط (كان أول مُفتٍ للبلاد التونسية بعد الاستقلال) الذي تخرج من جامعة الزيتونة، ودرّس بها سنوات طويلة. لكن آل جعيط فقدوا بعد الاستقلال مكانتهم الاجتماعية المرموقة بعد التغييرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها تونس.
فمن الناحية السوسيولوجية حدث تغيير كبير في المجتمع التونسي، وصار كل شيء يدور حول الدولة الجديدة، وقام الرئيس الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال بغلق جامعة الزيتونة، وحصل أن ابتعدت عن العائلة. كان همّ أبي أن أدخل في النظام الجديد، ولم أكن أوافقه على هذا؛ لأن لي مهجة البحث كما علمتني العائلة ذلك منذ الصغر. وبدا لي عندما طلبت مني أسرتي، التي انحدرت اجتماعيًّا، ولم تعد لها نفس المكانة المرموقة في المجتمع التونسي الجديد، أن أنصهر في التجربة التونسية وليدة الاستقلال وكأنها قد انقلبت عليّ. لكني آمنت بالبحث الفكري والعلمي، وكانت مهجتي -كما قلت- البحث والمعرفة، واتبعت هذا السبيل طوال حياتي، ولم أهتم بأمور السياسة. أما بالنسبة لتأثير العائلة فقد تواصل حتى بلوغي سن الـ 25، ثم سافرت إلى فرنسا، واتبعت طريقي الخاص.

نحن ضعفاء ولم نفهم أن التكنولوجيا أساس النهوض

يشدد المفكر هشام جعيط في كتاباته على أن الحداثة ليست مرتبطة بالمظهر الخارجي كاللباس… إلخ، إنما هي مرتبطة بأسباب أخرى مثل التمكن الاقتصادي، وبما أن العرب بعيدون عن تحقيق هذه الأسباب، إذن كيف يمكن الخروج من المأزق؟ يرد الدكتور هشام جعيط على هذا السؤال بقوله: «إننا إذا ما أردنا أن ندخل في حراك العالم الحديث من الصين إلى اليابان إلى العالم أجمع، علينا أن نفهم أن الحداثة مرتكزة على العلوم الطبيعية المرتبطة بدورها بالعلوم التكنولوجية، التي هي مبنية على أسس اقتصادية وعلى المؤسسة الاقتصادية. كيف هو الوضع عندنا؟ من هذه الناحية نحن ضعفاء جدًّا، ولم نفهم أن التكنولوجيا أساسية في النهوض بمجتمعاتنا، وهي لا تصلح إلا إذا تكونت في إطار نسيج مؤسساتي تكون فيه الكلمة لأبناء البلد، لكننا من هذه الناحية كذلك ما زلنا تبعًا للغرب.
فإسرائيل التي تعد عدونا الأول في المنطقة لها صناعات حربية ثقيلة وتصنع الدبابات والمدرعات، أما في البلدان العربية فلا صناعة ولا تكنولوجيا، وحتى البترول الموجود في الأراضي العربية نعول في تحويله على مهندسين وتقنيين من الخارج. وإذا ما عدنا إلى النموذج التونسي فإننا نطالب منذ سنوات بعودة المستثمرين الأجانب لحل المشاكل الاقتصادية التي تفاقمت بعد الثورة، والحال أنه كان من الممكن أن نعول على الحس الوطني للتونسيين الذين لديهم الأموال للاستثمار في البلاد، لا أن ننتظر باستمرار إعانة من صندوق النقد الدولي وإنفاقها في صرف الرواتب… إلخ. هنا ينبغي للدولة أن تتدخل، ولا أقول العودة إلى الاشتراكية، وإنما لا بد من حضور للدولة التي ينبغي أن تبني المصانع والمعامل حتى بالاشتراك مع الخواص؛ لتوفير الشغل وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.
وعمومًا هناك تقصير كبير في فهم الأمور، ولعلني أشير في هذا السياق إلى أنه حينما قامت الثورة في روسيا في عام 1917م وتم تأسيس الاتحاد السوفييتي؛ أول شيء تم التفكير فيه هو تكوين مصانع وصناعة ثقيلة؛ لأنه ليس هناك استقلالية للبلاد من دون استقلالية على المستوى الاقتصادي، وحتى على المستوى الحربي. وإن كانت تونس بلدًا صغيرًا مثلًا فإن مصر التي قامت بها ثورة بلد كبير. لقد أزاحوا الإخوان المسلمين ووضعوا نظامًا قويًّا ولكن ماذا بعد؟ حتما لا بد من الإسراع في تكوين صناعة ثقيلة في مختلف المجالات، بما في ذلك المجال الحربي. والأمر لا ينسحب على مصر أو على تونس وحدهما وإنما على كامل المنطقة العربية والإسلامية، إذ ما زلنا ونحن في منطقة تعيش حروبًا وصراعات كبيرة تابعين للآخر، أي للغرب في كل شيء.
رحيل أولاد أحمد نهاية «حالة» استثنائية  في المشهد الأدبي التونسي

رحيل أولاد أحمد نهاية «حالة» استثنائية في المشهد الأدبي التونسي

ترك رحيل الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 5 إبريل الماضي، في المستشفى العسكري بالعاصمة تونس بعد صراع مع مرض عضال- أثرًا كبيرًا في نفوس محبيه. فقد كان أولاد أحمد -هكذا يناديه التونسيون- شاعرًا متميزًا بشهادة النقاد، وشخصية معروفة ولها شعبية كبيرة. وأولاد أحمد من الأسماء القليلة في تونس التي أشعّت في عالم الأدب، وتمكنت من تحقيق نوع من الإجماع حولها؛ إذ يقر خصومه قبل أصدقائه بأنه «حالة» استثنائية في المشهد الأدبي وفي الساحة الثقافية عمومًا في تونس. كلماته تنفذ إلى أعماق التونسيين، وروحه خفيفة عليهم حتى ولو كان نقده لاذعًا، وسخريته قاسية أحيانًا. فهو يبقى العاشق لتونس والمسكون بحبها حتى إنه قبل سويعات من رحيله كتب وهو على فراش المرض:

وقلت أكونها وقلتُ

شعرًا

ونثرًا ناقدًا

ومبشرًا

طول الفصول الأربعة

أنثى

وأمي

ليس لي… قبر

في الما -بعد- (في الأخرى)

سوى هذي الحروف الأربعة.

لعلنا نشير إلى أنه نادرًا ما فاز شاعر في تونس، إذا ما استثنينا الشاعر المنصف المزغني في فترة ما في مسيرته بقدر واسع من الشهرة، واستطاع أن ينافس نجوم الفن والرياضة في شهرتهم وشعبيتهم مثلما فعل أولاد أحمد. وقد كان موكب تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الزلاج بالعاصمة دليلًا على ما يتمتع به الراحل من شعبية وعلى مكانته الاعتبارية؛ إذ شيّعته جموع غفيرة كما حضرت الموكب شخصيات سياسية عديدة مثلت جميع الأطياف تقريبًا، وحضر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي موكب الجنازة، وانتقل إلى بيته لتقديم التعازي لأسرته، وواكبت مختلف وسائل الإعلام الوطنية حدث رحيل شاعر تونس –هكذا يلقب- باهتمام واسع.

شاعر تتكسر على بابه الحواجز

ولئن كان أولاد أحمد ينسب إلى اليسار التونسي، فإنه تحول رويدًا رويدًا على امتداد تجربة برزت منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى شخصية تتكسر على بابها الحواجز والتصنيفات والانتماءات. كثيرون في تونس يلتقون عند ذلك الشاعر المتمرد الذي عثر على الوصفة السحرية للوصول إلى قلوب الآلاف من القراء، وكثيرون يجدون فيه المعبّر عن شيء من ذاتهم. وقد ضرب العديد من الوجوه السياسية والثقافية والإعلامية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، والقيادات النقابية والحزبية في الفترة الأخيرة موعدًا عند أولاد أحمد، الذي كان قد أعلن بنفسه عن إصابته بمرض السرطان، عبر صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك منذ نحو سنة. كان الملتقى إما في بيته أو في المستشفى العسكري حيث كان يتلقى العلاج. وأغلبهم كانوا يتباهون بلقائه، ويحرصون على نشر صورهم بصحبة الشاعر في مواقع التواصل الاجتماعي.

وإذا ما أردنا تقديم فكرة واضحة عن خصوصية التجربة الإبداعية للصغير أولاد أحمد، فإننا نقول: إنه وإن لم يتخل عن شعر التفعيلة فإنه اختار أن يكون ذلك الشاعر الغاضب والمتمرد والثائر. كلماته عبارة عن حمم من نار وسخريته سلاح فتاك… كان لصيقًا جدًّا بقضايا التونسيين يعبر عن همومهم وعن أحلامهم وآمالهم، وقد تحدث الأكاديمي والشاعر المعروف المنصف الوهايبي عن أولاد أحمد، قائلًا: «الآن أقول هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى، ولغة لا تتحالف إلا مع نفسها، ولكنّها تأخذ من الأشياء وتتورّط فيها، ولا تميّز بين «الأنا» و«الهو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات، بين الداخل والخارج؛ كما لو أنّ كلّ الأشياء تتلاقى فيه. ربّما هي طريقة في أن نَرى في ذات الآن الذي نُرى فيه. شاعر يلحِم بالكلمات جرحًا لا يندمل، واعيًا أن الشعر تعويض عمّا لا يمكن تعويضه».

قائد الثورة الشعرية

صدرت للشاعر مجموعات شعرية وكتب نثرية، منها ما نشر قبل الثورة، ومنها ما نشر بعد الثورة التي منحته نفسًا جديدة، ودفعت به مجددًا نحو الصدارة حتى إنه ألف كتابًا نثريًّا بعنوان: «القيادة الشعرية للثورة» عام 2013م، جمع فيه نصوصه التي كتبها منذ أواخر سنة 2010م تاريخ اندلاع الشرارة الأولى للثورة بمحافظة سيدي بوزيد بالوسط التونسي. وقد أثار الكتاب الجدل في تونس، فالبعض لم يقبل فكرة أن ينصّب أولاد أحمد نفسه «قائدًا للثورة الشعرية»؛ لأن هناك شبه إجماع في تونس على أن الثورة لم يهيأ لها ثقافيًّا أو فكريًّا، وإنما هي فعل تلقائي شبابي بالأساس. لكن هذا لا ينفي عن الشاعر دوره الطلائعي في التعبير عن هموم التونسيين، وفي شحذ العزائم من أجل الوطن كلما مرّ البلد بمحنة أو خاض معارك مصيرية، فهو صاحب القصيدة الشهيرة «نحب البلاد» التي تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني، والتي قال فيها:

«نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد

صباحًا مساء

وقبل الصباح وبعد المساء

ويوم الأحد».

ينحدر الراحل أولاد أحمد من سيدي بوزيد (ولد سنة 1955م) وقد نشأ في بيئة فقيرة، وظهرت عليه النزعة الثائرة منذ بداية تجربته التي انطلقت في منتصف العشرينيات من عمره، واختار أن يكون شعره ونثره لسان حال الفئات الفقيرة والمهمشة التي تتوق إلى الحرية. عانى أولاد أحمد الفقر، باستثناء سنوات قليلة كان فيها موظفًا بوزارة الثقافة، وكذلك الفترة التي ترأس فيها بيت الشعر (من 1993 إلى 1997م) الذي ناضل من أجل بعثه, فإنه قضى فترة طويلة من حياته عاطلًا عن العمل. مقابل ذلك كان مطلوبًا في الأمسيات الشعرية وفي الملتقيات الثقافية داخل تونس وخارجها، وساهم بكتاباته في الصحافة التونسية.

صدرت أول مجموعة لأولاد أحمد سنة 1984م بعنوان: «نشيد الأيام الستة» وتواصلت المجموعات، من بينها: «ولكنني أحمد» (1989م)، و«ليس لي مشكلة» (1998م)، و«حالات الطريق» (2013م). وكان الشاعر الراحل ينوي نشر مجموعة جديدة من الكتب كان يشتغل عليها بكثافة مدة مرضه، لكن الموت وضع حدًّا لهذه التجربة الإبداعية، كما أن القدر لم يمهله إلى أن يبعث جمعيته «تونس الشاعرة»، وترك المشروع بين يدي مجموعة من صحبه.