في حضرة الغياب الحنين يبتكر أشكال الحضور

في حضرة الغياب الحنين يبتكر أشكال الحضور

سعاد العنزي
ناقدة كويتية

لا أستطيع تخيل المشهد الثقافي في الكويت من دون وجود الأديب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، الذي فجع وفاجأ رحيله الأوساط الثقافية في الكويت والوطن العربي. رحل عن عالمنا تاركًا إرثًا أدبيًّا خالدًا، ونموذجًا إنسانيًّا أصيلًا. كان نادرًا في طيبته، ونادرًا في نقائه، ونادرًا في تواضعه في زمن أصبح فيه الأدباء يرسمون ملامح شخصيتهم المتعالية قبل أن يرسموا شخصيات أعمالهم الافتراضية. لا أعلم في هذا المقام، هل أتحدث عن إنتاجه الخصب والزاخر، أم عن شخصيته الإنسانية؟! في حالة الأديب الراحل لا نستطيع الفصل بينهما، فالمبدع الإنسان، والإنسان المبدع كلاهما ينصهر في بوتقة واحدة، إذ نجد إنسانيته على المستوى الشخصي ذاتها الموضوع الجوهري والأصيل في كل ما يكتب.

لقد كان الأديب الراحل صديقًا مخلصًا لجيله ولمن اعتنقوا المشروع التنويري في الكويت والعالم العربي، في الستينيات والسبيعينيات، وهذا الجانب يتحدث عنه أصدقاؤه ورفقاء دربه أكثر مني. ولكن ما يلفت الانتباه أكثر، هو احتواؤه لأجيال الشباب المتعاقبة، يدعمهم، ويؤكد لهم قدرتهم، ويضيء لهم عتمة في طريق التهميش الطويل في الوطن العربي، احتوى الكُتاب الشباب، قرأ لهم، علَّق على إبداعاتهم، تابع نجاحاتهم وعثراتهم، ابتسم لهم وأنار لهم شعلة الأمل، لذلك نجد فقده اليوم موضوع بكائهم وجوهر حزنهم ومصدر إحساسهم باليتم والفقد. لم يكتفِ بالتشجيع الشفوي لهم بل نجده يكتب عنهم، ويستحضرهم في أعماله وليس هناك أكبر من هذا الدعم والتشجيع في زمن يكون فيه الاعتراف بموهبة أدبية في تغريدة تويترية جميلًا يدفع المبدع الناشئ ثمنه طوال الحياة. من أكثر الأدلة حضورًا استحضاره شخصية الكاتب الكويتي الشاب حمود الشايجي في روايته الأخيرة «صندوق أسود آخر»، كاشفًا مدى ارتباطه بالشباب وقدرته على التحاور والتقاطع مع الأجيال الشابة المبدعة، وهي الرواية ذاتها التي اشترك فيها مع الكاتبة الكويتية الشابة عائشة الدوسري وهي في مقتبل الحياة لتكتب معه نصوص مقدمات لفصول الرواية. نلتمس من هذا الموقف النبيل قدرة على تحطيم الفكرة المركزية للأديب المشهور والمحترف. ما زلنا في الجانب الإنساني من شخصيته، إذ تكثر الأمثلة المدللة على عظمة إسماعيل فهد إسماعيل وإنسانيته في علاقاته مع الجميع، وما زلت أذكر حديث طلبتي في الجامعة عنه وعن تواضعه وزيارتهم إياه، وحواراتهم المشتركة معه، فباب قلبه قبل بيته ومكتبه مشرع للجميع بكل محبة وتواضع نادر ونبيل.

لقد تجلت وطنيته في كتاباته عن الكويت «إحداثيات زمن العزلة»، التي تعد أكبر رواية في التاريخ، كما كان بطلًا من أبطال المقاومة الكويتية وقائدًا شرسًا في دفاعه عن قيم الوطن الأصيلة، من دون أن يتسلق على هذا الفعل النبيل في أحاديثه اللاحقة ليصل إلى مناصب دنيوية، علق على رفضه لها ذات يوم قائلًا: «التمثال إذا مال انكسر».

إسماعيل فهد إسماعيل

كان من أولئك الذين يؤمنون إيمانًا وثيقًا بأن وطنيتهم جزء أصيل من عروبتهم وقوميتهم فكان عربيًّا قوميًّا وكونيًّا في آنٍ من دون تعارض بين أيٍّ مِن هذه الانتماءات. عاش مفارقات الهوية الإنسانية مثل إدوارد سعيد ومحمود درويش وأمين معلوف وهذه المفارقات تعد من ملامح خصوبة هويته الإنسانية، ولد من أم عراقية وأب كويتي، عاش مدة من حياته هناك في مدينة البصرة لينادوه الكويتي، ومن المفارقات أن الكويتيين يسمونه العراقي أيضًا. هذه قد ينظر لها البعض على أنها إشكالية بقدر ما أراها مظهرًا من مظاهر خصوبته وتعدد أبعاد إنسانيته وتنوع المكونات الثقافية التي شكلت خصوبته وفرادته التي تذكرنا بغربة وتشظي كتاب المنافي مع فارق التشبيه. إضافة إلى تنوع انتماءاته، لم يكن غريبًا على المستوى الإنساني عن بقية الأشقاء في الوطن العربي، كان يتفاخر أيضًا في لقاءاته بمصريته، التي تحققت على المستوى الأول من خلال علاقات النسب التي تربطه بالمصريين فهو كما يقول: «عم مصريين وخال مصريين»، كما تحضر مصريته من خلال علاقاته الثقافية وارتباطاته الفكرية مع مثقفيها وقراءته للتيارات الفكرية والاتجاهات الإبداعية فيها التي تعد واحدة من مكوناته الفكرية المهمة ولكنها لا تقف عند هذا الحد بل تتجاوز ذلك إلى معرفة غالب التيارات والاتجاهات الثقافية العربية وفهمها كذلك.

ليس غريبًا أن يلقبوه بـ«نجيب محفوظ الرواية الخليجية» مع أني لا أراه كذلك، بل أراه أديبًا عربيًّا له اتجاهه المتقاطع كثيرًا مع الأدباء العرب في الوطن العربي، فلِمَ هذا التقسيم بين المناطق العربية، فالرجل كتب عن قضايا عربية متنوعة معتنقًا الواقعية الاشتراكية في مرحلة من حياته الإبداعية مثله مثل بقية جيله من المبدعين في الوطن العربي، ولعل نجيب محفوظ واحد من أهمهم. وكان نجيب محفوظ محليًّا في كتاباته ونتفق جميعًا على أن محليته جزء من كونيته، بينما إسماعيل فهد إسماعيل كتب عن جغرافيات متعددة؛ الكويت والعراق ولبنان ومصر وفلسطين. كان كاتبًا متنوعًا ومتجددًا في خطابه الإبداعي، ويسير على خط متوازٍ مع حركة الرواية في الوطن العربي، كتب عن القومية في بداياته حتى آخر كتاباته متقاطعًا مع الهموم المشتركة للأمة العربية.

كما سبر أغوار التاريخ البعيد والقريب في العالم الإسلامي في رواياته يبحث عن البقع الداكنة ومن بينها رواية «الكائن الظل».

لقد تعمق في محليته في أسلوبه المتأخر، فكتب لنا ثلاث روايات مهمة تشكل قلب محليته، لنلاحظ هنا أنه يتدرج من القومية إلى الإيغال في المحلية، كتب في روايته «الظهور الثاني لابن لعبون» يستعيد التاريخ القريب في الكويت وشخصية الشاعر ابن لعبون الذي تعرض لظلم المؤسسة الاجتماعية والدينية، فأعاد قراءة تاريخ هذه الشخصية موثقًا لحقبة مظلمة في الكويت ترفض الشعر وتحارب الجمال من منظور تاريخاني ما بعد حداثي يعيد قراءة التاريخ الرسمي المعمد بكثير من مناطق «المسكوت عنه». لعل كونيته تتجلى في تعبيره عن أشد القضايا محلية من مثل قضايا المقهورين والمقموعين، وبالطبع تعد قضية البدون أبرزها، فهي بقدر محليتها فإنها ترتبط بتفاصيل حياة البدون في العالم، وتلقي بظلالها على معاناة اللاجئين والمشتتين بين المنافي، وهذا جانب مهم يضيء لنا محليته في هذه المرحلة التي هي جزء أصيل من كونيته. من أهم ما طرحه في هذه المرحلة المتأخرة نادرته الفريدة «في حضرة العنقاء والخل الوفي» راصدًا ومسجلًا تفاصيل القضية بأبعادها الإنسانية، وجدلياتها الإشكالية، متعقبًا تاريخ نشأتها من خلال شخصية المنسي ابن أبيه كرمز للبدون على أنه المنسي في المجتمع الكويتي والمهمش والمهمل مخلدًا وجع هذه الفئة بسخرية لاذعة وموجعة في آنٍ.

نعم لقد كان الأديب الراحل مؤسس الرواية في الكويت والخليج العربي، أي «مؤسس للخطاب» مثلما يقول فوكو. لقد أسس ذلك النوع الروائي الذي يقوم على التجريب المستمر للحركات الإبداعية والاتجاهات الفنية، ولغة أدبية يشتبك فيها الشعر والنثر أثرت في أجيال من المبدعين في الكويت. مما يعني أنه كان معلمًا لأجيال من الكتاب في الكويت، يتعلمون منه أصول الفن الروائي مضمونيًّا، وفنيًّا، وهذا يشير إلى حوار الأجيال المتعاقبة فنيًّا وأدبيًّا، كما يشير أيضًا لصورة الأب في الأدب الكويتي، وبالفعل هو كان كذلك كما اتضح في مرثياتهم المتعددة لهم، وهذا يحيل بشكل جدي لتعقب أثره في أعمالهم الإبداعية، سواء في التقنيات الكتابية أو الموضوعات الإنسانية المطروحة.

رحم الله شيخ الرواية الكويتية إسماعيل فهد إسماعيل بقدر عطائه وتجدده ومحبته وتسامحه، وقدرنا الله على تكريمه وتخليد ذكراه بقراءته وفهمه والأهم من هذا الاقتداء بسلوكه الإنساني النبيل.

الأدب الخليجي والنفط

الأدب الخليجي والنفط

أتفق مع محور «الفيصل» حول غياب تمثيل الذهب الأسود عن أدب الخليج، وهو الاكتشاف الذي يعد حجر الأساس في قراءة تاريخ الخليج العربي الحديث؛ إذ غيَّر حياة الخليج المادية بشكل كبير ومفصلي. فالحياة الاقتصادية والاجتماعية والتصورات لقيم ومفاهيم الحياة الجديدة اليوم اختلفت بشكل لافت، وأصبحت الماديات تقود المجتمع نحو التغيير الإيجابي والسلبي من دون أن تُحدِث تصفية وغربلة للأولويات والقيم الثقافية التي استُبدلت بها قيم أخرى بديلة.  اللافت أن ما غُيِّر هو قيم مادية شكَّلت أسلوب الحياة المعاصرة بينما نجد بعض المجتمعات في دول الخليج إلى الآن ما زالت أشد تمسكًا بالعادات والتقاليد التي تعطّل تحقق مفاهيم السعادة الاجتماعية رغم توافر شروط سعادة المجتمع المادية والاستهلاكية.

فيما يخص الأدب الخليجي، لا نستطيع القول: إن الأدب لم يعرض لثيمة النفط؛ لأن هذا يتطلب منا قراءة شاملة لجميع الإنتاج الخليجي بمراحله كافة منذ البدايات حتى الآن، ونحن لا نعرف كل كتاب الخليج وما أُنجِز فعليًّا على مستوى موضوعات متعددة؛ ما يعني أنه قد تكون فاتتنا قراءة نصوص تطرقت بالفعل للنفط كحافز كبير لقراءة ثقافة المجتمع الرأسمالي الخليجي. عند التطرق لمثل هذا الموضوع، ليس بالضرورة أن نجده واضحًا مباشرًا، بل علينا النظر إلى النفط بوصفه المحرك الأساسي بالمشهد الخلفي لحياة المجتمعات الخليجية ونهضتها، ما يعني أن نبحث عن صورة المجتمع الخليجي بعد النفط، وهذا هو المهم، فالنفط لا يعنينا إلا بمدى تأثيره على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الخليج العربي. والآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واضحة في الأعمال الإبداعية ولكن بصورة غير مباشرة. إن من يقرأ الأدب الخليجي ما بعد النفط سوف يتعرف على التغيرات الحادثة بشكل جوهري، التي غيرت بدورها هوية المجتمع بشكل جذري. على كلٍّ، ثمة نصوص سردية من مثل مجموعة «الهاجس والحطام» لسليمان الشطي، تحلل حياة الكويت ما بعد النفط والحنين إلى كويت الماضي، فدخول النفط وسرعة عجلة الاقتصاد أحدثا نهضة عمرانية هائلة، جعلت فكرة التثمين تظهر وتسهم بتقليص دائرة أماكن الماضي الحميمية في الذاكرة الخليجية، ويشهد على اختفاء الحي القديم، وهذا له علاقة كبيرة بتغير أبعاد الهوية الاجتماعية الكويتية.  وهناك الشاعر السعودي عبدالواحد الزهراني الذي تحدث عن صورة الخليجي السلبية في العالم بسبب البترول في قصيدته «البترول»، التي هي بالرغم من مباشرتها تعكس تصورًا واضحًا لهوية الخليجي، فهو يقول:

مركز-الشيخ-جابر-الثقافي-بالكويت

منظور لمركز الشيخ جابر الثقافي بالكويت

«كلها منـك لـولاك انـت مـا عندنـا شـيء اختلـف

كلـهـا مـنـك يالبـتـرول والا فـمـا كـــان انتـقـدنـا

مـا يكـن مجتمعنـا خيمـة وبـيـر بـتـرول وجـمـل

يـدم اجدادنـا المدفـون يـا مرخصـة ينبـاع دمهـم

يـا دام الارض ياواقـي متـى ينتهـي هـذا النزيـف

يا مـن شوهـت سمعتنـا وطمعـت فينـا الطامعينـا

يـا مـن اسقيتنـا سمـا زحاحـا قتـل فينـا الضمـيـر

ان قمنـا قالـوا البتـرول خـذ بيدهـم وتعنـزوا لــه
وان طحنـا قالـوا البتـرول هـدم بـنـا لـيـن طــاح».

أعلم أن المحور يطمح لنوع من النصوص التي تجعل من النفط يظهر في المشهد الخليجي بوضوح، وأن تبرز قيمته الفعلية عند المؤسسات السياسية والتجارية الخليجية والبحث العميق في علاقات الخليج بالدول العربية والعالمية، وهو بالفعل مهم لينقل لنا تصور الآخر لنا وتصورنا للآخر وتصورنا لأنفسنا أيضًا. وهذه قضية جوهرية في العلاقات الدولية. ومنذ مدة كنت أحكم في مسابقة قصصية على مستوى الكلية، فقرأت قصة قصيرة لطالب/ة في جامعة الكويت، كتب عن هذه الصورة النمطية المتكونة عند الآخر الغربي. وجدته نصًّا قصصيًّا لافتًا يتحدث عن صورة الكويتي في المجتمع الطلابي الأميركي على أنه برميل نفط فقط. وهذه الصورة النمطية عن الخليجي عُولِجت في القصة بشكل لافت. يلاحظ عدم وجود رؤية فكرية عند المثقف الخليجي تفتح لها آفاقًا متعددة في طرح العديد من القضايا المهمة والحساسة. كذلك نجد قلة الثقافة والاطلاع الواسعين؛ مما يقلل من فرصة اتساع الأفق عند الأدباء، وعدم طرح القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة، إضافة إلى عدم الرغبة في مواجهة المؤسسات السياسية والأنظمة الرأسمالية المسيطرة في الخليج.