«الحالة الحرجة للمدعو  ك».. شخصيات في أقسى لحظاتها

«الحالة الحرجة للمدعو ك».. شخصيات في أقسى لحظاتها

يحاول السعوديّ عزيز محمّد في روايته «الحالة الحرجة للمدعو ك» الإبحار عميقًا في أغوار النفس البشريّة، وذلك من خلال عرض حالة بطله الذي يعيش قلقًا متجدّدًا يلازمه في حلّه وترحاله، يعاني اغترابًا في بيته ومحيطه، ويتعاظم لديه شعور الاغتراب في داخله، وتأتي إصابته بالسرطان لتكسبه مناعة ضدّ مآسي واقعه وتخرجه من حالة إلى أخرى أكثر أسى وقهرًا، لكنّها تحمل في طيّاتها بوارق أمل منشودة.

يمضي عزيز محمّد في روايته (التنوير، بيروت 2017م) ناسجًا عوالم روايته مستظلًّا بظلال التشيكيّ فرانز كافكا بأجوائه الكابوسيّة والمأسويّة والكئيبة الموحشة، يتماهى معه في نقمته على واقعه، على ذاته، على كتابته، على أسرته التي لا تتقبّل غرابته وجنونه وتحاول أن تلفظه أو تروّضه ليكون خليقًا بالانتماء إليها، يقدّم مرافعاته وإداناته على طريقة كافكا نفسه في «المحاكمة»، ويعبّر عمّا يستوطنه من أحاسيس النقمة على طريقة «المسخ».

لا يحدّد عزيز محمّد المسرح المكانيّ لأحداث روايته، يبقيه قابلًا للتعميم هنا أو هناك، ويترك الزمان مفتوحًا، يدور في فلك الزمن الراهن، وهو ما يمنحه هامشًا أكبر للحركة والمناورة، وتكون أعماق الإنسان هي الملعب الأثير له، يرتحل إليه في غوصه البعيد لاستجلاء ما يختبئ في عتمته، أو يتوارى بعيدًا من البوح والاعتراف، بحيث يخرجه ويسلّط الأضواء عليه، ويدوّنه ليكون جرح الروح المفتوح على الآخرين، الباعث على المساءلة والاعتبار. الراوي الذي يفتقد صوته الخاصّ، يفتقر إلى خصوصيّة مأمولة، يعيش اضطراباته الداخليّة في وسط يحتفي بالنفاق، ولا يكتفي بإبقاء المرء على حرّيّته ولو في إطار ضيق، يتعدّى على خصوصيّته بذرائع مختلفة تدّعي مساعدته، وتكون تلك الذرائع أقنعة المجتمع في دوائر الأسى ومساعي الهروب إلى الأمام بدلًا من مواجهة الخيبات المتّسعة باطّراد.

يكتب الراوي يوميّاته أسبوعًا بأسبوع، يعود إلى ماضيه ليستلهم من الذاكرة كثيرًا من ذكريات الطفولة التي يبدأ بتحليلها وتفكيكها بمنطق الراشد الناضج الساخط على ما يغرقه في واقعه من سوداويّة لا تزايله في أيّ مرحلة من مراحل حياته، تحفل تلك الكتابات بالبوح الصادم الذي لا يستثني الأب أو الأم أو الأخ والأخت في تحدّي ألم المكاشفة. ينتقل من مرحلة افتقاد صوت وهوية إلى مرحلة فقد متعاظمة، يدخل نفق الاغتراب الذي يفضي به إلى فخاخ المرض، تتراكم المصائب عليه، كأنّما ينطبق عليه قول المتنبّي:

عزيز محمد

«رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى

فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ

فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ

تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ».

أوقات برفقة الكتب

يفضّل الراوي عزلته، يقضي أجمل أوقاته برفقة الكتب، يرحل مع خيالات أصحابها وحكاياتهم وأفكارهم، يفقد تواصله مع واقعه الحقيقيّ، يبني عالمه البديل على أنقاض واقعه المخيّب لآماله، وهو الذي لا يطمع بالكثير منه، لا يتدخّل في شؤون الآخرين، ويحاول أن يحمي استقلاليّته من تعدّي الآخرين المتتالي عليه بحجّة إخراجه من حالته وعزلته، وبزعم مساعدته على التخلّص من كآبته وخيبته ويأسه وتهيئته للدخول في معترك الحياة الاجتماعيّة..

تشكّل الكتب حماية للراوي من الانسياق وراء جنون الاستهلاك ووحشيّة التهافت على المراءاة والانتهازية، يعيش مع أبطال دوستويفسكي ويستعين بها ليكتسب صبرًا ومنعة في مواجهة ما يغرقه به واقعه، كما يستعين بفيكتور هوغو، وتوماس مان، ولا يخفي امتعاضه ونفوره من هاروكي موراكامي، ويبقى مثاله الأبرز كافكا حاضرًا معه، متنقّلًا برفقته من حال إلى حال، ومجدّدًا معه أحلامه وكوابيسه. يعمل الراوي في إحدى الشركات، يشعر بضغط الروتين اليوميّ عليه، يجد نفسه غارقًا في مسارات تقيّد حرّيّته وحركته وتحاول تحجير تفكيره وتنميط شخصيّته، فتراه يسعى لكسر تلك القوقعة بشتّى السبل، وتكون القراءة إحدى السبل المهمة لمواجهته الضغوطات، إضافة إلى انكفائه على ذاته، وتمتين دفاعاته النفسيّة بالكتابة والاعتراف والسخرية حتّى من أقرب مقرّبيه، من دون أن ينتابه تأنيب ضمير على طرح أفكاره الكاشفة لعري الآخرين وممارساتهم وقيودهم التي تكبّلهم وسعادتهم المضلّلة في واقع الخيبة المحيط بهم.

يصف الراوي العلاقة المتوتّرة التي تجمعه بأسرته، وكيف يحتمي بغرفته وعتمته وكتبه ليبقي نفسه متوازنًا، ويبتعد من صدامات متوقّعة دائمًا، ولا يرتكن لإلحاح أمّه بوجوب تغيير حالته، وأن يكون كالآخرين، وهنا يتناقض ما تريده الأمّ لابنها من منطلق الحرص والحبّ، مع ما يريده الابن لنفسه من منطلق البحث عن سعادته الخاصّة المختلفة عمّا يريده الآخرون له. غياب الأب باكرًا يفرض على الراوي أعباءً إضافيّة ومسؤوليّات وواجبات كثيرة، ينهض بها بالتعاون مع أخيه وأمّه، ويراد منه أن يكون عند ظنّ الآخرين به، وذلك بأن يرضيهم، ولا يخفى أنّ ظنون الآخرين وتصوّراتهم للمرء وعنه محكومة بصور نمطيّة، وأفكار مسبقة وأحكام جاهزة، بحيث تعيب عليه أيّة استقلاليّة، أو أيّ خروج عن مسار التقييد المفصّل له، وكأنّه محكوم بالسير في أنفاق الخيبة والظلامية ليرضي غيره، في حين يكون فاقدًا لذاته وهويته وشخصيّته ووجوده بالمعنى الواسع. هناك الجدّ الذي يوصي بقسط من ورثته لحفيده المريض، تتعرّض صورته للتغيّر في عين الراوي بين حالة وأخرى، تارة يكون جبّارًا من دون مشاعر ظاهرة، وتارة أخرى ينهار بالبكاء كطفل جريح يئنّ من الوجع، وتلك الصور مترافقة مع صور أفراد آخرين من الأسرة، كالأخت المنشغلة بما يوصف بالضجيج الاجتماعيّ وأجواء الثراء المأمولة، والأخ الراغب في تحسين وضعه على خلاف الراوي الذي يرتضي عزلته، ويغرق في تفاصيل مرضه وضياعه. يركّز عزيز محمّد على تفاصيل المعالجة من مرض السرطان، يمضي مع راويه في ردهات المشافي وغرف المرضى، ينقل الإيقاع الرتيب المملّ الذي يسم جوانب من تلك الحياة، حيث الناس في أقسى لحظاتهم وأشدّها أسًى، في ساحة مفتوحة مع آخرين لا يولون أيّ اهتمام لحالاتهم، وكأنّهم من عوالم أخرى لا يمتّون إليها بأيّة صلة. هنا يكون فقدان الصلة والتواصل إشارة إلى فقدان بوصلة المرء في حياته ومستقبله حين ينشغل بذاته ويظنّ أنّه مركز الكون، في حين أنّ الآخرين لا حضور لهم في حياته، أو حضورهم عامل مساهم في تعزيز أناه المتضخّمة.

بعيدًا من واقع القهر والخيبة

لا تكون النهاية التي يختارها الكاتب لروايته إلّا بداية لحياة جديدة منشودة، بعيدًا من واقع القهر والنفاق والخيبة والانتهازية والاستغلال، يكون الابتعاد ملاذ الراوي المجهول الذي يتخلّص من الحرج، ويتصالح مع ذاته، ومحيطه، وتكون مصارحته لأمّه وحديثه الدافئ معها جسرًا للتخفّف من صدمات الواقع، يخبرها أنّه سيرحل إلى اليابان؛ لأنّه يأمل أن يعثر هناك على ما يخفّف عنه السرطان، أو يشفيه، أو يساهم في إسعاده بنسبة ما.. تكون الكلمة اليابانية التي تعني «الأسى العذب على زوال الأشياء، أو العطف الناتج عن إدراك حتمية مضيها»، أوّل كلمة يابانية يجيدها، ومدخلًا له إلى عالم آخر، بعد أن روّض جراحه وأحزانه وكوابيسه، وتصالح مع عالمه، ووجد دربه إلى داخله، حيث العزلة والأمان ممّا يحصّنه ويقوّي دفاعاته النفسيّة للتغلّب على أيّة هشاشة محتملة. يلفت عزيز محمّد في روايته (القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي دورة 2018م) إلى أنّ المرض قد يكون أحيانًا بابًا من أبواب التحرّر والخلاص من مآزق الواقع، أو مخرجًا للشخصيّة كي تستدلّ إلى كوى للعبور إلى حالة أخرى، ولا يعدم الأمر مشقّات كبيرة تتربّص به على درب الخلاص والعبور، لكنّ ذلك يقوّي شخصيّته ويعزّز يقينه بذاته وقناعته بقدرته على تخطّي أيّ حرج يصادفه طالما يتعاطى معه بوعي ونضج ومسؤولية، بعيدًا من الغرق في متاهة المسايرة والإرضاء.

«بذلة الغوص والفراشة»   جون دومينيك بوبي.. ذاكرة منكوبة ترتحل في جغرافيات متخيّلة

«بذلة الغوص والفراشة» جون دومينيك بوبي.. ذاكرة منكوبة ترتحل في جغرافيات متخيّلة

يركّز الفرنسي جون دومينيك بوبي في روايته «بذلة الغوص والفراشة» على قوّة الإرادة الكامنة لدى الإنسان، ودورها في تخطّي المآسي التي يجد نفسه غارقًا فيها في رحلة حياته، وضرورة البحث عن سبل للتأقلم مع الوقائع والمستجدّات مهما كانت قاسية أو مضنية، وذلك في مسعى لعقد نوع من المصالح مع الذات والعالم، وتقبّل الأمور كما هي بعيدًا من التندّب والتحسّر والتباكي والرثاء. يستهلّ دومينيك روايته (منشورات مسكيلياني، تونس، ترجمة شوقي برنوصي، 2017م) بتظهيره مشاعره وأحاسيسه بوجع يداهمه، ورأسه مثل السندان، وجسمه كما لو أن بذلة غوص تقيده بالكامل. ينظر إلى غرفته حين يدخلها ضوء النهار، يتمعن في صور أحبائه، وما يحيط به من ملصقات تشير إلى أحداث وتواريخ لها صدى في ذاكرته.

يقول دومينيك الذي كان رئيس تحرير مجلة نسائية في باريس: إنه لم يحتج للتفكير طويلًا ليعرف أين هو، ويتذكّر أنّ حياته قد انقلبت رأسًا على عقب قبل شهور حين تعرّض لحادث سيارة، وقبل ذلك لم يكن قد سمع بجذع الدماغ، وحينها اكتشف ما يصفها بالقطعة المحورية لحاسوب الإنسان الداخليّ، حين وضعتها أزمة قلبية حادة خارج الخدمة. أصيب الكاتب بمتلازمة المنحبس، التي تكون عبارة عن حالة يكون فيها المريض برغم وعيه التام مشلولًا من كل عضلات جسمه ما عدا عضلة العينين. يشعر أنه بمرور الشهور أصبحت بذلة الغوص أقل ضيقًا، ويمكن للروح أن تتسكّع مثل فراشة. يقول: إن هنالك الكثير ليفعله. يمكن أن يطير في الفضاء أو عبر الزمن، أن يرتحل إلى أرض النار أو فناء قصر الملك ميداس. يمكن أن يزور المرأة التي يحب، ينزلق إلى السرير بجانبها ويداعب وجهها وهي نائمة. بإمكانه بناء قصور في إسبانيا، والاستيلاء على الصوف الذهبي، واكتشاف أطلانطس، وتحقيق أحلام الطفل ومنامات الكهل.

يقول: إن عليه أن يؤلف داخل رأسه الصفحات الأولى لرحلته المتخيلة الكتابية الخالية من الحركة؛ كي يكون جاهزًا عندما يأتي مبعوث ناشره ليأخذها عن طريق الإملاء. يذكر أنه يعجن كل جملة عشر مرات، يحذف ويضيف، يحفظ نصه عن ظهر قلب فقرة بعد أخرى. يحكي عن عزلته ووحشته، وصدمته حين تمّ حمله على كرسي نقال، واكتشافه عدم قدرته على الحركة والكلام، وأن لا أحد رسم له صورة تامة لحالته، ومن خلال الأقاويل الملتقطة نحت لنفسه يقينًا بأنه لن يلبث أن يعود سريعًا للحركة والكلام، ويؤكد أن روحه الجامحة هيأت ألف مشروع أدبي وحياتي. يلفت إلى أن صدمته تلك شفته من أوهامه بالتماثل القريب للشفاء. صارت الأمور أكثر وضوحًا. كف عن بناء المشاريع الوهمية، واستطاع أن يحرر الأصدقاء من صمتهم، وكانوا قد بنوا من حوله سدًّا عاطفيًّا منذ وقوع الحادث.

اختراع أبجدية

جون دومينيك بوبي

يخترع بوبي أبجديته الخاصة به، يسرد أنه حين يبقى وحيدًا ويجن الليل، ولا يبقى من أثر للحياة سوى النقطة الصغيرة الحمراء المنبعثة من التلفزيون المغلق، وهي إشارة على سريان الكهرباء فيه، يمتلئ عشقًا لحروف أبجديته. حروف صامتة وصائتة تتراقص لأجله بإيقاعات مميزة. أبجديته الخاصة كانت ليتمكّن من التواصل مع العالم الخارجيّ، يصف الأسلوب بأنه كان بدائيًّا جدًّا، لكنّه كان مجديًا وفعّالًا. إذ تُنثَر الحروف عليه بالترتيب إلى أن يستوقف محدّثه برمشة عين واحدة للكلمة التي يوجب تسجيلها –عينه اليسرى هي العضو الوحيد الذي يمكنه التحكّم به من جسمه– ثم يُكرَّر الأمر نفسه لتحصيل الأحرف التالية. وبعد جهد يتحصلون على كلمة، ثم مقاطع جمل واضحة. كانت النظرية تتمثل في طريقة الاستعمال والدليل التفسيري. يشير إلى الصعوبات التي كانت تكتنف عملية التدوين الشاقّة، إذ كان يرتبك بعض في حين يحسن آخرون الإدراك، ولم يكونوا جميعًا متساوين أمام شيفرته الخاصة، طريقته بترجمة أفكاره. يسوح في جغرافيا متخيلة، يلتقي أشخاصًا كان يعرفهم، يحاورهم في خيالاته، يتنقل من مكان لآخر بروحه المتماهية مع فراشة حرة في حركتها وحريتها، يرى انعكاس صورته في المرايا، يكتئب وينتكب ثمّ يواسي نفسه، يتعامل أحيانًا مع شكله الجديد وحالته البائسة بنوع من السخرية، يقول: إنه شعَرَ بغبطة غريبة مثيرة للتعجّب، لم يكن منفيًّا ومشلولًا وأبكم ونصف أصمّ ومحرومًا من الملذات كافة، ومختصرًا في كيان قنديل بحر فحسب، بل كان علاوة على ذلك كله بشعًا.

يصف ذاكرته بالمنكوبة، يستعيد كثيرًا من المشاهد والتفاصيل والذكريات، يحاول إحياءها بخياله ومواساة نفسه من خلالها، أو إبقاء نفسه على صلة بعالمه الماضي وحياته السابقة، ينطلق في عالم الأحلام التي يبقي نفسه من خلالها على صلة بالآمال التي يعقدها عليها لتسعفه في محنته المريرة. يتماهى مع شخصية الجد نوارتييه في رواية «الكونت دي مونت كريستو» لألكسندر دوما، وكانت تلك الشخصية الحالة الوحيدة التي ظهرت في الأدب تعاني متلازمة المنحبس. ويجد أنه ما إن تخلص وعيه من العتمة الحالكة التي ألقى به الحادث فيها، حتى راح يفكر بالجد نوارتييه، ومن ثمّ بدأ في إعادة قراءة الرواية مرة أخرى في خياله، ليجد نفسه في قلب الكتاب، ويذكر أنه لم يعد قراءة تلك الرواية اعتباطًا، بل كان لديه مشروع، يصفه بمحطم للتماثيل، يتمثل في إعادة كتابة الرواية بطريقة معاصرة.

يعيد رسم صورة مدينة باريس في خياله، كأنّه يعيد اكتشافها من جديد وهو على سرير المرض، يقول إنّه يبتعد ببطء، لكن بثقة، مثل بحّار يتابع من عرض البحر اختفاء الساحل الذي انطلق منه، يحسّ بماضيه يتلاشى، لا تزال حياته القديمة موقدة في داخله، ولكنها بصدد التحول شيئًا فشيئًا إلى رماد للذكرى. ويعترف بأسى أنّه منذ أن استوطن بذلة غوصه، قام برحلتين خاطفتين إلى باريس، ويصف نظرته المختلفة كلّ مرّة وكيف أنّها بدت كما هي، لكنّه هو الذي تغيّر وأصبح خارجها. يشعر بالفراشات تحلّق من حوله، يشعر بأنّ روحه فراشة تتنقّل من زهرة إلى أخرى، يكون الماضي بالنسبة إليه حقل زهور رحب ينهل منه قدر ما يبقيه على قيد الأمل، يتحدّى الصمم الذي يجتاح أذنه، ويقوّي تلك الطاقة البسيطة المتبقّية لديه على السمع، يقول: إنه بعيدًا من الجلبة التي كانت تحيط به أحيانًا في المشفى، وفي الصمت الذي استعاد كان يمكنه الاستماع إلى الفراشات الطائرة عبر رأسه. كان الأمر يتطلب منه كثيرًا من الانتباه والتأمّل؛ لأنّ خفقات أجنحتها تكاد لا تدرك، وأنه كان يكفي تنفّس قويّ ليغطّيها، وأنّه لأمر مذهل أنّه رغم عدم تحسّن سمعه كان يسمعها أفضل وأفضل.

يختم دومينيك روايته؛ التي تحوّلت إلى فلم سينمائيّ من إخراج جوليان شنايبل، بتوصيفه حالته وهو يشرد في تأمّل مناظر متخيّلة مستعادة ويغرق في التفكير، يتساءل: «هل هناك في هذا الفضاء مفاتيح لأفتح بذلة غوصي؟ خطّ مترو دون محطّة وصول؟ عملة قوية بما يكفي لأشتري حرّيتي من جديد؟ يجب أن أبحث في مكان آخر. سأذهب إليه». ويكون ذلك إيذانًا بانتهاء رحلته الحياتيّة وتحرّر روحه من قيود جسده.

«ظلّ الريح» للإسباني كارلوس زافون اقتفاء آثار أبطال متخيّلين دمّرتهم الحروب

«ظلّ الريح» للإسباني كارلوس زافون اقتفاء آثار أبطال متخيّلين دمّرتهم الحروب

%d9%87%d9%8a%d8%ab%d9%85-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86

هيثم حسين

يحاول الإسبانيّ كارلوس زافون (1964م) في روايته «ظلّ الريح» الغوص في التاريخ، واقتفاء أثر شخصياته في تنقلاتها بين أمكنة وأزمنة مختلفة، ليلتقط المتغيّرات الطارئة والمستجدّة، والتراكمات التي أنتجتها خلال رحلة العبور إلى الآخر الذي يكون في الوقت نفسه صورة الذات في تمرئيها وتغيّرها. هل للريح أيّ ظلّ؟ هل للكتب أيّة ظلال؟ هل يمكن اقتفاء ظلال متخيّلة لبعض الأشياء والأفكار العصيّة القبض عليها؟ هل يرمز الظلّ إلى أثر ماضٍ ضائع في متاهة الزمن وكهف الذات؟ إلى أيّ حدّ يمكن تلمّس آثار أحداث مفترضة على المرء في رحلته نحو اكتشاف محيطه وعالمه؟ هل يتحوّل الإنسان إلى ظلّ لنفسه وغيره في أزمنة الحرب؟ هل تغدو الكتب مصدر تعاسة لأصحابها، وباعثة على تبديدهم كظلال في ضوء الوقائع الأليمة؟

هذا بعض من الأسئلة التي يثيرها زافون، روايته (نشرتها دار مسكيلياني في تونس بترجمة معاوية عبدالمجيد 2016م) التي يستهلّها بفصل «مقبرة الكتب المنسيّة»، يعود إلى مدينة برشلونة سنة 1945م، يسلّم السرد لراويه الفتى الصغير دانيال الذي يقتاده والده المكتبي إلى مكان سرّيّ، ويطلب منه عدم إخبار أيّ أحد عنه. يتذكّر دانيال أنّه ما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها حتّى اجتاحت الكوليرا البلاد وسلبت منهم والدته. تغيّرت حياة الفتى الذي نشأ بين الكتب، وبصحبة أصدقاء خياليّين يسكنون صفحات الكتب الذابلة ذات الرائحة الفريدة، بعد زيارته لمقبرة الكتب المنسيّة، وهو الذي كان قد اعتاد على حكاية بعض الأحداث الخيالية لروح والدته الراحلة، ويشعر بالأمان وهو يستحضرها ويشركها معه في خيالاته وأحلامه وأفكاره.

لاحظ الراوي وجود عشرات الأشخاص على منصّات المكتبة ودعائمها، عرف بعضهم، بدوا لمخيلته البريئة كأنهم جماعة سرّية من الخيميائيّين يتآمرون على شيء ما في غفلة من العالم. يخبره والده أنّ ذاك المكان سرّ، وأنّه معبد، حرم خفيّ. كلّ كتاب أو مجلّد تعيش فيه روح ما، روح من ألّفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله، وأنّه في كلّ مرّة يغيّر الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته تستحوذ الروح على قوة إضافية. بعد أن تجوّل الفتى دانيال في تلك المتاهة، واستنشق عبق الصفحات القديمة والسحر والغبار، راح يتنقّل بين الرفوف والأروقة التي كانت تشعره بأنّها تعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. لمع في رأسه أنّ كلّ غلاف يحوي وراءه عالمًا لا نهاية له، عالمًا يحفّز النفس على استكشافه، بينما يهدر الناس في الخارج أوقاتهم في متابعة مباريات كرة القدم والمسلسلات، وينفقون المال على جهلهم أيضًا.

طفولة ضائعة

%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%8a%d8%adلا يدري إن كان الأمر يتعلق بتأمّلاته أو بالصدفة، لكنّه أيقن أنّه وجد الكتاب الذي سيتبنّاه، اقترب منه بحذر وتلمسه، كان عنوانه «ظلّ الريح» لمؤلف اسمه خوليان كاراكاس، ينكب على قراءة القصة التي يتعلق بها ويغوص في تفاصيلها، ويشعر بها تتحوّل إلى ملحمة معقّدة، رجل يبحث عن والده الحقيقي بعد أن أخبرته أمه قبل وفاتها بلحظات عنه، يناضل بطلها بحثًا عن طفولته الضائعة وشبابه المفقود حيث تتجلى شيئًا فشيئًا ظلال حب ملعون تلاحقه حتى آخر يوم من عمره.

يلفت الراوي إلى أنّ بنية الرواية التي يجد نفسه منغمسًا في قراءتها وأحداثها تذكره بالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة. والسرد متشظ إلى ألف حكاية، وكأنّ القصّة تدخل في معرض للمرايا فتنقسم إلى عشرات الانعكاسات، لكنها تظل محافظة على وحدة بنيتها. وهذه البنية التي يتحدّث عنها راويه في وصفه للرواية المتخيلة هي نفسها بنية روايته وطريقة هندسته لمعمارها الفنّيّ. يرى دانيال أن ذاك الكتاب انتشله من أرض إلى أخرى، أنقذه من عالم غريب، وكأنّه حين أنقذه من مقبرة الكتب المنسية بادله الكتاب وفاء بوفاء، وأنقذه بدوره من عجلة الاستهلاك والتسليع، وحرّر خيالاته وأفسح له مجالًا للتحرّك والتفكير بعيدًا من قيود الواقع وظلال الحرب الكابوسية التي تغرق البلاد.

ينتقل زافون من شخصية إلى أخرى، يسلط الأضواء عليها، بحيث يوحي أنّها استلمت زمام الأحداث، في لعبة تناسل شخصيات لا تنتهي إلا بالوصول إلى المآلات التي يختارها في سنة 1966م، حيث الفتى دانيال يغدو رجلًا خبر كثيرًا من التجارب الحياتية، تعرّف إلى أسرار وألغاز كثيرة في أثناء رحلة بحثه عن روائيه المجهول خوليان كاراكاس، ويكتشف أنه صورة عن ماضيه ومستقبله ربّما. «فيرمين، جوستابو، برسلوه..» وغيرهم من الشخصيات التي تؤثّث فضاء الرواية بأفكارها وارتحالاتها، تساهم بتوثيق شهاداتها عن الحكايات والشخصيات الواقعية المستعادة بصيغ شتّى، ربّما تختلف حكايات مزيّفة في مسعى لتزييف الواقع أو الردّ على التزييف نفسه، وتكون أمام امتحان التاريخ واختبار الرواية. هناك كارلا التي تكشف بدورها جزءًا من السرّ، أو تساهم في شرح بعض التفاصيل المحيطة بالحوادث التي ينبش عنها دانيال، وما أن يمضي الراوي في بحثه عن الروائيّ المفترض حتّى يغدو ذاك الروائيّ نفسه بطلًا في حكايته المتخيّلة عنه، تكون حكاية الرواية هي أهمّ ما يبحث عنه، كما يكون البحث المضني عن شخصية الكاتب المجهولة وحياته وأسراره في ظلّ الاهتمام برحلته واكتشافاته.

شبح وخيال وأسطورة

the-shadow-of-the-windيستمتع دانيال باختلاق ماضٍ لخوليان الذي يتحوّل إلى شبح وخيال وأسطورة بالنسبة له، ولا سيما حين تعمقه في السؤال عنه ممّن يفترض أنّهم كانوا على صلة به، وكيف أنّه مرّ بعلاقة حبّ مع «بينيلوب»، وهنا يكون إسقاط تاريخيّ، حيث «بينيلوب» الإغريقية حاضرة في حياة روائيّ غامض، عبر افتراضات وحكايات عنه، انطلقت من مقبرة الكتب التي كانت بمثابة شرارة لفكّ طلاسم التاريخ والواقع معًا.

يتماهى الراوي مع الروائيّ المتخيّل الذي يبحث عنه ويتقصّى أثره ويتحرّى سيرته، يتخيّله حين كان في عمره وما إن كان سعيدًا في تلك الأثناء، ويفكر لوهلة أن الأشباح الوحيدة هي أشباح الغياب والفقدان، وأنّ ذاك الضوء الذي يبتسم له كان مجرّد ضوء عابر. ويتمنّى لو أنّه ظلّ لبعض الثوانيّ لعلّه يستطيع التمسّك به. يستنطق زافون شخصياته ليحكي على ألسنتها تنبّؤات عن المستقبل في النصف الثاني من القرن العشرين، من ذلك مثلًا استشراف بطله فيرمين ما سيغدو عليه التلفزيون من تأثير في المستقبل، وهو يصفه بأنّه المسيح الدجال، وأنه لن يعود بوسع الناس فعل أيّ شيء من دون الاستعانة به، وأنّ الكائن البشريّ سيتقهقر إلى العصر الحجريّ، إلى بربريّة العصور الوسطى، بل إلى مرحلة تخطاها الحلزون في نهاية العصور الجليدية. وتراه يعبر عن سخطه وتبرّمه من الاستهلاكية التي تجتاح العالم، وكيف أنّ التسليع دمّر كثيرًا من التفاصيل الجميلة، يصرّح بأسى أنّ العالم لن يفنى بسبب قنبلة نوويّة كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة. يستمع بطله إلى رأي يقول: إنه في الأشهر الأولى من الحرب اختفى الكثير من الأشخاص دون أن يتركوا أثرًا وراءهم، ويتجنّب الجميع التحدّث عنهم، والقبور الجماعية كثيرة، ويغدو معها من المستحيل العثور على شخص مفقود أو قبر له وسط تلك الفوضى الكارثيّة والمقابر الجماعية المنتشرة.

يتبدّى مسعى زافون في التحريض للبحث عن المفقودين والراحلين، وتوثيق حكاياتهم وحيواتهم، وعدم التعامل معهم كأرقام، وضرورة التأثّر لهم كأرواح راحلة ينبغي إعادة الاعتبار لها، كما يظهر مسعاه في تشييد مقبرة للكتب المنسية لتكون عبارة عن مكتبة حياة الراحلين، يدوّن فيها تفاصيلهم وأخبارهم.

البحث عن الحب عبر الخرافة «معجزة عادية» للروسي يفغيني شفارتس

البحث عن الحب عبر الخرافة «معجزة عادية» للروسي يفغيني شفارتس

يجمع الروسيّ يفغيني شفارتس بين النقائض في عنوان مسرحيته «معجزة عادية»؛ فالمعجزة تحتاج إلى أن تكون خارقة لتوصف بما توصف به، على حين أن وصفها بالعادية ينزع منها جانب الإعجاز، ويصيرها أمرًا عاديًّا، يمكن تكراره، أو يمكن لأيّ أحد القيام به أو إنجازه. يضخُّ شفارتس في مسرحيته (منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ترجمة آنا عكّاش) جذوة الصراع بين الإنجاز والإعجاز في عمله، ويثير كثيرًا من الأسئلة المتعلقة بالعلاقات السائدة بين البشر؛ من حيث الحب والكره، والحقد والحسد، والعداء والتناحر، من خلال الانطلاق من دائرة الحب، واتخاذها بؤرة الحكاية، ومبتدأ ومختتمًا في الوقت نفسه.

يسوِّغ الكاتب في أثناء استهلال (الحكواتي) الذي يُظهِره على المسرح، أسبابَ اختياره عنوان مسرحيته الإشكاليّ، المثير للجدل من حيث الجمع بين نقيضين؛ إذ إنه يصف ظهور شخص أمام الستارة وهو يخاطب المتفرجين بتفّكر وصوت خفيض، فيقول: «يا له من عنوان غريب؛ معجزة عادية، إن كانت معجزة، فمعنى ذلك أنها ليست عادية! وإن كانت عادية، فهي بالتالي ليست معجزة».

البحث-عن-الحب-عبر-الخرافةيشير (الحكواتي) في أثناء استهلاله إلى أن حلَّ ما يصفه باللغز يكمن في أنّ القصة تدور حول الحب؛ يذكر أن هناك شابًّا وفتاة جمعهما الحب، ويصف ذلك بأنّه أمر عاديّ. يتخاصمان، وهذا ليس نادرًا أيضًا. يكادان يموتان بسبب الحبّ. وأخيرًا تسمو قوة مشاعرهما إلى مستوى عالٍ؛ لتبدأ في صنع معجزات حقيقية، وهذا أمر غريب وعاديّ في الوقت نفسه. يلفت الكاتب إلى أنّه يمكن التحدُّث عن الحبّ وغناء الأغاني فيه، أما هو في حكايته فيروي عنه حكاية خرافية، ويذكر أنه في الحكاية الخرافية، يصطف العادي والعجيب معًا بطريقة مريحة، ويفهمان بسهولة. لو نظرنا إلى الحكاية الخرافية على أنّها حكاية خرافية، كما في الطفولة، ألا نبحث فيها عن معنى خفيّ؟ فالحكاية الخرافية لا تروى لِنكتُم، بل لِنبوح، أن نقول بكامل قوتنا وبملء صوتنا ما نفكِّر فيه.

يحدّث (الحكواتي) القُراء والمشاهدين الافتراضيين بأنه من بين شخصيات الحكاية الخرافية، الأكثر قربًا، من سيتعرفون إلى أشخاص يضطرون -في الأغلب- إلى مصادفتهم. من شخصيات المسرحية هناك الوزير الإداريّ، وصاحب الحانة، والساحر، وسيدة البيت، وسيدة البلاط، والأميرة، والدب، وغيرهم من أبطال الحكاية الخرافية الأكثر شبهًا بالمعجزة، يقول: إن أولئك محرومون من الملامح الحياتية التي تميز الزمن الحالي.

يتساءل شفارتس على لسان راويه العليم: كيف يستطيع أشخاص مختلفون مثل هؤلاء أن يتعايشوا في الحكاية نفسها؟ يجيب: إنه ببساطة شديدة، كما في الحياة، ويسترسل (الحكواتي) بقوله: إن الحكاية تبدأ من نقطة بعيدة، أحد السحرة يتزوَّج، ويستقرّ، ويقرّر الانصراف إلى الاهتمام بالأشغال المنزلية، لكن مهما أطعمت الساحر يظل منجذبًا دائمًا إلى المعجزات، والتحولات والمغامرات العجيبة. وها هو قد تورَّط في قصة حب الشابين اللذين يتحدث عنهما، وتداخل كل شيء، وأخيرًا انحلَّ بطريقة مفاجئة لدرجة أنّ الساحر نفسه، المعتاد على المعجزات، وقف معقود اليدين من شدّة التعجب.

يستغرق الساحر في قوله: «إنه ربما لعدة ثوانٍ، ويمكن أن يحدث ذلك لأيّ أحد في ظروف مماثلة. وبعدها ماذا؟ انظر: هذا إنسان، إنسان يسير في الطريق مع عروسه، ويتكلم معها في هدوء». لقد أعاد الحب صهره لدرجة أنه لن يعود دبًّا أبدًا. يا لها من روعة! يجد في نفسه قوة كبرى، يقول لزوجته: اسمحي لي، سأبدأ بخلق المعجزات في الحال؛ كي لا أنفجر من شدة القوة».في الفصل الأول، يصمّم الكاتب هندسة داخلية لافتة؛ غرفة كبيرة، تلمع نظافةً. على الموقد إبريق قهوة معدنيّ يلمع لدرجة تغشي الأبصار. شخص ملتحٍ، فارع الطول، عريض الكتفين، يكنس الغرفة، ويكلم نفسه بصوت عالٍ جدًّا، إنه سيد البيت الذي يدور نقاش عن الحبّ بينه وبين زوجته التي تخبره أنه حين يتحدث عن الحب أو يباشر توصيفه وتعريفه، فإنه كمَنْ يدقّ المسامير بالصواعق. وأن العاصفة، والزلزال والصواعق كلها أمور بسيطة، أمام الاضطرار إلى التعامل مع بشر متوحشين.

تذكر سيدة البلاط بنوع من المناجاة أن الحيوان لا يريد أن يفهم أن الهدف الأسمى من رحلتهم هو المشاعر الرقيقة، مشاعر الأميرة، مشاعر الملك. وتقول: «انتُقينا لنكون ضمن الحاشية المرافقة؛ لأننا نساء رقيقات، حساسات، لطيفات. أنا مستعدة لأنْ أعاني. لا أنام الليالي؛ حتى إنني مستعدة للموت؛ كي أساعد الأميرة. لكن ما الداعي إلى تحمل شيء زائد لا يلزم أحدًا، عذابات مهينة بسبب جملٍ فقد حياءه؟».

ينوّه الوزير الإداري بأن العالَم كله مركب؛ إذ لا داعي إلى الشعور بالخجل من أي شيء. يقول: «إنه شاهَدَ فراشة تطير. رأسها صغير، أحمق. تُحرِّك أجنحتها بطريقة حمقاء. ويقول: إن المنظر مؤثِّر لدرجة أنه سُرق من الملك مئتا قطعة ذهبية. يحاول أن يسوِّغ الأمر لنفسه بقوله: ما الداعي إلى الخجل إن كان العالَمُ كله ليس مخلوقًا على ذوقي؛ شجرة البتولا بليدة، شجرة الدلب حمارة. النهر غبيّ. الغيوم بلهاء. الناس نصابون، حتى الأطفالُ الرضع يحلمون بشيء واحد فقط، الأكل والنوم».

يختار الكاتب تاليًا توقيت مساء متأخر في حانة صغيرة، حيث يبدأ صاحب الحانة في عرض أفكاره، يتحدّث عن هواجسه وأحلامه بحبيبة افتراضية، يصف زبائنه؛ يقول: إنه لا أحد يعلم إلى أين، ولا من أين، وكلهم سيقرعون الجرس، يدقّون الباب، يدخلون ليستريحوا، ليتكلموا، ليضحكوا، ليشتكوا. وكل مرة يأمل كالأحمق أنها بمعجزة ما ستدخل إلى هناك حين يصدر أمر بالبحث عن الحب، يتمرّد الوزير ويتجرَّأ بالقول: أيها الناس، أيها الناس، عودوا إلى رشدكم. ماذا تفعلون؟ لقد تركنا أشغالنا، نسينا مراتبنا، انطلقنا إلى الجبال عبر جسور ملعونة، وطرق جبلية ضيقة. ويتساءل: ما الذي أوصلنا إلى هذا؟ لتجيب سيدة البلاط بأنه الحب. فيعقب الوزير بأنه لا يوجد أيّ حب في العالم؛ ليؤكد صاحب الحانة أنه يوجد. وأنه شخصيًّا يأخذ على عاتقه إثبات أن الحب موجود في العالم.

يحاوره الوزير ويخبره أن الحب غير موجود، وأنه لا يثق بالناس، وأنه يعرفهم جيدًا، وأنه نفسه لم يقع في الحب مرة واحدة؛ لذلك ليس هناك حبّ، ومن ثَمَّ يرسلونه إلى موت حتمي بسبب تُرَّهَة، خرافة، مكان فارغ. فيجيبه صاحب الحانة: ماذا لو حدثت معجزة؟

يتدخّل سيّد البيت ويؤكِّد أن المعجزات تخضع لذات القوانين التي تخضع لها جميع الظواهر الطبيعية الأخرى. وأنه لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تساعد الطفلين المسكينين، ويؤكّد وجوب الإقرار بالواقع، وأنّه لا بدّ من قَبول الحياة كما هي عليه. يذكر أن الأمطار هي الأمطار، لكن المعجزات تحدث التحوّلات الغريبة والأحلام السلوانية. يخاطب قُرَّاءه ومشاهديه الافتراضيين: «ناموا، ناموا يا أصدقائي. ناموا. لينم الجميع، بينما يودع العُشَّاق بعضهم بعضًا».

يظهر مسعى شفارتس في مسرحيته في إبراز قوة الحب الخارقة التي تعيد إلى الإنسانِ إنسانيَّتَه، وتوقف تحوُّله إلى وحش ضارٍ يفتك بالبشر الآخرين الذين يشاركونه الحياة، لا أن يسعى لقتالهم والقضاء عليهم. ويبرز كيف أن الحبّ وَحْدَه يمكن أن ينقذ الإنسان والإنسانية معًا من العتمة والهلاك والفساد والجنون، ولو كان السبيل إليه عبر خرافة.