رمزية المدينة في سينما داود عبدالسيد

رمزية المدينة في سينما داود عبدالسيد

في فِلْم «رسايل البحر»، التي تدور أحداثه في الإسكندرية، للمرة الأولى يتكون مفهوم للمدينة بالمعنى الرمزي في أفلام داود عبد السيد، بعد أن كانت مدينة كالقاهرة، التي تجري فيها وقائع معظم أفلامه، خارج دائرة التمثيل، لا تشعر بها بالرغم من وجودها، فالمدينة ذائبة وسط الأحداث؛ لأنه يسعى لتكوين أماكن خاصة منفصلة بداخلها. وربما تكون هذه الأماكن الخاصة في أفلامه الأخرى في تماسّ مع المدينة، ولكنك لا ترى المدينة، بل ترى تأثيرها في هذا المكان الخاص والمعزول. أما في «رسايل البحر» فهو يتعامل مع المدينة ككتلة رمزية، ويتخذها بكاملها مكانًا خاصًّا منفصلًا ومعزولًا جغرافيًّا وفكريًّا. ولكن يتسرب التساؤل في هذه المرة: هذا «المكان الخاص» في مواجهة أي «مكان آخر»؟

* * *

في فِلْم «أرض الأحلام» بالرغم من أن الحركة تتم عبر التنقل من مكان لآخر في ليل المدينة، فالليل وزمن السرد المكثف ضغطا على مساحة المدينة ومفهومها، حولا المدينة لمكان خاص يناسب تجربة البطل. فردية الليل وانفتاحه وإنسانيته وبراحه مقابل جماعية سلطة النهار وما يتخللها من تنفيذ أعمال ومهام عاجلة للإنسان. وكذلك اختياره لحي «مصر الجديدة» كونه، مكانًا خاصًّا، واستثناءً طبقيًّا وذكرياتيًّا داخل مدينة القاهرة.

دائما هناك صراع بين مكان خاص وآخر عام، بين ثقافة هذا المكان الخاص مقابل ضغط ثقافة المكان العام. ببساطة هناك نموذج مختلف لعلاقة الفرد بالمجتمع أخذ في «رسايل البحر» حيز المكان. تحولت مدينة الإسكندرية إلى رمز أو مفهوم ملخص للمكان الخاص، الفردي، الذي تتوحد فيه مطالب الحرية والجنس والحب، وتتحقق فيه الكينونة.

* * *

أصبح لهذا «المكان الخاص» سمات إنسانية. لقد تمدد هذا المكان الخاص خارج أي أطر سياسية أو طبقية كانت تطارد أفلام مخرجي الجيل الذي عاصر هزيمة 67، ودخل في ثقافة إنسانية عامة، ولكنها نموذجية. فالأفكار والهموم الشخصية التي يدعو لها داود في أفلامه أصبح لها، أخيرًا، مكانًا يستوعبها ويتطابق معها، كاليوتوبيا تمامًا، أو هي «جنة» الأرض. تظهر الإسكندرية في هذا الفِلْم بوصفها آخر يوتوبيا سينمائية.

في «رسايل البحر» يبحث المخرج، كما يصرح بطله، عن «مدينة بها رائحة زمان»، كون التغير الاجتماعي في مدينته/ القاهرة هو السبب في مأساة وتلعثم البطل. فالمأساة الشخصية ناتجة عن تحولات عنيفة تدور من حولها، لا تتفق مع الصوت الداخلي للبطل. بانتقال البطل ومغادرته للقاهرة وعودته للإسكندرية وبممارسته الحب، يستعيد نفسه وقدراته، يستعيد صوته الداخلي، «صوت الراوي» ويتكلم من خلاله بوضوح وبدون تلعثم. كأن الصوت الداخلي للوجود في حواره مع نفسه لا يمرض ولا يصاب بأي عارض مرضي، ويصل لقلب وأذن المتفرج مباشرة. وهي العلاقة الجوهرية في فكر داود؛ أن التحولات الحديثة هي أحد أسباب الإعاقة النفسية والجسدية، التي أفسدت العلاقة بين الإنسان وصوته الداخلي. وللأسف، يطارد هذا التحول «يحيى» بطل الفِلْم، في المسكن الذي يملكه في هذه المدينة المستعادة حيث يطارده شبح هدم هذا البيت/ الذاكرة.

* * *

ربما يرى داود القاهرة، ضمن هذا السياق، هي المكان الآخر العام، أو بمعنى آخر: إن التعصب ناتج من مدينة ذات بعد واحد كالقاهرة. بينما الإسكندرية هي «المكان الخاص»؛ للشفاء لأنها مدينة قامت على التعدد. الإسكندرية هنا هي «الهامش» الذي يدافع عنه باستمرار أمام المركز/ القاهرة السلطوي. الرحلة في «رسايل البحر»، تتم باتجاه الماضي، بعكس الرحلات الأخرى لأبطال داود التي كانت متوجهة إلى المستقبل. هناك رحلة عودة لزمن قديم، أو زمن الطفولة المتعدد للمدينة وللبطل، ليتم تجاوز تشوه العالم الحديث وشيخوخته.

* * *

هناك ارتحالات عدة من الزمن الحالي تحدث في هذا الفِلْم، عبر ارتحال البطل من القاهرة للإسكندرية، وارتحال البطل من حاضره لطفولته. أيضًا ارتحال أمه للعالم الآخر، الذي بسببه قرر« يحيى» أن يبدأ رحلته الخاصة لاستعادة حياته. الأنثى تحوط بكل هذه الارتحالات المكانية والزمانية. لأول مرة يستخدم داود زمنا مرجعيًّا سياسيًّا مرتبطًا بمفهوم التعدد والتسامح وهو «إسكندرية الأربعينيات»، بما يحمله من سمات ثقافية وإنسانية وليبرالية. ينتقي زمنًا معينًا ويفضله على أزمنة أخرى. هناك «ماض» يشارك « الحاضر»، في لحظة التحول، التي لم تعد معلقة أو هي فقط «زمن التجربة» التي تحدث في الحاضر. هناك زمن مسؤول عما حدث ويمكن من خلاله قياس مقدار التحول، سواء كان زمنًا عامًّا، أو زمن الطفولة للبطل، الذي يود العودة إليه؛ لذا التحول المنتظر للبطل، أو رغبته في التجاوز، يُواجه بعقبة أن بعض شروطه ليست متوافرة في الحاضر بل في الماضي؛ لذا تجربة التحول تظل معلقة داخل هذا الزمن الماضي، ولا يظهر أي شيء في سلوك البطل يشير إلى أنه تجاوز أزمة حاضره.

* * *

هناك مواصفات نفسية لـ«بطل جديد» يريد التحول والتجاوز ولكن مواضعاته النفسية أكثر تعقيدًا، تنحو ناحية مواصفات المرض النفسي، وإمكانية شفائها صعبة. هو ليس «الشيخ حسني» في «الكيت كات»، وليس «يوسف كمال» في « البحث عن سيد مرزوق»، وإن حمل بعضًا من سماتهما، ولكن أزمته أعمق لأنها ترتبط بالماضي، لأن عاهة الثأثاة هي ابنة هذا الماضي. للمرة الأولى يشرك داود «ماضي أبطاله» داخل الزمن الحالي، كأنه على وشك إكمال عناصر السيرة الذاتية زمنيًّا، أو بمعنى آخر استكمال أدوات الوعي النقدي، بحضور هذا المرجع/ الماضي، للبطل والمدينة معًا، بعد أن كانت سيرة للتحول أو للأفكار العالقة تقع ما بين الحاضر والمستقبل.

* * *

مدينة الإسكندرية هنا، وما تشير إليه من تعدد في التكوين والنشأة، هي التي تقوم بمعالجة العاهات، وليست التجربة الشخصية. فتجربة «يحيى» الشخصية هي استعادة مدينة طفولته، وليس تجاوز الطفولة، كما عند أبطاله الآخرين تجاه مسؤوليتهم عن أنفسهم واستمرارهم في تجاربهم حتى النهاية. بهذا المنطق يمكن رد عاهة «الشيخ حسني»، في «الكيت كات»، كونها ناتجًا أو أحد أخطاء هذا الحي الشعبي البسيط، والمعزول، وبالتالي يمكن علاجها لو توافر لها سياق أكبر خارج هذا المكان.

* * *

في «رسايل البحر» يؤكد داود على «إسكندرية» الزمن الذهبي، زمن التعدد والتسامح. وهي وجهة نظر مثالية، تحاول أن تجسد الأفكار التي يؤمن بها المخرج. الإسكندرية في هذه الحالة هي الجسد المناسب لأفكار المخرج. هناك جزء توثيقي في الفِلْم مرتبط بزمن الإسكندرية الذهبي الكوزموبوليتاني، كأنه وداع متأخر لها. هناك علاقة بين استعراض واجهات البيوت في «أرض الأحلام» وبين واجهات بيوت الإسكندرية في «رسايل البحر». ولكن في الفِلْم الأول تحدث الرؤية من داخل عين البطل، أما في «رسايل البحر» فهي من وجهة نظر المخرج «كأرشيفجي» لتراث المدينة قبل أن يزول.

* * *

ضمن هذا الاعتقاد بالزمن الذهبى للإسكندرية يُبعَثُ زمنها الهيليني وقداسته للجسد الذكوري والأنثوي على السواء -وربما كان يرى المدينة نفسها كجسد أنثوي- هناك هالة حول الجنس، في عالم يحيى الطبقي، حتى العلاقة المثلية تتم داخل إطار مهيب. بالمقابل لا وجود لأي تقديس أو خصوصية للجسد الذي يقع في الطرف الآخر من المدينة عند «بيسه» وأخواتها وصديقاتها المحرومات من التجارب. ربما في هذا الفِلْم لم يركز المخرج على «سحر الهامش» الذي يهتم به دائمًا في أفلامه.

* * *

يؤكد الفِلْم على «مفهوم الإسكندرية كمدينة للمتعة والذكريات»، فالمرأة نموذج شهواني صادق يبحث عن جوهر المتعة المرتبط باكتشاف الذات كما عند «نورا»، خارج أي سلطات اجتماعية تعوق هذا. وربما هو المفهوم الأوربي نفسه للمدينة كما في نموذج «جوستين» في رواية داريل «رباعيات الإسكندرية».

«نورا» هي من تقوم بالتجربة وليس «يحيى»، هي التي يحدث لها تحول جذري في حياتها؛ لأنها تعيش تجربة حقيقية، علاقتها بيحيى خارج إطار الزواج، مع الحضور الرمزي للإسكندرية. بدأت المرأة عند داود تأخذ بُعدًا امتيازيًّا، بعكس الرجل؛ لكونها مكانًا مثاليًّا لممارسة الحرية وتصحيح الأخطاء التاريخية من ظلم وعدم مساواة. هي «الجنة» بالمفهوم المديني.

* * *

هذه «الجنة» المدينية ستظهر مرة أخرى في فِلْمه الأخير «قدرات غير عادية»، الذي تدور أحداثه في مكان قريب للغاية من الإسكندرية، وله سماتها نفسها ورمزيتها من حضور البحر وتوافر الفرص لخوض تجربة روحية عميقة، بجانب التعددية. داخل هذا «البنسيون» الذي يجمع أناسًا/ فنانين مختلفين، ولكنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم والتعايش معًا في سلام، وأمام هذا البحر الواسع الذي يهبهم كل صباح معنى وقيمة ويبارك هذا التعدد والاختلاف فيما بينهم. هذه الاختلافات يمكن أن تجعلنا نرى رمزية البنسيون ليس بوصفه تجسيدًا لمدينة الإسكندرية، ولكن بوصفه «الجنة» التي يعيش فيها المختلفون بسلام ومحبة وتسامح.

تقف مدينة الإسكندرية في هذا الفِلْم في الخلف، فالأهمية ليست لها، ولكن لهذا المكان المعزول والمفصول عنها الذي يقع فيه البنسيون. عندما ينوي أبطال الفِلْم الذهاب إلى الإسكندرية يرددون أنهم ذاهبون للمدينة، أو للإسكندرية؛ لكونهم يعيشون خارج هذا المركز، ولم يعودوا جزءًا منها. عاد المكان الهامشي للظهور، على استحياء؛ لكونه أحد علاقات الجدل المهمة في فكر داود: هذا الصراع بين مركز وهامش.

أيضًا يمكن اعتبار مدينة الإسكندرية، في الفِلْم، خلفية لاستقبال وبحْث واكتشاف هذه «القدرات غير العادية»، باعتبار هذا المكان النائي جزءًا منها وليس مفصولًا عنها. الإسكندرية عند داود مكان بحث واكتشاف، سواء ليحيى الطبيب في «رسايل البحر»، أو ليحيى الباحث في «قدرات غير عادية». كلتا الوظيفتين لها علاقة بالعلم وبالتجريب.

* * *

فِلْم «رسايل البحر»، في رأيي، هو الأقل رمزية بالنسبة لحكايات أبطاله، من مجموع أفلامه بجانب «الصعاليك». بمعنى أن كل شخصية تمثل نفسها ولا تمثل رمزًا أكبر منها، وإن تقاطعت مع هذا الرمز في بعض الصفات. ربما رمزية المدينة في «رسايل البحر»، طغت أو عطَّلت من نمو شخصياته، داخل زمن التحولات الذي تعيشه المدينة، من زمن الكوزموبوليتانية وصولًا لزمن الانفتاح. لم تعد هناك مساحة لظهور أي فكرة/ قضية هامشية، على سبيل المثال: العالم الخاص بـ«قابيل» صديق يحيى «البودي جارد»؛ هش وغير واضح. ربما «قابيل» يمثل «الجزء الوطني» في الفِلْم مقابل الماضي الذي يشكل «الجزء الأجنبي». أو أن حضور الفكرة «الهامشية» دائمًا مقابل الفكرة «المسيطرة» التي يهتم بهما داود دائمًا؛ لا وجود لها هنا، وربما ليس مكانها هنا، بالرغم من أنه يحمل فكرة الدفاع عن ذاكرة المدينة في مواجهة التحولات، ولكنها فكرة عابرة، لم تبث في الفِلْم خاصية الجدل بين أطرافه.

«رسايل البحر» أكثر فِلْم يمسك فيه المخرج بخيط وحيد ولا يتركه لغيره. لا يوجد تركيب مثل الأفلام الأخرى. سرد مبسط ولكنه يفتح مكانًا أعمق، أحادي، شعري. أخذ «القلق الوجودى» الذي يسم أفلامه شكل عاهة محددة أو يتم الترميز له بتلك العاهة مثل تلعثم البطل. ربما الشعرية دخلت الفِلْم من باب هذه الطفولة النفسية.

«سِيَر روائية بلا اعترافات»

«سِيَر روائية بلا اعترافات»

مهما فعل الروائي ليقدم بديلًا عن حياته

فإنه في الحقيقة لا يقص غيرها

مالك حداد

أقوم في هذا المقال بقراءة لثلاث روايات تقوم جميعها على مفهوم «السيرة الذاتية»، لثلاثة من الروائيين العرب: مالك حداد، وغالب هلسا، وفتحي غانم، كتبت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وفيها يعيش الكاتب، أو الروائي، بصفته الشخصية داخل الرواية. أحاول تتبع تصور الروائيين عن ذواتهم وتطورها داخل الروايات، وعن تصورهم لمفهوم الكتابة والصدق الأدبي وكيفية العلاقة مع الحياة، خصوصًا أن الروايات الثلاث كتبت في ظروف استثنائية، تحت ظل سلطة باطشة، حيث عاش كتابها في مواجهات مباشرة سواء مع المستعمر أو مع الدولة الشمولية. مفهوم السيرة هنا يدور حول «أنا» وجودية تسعى للتفرد في وجود قضية/ سلطة عامة تشغلها/ تقاومها. وهناك لحظة تداخل وتعريف بين الأنا المنقسمة بينها وبين الجماعة.

* * *

في الروايات الثلاث تبحث الذات الروائية عن تحررها عبر العلاقة مع النص/ الكتابة، وتضع معها ميثاقًا للصدق الأدبي، ومعيارًا للحقيقة، وجوهرية الإخلاص للحياة، وتوسطها العلاقة بين الكاتب ونصه. تتحول ذات الكاتب إلى نص، وهي جزء من سيرة الكتابة، التماهي بين الكاتب ونصه، كما التماهي بينه وبين حياته. الروايات الثلاث سيرة عن الكتابة بشكل ما، ومآزقها والعلاقة بها، لتصبح الحياة الموازية لحياة القمع والتسلط اللتين تحوطان بالكاتب.

* * *

سير روائية من دون اعترافات، أو أسرار، بل تتخذ أساليب السيرة في تلك المونولوجات والمراجعات والمواجهات الدائمة مع الأفكار، للوصول للمكان الذي تريده السيرة أو الغرض منها، وهو التطهر، أو رغبة الوصول للحقيقة، والبحث عن أصل وجودها واغترابها وهويتها وتأسيس مكان لها قوي، يواجه السلطة الأبوية الممثلة في الدولة الشمولية أو المستعمر. الاعتراف هنا يأخذ شكل البحث في الوجود ككل وليس في تفاصيل ذكريات الحياة.

ليس في رصيف الأزهار من يجيب: مالك حداد

في رواية مالك حداد «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» (ترجمة ذوقان قرقوط- سلسلة آفاق الكتابة (25). الهيئة العامة لقصور الثقافة- 1999م القاهرة) يحكي جزءًا من سيرته الشخصية، التي تتداخل مع سيرة بطل الرواية، الكاتب والروائي والصحافي والمناضل، خالد بن طبال، الذي فر من الجزائر، إلى باريس، خوفًا من الاعتقال، بسبب نشاطه السياسي، بعد مداهمة بيته بواسطة جنود المستعمر الفرنسي. المشهد الأول في الرواية، وخالد في القطار قادمًا من مارسيليا في الطريق لمنفاه الاختياري ليستكمل مقاومته للمستعمر. كان خالد قد أبرق لصديق مقاعد الدراسة في ليسيه قسنطينة عام 1945؛ الأوربي سيمون كويدج، برقية بموعد قدومه إلى باريس، وكان يتوقع منه انتظاره على رصيف محطة القطار، أو «رصيف الأزهار»، ولكنه لم يجده. هناك دلالة لعام 1945م، الذي تزاملا فيه، وهو حدوث مذبحة ضد ثورة الشعب الجزائري، من طرف المستعمر الفرنسي، ومقتل الآلاف من الجزائريين، وسمي بالربيع الدامي.

* * *

مالك حداد

يذهب خالد إلى بيت سيمون الذي أصبح محاميًا، وتفتح له زوجته مونيك، بينما سيمون صديقه يقف. وراءها، ويستقبله بفتور نظرًا للزمن الذي مر على علاقتهما، وأيضًا للتغيرات النفسية والاجتماعية التي لحقت بالصديقين، كل في حياته، وبلده. هذا الثلاثي خالد وسيمون ومونيك، سيشغل زمن الرواية، أو زمن مكوث الكاتب في باريس. ستحبه مونيك وتتعلق به، ولكن هذا الحب لن يقطع العلاقة بينه وبين سيمون، ربما هناك رابطة أكبر، أو تصور رمزي رمى إليه مالك حداد في تفسير هذه العلاقة بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية، وطريقة فهمه لهما، بوجهيهما البارد والدافئ.

* * *

ستتردد جملة «رصيف الأزهار» في الرواية كثيرًا، بأكثر من كونه حيًّا باريسيًّا على نهر السين، سيكون أحيانًا رصيف قطار، أو مجازًا لمكان الانتظار، أو العلاقة بالآخر، الفارغ دومًا. هناك مكان لا يحدث فيه التواصل مع هذا «الآخر». الرصيف هنا مكان وداع، وافتراق، ربما هذا المجاز هو الأقرب لروح الرواية، فداخل المنفى ليس هناك رصيف، إنما ترحال مستمر. فالمنفى اختيار يتعدي مفهوم الوطن، كما أن الكتابة، اللغة، منفى دائم يتعدى مفهوم الوطن.

* * *

يظل خالد على اتصال مع زوجته وريدة وأبنائه الثلاثة مراد وفريد ومالكة من خلال الرسائل، ولكن بعدها ينقطع الاتصال، ويعرف أن وريدة حبيبته وزوجته ذهبت للجبال من أجل المقاومة. المفاجأة أنه في لحظة تقريره العودة للجزائر، بعد سنوات في باريس، لاستكمال رسالته هناك، يقرأ في القطار العائد به، خبرًا صغيرًا في الجريدة الفرنسية، يشير إلى موت زوجته وحبيبها ضابط المظلات الفرنسي برصاص «إرهابيين»، بتعريف الصحيفة الفرنسية. يعرف بخيانة زوجته، فيقفز بين قضبان القطار ويموت. وهنا تنتهي الرواية. وربما يكون الموت على قضيب القطار، له علاقة أيضًا بالرصيف والسفر والمنفى الدائم، أو مكان الوداع/ اللقاء الفارغ دومًا.

* * *

طوال فترة إقامته في باريس حتى عام 1961م، يخبرنا الراوي أن خالدًا يقوم بكتابة رواية عن تفاصيل حياته هناك داخل منفاه المكاني واللغوي لكونه يكتب بالفرنسية. هناك راوٍ/ المؤلف يتحدث عن بطله خالد، الذي يروي رواية هو الآخر، لا يضمنها نصه، ولكنها حاضرة كظل للرواية الأصلية، ويستعرض من خلالها تصوره عن الكتابة ووظيفة الكاتب، والمقاومة والجماهير. «لاذ خالد بوطبال بروايته التي يكتبها ولم يسبق أن خامره نحو مهنته ما يخامره الآن من الشعور بالعرفان، بل الحنان. لا لأنه يفرض الحقائق بحثًا عن هروب لا معنى له، وإذا حدث أن صار العمل نوعًا من الدفاع الذاتي -من دون أن يكون مخدرًا- فإنه مع هذا أضعف ما يكون صلة بالسعادة وأبعد عن الفرح. بيد أن هذا لم يَحُلْ دون اكتشاف خالد لأول مرة في قلمه وفي أوراقه رفاقًا، وإن كانوا مملين، لكنهم أوفياء، وكان على درجة عظيمة من السذاجة؛ إذ كان يكتب «إنني كاتب الشئون العامة». (ص64)

* * *

«الكتابة في رأي خالد، هي الإصغاء والملاحظة، كان يقبس أفكاره كذلك من الشارع والناس، وهو يكتب أنى كان، وينحي على نفسه باللوم فقط؛ لأنه مراقب غريب، إلا أنه طوال هذه اللحظات يخامره شعور بأنه مراقب قريب من الآخرين، وأنه ملكهم وهذا ينبوع رضاه الوحيد في مهنته». (ص29 )

رضا الكاتب عن نفسه جزء من رضا الآخرين، ووعيه يتحدد بأن يشغل هذا المكان الوسطي بين الفرد والجماعة. هنا يظهر مكان أرق وتناقض خالد العميق، واستحالة تحقيقه. الاتصال والانفصال عن الجماعة. خالد كان يقف ضد فكر القطيع، ولكنه في الوقت نفسه هم جزء من علاقته بالكتابة، ومن التزامه الأخلاقي تجاه نفسه وفكره التحرري. يكتب بصدق طوباوي عن عدم جدوى الكتَّاب وعدم تأثيرهم على مجرى التاريخ «الكتَّاب لم يعدلوا أبدًا في معنى التاريخ، الكتَّاب شهود وظاهرات عارضة»، «فالوطن لا يصنع الوطني»، ولكن الوطن يتيح الوطنية للوطنيين» و«حرب المقاومة التي لا ينظر إليها من هذه الزاوية ليست إلا تمرينًا سهلًا في بيان الأسلوب» (ص 31 و 32).

* * *

كان خالد/ مالك يرى تحققًا للكاتب في منفاه وانفصاله عن الآخرين «فالوحدة هي مملكته والصمت حصنه» (ص47). دائمًا يُراوِح في تحديد مكان الكاتب بين القرب والانفصال. هو غريب ولكنه على اتصال. القرب مع الانفصال، والغربة مع الاتصال. هذه المعادلة التي تتحق في تناقضاتها عبر الكتابة/ النص الذي هو الحياة: «ما الحياة في نظري إلا حدث أدبي». حتى العلاقة بالزمن تخضع للانفصال عن الحاضر، والاتصال مع الماضي، يُسمى من طرف مونيك بـ«سيد الماضي» حيث توجد الطفولة ومعها يوجد الوطن، فداخل الماضي يعيش الوطن كما يتمناه.

* * *

يلح مالك حداد في تعريف وظيفة «الكاتب»، ووظيفة الكتابة، ونظرية الكتابة، نظرًا لارتباطه بقضية مصيرية، وبوعي إنساني وأدبي يريد أن يمتزج بهذه القضية، فأحيانًا يتبادل النص واللغة والوطن والوجود الأدوار داخل هذا الوعي القلق. يكتب «الكاتب نتاج التاريخ وليس نتاج الجغرافيا». هذا التعريف الأخير يبرر استخدامه لتقنية القفزات الزمنية، والتداعي في السرد، وهي تقنية لها وجه شعري، وأيضًا تاريخي، تتوجه مباشرة للوعي الجمعي وتاريخ الجماعة والوطن، فالكاتب ابن هذا التاريخ، والقراء هم أهله الفلاحون بوصفهم صانعي هذا التاريخ كما يذكر، ثم يكتب بحسرة «فمن نكتب لهم في المقام الأول لا يقرؤوننا»، وهي جزء من مأساته في حياته، أنه يكتب بالفرنسية عن أناس لا يقرؤونه.

* * *

يكتب مالك/ خالد عن علاقة الكاتب بنصه، كسيرة ذاتية، وعَدّ «الصدق» جزءًا من نظريته عن الكتابة، ليصبح أحد مبدعيها الكبار أو مشرعيها مثل رجل القانون: «ما دام أن المعيار الوحيد لأي إنتاج محترم هو في ضرورة صدقه. ومهما فعل الروائي ليقدم بديلًا عن حياته فإنه في الحقيقة لا يقص غيرها كعالم الفيزياء الذي يتابع نفسه ويطيل تجاربه المخبرية، وهو يشبه قليلًا الفقيه الذي يسهر على القانون وهو يحلم بتحسينه مدفوعًا بالحاجة التي لا غنى عنها لكي يصبح هو نفسه مشرعًا». (ص 65).

* * *

رمزية حب خالد لمونيك ليست خيانة، وإنما نوع من التبادل بين الثقافتين، العابر للحدود والجنسية. هذا المبدأ يبيح التزاوج بين المتناقضين؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة. فارتباطه بمونيك جزء من ارتباطه بنفسه الكاتبة. تضعه مونيك في مواجهة خطرة مع أفكاره. بينه وبين مونيك قرابة رمزية تلغي فكرة الخيانة لصديقه، وتفسر الحب أو تبرره رمزيًّا. ربما الخيانة ضريبة لكي يتم الاتحاد بين الثقافتين، فهو يريد أن يفصل المستعمر عن إرثه الثقافي. فالعلاقة مع مونيك علاقة مع إرث ثقافي أكثر منها مع جسد. وأيضًا العلاقة بين وريدة، زوجته والضابط المظلي الفرنسي يمكن أن تكون خيانة، ويمكن أن ترى أيضًا بشكل رمزي كنوع من التداخل الإنساني بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية، ولا يتم هذا إلا عبر القفز فوق التابو، أو تعديه، ويكون نتيجته الموت كما حدث لخالد ووريدة. الاثنان أضحيتان، كونهما آمنا بالفكرة الإنسانية التي تتجاوز الأسوار/ الحدود. وتظهر هنا فهمه للكتابة، كنوع من تجاوز الأسوار «الكاتب هو من يتخطى الأسوار وينتصب واقفًا في الحديقة» (ص 36).

الخماسين :

في رواية «الخماسين» لغالب هلسا (الأعمال الروائية الكاملة. دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2003م- الأردن) بطل الرواية اسمه غالب ويعمل صحافيًّا في وكالة أنباء ألمانية، ويملك سيارة فارتبورج ألمانية، ويسكن في شقة قريبة من ميدان الدقي، ويعيش في القاهرة منذ نهاية الخمسينيات، وعمره في مثل عمر المؤلف، ويُستَدعى من المباحث في مديرية الأمن، وهو أيضًا ما تم مع غالب هلسا بعد اتهامه في قضية سياسية، سُجن على إثرها في مصر مع مجموعة من السياسيين والشعراء. وخلال الرواية يذكر غالب أسماء لمثقفين وروائيين مصريين يعرفهم، لا يترك أي فرصة للفكاك من واقعية الرواية، ربما يأتي على الأسماء النسائية ولا يعرفها، يذكر اسمها الأول، كأنها اسم علم معروف، وواحدة منهن تظل بلا اسم، ربما هذه السيدة هي مكان الخيال/ ما فوق الواقع بالنسبة له، كل أوصافه لها، بها قداسة ومفارقة، ويدور بينه وبينها حوار حتى في غيابها، فهي تشغل بؤرة لا وعيه.

* * *

يعيش غالب داخل روايته أيام خماسين ثقيلة في صيف القاهرة الحارق في بداية السبعينيات. يطارد العرق واللزوجة والتراب أجساد كل أبطاله وتضعهم في إحساس دائم بالاختناق. ويطارده الخوف من فقده القدرة على الخيال، الذي كان دافعًا له على الكتابة/ الحياة. أحيانًا يروي بضمير الغائب، وأحيانًا بضمير المتكلم، وأحيانًا هناك راوٍ عن راوٍ مثل رواية مالك حداد، فراوي الرواية يستلم الخيط من الراوي الأصلي، ويبدأ في تفسير «أناه» الأخرى؛ لذا يتحول السرد إلى نوع سريري من الاعترافات، ولكن من دون أسرار. فالسيرة هنا تُروى بصوتين، بصوت راوٍ عليم، وبصوت بطلها الذي ينقسم لراوٍ ومرويّ عنه. تتخلل أحداث الرواية مونولوجات داخلية طويلة، تأخذ أحيانًا شكلًا شعريًّا، لا تخرج للعلن، كنوع من مراجعة الراوي لحياته وأزماته وعلاقاته النسائية، أو هي طريقة هذه الذات في الاعتراف.

* * *

غالب هلسا

يتحدث الراوي دومًا عن أمراة مجهولة، يسميها «شاملة»، ولا يريد أن يذكر اسمها. هذا الإخفاء هو أسلوبه في قول الحقيقة. ومن ثَمَّ كل ما يظهر على السطح من أسماء ليست جوهرية، ولكن المخفي منها والغامض هو الحقيقي أو الواقعي؛ لأنه يحمِّل عليه أفكاره. فالسيرة الذاتية هنا تدور حول علاقات أو مشاعر غامضة وليست فقط أحداثًا، فالأحداث قليلة جدًّا، وأغلبها سير في المدينة، أو التنقل بين أفكار عدة ونساء، فالعلاقة بالمرأة والكتابة هما الفكرتان الأساسيتان في هذه الرواية.

* * *

يصف الراوي هذه المرأة الشاملة كأنها هو، فلها طريقته في الانفصال عن التنميط «تلك العزلة والتأمل الطويلين، والابتعاد عن تفاصيل الحياة اليومية في هديرها الكابوسي جعلها تبتعد عن أساليب المرأة التي قتلها التخصص، وعصر تقسيم العمل، امرأة من عصر مضى، وعصر لم يأتِ بعد تحتوي في داخلها الحياة بكلياتها، امراة في سلام كامل مع نفسها ومع العالم. المرأة الشاملة» (ص364).

هذه المرأة الشاملة هي النموذج الذي يحول بينه وبين أي نوع آخر من العلاقات مع الفتيات؛ لذا هذه العلاقة بها صورة من «الأضحية» التي وهب نفسه لها ولمعيارها المقدس: «أخذ ينبح، قال: لا، منذ سنين لا يذكرها منذ أول تعارف لا يدري متى، ثم، وهذا الحب يتلفه، يقف بينه وبين كل فتاة رغب في أن يقيم علاقة معها. وهو، الآن، في هذه اللحظة، يعلن لها هزيمته.. توقف وقال لنفسه: «إنني أهين نفسي بهذا الهذيان، يجب أن أتوقف، يجب أن أتوقف» (الأعمال الكاملة- ص 368). يشعر أمامها بالعجز، ويطلب منها أن ترد له رجولته، أو تتخلى عن قداستها التي تتحلى بها. «أفكر في الرواية لأنني أفكر في المرأة». (ص454)، يعادل المرأة بالكتابة، وهو جذر رومانسي سيجعله يصعد بمفهوم المرأة رمزيًّا لتكون هي الحياة، أو الوجه الآخر لها مع الكتابة.

* * *

ينتمي غالب هلسا لجيل البحث عن المستحيل في الستينيات، سواء كان المستحيل متجسدًا في المرأة أو التحرر أو شكل النص المراد كتابته. تفرش الاستحالة، أو المثالية، وجودها على جيل غالب هلسا، بجانب قهر السلطة الذي صنع نموذجًا مفارقًا للخوف والبارانويا لدى الكتاب والالتجاء للمونولوج الداخلي كحيلة فنية، وسِيرِيَّة.

* * *

كما يناقش مالك حداد مفهوم «الصدق» داخل الكتابة، يناقش غالب هلسا قضية «الخيال في نقاش مع ليزا جارته الأميركية» ومكانه داخل السيرة: «الخيال فعلًا، كنت أقول أنكِ على حق. لا أعرف أين ذهب الخيال، أشياء صغيرة تتجمع، وأنتظر أن ترتبط، أن تصبح وحدة ذات معنى، ولكن ذلك لا يحدث. أقول لنفسي: تريث، دع الأشياء تنضج، دع اللاوعي يقوم بدوره». (ص 371) الخيال جزء من اللاوعي، وهي الذي يقوم بإيجاد الرابط بين هذه الأشياء الصغيرة المتفرقة. من دون الخيال سيحدث الموت وسيفقد الكاتب حياته/ نصه، وهو ما يبحث عنه بطل الرواية، الذي يعاني صراعات حادة ومشاعر عدمية، أن يساوي بين الحياة والنص، بين الرمز والمادة.

* * *

تتكرر جملة «أقول لنفسي» كثيرًا داخل الرواية، كأن السيرة وتفاصيلها ليست موجهة للخارج ولكن موجهة للنفس لتأخذ شكل النص، الذي هو خارجها الحاضر أبدًا خلال الكتابة.

* * *

يقرر الكاتب هربًا من خماسين القاهرة الذهاب للإسكندرية، مدينة الخيال، التي أعادت له الخيال والانبعاث «على الفور أخذ العالم المحيط بي يكتسب طابعه المزدوج: كونه واقعة عينية وكونه رمزًا ومادة للفن، ثم أخذ هذا الطابع المزدوج يتوحد ويندرج في سياق الرواية التي توقف عن كتابتها» (ص455). ويقول في مكان آخر: «إنني أشهد لحظة التحام الرؤى المفككة، والمنفصلة» (ص457). رأى غالب في الإسكندرية المرأة، بالرغم من ابتذال التعبير كما يقول، ولكنْ كل من يمنحه الاتساق بين العالم والرمز، عبر حضور الخيال، سيكون له الطابع الأنثوي.

التساوي بين الكلمة والمادة، أو الرمز والعالم، هذه هي نظريته عن الكتابة، أو مفهومه لـ «الصدق» الذي ينشده، ليحرر كلماته من الجمود والتشييء. يؤرقه أن اللحظة الحاضرة تنفلت وتصبح ماضيًا لا يُستعاد إلا بالكلمات، والصراع إذن، في الكتابة، سيكون بين الحاضر، بغرض تأبيده، وبين الرجوع للماضي حيث الحياة. «هذه الكلمات تموت إلا إذا لامست وترًا داخليًّا أو تجسد حدسًا صادقًا» (ص 456). يشبه غالب خالد بن طبال الملقب بـ«سيد الماضي»، في رواية مالك حداد؛ في شكل العلاقة بالماضي، وأن الكتابة في النهاية صورة عن النفس/ الكاتب.

«حيث يصبح العالم إمكانيات لا تتحقق، وعد مؤجل بالنشوة: تتفجر كل إمكانياته مثيرًا عنف الرغبة في كل ما يقدمه، ولكنه لا يقدم شيئًا إلا كونه موضوعًا للكتابة، فتتحول رغباتي وأشواقي إلى أدوات تحدد صياغتي للعالم. ومن هنا يتولد ذلك الإحساس بالزيف، بأن ما أعبر عنه ليس هو الواقع كما أراه، بل هو إضفاء فاعليتي الخاصة على الأشياء.. إنه ليس الواقع المحايد المبذول للجميع، بل واقعي الخاص جدًّا… عالم خام، ميت أمامي أمنحه صورته أنا، ولهذا فأنا في حقيقة الأمر لا أكتب إلا عن نفسي» (ص 456).

* * *

«هناك الشيء وهناك رؤيتنا له: الشيء والكلمة.. في البدء كانت الكلمة.. الكلمة والشيء ديالكتيك. صراع أوسع من ذلك. صراع بين الحياة والفن» (ص398)، سيظل الصراع بين الكلمة والشيء، بين الرمز والحياة، أيهما سيفرض سطوته على الآخر؟ هذا الانفصام، أو أسبقية الكلمة، يُشعر غالب بالهوة بينه وبين الحياة. داخل هذه الهوة تتولد رغبة الكتابة. ولكنه يريد أن يستعيد قوة الحياة، كون الحياة لا ترى إلا من خلال الرموز، وهو يريد العكس، أن تسبق الحياة الرموز؛ لأنها الأبقى، والمعيار على الصدق. فالكلمات عاجزة عن التعبير سواء عن المادة أو الشعور بزيف العالم. يكتب عن بطله «لقد توقف عن الحياة فجفت ينابيع الخلق في داخله»، توقفه عن الكتابة هو المقياس الذي يرصد به توقف الحياة، والتوقف عن الحياة هو توقف عن الخيال؛ لأن الخيال هو مصدر الخلق، وغياب الخيال سببه الخوف، والخوف هنا، كرجل مسيَّس، له علاقة بالسلطة أو القهر سواء القهر الأبوي المجسد في السلطة، أو الأمومي المجسد في مثالية المرأة التي يشتهيها. تتآزر الروابط ليصل بنا إلى الغرض من هذا القلق الوجودي لغالب، وبحثه الدائم وأسئلته وسرد لسيرته، وهو الوصول لرموز السلطة، أو إدانتها عبر نفسه، قريبًا في المسافة من أن يكون « أضحية».

* * *

هناك صفحات من التداعي الحر وأحلام اليقظة، وهما شكلا الاعتراف لهذه السيرة، يكشف فيها اللاوعي عن الصور المتلاحقة والمتناقضة التي يريد من الخيال أن يربط بينها. مزية هذه التقنية هنا أنها تربط بين أزمنة متنافرة، فالخيال هو القادر على أن يجمع ويربط بين أكثر من زمن، فالخيال هو الجسر بين الكتابة والحياة، بين الرمز والعالم.

حكاية تو: فتحي غانم

تحكي رواية فتحي غانم «حكاية تو» (روايات دار الهلال- العدد 468. ديسمبر 1987م) التي صدرت في منتصف الثمانينيات، عن الشهيد شهدي عطية الشافعي، من دون ذكر اسمه، ولكنه يسرد وقائع تعذيبه وموته في السجن في يونيو 1960م، وهي الواقعة التي تقوم عليها الرواية وتسرد تفاصيلها. يصل الروائي/ الصحافي للواقعة القديمة عن طريق خيوط مرتبطة بها: أولًا لقاؤه بابن الشهيد «تو»، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، الذي تعرف إليه في صالة البريدج في النادي الأرستقراطي بالإسكندرية، ولفتت غرابته عن المكان نظر الكاتب بحاسته الصحافية، فهو ليس من أعضاء النادي، وأيضًا ربط بينه وبين الخيط الثاني في الرواية وهو زهدي، لواء الشرطة المحال للمعاش والبذيء، وأحد أعضاء النادي، للوصول للواقعة الحقيقية. يكشف المؤلف عن العلاقة بين الاثنين، مثل مفتش البوليس، بين الجلاد والضحية. بالفعل يكتشف، عبر اعتراف اللواء زهدي له، بأنه هو من عذَّب والد «تو» حتى الموت، وحكي له الواقعة بتفاصيلها حتى يتطهر من الذنب الذي يثقل صدره. وأول أفعال التطهر، كما أخبره، أنه أتى بالشاب «تو» لكي يعمل بالنادي ليساعده في دراسته.

* * *

فتحي غانم

الراوي صحافي يسعى لكتابة رواية عن هذه الاعترافات التي سمعها من اللواء زهدي. يكتب بالفعل «مسودة» يفرغ فيها كل ما سمعه. طبعًا يدور ماضي الرواية عن لحظة التعذيب التي لا يوجد بها أي دراما سوى تسجيل الحدث كما هو، وهو لب الرواية، أو سيرتها التسجيلية. تتداخل في الرواية سيرتان؛ سيرة الصحافي أثناء كتابة مسودة روايته، وسيرة موت من يكتب عنه. تحدث المطابقة بينهما، يطابق الكاتب سيرته بسيرة الشهيد. هذه المطابقة وسعت من نظرته لحياته، وجعلته يتخلى عن تحفظه وخوفه من المواجهة مع السلطة.

* * *

لا يذكر فتحي غانم أية أسماء ولا أماكن، حتى اسم الشهيد غائب، زيادة في تأكيد حقيقيَّتها، حتى «تو» استخدم الكنية بديلًا عن الاسم الحقيق، كأنه يخفيه حفاظًا عليه.

* * *

يتحدث الراوي عن أهمية الكتابة، فهي التي تساعده على الشفاء من هول ما سمعه والأذى النفسي الذي سببه رواية اللواء زهدي للحظات العذيب. فيشرع في كتابة «مسودة» يضمنها صفحات طويلة من الرواية، وتشكل مسودة لروايته القادمة. هنا تظهر الحياة الأخرى التي تصنعها سيرة الشهيد، فبموته أيقظ حكاية تظل تؤرق الآخرين، وتدفعهم لتسجيلها من هول أحداثها، فالموت بهذه الطريقة يشق طريقه عبر الورق والسيرة ليطفو على سطح الحياة.

ولكن هذا التسجيل يضع الراوي في خطر ما، فإعادة سرد هذه الحكاية، فيه مواجهة مع السلطة التي قامت بالتعذيب، وهنا نصل لقضية «الصدق» في الكتابة، التي تسبق فيها الحياة الكتابة، فكأن هذا الشهيد يقول للراوي «إن الحياة الحقيقية هي في قبول التعرض للسقوط فيها» (ص 39)، فالحكاية التي اطلع عليها تهدده في فهمه لحياته نفسها، وتدفعه لمخاطرة كان ينأى عنها، ويتحداه «أنك لن تحيا حياتك كاملة في مأمن تام من الخطر» (39) الراوي يحدث نفسه بإيعاز من حياة الشهيد، ويتحدث بصوته. يعترف له الشهيد عبر الكاتب، أن هناك لحظة تكتمل فيها كل الحياة فلا يكون هناك معنى للتخلي عنها مقابل نصف حياة أو ربع حياة، ويصبح من الأفضل على من فاز بلحظة الحياة الكاملة أن يموت، ليصون ما حققه من اكتمال» (ص39) وهي اللحظة التي قرر فيها الراوي أن يكتب مسودة لرواية سيرة الشهيد.

* * *

يسأل الراوي نفسه في الرواية «سألت نفسي عن قيمة الكاتب الذي يكتب للناس وهو خائف مما قد يواجهه» (ص97)، ثم يصف حالته قبل كتابته للمسودة كحالة مخاض صعب، ولكن بعد كتابته للمسودة اختلف الأمر «ولكن بعد كتابة المسودة شعرت بالعجز عن كتابة أي عمل أدبي» (ص 97) عاش لحظة الخطر الخاصة به، لحظة اكتمال ما، شعر بحالة قلق وجودي، وجد أنها اللحظة التي لا يجب أن يفوتها، يقول: «نعم، إن الانتظار الفاجع ليس انتظارًا فنيًّا يسبق كتابة الرواية. إنه انتظار لموقف أتخذه من حياتي كلها. وإن كنت لا أدري كيف، ولا ماذا أختار. سحقًا لتلك الأوراق التي كتبتها بمظنة أنه ستساعدني على الشفاء» (ص97). بمعنى آخر «المسودة»: ما هي إلا بداية لعلاقة ستنقلب مع الكتابة نفسها، فالمسودة/ الاعتراف شفته كإنسان، ولكن ما زال هناك تجربة تنتظره ليستحق أن يكون كاتبًا.

بطل رواية الصحراء .. متمرد كوني يرى الكارثة آتية من بعيد ويتنبأ بها

بطل رواية الصحراء .. متمرد كوني يرى الكارثة آتية من بعيد ويتنبأ بها

اكتسبت الصحراء قداسة ما، كمكان التقاء السماء بالأرض؛ بسبب قدمها، والصمت الذي يلفها، والرسالات السماوية التي ولدت بها، وعدم وجود معالم تطور حديثة، سوى حركة الرمال، كأنها مكان أزلي مكتمل بذاته، لم يطرأ عليه تغيير، وهناك قوة عليا غير مرئية تهيمن عليه، يبغي الإنسان الصحراوي أن يتحد بها لتقلل من مخاوفه، لذا تفرض هذه القوى سيطرتها عليه، وعلى لا شعوره، فيتفرد إنسانها بهذا الحس الديني نظرًا لعلاقته الممتدة والعميقة والمتشعبة مع هذه القوى.

في روايات ثلاث (المجوس- فساد الأمكنة- النهايات) التي تأخذ من الصحراء مكانًا لأحداثها، نلحظ هذه الروح الدينية التي تكتنف الأبطال ومصائرهم، فتتحول الصحراء إلى أسطورة محكية قد حدثت بالفعل في الماضي، وما تبقى منها هو الحكاية أو العبرة أو الحكمة التي تحكى للأجيال. يتخلل هذه الروايات نبرة رثاء وشهداء وتفاقم ذنب وأضحيات. لأن الصحراء تظهر دائمًا داخل هذه الروايات في لحظة تحول عبر أزمة أو كارثة طبيعية تمر بها، فالصحراء ليست المدينة، وليست لأفرادها حكايات صغيرة جانبية بداخلها، بل حكايتها هي حكايتهم، وأزمتها هي أزمة أبطالها، وليس العكس، فهم يستمدون وجودهم من وجودها، ولا يمكن لهم أن ينفصلوا أو ينعزلوا عنها مهما كان، لذا الجميع يعيشون هذا الزمن الممتد والأبدي للأزمة/ الكارثة التي تتعرض لها الصحراء، وهم أيضًا الذين يموتون ويستشهدون بسبب هذا الزمن الممتد.

عبد الرحمن المنيف

هذا الزمن الأبدي للصحراء جعلها تعاصر البدايات المقدسة للحياة، ومنحت من يسكنها العلاقة مع هذا الماضي المقدس، ونشَّطت فيهم موهبة التذكر والتكرار للوصول إليه والتماهي معه، وأيضًا نشطت فيهم عادة الحنين إليه. ثم جاء العصر الحديث، عصر الصناعة والآلة، لينتهك هذا الماضي المقدس، باقتحامه لهذا المكان المقدس، وتعريته، والكشف عن مكنوناته، ومحاولة الاستفادة منه باستخراج معادنه وثرواته من باطن الأرض. مع دخول مجتمع الآلة نشأت طرق جديدة للعيش مناقضة تمامًا لطريقة العيش القديمة التي كانت تعتمد على الكفاف والزهد وقلة الموارد، وحسن تدبيرها. لقد وصل هذا العصر الصناعي متأخرًا، وبسببه أمكن الحصول على «الوفرة» أو «ما فوق الحاجة» التي يتكلم عنها ابن خلدون في مقدمته شارحًا صفات أهل الحضر وأحوالهم بالمقارنة بأهل الصحراء. ستعرف الصحراء «الوفرة» و«الثروة» المطمورة في الطبيعة وسط الرمال وصخور الكهوف، بعد أن كانوا لا يعرفون «الوفرة» إلا في العلاقة بالطبيعة بصفتهم جزءًا منها وليسوا مستغلين لها، في هذا العالم الديني المقدس الذي يعيشون في كنفه.

***

اختلفت أزمنة التحول التي تعمل عليها هذه الروايات الثلاث، وبالرغم من أن بعضها لا يحدد زمنًا معينًا، فإن الزمن الحقيقي هو دخول نمط حياة جديد على حياتهم وضد نمطهم القديم. رواية «فساد الأمكنة» تشير للنصف الأول للقرن العشرين وعهد الملكية والاستعمار الإنجليزي لمصر، و«المجوس» لها زمن معزول تعيش فيه إلى أن تأتي قوافل التجارة والذهب إلى هذه الصحراء. وهناك زمن حديث نسبيًّا لتلك القرية الصحراوية لرواية «النهايات»، يؤرخ ببداية دخول الآلة ووصول الغرباء المحملين بسلطة مدينة مجاورة لهذه القرية.

صبري موسي

***

أحيانًا يصل تأويل الماضي، كمرجع، وشكل العلاقة معه، في تلك الروايات (المجوس والنهايات)، ليتلبس بشكل تقديس الماضي بالنسبة للعقل العربي الحديث وهي إحدى مشاكله البنيوية، فتتخذ هذه الروايات من الصحراء، بوصفها مهد الثقافة العربية، خلفية لها، لمناقشة هذه الأزمة. كون نموذج الإنسان الصحراوي، برغم تساميه، إلا أنه أحادي في تكوينه، وليس جدليًّا أو ناقدًا لماضيه، لذا الماضي بالنسبة له ثابت ولم يتطور، ولم تُفعَّل أفكاره وأعماقه الجوهرية ومبادئه. لذا فرمزية الفناء أو النهايات المفجعة، التي تتعرض لها الصحراء في هذه الروايات؛ تشير أيضًا للفناء الذي يتعرض له الفكر العربي المعاصر، وإحساس الخروج من التاريخ الثقافي العالمي.

***

سبب آخر من أسباب هذا التحول العنيف الذي يطرأ على الصحراء، كما ترصده هذه الروايات، ليس فقط هجوم كارثة أو مفاجأة عصر جديد، ولكن في العالم القديم المقدس نفسه، الذي تمثله الصحراء؛ بدأ التحلل والتخلي عن هذا العالم المقدس، وتراكم الذنب. فجاءت الكارثة، أي كان شكلها ( القحط، والريح الشديدة، أو دخول الصناعة والغرباء) كعقاب جماعي، لتمحو هذا الذنب المتراكم. كأن الذات الصحراوية، حدث بها خلل انحرف بها عن هذا الأصل المقدس الذي ولدت به، وجعلها مهيأة لتبنِّي أفكار ضد نفسها، وهو ما يمهد لظهور تناقض عميق في بنية المجتمع يؤدي للتحلل. لذا فالكارثة، توحي ببداية جديدة خالصة من هذا التناقض. في هذه النهاية ترتبط رواية الصحراء، بالروايات الدينية التي تتحدث عن أقوام أخطؤوا في حق أنفسهم وحق الله، فحق عليهم العقاب الجماعي. وأيضًا تتماسّ مع أساطير نهاية العالم التي تحدث عنها مرسيا إلياد «إن هذه الأساطير التي تتحدث عن نهاية العالم وتنطوي في شيء من الوضوح على خلق عالم جديد، إنما تعبِّر عن نفس الفكرة القديمة، المنتشرة انتشارًا واسعًا عن انحطاط تدريجي للكون يستوجب دماره وإعادة خلقه دوريًّا».

***

لا تجد الكارثة أمامها بناء لتهدمه، أو حضارة عمرانية بالمعنى المعرفي، لتدكها؛ لذا تستهدف تلك الحضارة المجازية، حضارة اللاوعي الجمعي الشفاهية، من أفكار وضمير وقيم وعادات وأحلام ورغبة وحكايات وأساطير. لذا التدوين لهذه الحضارة الشفاهية، ككتابة الروايات كما يحدث هنا، من أهم الأعمال التي تقلل تأثير الكارثة.

***

عادة ما يتواقت مع حضور الكارثة، في روايات الصحراء الثلاث، سواء كان القحط في «النهايات» أو ريح القبلي في «المجوس»؛ حضور «عنصر دخيل»، كأن هناك رابطًا يربط بين التحلل وهذا العنصر الدخيل، الذي يمتلك ثقافة مختلفة تمامًا عن ثقافة أهل الصحراء. هنا يحدث الصدام، فهذا العنصر الدخيل عادة ما يتفوق على أهل الصحراء، سواء بماله أو بأدواته الاكتشافية أو بعرباته السريعة أو بمنهجه في التفكير. هذا التفوق سببه أنه جاء من ثقافة مختلفة تقوم على «الوفرة»، الربح والاستثمار والتجريب والاختراع والتجزيء للأفكار؛ لذا يمتلك هذا «الدخيل»، عالمًا مضادًّا تمامًا لعالم الصحراء كُلِّيَّ النشأة والفكرة والوجود، ولا يمتلك نفس اللاوعي الحكائي والتراث الشفاهي، وهو الثروة الأصلية التي تقوم عليها ثقافة الصحراء. هذه الثقافة الدخيلة تعجل بالكارثة؛ لأنها، كما توضح الروايات، قائمة على الاستغلال وليس التبادل، وتنتهك هذا العالم الشفاهي الذي يؤمن به أهل الصحراء.

***

خلال مرحلة التحول، التي تؤرخ لها هذه الروايات التي تتحدث عن الصحراء، يظهر دور الأبطال والشهداء الحائرين، «عساف» في «النهايات»، و«أوداد» و«الدرويش موسى» في «المجوس»، و«نيكولا المأساوي» و«إيليا» ابنته و«إيسا» و«أبشر» في «فساد الأمكنة». الشهداء الحائرون الذين يموتون أو يختفون أو يتعذبون، ويمثلون قيم الصحراء الأصلية، حتى لو جاء أحدهم من خارجها، كنيكولا بطل رواية «فساد الأمكنة»، فالصحراء فكرة كونية وليست فقط مكانًا؛ قبل أن تتحلل، وتتحول إلى مكان مُصنَّع بعد أن كان طبيعيًّا. عاشوا عصرًا قديمًا بكل قيمه وعاداته وتمثلوه جيدًا وصار جزءًا من حياتهم، فالتبسوا داخله بمهمة دينية، أن يحافظوا على هذا المكان القديم وزمنه الأصلي، كأنه جزء من إيمانهم. هؤلاء يمثلون أنقى تمثيل لأصالة الصحراء وضميرها وروحها الحرة الأصيلة، وتعتني هذه الروايات بإبراز هذا النمط من البطولة المقترنة دومًا بالشهادة والموت.

***

هؤلاء الشهداء والضحايا يقفون عند هذا الحد الفاصل بين عصري القداسة وما بعد القداسة، يدافعون عن ضمير عصرهم وعن هذا الشيء الجوهري في الماضي والقابل للاستمرار الذي يجب ألا يُتَخَلَّى عنه، ضمن أي نظام للتطور أيًّا كان. لذا دعوتهم ليست دعوة رجعية للتمسك بالماضي، كما تشي الروايات وأيضًا لأنهم يحملون القيمة الأنقى والصافية والجوهرية من هذا الماضي، وليست قيم الحنين فقط، فعلاقتهم بالماضي علاقة جدلية ونقد، أي أنهم بشكل ما لهم دور «المتمرد الكوني»، الذي يرى الكارثة آتية من بعيد ويتنبأ بها. فالصحراء، ضمن تأويلاتها المتعددة في تلك الروايات، تنوب عن الحياة ككل، وصالحة لكل زمان ومكان؛ لأنها تجاوزت العرضي ودخلت إلى الجوهري، وهي خصيصة علاقة الإنسان بالطبيعة والكون والله، هذا الثلاثي الأصلي الذي لا يجب استبعاد أي طرف منه داخل الصحراء أو الحياة. فعندما جاءت الصناعة والتصنيع ألغت أحد أطراف المعادلة وهي الطبيعة، وأصبحت هي الطبيعة المصنعة، فجاء هؤلاء الأبطال ليحافظوا على هذا المثلث الإنسان والطبيعة والله. ولأن معركتهم خاسرة كما تخبرنا هذه الروايات؛ لذا حضورهم حضور رثائي، حضور الضوء الأخير أو الساموراي الأخير أو الهندي الأحمر الأخير، قبل حلول الظلام.

***

ثبات الصحراء مرجعه العزلة الطويلة والحياة القاسية التي تكتنفها؛ لذا حافظت على نموذج إنساني وفكري في غاية الخصوصية؛ لأنها لأزمان طويلة، لم تتطور من خارجها، بل بتفاعلات ذاتية لمجتمعاتها، ورغبتها في البقاء، التي جعلت الحياة والأبدية مكشوفتين أمام أهلها، بجانب الماضي شديد القدسية، وجعلتهم أيضًا شديدي الحساسية تجاه الارتباط بهذا الكون والطبيعة والدين والحيوان والحرية، والماضي، في وحدة واحدة. كأنهم يمثلون نموذجًا لإنسان أول لا يفصله شيء عن الطبيعة والله، لذا حافظ على نفسه بالعزلة، أو حافظت العزلة عليه، ووقوفه تحت ضوء هذه الحضارة الحديثة يؤذن بانتهائه، وبانتهاء هذا النمط الخاص من الحرية.

***

«الآخر»، ضمن هذا الوعي الشفاهي، في رواية «المجوس»، ليس آخر مختلفًا، أو غير متوقع، بل داخليًّا، إفرازًا ذاتيًّا، آتيًا من صورة القبيلة عن نفسها في اللاشعور: الطرف الآخر من الوجود: أو هو الوجود ذاته: فائض كل الصور المصنوعة عن الذات. ذلك «الآخر المختزن في لا شعور الراوي، الذي يموضعه في مكان الأصول ولحظة التكوين، وليس في مكان التجربة، ليحصل على صراع سريع لم يصنعه تاريخ من اليقظة والغفلة والتجريب والتحولات، ولكن صنعته «مأساة». فهذا الآخر الرمزي يأخذ صورة قبائل «المجوس» المغيرة على الصحراء، التي جاءت بقانون الذهب والتجارة والوفرة، فالمجوس هم الآخر الداخلي/ العدو القريب، الذي يعتبر جزءًا من ذات القبيلة. أيضًا في «النهايات» يكون هذا الآخر الدخيل جزءًا من الذات انفصل عنها وعن أصول هذا المجتمع الصحراوي، بعد أن ذهب للمدينة وتنكر لأصله، وأصبح يخضع لتقاليد أخرى مدينية، وأدوات سلطة وسيطرة، تختلف عن مثيلتها في الصحراء. أما في «فساد الأمكنة» يأتي الآخر الدخيل من الخارج ليخرب الصحراء، الملك وحاشيته وسماسرته والأجانب المحيطون به، ودخول عصر الصناعة والتعدين وعمالها..

إبراهيم الكوني

***

في كتاب ويلفرد ثيسغر «الرمال العربية» يحكي أثناء رحلته في الصحراء العربية في الثلاثينيات من القرن العشرين، أنه في أثناء الرحلة جاءه رجل عجوز، ملابسه متسخة، ولا يوجد في فمه سوى سنة واحدة، لكي يرى هذا «المسيحي»، هذا «الآخر» الذي لا يعرفه. هنا يلمِّح ثيسغر لهذا المغزى من حضور هذا البدوي ليرى بذور المأساة التي ستحل بالصحراء، يكتب: «تساءلت عما إذا كان هذا العجوز يرى الأشياء أكثر وضوحًا مما يرونها، ويشعر بالتهديد الذي يمثله حضوري، في ما يتعلق بتعجيل انحلال مجتمعه وتدمير معتقداته، هنا بشكل خاص يبدو أن الشر المتأتي عن التغييرات المفاجئة ترجح كفته على الخير. فعندما كنت مع العرب تمنيت أن أعيش كما يعيشون، والآن بعد أن تركتهم صرت أتمنى من كل قلبي ألا يغير مجيئي شيئًا في حياتهم، لكن مع الأسف أدركت أن الخرائط التي وضعتها ساعدت آخرين أهدافهم مادية على زيارة وإفساد قوم كانت روحهم يومًا ما تضيء الصحراء كما الشعلة».

***

هناك نوع من الحرية غير المشروطة تتسم بها هذه الروايات التي تدور في الصحراء، ولأنها غير مشروطة فنهايتها مأساوية؛ لأنها مسؤولية فردية وليست جماعية. فالبطل ينوب عن الجماعة. تلك الحرية الموهوبة، المخلوقة، مع الصحراويين. نمط الحياة القديم الذي يوفر أقصى درجة من درجات الحرية بمعناها الديني القدسي، وليس بالمعنى الحديث لها كتحقيق للفردية: التسامي والتماهي مع الطبيعة المتسعة. أشكال من الحرية لم تُنزَع من الجماعة، كما في العالم الاجتماعي الحديث، من وسط قوي/ سلطة أخرى سالبة لها، أو تحاول الاستئثار بها، أو التحكم في المصادر التي توفرها. الحرية في الصحراء مولودة مع الكائن، وملتصقة به التصاقًا شديدًا لا يمكن ملاحظتها ودرجة ذوبانها بالكائن إلا لو اصطدمت بقانون آخر، أو أي مظهر لم يعتده الصحراوي في صحرائه. فالحرية في الصحراء لها سحر وجاذبية العقيدة، وربما هي غير مفصولة عنها. هي هبة أو شيء موروث ومتوارث أكثر منها اختيارًا. لذا إحساس الصحراوي بها يكون دائمًا من خلال رصدها وذوبانها في الطبيعة والتغني بأشيائها، بوصف الإنسان الصحراوي جزءًا من هذه الطبيعة، والتغير الحقيقي الذي يهدده يأتي عادة من التغير في هذه الطبيعة المتقلبة التي ربط نفسه بها وربطت نفسها به. لذا هي حرية غير جدلية، غير متعددة، لا تقاوم التغير.

***

هناك وجه شبهٍ بين هذه الأعمال الروائية الثلاثة، أن الصحراء لها تُراوِح بين مفهومي الأبوة والأمومة. أحيانًا تأخذ الصحراء رمزية الأنثى التي تُفَضُّ بكارتها، بدخول الآلات أو الأغراب إلى أعماقها ومتخيلهم المادي والمجازي، لاستخراج المعادن، أو صيد الغزلان، أو الاستيلاء على الذهب. هذه النظرة الأنثوية للصحراء تتماهى مع فكرة الأمومة التي يؤمن بها المجتمع الصحراوي، ويمنح المرأة السيادة كما في رواية «المجوس»، ولكنها تعود وتأخذ شكلًا ذكوريًّا أبويًّا في كل من روايتي «فساد الأمكنة» و«النهايات»، ففي الروايتين هناك اغتصاب مادي ومجازي يقع على الصحراء النقية.

اعتمدت في هذه القراءة على 3 روايات دارت أحداثها في الصحراء وهي كالآتي:

1- المجوس – إبراهيم الكوني- الطبعة الثانية- دار التنوير للطباعة والنشر وتاسيلي للنشر والإعلام. بيروت – ليبيا- 1992م.

2- فساد الأمكنة – صبري موسى- سلسلة الكتاب الذهبي- مؤسسة روز اليوسف- الطبعة الثانية فبراير 1973م- القاهرة.

3- النهايات – عبدالرحمن منيف – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الرابعة. بغداد 1985م.

4- مظاهر الأسطورة- مرسيا إلياد- ترجمة نهاد خياطة- دار كنعان للنشر– 1991م – دمشق – سوريا.

5- الرمال العربية – ويلفرد ثيسغر- إصدار موتيغ إيت للنشر- ترجمة إبراهيم مرعي- أبوظبي.

بيت في الصحراء..  بحثًا عن نقطة الأصل .. علاء خالد

بيت في الصحراء.. بحثًا عن نقطة الأصل .. علاء خالد

بدأت تتشكل رحلة علاقتي بواحة سيوة عام 1992م، عندما لجأت إليها فارًّا من موت أبي ومن مشكلاتي النفسية التي أورثتني إياها علاقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره، ويضيِّعه داخل ثنايا العادة والتكرار والملل والسأم. المدينة التي تختزل أي مسافة، وتضعك في عراك مع حافة جسمك، ومن دون أي براح إضافي، تنتقل فيه أنت وحياتك ومشكلاتك وموتك الشخصي إلى مكان جديد. كانت صحراء سيوة في مخيلتي هي المكان الذي لا مكان بعده، وسأجد فيه نفسي، كونه يقع في أبعد نقطة من مدينة الإسكندرية، على الحافة من كوني الخاص، والوصول إليه يعني أن أجرّ معي حياتي ولو لعدة أيام باتجاه هذه الحافة. كما كنا نتخيل صغارًا، حافة الكرة الأرضية، التي بعدها يمكن أن ننزلق، أو نبدأ من جديد.

ثم دخلت في كتابي «خطوط الضعف» محاولًا تلمس العلاقة بين الصحراء، أو الواحة، بوصفها ملتقى خطوط الضعف بين عدة كتل صخرية، وسيرتي الذاتية، التي كنت أراها تمثيلًا جيدًا لهذا التعريف؛ ملتقى خطوط الضعف لعدة كتل صخرية تمثل ترسبات السلطة الأبوية في تاريخنا. في تلك الزيارة، والكتاب، ركزت على فكرة «الزوال» التي تحوط هذا المجتمع الصحراوي؛ بسبب التحولات المدينية وطرق التحديث الخاطئة، نتيجة للطريق الأسفلتي الذي ربطها بالمدينة، وأفقدها عزلتها التي حافظت على جوهرها آلاف السنين. وإن هذا التحديث الخاطئ، سوف يقضى على الواحة، وليس الصحراء، أو على الأقل سوف يؤثر في استمرارها، واستمرار أشكال الحياة فيها.

خلال زياراتي التي تكررت، قل شعوري بالزوال، وتعرفنا هناك إلى أصدقاء بعدد شعر رأسنا، تحدثنا أغلب الوقت في الظلام، أكثر من النهارات، فوق رمال الصحراء الساخنة، وسط غرف لا مرئية للحشيش. لم نر بعضنا جيدًا، لكن استمع كل منا لصوت الآخر بقوة، على أجهزة كشف الكذب القلبية، وكوَّن كل منا للآخر ملامح من هذه الذبذبات. كل من نقابله من أهل الواحة يصبح صديقًا لنا، وله حق علينا، ولنا حق عليه، كما تملي أعرافهم. كل من نقابله ولو مرة واحدة يصبح من الواجب عليَّ لو جئت مرة أخرى أن أسأل عنه وربما أشاركه الطعام، وهذا خلق مفارقات كثيرة. نصبح أصدقاء بقوة قانون الحياة والإنبات، وليس بالفعل. هذا الحق المكتسب، لهم ولنا، جاء بقانون سابق علينا فرضته الصحراء، قانون اللاملكية، حتى في الوقت، الذي يخضع للمصادفة والسمر والثرثرة والغناء والنميمة وقليل من أعمال الفلاحة. هناك؛ كلُّ ما تملك ليس لك: لا الوقت ولا المال ولا الضحك ولا الأسرار.

من الصعب أن تجد سرًّا لأحد أهالي الواحة، دقيقًا وربما جارحًا؛ لا يعرفه الجميع، ويتداولونه في جلساتهم بكل أريحية، ولا يعني هذا علاقة بالنميمة أو رغبة في تجريح صاحبهم، ولكن تخطى «السر» حاجزًا ما إنسانيًّا. أصبحت وظيفته أن يعري ولا يكشف فقط. كأن جسد الواحة عارٍ في حكاياتهم به العديد من الجروح التي ستظل تنزف من دون توقف أو اندمال. كل شيء مشاع حتى الأسرار.

المكان الذي لا نعود مُميزين فيه طبقيًّا وجنسيًّا. تشعرك الصحراء بأنك مالِكٌ لها لأنها ليست ملكًا لأحد، وأيضًا تشعرك بأنها تملك كل شيء وأنت لا تملك شيئًا. تتبادل معك كل صيغ الملكية والسلب والوهب. ولأنها بلا حدود تذوِّب تمامًا أي حس قومي أو عنصري. يقول ويلفرد ثيسجر، وهو أحد المتخصصين في الصحراء العربية، وأول من قام برحلة في صحراء الربع الخالي القاسية عام 1945م، ولمدة خمس سنوات، قال عندما عاش وسط البدو هناك: «لم أشعر بالدونية إلا وأنا وسط البدو».

جئتها منذ خمسة وعشرين عامًا بحثًا عن هوية، أو بالأدق نسيانًا لها، وأنْستني واستوعبت غضبي ومنحتني بيتًا ثانيًا من رمال، ألجأ إليه كلما زادت الحياة من وطأتها. ذهبت وعدت منها مرارًا. واشترينا هناك، أنا وسلوى زوجتي، أرضًا وسط الصحراء بالقرب من تلال الرمال، ونوينا بناء بيت سيوي بداخلها، مع حفر عين للمياه، ويحوطهما مساحة خضراء، تخيلناها خليطًا من نباتات وأشجار الصحراء والمدينة والعالم. كان هذا البيت بمنزلة البيت الصحراوي لتصفية النفس من متاعب رحلة الحياة بأكملها. دائمًا ما نحلم بأن نقضي فيه سنوات مختلفة عن سنوات المدينة وضوضائها وأضوائها، والدهون العالقة بعزلاتها. الصمت هناك يبتلع أي ضوضاء داخلية. الغشاء الصحراوي الذي يحجب أي إضاءات زائدة، لكنه في الوقت نفسه لا يحجب أضواء الحياة الأساسية. لم نبنِ هذا البيت حتى الآن، منذ فكرنا فيه عام 2000م. لكن هذا البيت المؤجل أصبح يربطنا أكثر بالمكان. بيت الرمال الذي يوجد فقط في الخيال، ويكبر داخله دون أن ينهار.

أعرف تمامًا أن هذا البيت، لو بنيناه، لن يكون ملكًا لنا وحدنا أنا وسلوى. سيشاركنا فيه كل السيويين من الأصدقاء. نحن طارئون على حياتهم وصحرائهم، وسيقتسمون معنا أي شبر باعوه من صحرائهم؛ لأنهم تحملوا، هم وأجدادهم، صعوبة العيش في الصحراء وعلى حوافها. هذا هو القانون العادل للحياة. يعرفون وربما يضحكون في أكمامهم، عندما يرون كل هذه الأراضي والأملاك والفيلات المبيعة ستعود في النهاية لهم ولأولادهم، أو على الأقل سيقتسمونها مع أصحابها بوصفهم أحد الورثة الأصليين؛ لأنهم الأطول نفَسًا في صراع الحياة والاستمرار، والخاسرون من البداية، الذين تعرضوا لضغوط شديدة طوال حياتهم عوَّدتهم على أن يربضوا ويقرفصوا في انتظار لحظة الانطلاق للقبض على الغنيمة، مهما زاد زمن القرفصة والانتظار.

في زيارتي الأخيرة لسيوة، منذ شهر تقريبًا، بدأت تتكون نظرة جديدة غير تلك التي كونتها عن الواحة. ربما كنتُ أحمل معي في حقيبة السفر في الماضي أسطورة «نهاية العالم»، التي سيطرت على نظرتي تجاه الحياة ونفسي.

لقد خالفتِ الواحة توقعاتنا، ربما تغيرت أشياء كثيرة داخل نطاق الحياة اليومية، ولكن لا يزال هناك فلاحون يقضون النهار كله في الأرض، ويعودون مع مغرب الشمس إلى بيوتهم فوق عربة الكاروصة التي يجرها حمار. ما زال هناك أطفال يلعبون في عتمة الحواري المتربة ولا يحلمون إلا بالذهاب مع آبائهم للحقول والعودة معهم مع المغارب فوق «الكاروصة» التي تهتز باستمرار، وتتحول لمرجيحة لأحلامهم الطفولية. ومجرد عدو بعضهم وراء بعض، وإثارة التراب، وملامسة أقدامهم الحافية؛ أحد مصادر سعادتهم. ولم ينعزلوا بعد في غرف أمام شاشات مضيئة أو ألعاب رقمية.

ما زالت في هذه المدن القديمة عناصر استقرار وبقاء تعادل أو تتفوق أحيانًا على عناصر التحول والتغيير والمسخ. هناك شيء قديم وجوهري في المكان هو الذي يحافظ على ذكريات وآثار الناس، شبيه بالعنصر المشعّ في الانشطار النووي الذي يقضي عمره كله في نشاط، وربما لن يدرك لحظة هموده، ربما الصحراء نفسها هي هذا الشيء القديم والجوهري.

الصحراء فضاء الذي لا يقبل التحول، لتمنُّعه وصعوبة السكن فيه. إنه للإقامة المؤقتة العابرة، مهما طال زمنها. كل من اقترب منها، فهو يقدم على مغامرة تستخدم هذه الأفعال الخاصة: يرتاد، يقتحم، يغزو، يعبر. كون الصحراء كونًا منيعًا مكتفيًا بذاته. ولا يمكن أن تعيش عمرك غازيًا، أو مقتحمًا، أو مرتادًا، أو عابرًا. إما أن تصبح أحد أبنائها، وهو اختيار صعب للغاية، أو ترحل كما يرحل الغزاة والمستعمرون.

عندما سافرت إلى سيوة للمرة الأولى عام 1992م كنت أبحث عن عراء يهزم حزني المديني والمكرر. لم أفقد الحزن هناك لكنه تحول لحزن شفاف ليس له مركز محدد، يمكن أن يذوب ولا يكون به سواك. كل ما كنت أهرب منه: الحزن، الموت، الملل، الزهق، تضخم ذاتي، الفقد؛ وجدته هناك، لكن مصحوبًا بسعادة إضافية بعد أن صُفِّي من شوائب المدينة، بعد أن عاد لأصله الكوني مجردًا وذائبًا في فضاء لا تصنيفات طبقية أو عمرية أو اجتماعية له. من دون ملوثات المدينة وأفكارها المنصبة على الصراع والخناق والتنافر والتزاحم والصعود الطبقي. عاد الحزن هناك مثل الرمح المسنون حادًّا وواضحًا وصريحًا ومؤلمًا أيضًا.

الصحراء لا تَقدُم ولا تَتقادَم، ثابتة في الزمن، لا يظهر عليها العجز، المكان الذي ننسى فيه أعمارنا لأنها أيضًا بلا عمر، كولادة أُولى ونهائية، نقطة الأصل الأرضية التي جئنا منها، تضع بيننا وبين مرور العمر ستارة من الرمال، لتحجبه. العمر داخلها يُحسَب بحركة الكثبان، بنمو الهضاب والسهول، بتآكل الجبال، بلمعان عظام الحيوانات التي نفقت بها كأنها عظام بلاستيكية، بتحول الصخور إلى صخور ملساء يمكن أن تغني، بدوران الريح، بالانتقال من نقطة إلى أخرى داخل هذا الكيان غير المحدود، بصورة البحر المعكوسة بداخلها، بالغرق والتيه وسط بحر الرمال. الكيان الذي يمتد عمره قبل ميلاد الإنسان، لذا هو يسبق في ذاكرتنا نقطة الأصل حيث وُلدنا، إنه الستارة الرملية التي تقف خلف نقطة الأصل مثل شلال من الرمال. الموت بدون جثة أو شاهد، هذا الاتساع اللانهائي هو الشاهد. البصر يسقط من التعب قبل أن ينتهي الأفق، قبل أن تكون النهاية.

يقدم مايكل أشر، الرحَّالة الإنجليزي، وأحد أهم مرتادي الصحراء العربية والإفريقية في القرن العشرين في كتابه «الرحلة المستحيلة» الذي يروي فيه رحلته الطويلة مع زوجته عبر الصحراء بالجمال من موريتانيا مرورًا بمالي والنيجر وتشاد والسودان ومصر؛ يقدم الكتاب بأبيات للشاعر الأميركي ت. س. إليوت: أبدًا لن نكف عن التجوال بحثًا عن أماكن أخرى/ وليكن آخر ما نستكشفه/ هي تلك النقطة التي بدأنا منها/ عندها فقط سنتعرف على هذا المكان/ كأننا نراه لأول مرة.

بالفعل غاية أي رحلة أن نستكشف نقطة الأصل، التي عادة ما نغادرها بعد ولادتنا ونضجنا لنبحث عن أماكن أخرى، وتظل هذه النقطة عالقة بنا وتتحرك معنا في انتظار أن نعود إليها ونكتشفها. لا شك أن الصحراء أحد نقاط الأصل بجانب الموطن، والبيت، والقبر، ورحم الأم.

الصحراء بطبيعتها غير مجاملة لأنها لا تعكس شيئًا، سوى نفسها، ولا تمتلئ بأحد، إلا نفسها. صاحبة العصمة، ولا سابق لصورتك بها؛ لذا تشعر بنفس اندهاشك الأول في كل مرة تزورها، كأنك غريب عنها، ولا رفقة مشتركة بينكما. تزورها كل مرة بروح الغريب. ليست مرآة لأحد، لا تضخِّم ولا تصغِّر، لكنها تشفّ صورتك، تتجاوزها إلى ما يقبع وراء المرآة. لا تعكس سوى الصمت بداخلك الذي يخفي بدوره تلك الذات المتضخمة، ويسحبها كذبيحة داخل هذا الصمت بكل ثقله وإزاحاته الممكنة وقدسيته.

أصبحت سيوة، والمدن المشابهة، خط رجعة لنا، نحن أبناء المدن، لنوع من الحياة التي سنلجأ إليها يومًا ما كما نلجأ للملاجئ الجماعية وقت الحروب. هؤلاء المتمسكون بجمرة هذه الحياة، هم قادتنا في المستقبل. هم الذين سيحملون لنا كشافات الإضاءة وسط ظلام صالات السينما. سيكونون قادتنا من دون ادعاء ومن دون أي رغبة في القيادة، إنها اضطرارات نهايات العالم، أو بمعنى آخر: بداياته.

الإسكندرية  17 مايو 2017م