هل يكون عقيل أبو الشعر صاحب أول رواية عربية؟ بطاقات بريدية وصور تقود إلى اكتشاف ثلاث روايات لكاتب أردني مهاجر

هل يكون عقيل أبو الشعر صاحب أول رواية عربية؟

بطاقات بريدية وصور تقود إلى اكتشاف ثلاث روايات لكاتب أردني مهاجر

لم تكن رحلة البحث عن الأعمال الأدبية لـ«عقيل أبو الشعر» والعثور عليها، أقلّ إثارة من الحياة التي عاشها هذا الكاتب الذي هاجر من الأردن في مطلع شبابه قبل أكثر من قرنٍ من الزمان، وأمضى ما تبقّى من حياته في بلاد المهجر حتى وفاته التي لا يُعرَف تاريخها أو مكانها، بعد أن انقطعت أخباره تمامًا عن أهله في عام 1935م. هذه الرحلة المضْنية لم تكن لتتمّ لولا ادّعاء بعض الباحثين أن «عقيل» شخصية وهمية وغير موجودة في الواقع، وأن الإشارات الطفيفة عنه هنا وهناك في غياب أيٍّ من إصداراته لا تكفي للاعتراف بوجوده. فقد كان هذا النفي هو الدافع الرئيس لتنبري الدكتورة هند أبو الشعر (قريبة عقيل) لهذه المهمة، متسلّحة بكونها باحثة ومؤرخة وأكاديمية وكاتبة. وكانت النتيجة في النهاية العثور على ثلاثة من أعمال عقيل تُرجمت مؤخرًا بالتعاون مع مترجمَين تحمَّسَا للمشروع، ضمن مبادرة دعمتها وزارة الثقافة الأردنية.

وقبل الشروع في البحث عن أعمال عقيل، كان لا بد من نقض التشكيك بوجوده بأدلّة دامغة، وهذا ما تكفّلت به بطاقات بريدية أنيقة وُجدت ضمن مقتنيات العائلة أرسلها عقيل في أزمان متباعدة من فرنسا والدومينيكان، بعضُها يحمل صورته وبعضُها مُهِرَ بتوقيعه. إذن؛ كان هناك عقيل حقًّا! وهذه الشخصية ليست أسطورية أو من نسج الخيال كما كان يُشاع!

وقد أضافت الدكتورة هند إلى هذه البطاقات، ما كانت تسمعه قبل زمن طويل من أقاربها، عن مبدعٍ كان بينهم قبل أن يغادر وتنقطع أخباره. وقد أخذت الباحثةُ التي عُرف عنها جدّها واجتهادها، هذه الرواياتِ العائلية على محمل الجدّ بعد أن محّصتها ووضعتها على محكّ الاختبار التاريخي، مستعينةً بها لتتبُّع أثر «عقيل» الذي وَجدتْ ذكرًا له في كتابٍ صدر في القدس سنة 1941م للكاتب يعقوب العودات الملقّب بـ«البدوي الملثّم». فقد وثّق هذا الكتاب الذي يحمل عنوان «القافلة المنسيّة» سطورًا من حياة عقيل وعرّف ببعض أعماله التي ظلّ معظمها مجهولًا أو لم يُعثَر عليه بعد، بالنظر إلى تنقُّل عقيل بين عدد من الدول، وكتابته بلغات عدة؛ إذ تكشف سيرته أنه أجاد ستّ لغاتٍ وكتبَ بها، هي: الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والإيطالية، واللاتينية، والعثمانية، إضافة إلى كتاباته بلغته الأمّ؛ العربية.

ورجّحت الدكتورة هند أن ولادة عقيل كانت في عام 1890م تقريبًا في بلدة الحصن شمال الأردن، وذلك بناءً على مجموعة من المؤشرات والخيوط والروايات، بعد أن فشلتْ مساعيها في الحصول على سجلات النفوس من الأرشيف العثماني بأسطنبول لحسْم المسألة. وبالقرائن وربْط خيوط الروايات العائلية ومعاينة الوقائع المتناثرة ومطالعة سجلّات رسمية وخاصة، اقترحت الباحثة أن «عقيل» درسَ في مدرسة اللاتين ببلدة الحصن شمال الأردن، وأنه التحق بعد عام 1900م بإحدى مدارس القدس لتلقّي التعليم هناك؛ إذ رُوي أنه كان يزور أهله على فترات، وأنه كان يعزف على آلة الكمان. ومن المعروف أن تعليم الموسيقا كان رائجًا في المدارس آنذاك، خصوصًا مدارس الطوائف، لأغراض دينية. أما المرحلة الضائعة أو التي يلفّها الضباب في حياة عقيل، فهي وقت مغادرته القدسَ إلى إيطاليا مبعوثًا من دير الفرنسيسكان لدراسة اللاهوت والفلسفة والموسيقا. وإذا كان لم يُعرَف على وجه التحديد اسم الجامعة التي تخرّج فيها، فإن العثور على صورة لهذا المبدع وهو يرتدي «الببيون» والقبعة ومكتوبٌ عليها في الخلف بقلم الرصاص اسم أستوديو بميلانو، كان كافيًا لترجيح أنه واصلَ دراسته في إيطاليا، وتحديدًا في الكلية التي يدْرس فيها كهنة روما (كلية دي لاتان دي روما) التي وردت إشارات عنها أكثر من مرة في رواية عقيل التي تحمل عنوان «الانتقام»، والصادرة بالفرنسية عام 1935م.

الزواج من كونتيسة فرنسية

وقد عثرت الدكتورة هند على مفكرة لجدّها «سليم النمري» (شقيق عقيل) تعود إلى عام 1913م، سجّل فيها ملحوظات لم يذكر تاريخها، منها أنه خلال إقامته في «لوكاندة (نُزل) الشرق» في القدس، وجد شقيقَه «عقيل» قد وصل القدس ونزل فيها، وقد استغلّ «سليم» عودة عقيل من سفره (ربما من إيطاليا)، ليزوّجه من إحدى «بنات العرب»، فوافقه عقيل، وعاد الشقيق إلى الحصن للبحث عن العروس المناسبة، لكن «عقيل» سافر من دون أن يتزوج. وفي هذا السياق، يذكر «البدوي الملثم» أن «عقيل» تزوج من «كونتيسة» فرنسية، وهو ما ترجّحه د. هند؛ لأن «عقيل» استقر زمنًا طويلًا في مرسيليا قنصلًا لجمهورية الدومينيكان.

أما آخر ما توافر من معلومات عن سفر عقيل، فهو ما سمعته الدكتورة هند من جدّها «غازي» -وهو ابن شقيق عقيل- إذ روى لها أنه وهو ابن أحد عشر عامًا، ذهب مع جدته إلى حيفا، لرؤية عقيل الذي أرسل إلى أمه رسالة يبدي فيها رغبته في وداعها قبل هجرته، وأنه ينتظرها في ميناء حيفا حيث ستبحر سفينةُ الهجرة. وهذا يعني بحسب الدكتورة هند، أن «عقيل» ترك الكهنوت، وأنه لم يكن يستطيع دخول بلدته «الحصن» في الأردن؛ بسبب مطاردة السلطات العثمانية له بعد أن نشرَ روايته «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز» بالفرنسية (1912م). وقد أخذت الأم حفيدها وسافرت إلى حيفا، ونزلا بـ«لوكاندة». وبحسب الجد «غازي»، فقد سهروا في الليلة الأخيرة مع عقيل وتناولوا طعام العشاء، وكان عقيل يُطعم أمَّه بيديه، ويبدو أنه خطط للسفر من دون أن يخبرها، فقد سلّمها النادلُ في غرفة الطعام رسالةَ وداعٍ مع حزمة نقود صباحَ اليوم التالي، وكان عقيل في تلك الأثناء يركب الباخرة في طريقه لهجرةٍ طويلة!

وتستعيد الدكتورة هند وصف جدّها لعقيل: رقيق وعاطفيّ، طويل القامة، يحمل آلة الكمان في حقيبة من الجلد. وهي ترجِّح وفقًا للقرائن أن حادثة وداع عقيل لأمّه وقعت عام 1912م؛ لأن جدّها «غازي» من مواليد 1900م تقريبًا.

ولحسن الحظ، هناك مرحلة موثّقة يمكن الاعتداد بها لملء الفراغات الكثيرة في سيرة عقيل الذي وقّع عددًا من أعماله باسم «أشيل نمر» الذي اتخذه لنفسه بعد هجرته. تلك هي مرحلة إقامته في باريس مع الحرب العالمية الأولى، حيث بدأ حياته العملية والفكرية هناك، ومن المؤكد أنه كان عضوًا في جمعية «من أجل فلسطين»، ومقرّها في شارع «ستراسبورغ» (شارع الصحافة)، فقد وُجدت بطاقات بتوقيعه ضمن مقتنيات العائلة تحمل هذا العنوان، إضافة إلى أن هناك إشارة إلى هذه الجمعية وردت على الغلاف الداخلي لروايته الثانية التي تحمل عنوان «القدس حرة» (1921م)، والتي يكشف مضمونُها أن «عقيل» كان من الذين أدركوا مبكرًا الخطر الصهيوني وأطماعه في فلسطين. وبمواصلة البحث، عُثر لدى العائلة أيضًا على عدد من البطاقات البريدية التي أرسلها عقيل إلى أمه وإلى شقيقه الكبير «سليم»، تحمل إحداها تأكيدًا أنه نجح أثناء الحرب العالمية الأولى في نشر كتاب بالفرنسية ضد الأتراك (1917م). وقد أشار البدوي الملثم في ترجمته لسيرة عقيل، إلى مقطع من هذا الكتاب وعنوانه: «العرب تحت النير التركي» (3 أجزاء)، وفيه يشبّه عقيل العربَ بحقل سنابل، كلما نبتت سنبلةٌ حصدَها منجلُ السلطة العثمانية. لكن البدوي الملثم لم يذكر إنْ كان قد اطّلع على هذا الكتاب بنفسه، ولم يذكر أيضًا اللغة التي نقل النصَّ عنها.

وتعود د. هند لتستخدم قرونَ استشعارِها العلمية، موضحةً أن البدوي الملثم كان على صلة وثيقة بأحد أقارب عقيل، هو نجيب أبو الشعر الذي كان يتقن الفرنسيةَ، لهذا يُرجَّح أن صاحب «القافلة المنسية» قد يكون حصل على الكتاب من نجيب الذي عُرف عنه احتفاظه بمكتبة كبيرة في بيته بالقدس.

المحافظ لـعاصمة الدومينيكان

عاد عقيل إلى القدس في عام 1920م، أيْ في بواكير الاحتلال الإنجليزي الصهيوني للمدينة المقدسة ونهاية الحكم العثماني فيها، وكان يعمل مراسلًا لصحيفتين أوربيتين لم يذكر اسميهما. وفي ذلك الوقت شرع في كتابة روايته «القدس حرة» بالإسبانية، وكان قبل ذلك قد نشر روايته «إرادة الله» بالإسبانية أيضًا (1917م). وقد ترجم الروايتين إلى العربية الدكتور عدنان كاظم وصدرتا عن وزارة الثقافة الأردنية (2012م). وتشير المعلومات المتواترة إلى أن «عقيل» رأسَ المجلسَ البلديَّ وتولى منصبَ المحافظ لـ«سانتو دومينغو»، عاصمة الدومينيكان. ثم عاد إلى فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو العقد الأخير على ما يبدو من حياته، وفيه عُيِّنَ قنصلًا فخريًّا للدومينيكان في مدينة مرسيليا عام 1931م، ونشر روايته «الانتقام» بالفرنسية سنة 1935م، وربما تولّى مناصبَ أخرى قبل أن تنقطع أخباره عن ذويه في وطنه الأول نهائيًّا.

وقد نجحت الدكتورة هند أبو الشعر في الحصول على نسخة مصوَّرة من رواية «القدس حرة» من المكتبة الوطنية في باريس. وتواصلت حملةُ البحث عن بقية أعمال عقيل، وبعد جهود مضْنية عُثر على نسخة وحيدة من كتاب «إرادة الله» في مكتبة رئيس جمهورية الدومينيكان الأسبق «خواكين بلاغير»، التي أصبحت بعد وفاته إرثًا وطنيًّا، وأحيلت إلى مكتبة الجامعة الوطنية في «سانتو دومينغو»، كما عُثر على نسخة من رواية «الانتقام» بجهود المترجم والأكاديمي الدكتور وائل الربضي، الذي قام بترجمتها إلى العربية وصدرت عن وزارة الثقافة أيضًا (2012م). وبحسب ما ورد في الصفحات الأخيرة للروايات الثلاث التي عُثر عليها من تعريفٍ بالمؤلف، فإن لعقيل مجموعة من المؤلَّفات التي ما زالت مفقودة، ومنها إضافة إلى «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز»: «نجل»، و«ظل وقيود»، و«حواري وساتير»، و«أساطير نهر الأردن»، و«ماركوتا» و«المفتونات».

أول رواية عربية

وعند البحث على الشبكة العنكبوتية، تظهر صورةٌ لغلاف «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز» متضمّنةً عنوان الرواية واسم مؤلفها باللغة العربية، وإلى جانبها إشارة إلى أن الرواية صدرت في عام 1912م، وأنها محفوظة في قسم النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة. وإنْ صحّ هذا، أيْ أن الرواية صدرت بالعربية فعلًا، فإنّ إعادة النظر في التأريخ لأول رواية عربية لا مفرَّ منها، بالنظر إلى أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، التي تعدّ أول رواية عربية، صدرت في عام 1914م بالقاهرة.

ويوضح الدكتور عدنان كاظم؛ أنّ الأسلوب الصحافي غلب على كتابة عقيل في روايته «القدس حرة»؛ إذ جاء في مقدمة عقيل المختصَرة للرواية أنّ ما ‏كتبه يعتمد على تجربته الشخصية، وأنه وصل إلى الأرض المقدسة في أواسط عام ‏‏1920م مراسلًا لصحيفتين أوربيتين، وأنه رأى أثناء إقامته بالقدس مأساة محزنة ‏لممارسات سلطة الاحتلال البريطاني. كما أشار إلى أنه لم يتمكن -بسبب رقابة الاحتلال- من تسريب مشاهداته كلها للصحافة؛ لذا فقد كتبها ضمن رسائل عائلية، وبعد ‏عودته إلى باريس قام باسترجاع تلك الرسائل وتحويلها إلى رواية.

ويؤكد كاظم أن كتابة عقيل تخلو من الزخرفة والتعقيد، وتتمتع بمستوى لغوي رفيع، رابطًا هذا بتأثُّر عقيل بما شاع في أوربا في عصر النهضة من أساليب أدبية وتعابير لاتينية وإغريقية. ويشير إلى الأثر الواضح لنشأة عقيل الدينية وعشقه للحرية في كتاباته؛ إذ يمزج موضوعَ الدين والرموز الدينية بالسياسة ورموزها، فرواية «القدس حرة» مثلًا، تدور حول القدس مكانًا مركزيًّا، وبخاصة بستان الجسمانية المقدس، وكنيسة القبر المقدس، والجلجلة. يقابل ذلك من الجانب السياسي، الاحتلالُ الإنجليزي-  الصهيوني للمدينة المقدسة، والتصرفات المقيتة لجنود الاحتلال والحاكم التركي للقدس، ونضال الثوار ضد المحتل.

أما رواية «إرادة الله»، التي نُشرت قبل «القدس حرة»، فقد جاء في إهدائها: «إلى شباب بلدي المبعثرين في الأمريكيتين.. تحية أخويّة»، وهي تدور حول العادات الشرقية المعاصرة وفظائع الاستبداد التركي في فلسطين، استنادًا إلى حبكة لغوية وبراعة أدبية كبيرة.

وتبشّر رواية «الانتقام» التي كُتبت بالفرنسية، بمنحى جديد للرواية في زمن مبكر حتى على صعيد الرواية العالمية، ذلك أن أبطالها كما يرى المترجم د. وائل الربضي، ليسوا من الأبطال المتعارف عليهم في الروايات الكلاسيكية، كما أن الشكل فيها متميز؛ إذ قسّم عقيل روايته إلى 25 فصلًا، كل منها يحمل عنوانًا يعبّر عن الأحداث الرئيسة فيه. وبُنيت الأحداث حول حبكة بسيطة تتكون من شقين: صراع سياسي، وقصة غرامية لطيفة بين مهاجر فرنسي شاب إلى الدومينيكان وشابة دومينيكانية جميلة وذكية ومثقفة، في حين أن الحبكة الرئيسة تتجسد في الصراع السياسي بين رجل الدين المتنفِّذ الذي يمتهن السياسة وبين سياسي متمرس لا يملك الثقافة والحصافة.

ويقرّ الربضي أن ترجمة هذا العمل كانت صعبة جدًّا؛ لأن «عقيل» يتسم بالعمق في تناوله وفي فلسفته وفي استخدامه للغات متعددة وفي إشاراته لأمثال من اللاتينية والإغريقية والإسبانية والعربية ولغة الهنود الحمر، فضلًا عن ذكره العديدَ من الأعلام في الفلسفة أمثال «تيتلايف»، والشعراء والفنانين التشكيليين والروائيين ورجال الدين من أمثال القديس «أوغسطين»، والكاتب الفرنسي الشهير «مونتيني»، والشاعر «دو شينيه»، والشاعر الأرجنتيني «ليوبولدس لوجونس»، والفنان التشكيلي «ابيلاردو رودريغس»، والروسي «إيليا روبين». كما يتمثل الشعر ويستذكره على ألسنة شخصيات الرواية، أمثال الشاعر الدومينيكاني «فابيو فيالو»، والشاعر الإنجليزي «بايرون»، والشاعر الفرنسي «مالارميه».

في الـ«95» من عمرها ولا يزال في جعبتها كثير من المشاريع .. سلمى الخضـراء الجيوسي: وزراء الثقافة العرب يقرّون معايير غربية ضدنا؟

في الـ«95» من عمرها ولا يزال في جعبتها كثير من المشاريع .. سلمى الخضـراء الجيوسي: وزراء الثقافة العرب يقرّون معايير غربية ضدنا؟

من المعروف عن الناقدة والباحثة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي أنها تنجز معظم مشاريعها بجهود فردية، لكن ما تقدّمه هذه الباحثة والكاتبة والمترجمة يفوق في أثره ونتائجه ما تقدّمه مؤسَّسات حكومية وغير حكومية ضخمة تتوافر لديها الأموال والإمكانات وتُخَصَّص لها الميزانيات. والسرّ في ذلك أن الجيوسي تُقبل على مشاريعها بهمّة عالية، وتتولّاها برعايتها وإشرافها، وتكرّس لها وقتها وجهدها، مؤمنةً بقدرتها على إحداث الفرق وطبْع بصمة تخصّها وحدها دون سواها على جدار التاريخ.

والزائر إلى بيتها في العاصمة الأردنية عمّان، يعجب وهو يتأمّل ما يحلو لي أن أدعوه «خزانة الأسرار» التي قُسمت إلى عشرات الصناديق لتحتضن متعلَّقات المشاريع التي لم تنتَهِ (وربما لم تبدأ) بعد، ويشمل هذا الأفكارَ والخطاطاتِ والتصوراتِ الأولية والمحاورَ والاقتراحات.. وهذا واحدٌ من المؤشرات على الجدّية والمثابرة والإحساس بالمسؤولية، وهي الصفات التي تلازم شخصية سلمى الخضراء، وتجعلها «أيقونةً» في مجال العمل البحثي والثقافي المنطلق من رسالةٍ وطنية وقومية واضحة الملامح والأهداف.

ومن هذه الزاوية يمكن تفهّم الدوافع التي انطلقت منها وهي تؤسس في عام 1980م مشروعها الكبير «بروتا»، فقد كانت هناك حاجة ماسّة لوضع الكتاب العربي الجيد على رفوف المكتبة العالمية، وكان لا بد من سدّ الفراغ الناتج من غياب الثقافة العربية في المدوّنة الإنسانية. ثم جاء تأسيس «رابطة الشرق والغرب» للدراسات (1992م)، وهو مشروع أخذ على عاتقه إصدارَ عدد من الكتب النوعية المشتملة على دراسات حضارية، ومنها كتاب جامع عن حقوق الإنسان في الفكر العربي، وآخر عن القدس في التاريخ والتوراة، وثالث -كبير جدًّا- عن المدينة في العالم الإسلامي، ورابع عن الفن القصصي العربي في العصور الكلاسيكية.

هذه الحماسة للإنجاز وإطلاق المشاريع سمة لصيقة بشخصية سلمى الخضراء الجيوسي التي لا تفتأ تؤكد أنك إنْ قدمتَ أدبك وتراثك بشكل متقَن وذكي، فإن العالم مستعدّ له ومنفتح لك، مهما كانت محاولاتُ أعداءِ الثقافة العربية لردعه ولمنعك من تقديمه قوية.

وتقرّ الجيوسي أنّ ما يفتّ في عضدها، هو أنّ الرسالة الأساسية التي كرّست لها حياتها، لم تُصِبْ بـ«العدوى» إلّا عددًا قليلًا من المسؤولين العرب. لكن هذا لم يُثْنِها عن مقاومة الجهل الفادح بالعرب في الخارج، ونشر أرقى ما أنتجه العرب من أدب وإبداع في العالم، والتعريف بالإرث الروحي والمزايا الإنسانية لهم في القرون الوسطى.

ومما يَسِم  تجربتها أيضًا، تنوّع اهتماماتها وتعدُّد اشتغالاتها، فمِن الشعر إلى النقد، ومن تأريخ الأدب إلى البحث والترجمة، ومن الإشراف على الأنطولوجيات الموسوعية إلى الغوص في التراث.

فقد أبدت هذه المبدعة اهتمامًا بالشعر في بداياتها، وأصدرت مجموعتها اليتيمة فيه «العودة من النبع الحالم» عام 1960م، ثم تحولت إلى النقد والبحث والترجمة بعد أن أجرت على الشعر «حكمًا جارحًا» على حد تعبيرها. فكانت إذا جاءتها القصيدة، لا تتردد في تأجيلها ريثما تنتهي من هذا ومن ذاك، ولأن لحظة الإبداع هشّة ولا تطيق التأجيل، فقد ضحّت سلمى الخضراء بما لا يُضَحّى به حتى تنجز ما يجب أن يُنجَز، بحسب ما تقول قبل أن تضيف: «لو كنت أعيش في زمن رخيٍّ أتمتع باستقرار الوطن جميعه وتقدمه المستمر، لما اخترت إلّا الإبداع تعبيرًا عن تجارب الحياة، ولكني أدرك أنه لن يقوم بنا إلا العمل المستمر للدفاع عن شرفنا المغتصَب وسمعتنا الحضارية وإنجازاتنا الزاهرة».

وفي النقد، استهواها التأريخ الأدبي أكثر من سواه، لهذا خصصت أطروحتَها للدكتوراه لتناول الشعر العربي الحديث منذ القرن التاسع عشر حتى عام 1970م مؤرّخةً كل ما حصل لهذا الشعر منذ عصر النهضة.

وفي مطلع الستينيات، ترجمت عددًا من الكتب عن الإنجليزية، منها كتاب لويز بوغان «إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن» (1960م)، وكتاب رالف بارتون باري «إنسانية الإنسان» (1961م)، والجزأين الأوَّلَين من «رباعيّة الإسكندرية» للورانس دريلم «جوستين» و«بالثازار» (1961/ 1962م)، و«هكذا خلقت جيني» لأرسكين كالدويل (1961م)، و«والت ويتمان» لريتشارد تشيس (1962م)، و«الشعر والتجربة» لآرشيبالد ماكليش (1962م).

وفي عام 1977م نشرت دار بريل (لايدن)، وهي أعرق دور النشر الغربية لنشر الكتب عن الحضارات غير الغربية، كتابها «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» في جزأين، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. وحررت الجيوسي أكثر من أربعين عملًا في إطار مشروع «بروتا»، ومن بين هذه الأعمال سبع موسوعات ضخمة للأدب العربي الحديث، هي: «الشعر العربي الحديث» (93 شاعرًا)، «أدب الجزيرة العربية» (95 شاعرًا وقاصًّا)، «الأدب الفلسطيني الحديث» (103 شعراء وكُتاب)، «المسرح العربي الحديث» (12 مسرحية، بالاشتراك مع روجر آلن)، «القصة العربية الحديثة» (187 إدخالًا)، ثم المسرحيات العربية القصيرة (20 مسرحية).

مُنحت سلمى وسام منظمة التحرير الفلسطينية عام (1990م)، والجائزة التكريمية التي يقدّمها اتحاد المرأة الفلسطينية في أميركا عام (1991م)، ووسام القدس عام (1999م)، ووسام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عام (2002م)، وكرّمتها جمعية الخريجين العرب الأميركيين (1996م). كما نالت جائزة سلطان العويس للإنجاز الثقافي عام (2008م)، وجائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة، مناصفةً مع المستشرق الألماني هاندرتش هارتموت (2009م).

يشار إلى أن سلمى الخضراء أنهت تعليمها الثانوي في كلية شميت الألمانية بالقدس، ودرست الأدبين العربي والإنجليزي في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم سافرت إلى لندن، حيث التحقت بجامعتها وحصلت منها على درجة الدكتوراه في الأدب العربي، وعملت أستاذة للأدب العربي في عدد من الجامعات العربية والأميركية، قبل أن تتفرّغ لمشروعها «بروتا».

هذا الحوار أجريتُه معها لـ«الفيصل»، وتطلب ذلك أن ألتقيها مرات عدة،  في بيتها في عمّان، وفيه نقف على محطاتٍ مضيئة في رحلة التجربة، ونطلّ على رؤى هذه الباحثة التي تمثّل علامةً فارقة في المشهد الثقافي العربي، ونسمع منها عمّا يؤرقها ويشغل بالها، ونتعرف موقفَها من عددٍ من القضايا الملحّة والراهنة.

● خضتِ معركة حقيقية للتعريف بالأدب العربي، كيف تنظرين الآن إلى ما قمتِ به؟ وماذا تقولين للأجيال الجديدة التي هي أحوج ما تكون إلى قدوة أو نموذج؟

تبدأ المعركة منذ الطفولة: كيف ينشـأ الطفل وماذا يعرف عن تراثه ووضعه الحضاري في الحاضر والماضي. أنا نشأت في جوّ وطني حتى النخاع، فليس غريبًا أن أتبنّى ملءَ قسمٍ من فجوات التاريخ بما أنجزناه ما دمتُ قادرة على هذا. لا يمكنني أن أنسى تلك اللحظة التي غيّرت حياتي. كنت في أستوكهولم مع الشاعرين التونسيين المنصف الوهايبي ومحمد الغزّي مسافرين من بيت صديقتي العزيزة «سيغريدْ كالِهْ» في ريف العاصمة عبر أستوكهولم جنوبًا إلى «لونْدْ» لحضور مؤتمر عن الشعر العربي والسويدي الذي كان سينعقد في «لونْدْ» في جنوب السويد، وذهبنا بتدبير مسبق من رئيس مكتبة مؤسسة نوبل السيد «أوستن شوستراند» إلى زيارة هذه المكتبة الكبيرة التي كانت تجمع آلاف الكتب العالمية. فبعد أن تجولنا في المكتبة طلبتُ أن نرى الأرشيف العربي. وتردد «شوستراند» لحظتين ثم فتح لنا درجًا صغيرًا وأخرج منه أربعة كتب محدودة الحجم مترجَمة من العربية إلى الإنجليزية، وهذا كان كل ما عندهم من لغتنا. وسمعتُ صوتي يعلو بفزع للمنصف الذي كان واقفًا قربي: «تغيّرت حياتي يا منصف!». فقد صممت على أن أفعل كل ما بوسعي لتغيير هذا الوضع الشائن. وبدأ مشروع «بروتا» العمل على هذا في اليوم التالي. والحق أنه لم يُفشلني قط، وإن كان للذكورية أيّ تأثير فهو أن المساندات لم تأتِنا إلا بعد إنجاز مشروع نعمل عليه، فإذا أتممناه ونشرناه أعطونا المشروع التالي، وكان في وسعي أن نعمل على عـدة مشاريع معًا كما كنت أنوي، فالوضع حرج ويحتاج إلى بذل سخيّ للوقت والمال، ولكن الباذلين للمال لم يقتنعوا ولم يساندوا لنا إلا مشروعًا واحدًا بعد مشروع. ومع شكري الجزيل لهم لا بد من القول: إن تردّدهم في استغلال طاقتنا على عملٍ واسع قد قلّص مردودنا العملي كثيرًا رغم حاجة الثقافة العربية إلى إنجاز عـدة مشاريع دفعة واحدة.

أنا ما زلت أذكر، بقهرٍ وحرقـة، كيف نشأ جيلي الذي وُلـد بعد هجوم الاستعمار الغربي علينا بقليل، فقد كان يعرف عن تاريخ الإمبراطورية الإنجليزية أكثر بكثير مما يعرف عن تاريخ العرب الذين كانوا لعشرة قرون على الأقلّ في العصر الوسيط، أقوى الأمم غربي الهنـد وأعمقها حضارة وإبداعًا. اليـوم أصبحت المعرفة عن التراث العربي متاحة لطلبة العلم إلى حدّ مقبول، ولم يعد الجهل بها مقبــولًا.

في مواجهةٍ لي مع معلمة إنجليزية في سنوات الاستعمار الأخيرة في فلسطين، تظهر علائم المؤامرة علينا وذلك التلقين الذي كان يتلقّاه الموظفون الإنجليز في دوائرنا لإخضاعنا والبروز علينا آمرين متمردين. أنا تغلبتُ على هذا وأظهرتُ مكيدتهم، ولكن هذا التغلب لم يكن ميسورًا للكثيرين الذين تربّوا على الخوف من المستعمِرين ومحاولة إرضائهم.

● توصَف عمليات الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، بأنها رهن المصادفة والارتجال. كيف يمكن إطلاق مشروع عربي جدّي يأخذ على عاتقه نقل ثقافتنا إلى العالم؟

ليس هذا أمرًا عسيرًا أبدًا. مشروعي مشروعٌ عربي جدّي كل الجـدّة وناجح كل النجاح، وقد أخذ على عاتقه نقل ثقافتنا إلى العـالـم، ولكن الذين ساندوه فعلوا ذلك بتدريجٍ ومحدودية، وبدل أن نُخرج ست أو سبع موسوعات في ١٨ شهرًا كما كنت مصممة وكما كنا قادرين، اضطررت إلى تقليص العمل ليتماشى مع توقيتهم. يبدو لي أن كل عمل دقيق منظم يعتبره معظم المسؤولين صعبًا غير ميسور. ما الذي كان يمنع المقتدرين العرب أن يساعدونا للقيام بمشروعنا الذي قدمته لهم عامرًا كاملًا لا ينقصه إلا المال، والمال طلبته منهم وأعطيتهم الخيار في إدارته هم بأنفسهم ولكنهم لم يؤمنوا بشيء ولا سيما بروح العمل نفسه وقيمته وضرورته. لم يبدُ ذلك مهمًّا أو لعلهم ظنوه غير ممكن، أي أنهم لم يدركوا لبابه الأساسيَّ ومقدرتنا عليه، وأظن أن ذلك كان يعـود ليس فقط إلى سوء التقدير لقيمته الإبداعية وفعاليته الأدبية والجمالية، بل أولًا لأن الشعور بتخلّفنا عن ركب الحضارة والإبداع كان منغرسًا في النفوس. ثم إن الذكورية دائمًا كامنة وترفع رأسها لتقليص دخول المرأة إلى العالم المتحرك ما استطاعت. مع كل هذا، إنّ ما قدمناه حتى الآن لم يكن محدودًا على الإطلاق.

● خلال مشروعك الثقافي لنقل عيون الأدب العربي إلى الإنجليزية، ركزتِ كثيرًا على إصدار الموسوعات الكبيرة. لماذا التركيز على الموسوعات؟

كنت أودّ إدخال أجمل ما عندنا من إبداع، وهذا قد لا ينجح إذا ركزتُ فقط على انتخاب عدد معين من كل بلد عربي، فقد يكون في بلدٍ ما مبدعٌ كبير هو الوحيد في بلده، ولذا فقد ركزت على انتخاب الأجود المتاح في العالم العربي جميعه دون الإعلان عن عدد المبدعين هنا أو هناك، قليلهم أو كثيرهم. الموسوعة العامة تتخطّى هذا النوع من الإعلان وتقدم أجمل المنتخبات باسم العرب جميعهم.

● أخبرتِني خلال التحضيرات لهذا الحوار، أنّ السعودية دعمت زهاء عشرة مشاريع من مشاريعك. ما مدى اهتمام الحكومات والمؤسسات العربية بالمشاريع الثقافية، وكيف تقيّمين استجابتها؟

للسعودية فضلٌ كبير على مسيرة مشروع الترجمة الأدبية عندنا، ويستحق القائمون على الثقافة وقتئذٍ شكرًا كثيرًا وأخـوّة لا توهَب إلا للعارفين بالعمل وصعوباته، أخـوّة الأذكياء غير الوارثين لمواقف تمنع مسيرةَ الحياة الفكرية وتطورها الطبيعي، وتحترم تفتُّحَ العقل البشري وقدراته، وتعترف بتآخيه وتوالده، مودّة أخويّة لا توهَب هبـاء، فهي قبل كل شيء إعلانٌ عن تزحزح الذكورية عن مكانها الراسخ، مودّة تقبل كلَّ إبداع أو إصلاح أصيل كائنًا صانعه مَن كــان؛ لأنه برهان على تقدُّم واسع في الفكر والروح، على تحديدٍ أكثر صلابة ونقاءٍ يؤاخي ولا يباعد، وكم أنا سعيـدة به.

ولكن لم يلقَ عملُنا ما يستحقّه من اهتمام وإكرام من جميع المسؤولين في مـراكز ثقافية عربية كثيرة أخـرى. لـو أن المؤازرة أتتنا من الجميع لكنّـا بنينا صرحًا عاليًا وأسّسنا وضعًا ثقافيًّا انقلابيًّا نحن في حاجة كبيـرة إليـه. إنّ تخيُّل هذا أو نتائجه في تقوية مكانة المرأة الإبداعية امتنع عليهم، لم يهبّوا لمناصرته والقراراتُ تعيش بين أيديهم.

لا يقوم أيّ عملٍ كبير دون إيمانٍ داخليّ بإمكان قيامه. وعلى هذا الإيمان بنيتُ مغامرتي ونجحت. لم أشعر دقيقة واحـدة أن نجاحي صعب. لم يخطر هذا في خيالي لحظة واحـدة. كنت أعمل بثقة غير مصطنعة وأسير به ببشْر وسعادة.

ما أريد تأكيده للمسؤولين عن الثقافة العربية وعن سمعتها في العالم، هو أن هذا الموضوع الغنيّ يستحق أن يكون على رأس قائمتهم، فعندنا الكثير الذي نستطيع تقديمه إلى العالم بلغات العالم. ولم نفشل قَطُّ في أيّ محاولة قمنا بها. بل على العكس، كسبنا سمعـة طيبة جـدًّا مبنية على إتقان العمل وشمولية المواضيع وتقديمها كجـزء مهم من العطاء العربي الإبداعي والفكري للعالم الواسع. فنحن –العرب- كنا من أوائل حمَلة هذا العطاء الأساسيين، ودراسة الثقافة في العصر الوسيط، ليس فقط في العالم العربي وما حوله، بل على امتداد المسافة من الهند إلى الأندلس، ستقودنا إلى هذه الحقيقة/ الاكتشاف.

وعودة إلى الحـاضر، وَضَعْنا تحت مشروع «بـروتـا» عشرة مجلدات، أغلبها مجلدات كبيـرة جدًّا من الأدب والفكر العربي مترجمة إلى الإنجليزية، وستة مجلدات دراسات بالإنجليزية عن الثقافـة والحضارة العـربية في لغـة إنجليزية إبداعية دقيقة، وهو إنجاز غيّرَ جذريًّا وضعَ الثقافة العربية في العالم. وبإمكان مَن يريد أن يجدها جميعها على شبكة الإنترنت. لا تتركوا هذا الأمر يدخل في قائمة المستحيلات عندكم، ما من مستحيل في العالم ينجح مرة ثم يفشل من تلقاء نفسه، لا يفشله إلا المسؤولون عنـه. إنّ إمكانية تكراره دليل على استعدادٍ له وحاجةٍ إليه. والإحجام عن ممارسته لا يعدو أن يكون ترددًا واجفًا هو بضاعة الغرباء عنه، بضاعة غير المختصّين. نحن نحتاج إلى شجاعة المؤمنين وعمق إيمانهم. ولكن لا إيمان بغير ممارسـة، ولا ممارسة بغير شجاعة، ولا شجاعة بغير ثـقةٍ بالذات وبكبرياء المغامرة مع المجهول المتاح. مع العلم أن مشروع الترجمة ليس مجهولًا أبدًا، وليس من مستعرب جادّ لم يَعرفه ولم يَستفـد منه.

مخطط غاية في اللؤم

● تقولين إنه لم يَحْمِكِ من القلق في شبابك إلا انتماؤك العربي ورؤياك للوطن الكبير وإمكاناته الشاسعة. لكن يبدو أن الرياح قادت السفينة إلى غير ما كنتِ أنت وأبناء جيلك تأملين. هل تعتقدين أن حلم الوحدة ما زال ممكنًا، ولماذا؟

نحن في صراع عميق مع مخططٍ غاية في اللؤم والبراعة، وقد خضع العرب له منذ زمن غير قليل. لقد لمست أنا شخصيًّا سوء تقدير الشبان العرب المتعلمين لإنجازات الثقافة العربية عبر القرون وتصديقهم لتراخينا، ذلك التراخي المزعوم، عن إغناء الإبداع الأدبي العالمي وهذا رغم أننا من أوائل بناة الثقافة الإبداعية في العالم. ولكن السؤال هنا هو: ما الذي يفعله وزراؤنا المسؤولون عن الثقافة العربية؟ ما بحثهم في هذا الأمر؟ ما اجتهادهم؟ ما مخططهم؟ هل يرضون أن يتركوا مخطط التغيير والانقلاب الذي نحتاج إليه كثيرًا دون جعله من أوائل متطلبات مخططهم الثقافي؟ كيف يرضون بالصمت عن معايير مجحفة ضدّنا ويتركونها تقرر سمعـة هذه الأمة ثقافيًّا؟ لم يعـد ممكنًا ترك المخطط الاستعماري ينمـو وينغرس عامًا بعد عام في العقول، فحتى جيل الستينيات في القرن الماضي كما أذكر، نشأ يظن أننا تخلفنا عن الإبداع تاريخيًّا. ولم يستغلّ أحدٌ من الرعاة القادرين على مواجهة هذه الافتراءات ضدنا، مركزَه ليحاول تغيير هذا الوضع. كيف حدث ويحدث هذا؟ إنه أمر جاد جدًّا.

● حركة الثقافة في العالم تتسارع على ما يبدو، نحو التبادل الثقافي المتكافئ. ما الذي ينبغي أن نفعله كعرب لتحقيق حضورنا المناسب الذي يعبّر عنا؟

نؤسِّس مركزَين رئيسيْنِ للثقافة؛ أولهما مركز يدْرس ما يَحْسُن تقديمه إلى العالم تحت مخطط مدروس، يعمل فيه أساتذة معتمدون؛ وثانيهما مركز يشرف على نقله عالميًّا عبر الترجمة. وللمركزين فروع متعددة، بحسب الحاجة. وتفصيلًا أكبر: نعيّن لذلك لجنـةً مرموقة من المثقفين المتخصصين منهم بالثقافة العربية قديمها وجديدها وعندهم أيضًا معرفة بالثقافة العالمية، على الأقل بإحدى لغات العالم الأولى. وذلك لانتخاب النصوص، واضعين لذلك شروطًا مدروسة قبل البـدء في أيّ عمل. ويتبع ذلك عملية الترجمة نفسها، وهذه مؤهلة عندنا في «بروتا»، ولا يمكن التنازل عن أيٍّ من شروطها. فالترجمة الجيدة تسير في أربعة مدرّجات هي: الترجمة الأولى، التدقيق المعنوي للترجمة، تحرير الترجمة (أي وضع العمل المترجم بدقة في لغةٍ وأسلوب يضمنان الأمرين معًا: معانيه وجمالياته)، والتدقيق الأخير الذي يعنى بالأمرين؛ المعنى والمبنى.

● لكِ حكاية مع الأديب خليل السكاكيني الذي اكتشف ميولكِ الأدبية. ما الذي حدث؟ وكيف كان رد فعلك وأنت –الطالبة- تلقين الإطراء من كاتب كبير؟

«الستّ ليّـا» معلمـة العربية كانت تشجعني كثيرًا وتقدّمني للمفتشين الذين يزورون المدرسة بين الفينة والفينة. وزار مدرستنا للتفتيش الأستاذ الكبير خليل السكاكيني الذي كان معروفًا أيضًا بوطنيته الفلسطينية، فقدمتني «الست ليّـا» وطلبت مني قراءة آخر مواضيع الإنشاء له، ففعلت، فسألني عن اسمي وعرف أني ابنة فلان، فأرسل تهنئته الحارة معي إلى والدي، ولمّا غادر صفَّنا مع معلمتنا هجمتْ زميلاتي عليّ وأوسعنني عناقًا فما تركنني حتى كان مريولي بلا جيوب ولا أزرار!

● نظرتِ إلى اعتقال أبيك من قِبَل الإنجليز غير مرة خلال حقبة الانتداب، على أنه واجب وطني لا غنى عنه للرجال. إلى أي مدى أثّرتْ فيك نضالات أبيك ومواقفه وعلاقته بك؟

أثّـرتْ في كثيـرًا. عيناه علَيّ حتى بعد رحيله المبكر عنا. لم يكن ينام إذا كان عنده تساؤل حول أمر وطني يحتاج إلى بحث. كان الوطن مقدسًا عنده ومعه تاريخ النضال العربي. وكانت أمي أكبر معين له تتحمل نتائج صراعه مع الاستعمار بحماسة وصبر واسع. أتذكّر كيف كان يستعين بي عندما يحتاج إلى بحث وتدقيق. كيف لي أن أنسى ليلةَ وصلتُ بعد غيابي ثلاث سنوات ونصف السنة في إيطاليا مع زوجي الدبلوماسي، فقابلني أبي مع الأولاد الثلاثة في باب مكتبه بدمشق حيث عرجتْ بنا سيارتنا لكي يرحّب بنا وأيضًا ليعطيني قائمة تحتاج سريعًا إلى بحثٍ بين أوراقه في البيت، فأمضيت أولى ليالي عودتي إلى الوطن بعد ذاك الغياب الطويل أعمل على هذا. على هذا الإرث الملتزم بالعمل البنّـاء بنيتُ ما قـدّمتُه بعد ذلك للثقافـة العربيـة:

«حلمٌ على ورقٍ أبدعتُه بيـدي

ولـم يضـنّ عليـه الحبرُ والورقُ

حلـمٌ على أرقٍ ألقمتُه جسـدي

ولم يَخُنّــي على عـدوانـــــِه الأرقُ

حلم ورثتُ رفيع الشأو دان له

صبـري الشحيح وقلبي ذلك النزِقُ».

وأنت أستاذة أواسط الأربعينيات، نجحتِ في تشكيل رأيٍ عامّ ضد إدارة المدرسة التي تمثّل المستعمِر، وأشعلتِ فتيل إضرابٍ قامت به الطالبات. هل يمكنكِ استعادة تفاصيل ما جرى؟

كان في عقد الأربعينيات أنْ حدث بيني وبين جماعة الإنجليز العاملين في مراكز التعليم والثقافة في فلسطين صدام كبير. كان ذلك قبل منتصف الأربعينيات، والإنجليز ما زالوا المسيطرين على جميع مرافق الحياة. وكنت بعد تخرجي في الجامعة الأميركية في بيروت قد عُينت أستاذة للعربية في كلية دار المعلمات في القدس، وهي مؤسسة دراسية متميزة تدْرس فيها، على حساب دائرة المعارف الفلسطينية، أذكى الطالبات الفلسطينيات القادمات من جميع أنحاء فلسطين بعد نجاحهن المتميز في مدارسهن.

كنت أدرّس الأدب العربي لثلاثة صفوف، وبيني وبين طالباتي صداقة ومودة لقرب السنّ والمشارب.

يوم الحادث كنتُ المراقبة في فترة الغداء، وتخلّف أحد الصفوف عن المجيء إلى الطعام. كان هذا يحدث أحيانًا لأسباب تتعلق بدراستهن، فإذا اضطرت أستاذة الصف إلى تأخير الصف عن موعد الغذاء كان عليها أن تُعلِم الأستاذةَ المراقبة ذلك النهارَ عن الأمر. غير أني لم أتلقَّ أيَّ خبر من أستاذتهن. فذهبت أستطلع الأمر ووجدتُ الطالبات ما زلن في المختبر يعملن مع أستاذة إنجليزية اسمها «مس مارش» كان من واجبها المنصوص عليه أن تخبرني عن تأخّـر ذلك الصف تحت نظارتها ولم تفعل. فلما فتحتُ باب المختبر استقبلتني بغضب شديد طالبةً مني أن أذهب وأغلق الباب. تكلمتْ بنبرة آمـرة وقحة لم أُطِقها، فأجبتها بصوت جاد بأنها أخَلّت بما هو متوقَّع منها، أي بإعلامي عن تأخُّر الصف عن الغداء، ثم ذهبتُ. ولكن لم تمضِ دقائق حتى تلقيت طلبًا من «مس هاكر» مديرة المعهد الإنجليزية أن أقابلها حالًا.

تبادلتُ النظر مع طالباتي، ثم ذهبت إلى مكتبي فأخذت منه جميع ما عندي من كتب وأوراق وأودعتها مع طالبة من الطالبات الخارجيات وذهبتُ إلى لقاء «مس هاكر». كانت «مس هاكر» تنتفض غضبًا وبادرتني تقول: «سمعت يـا مس خضرا بأنك تجـرّأتِ بالإجابة على مس مارش».

فأجبتها وقد تماسكتُ قدر ما استطعت قائلة: «لا يا مس هاكر، المس مارش هي التي تجرّأت علي»، فانفجرت تقول بضراوة وشدة: «يا مس خضرا. نحن نعرفك ونعرف أنك تهاجمين المستعمِر لطالباتنا. أخبريني الآن، هل تطيعين المستعمر يا مس خضرا؟»، وسمعتُ على أثر هذا مباشرةً رد فعل عالي الصوت من الطالبات المستمعات في ساحة المعهد. أجبتُها وقد تعمدتُ أن يكون صوتي أيضًا مسموعًا لهن: «من المحال يا مس هاكر أن أطيع المستعمر. ولكن هل أنتم مستعمرون في هذه الكلية؟ ظننت أنكن معلمات فقط». قلت هذا وخرجت إلى الطالبات اللواتي كنّ في حالة هياج لا يُكبح بسهولة. قلت: «اسمعن. هذا أمر خطير، وقد وقع الجماعة في خطأ كبير، فدعونا نتصرف بهدوء وكرامة. أنا ذاهبة إلى البيت الآن فأحْسِنّ التصرف وسنرى ما سيحدث». وخرجتُ، فسارت معي الطالبات الخارجيات حتى منزلي، وتابعن زيارتي في الأيام التالية وقد أضربن، هن والطالبات الداخليات، عن الحضور إلى صفوف الدراسة، وبقي الإضراب عن الدروس ما دمت أنا مضربةً إلى أن عاد أبي من أعماله في الجليل بعد أسبوع وسمع القصة من أمي.

بعد يومٍ من عودته طلب مني أن أذهب لمقابلة أعلى موظف عربي في دائرة المعارف الفلسطينية عندئذ، الدكتور أحمد سامح الخالدي. لم يُلقّنّي والدي كلمة واحدة لأرددها للدكتور الخالدي، بل تركني أتصرف بلغتي وأسلوبي. كنت أظن أن الدكتور الخالدي سيعاتبني على ما أوجدتُ في المعهد من اضطرابٍ وتوقف عن العمل ولكنه لم يفعل ذلك إطلاقًا، بل قال لي: «عودي يا ست سلمى إلى عملك غدًا». فعدت وعلمت أن «المس هاكر» طُلبت إلى دائرة المعارف وخرجت وعيناها محمرّتان من البكاء.

ألفة كبيرة للآخر

● كنت تقولين: إنك لا تشعرين بالغربة في أيّ مكان عربي. والآن، هل ما زال الشعورُ نفسُه لديك، أم تغيّرت الأحوال؟

الحقّ هو أنني لا أشعر بالغربة في أيّ مكان، فالعالم ملك جميع الناس، ولذا هو ملكي أيضًا، وبي ألفـة كبيـرة للآخر، لا أفرّق أبدًا، بل أذهب رأسًا إلى منازع التجربة الإنسانية المتبادلة. وقد نجح هذا كثيرًا معي في حياتي، وكنت أجيء أحيانًا إلى البيت ومعي وجوه جديدة أقدمها لأمي كأنها لازمتني دهرًا. كانت «أنيسة»، أمي، تفهمني وتعرف أني أدخل إلى حياة الآخر دون محاولة كشف ما لا يـودّ الآخر كشفه. عشت كل حياتي على هذا الشكل، لا أُحْجم ولا أقتحم، بل أهتدي إلى القاسم المشترك مع الآخر ونتحدّث. وكان الآخرون كثيرًا ما يكشفون لي ما في دواخلهم ثم يودّع بعضنا بعضًا دون عودة ولكني كنت أشعر أني كنت أغتني من هذا كثيرًا. أخبرني والدي أن أمه (جدتي سعـدى) كانت هكذا، وكم أشعر بأسف لأنها لم تعِش حتى أكبر وأتعرف على خصائصها.

ولكن من تجربتي هذه وجدتُ أن العرب هم أقل الناس استعدادًا لكشف ما في دواخلهم للآخرين.

● وثقَتْ دورُ النشر الغربية بمؤلفاتك وأعمالك، حتى إنها كانت تأخذ ما تنجزينه قبل أن تتفحّصه. هل يمكن القول: إنك وجدتِ التقدير الذي يليق بتجربتك في الغرب؟

وجدتُ المعاملةَ نفسها، وكان هذا مصدر طمأنينة لم تتغيّـر قط. لم أبحث يومًا عن ناشر، بل كان عملي مطلوبًا دون الإعلان عنه.

● هل تعتقدين أن ما قدمته للقارئ الغربي من أدبٍ عربي، أسهم في نقض فكرة مركزية الثقافة الغربية واستقلالها، وكذلك في تقويض الأفكار المشوهة والتصورات المُهينة عنا؟

كل إضافة جيـدة تأخذ مكانها، وفي وضعنا اليومَ، لا حدود لما يجب تقديمه للعالم لتغيير مكاننا الثقافي فيه. نحن نحتاج إلى التركيز على متابعة هذا طولًا وعرضًا حتى نؤكد دخوله إلى العالم. فعطاؤنا الإبداعي كان وما زال كبيرًا. نحن أبدعنا إدخالاتٍ سبّـاقةً جديدة للأدب أمثال المقامات وجنس الخبر وسواها، ولكننا قبلنا بنفينا من عالم الإبداع وكأننا لم ننجز شيئًا. لا يكفي لتغيير هذا الوضع ما قد يقدمه كاتبٌ أو أكثر مهما أعطى. نحن نتكلم عن ثقافة عالم عربي كبير عبر قرون عديدة يجب أن يُسرَد تاريخها الأدبي، لذا فالعمل الذي أردنا إنجازه كان يحتاج إلى مخطَّط مدروس ومموَّل بكرمٍ واهتمام، وإلى ناشرين عالميين ينشرونه بالإنجليزية وسواها من اللغات العالمية. نحن نجحنا في نشر ما أعددناه عند ناشرين معروفين لم يكن عندهم تردُّد للحظةٍ في أخـذ ما قدّمناه، وجلُّهم ناشرون كبار، أمثال مركز دراسات الوحـدة العربية في بيروت، ودار جامعة كولومبيا في نيويورك، ودار بريل للنشر في هولندا، وسواهم. وقد نشروا لنا كثيرًا، ولكن هذا الكثير كان أقل بكثير مما كنا قادرين على تزويدهم به لو أن وزارات الثقافة العربية رأت وآمنت وأعطت، مع أن براهين نجاح العمل كانت واضحة أمام أعينهم. ولكن أغلب هذه الوزارات لم تراجع شيئًا لنا أو تحاول التعرف على قيمته فنيًّا وعمليًّا. ولم تكلف أيّ وزارةٍ نفسَها عندما تخلّفت عن مساعدتنا حتى بكلمة اعتذار. هذا شيء مدهش للغايـة.

كنتُ قدمت للأمناء على الثقافة العربية مخطَّط مشروعٍ واسع درستُه بـدقة كبيرة وقلت لهم مستصرخةً اهتماهم أن يمكّنونا من القيام به ويديروا ماليته من عندهم بحسبما نتفق وإياهم ولم أعـد أسمع منهم.

لو أخذوا هذا المشروعَ لكان عندنا الآن مكتبة من الكتب نفخر بها، مترجَمة جميعها إلى عدد من اللغات العالمية بحسب مقاييسنا العالية التي اتبعناها بنجاح كبير. ولكني لم أعـد أسمع منهم. بذلنا لهم كل ما عندنا من اقتراحات ولم نعد نسمع شيئًا منهم.

ليس هذا مجرد مصادفـة، بل هو شاهدٌ عليهم للأجيال القادمة، شاهـدٌ مبيـن.

أدونيس ومهيار الديلمي

أدونيس

● رأيكِ في أدونيس مبنيٌّ على حادثة مرّ عليها عقود. وقد نقلتُ له ذات حوارٍ أجريتُه معه، قولَكِ: إنّ في مجموعته «أغاني مهيار» مشاركة مع مهيار الشاعر المغترب، وإنه لهذا السبب اختار هذا الاسم لها. وإنّ هناك من يَشتمّ رائحة «شعوبية» في اقتراحه هذا الاسم لمجموعته في البداية قبل أن يستبدل «مهيار» بـ«سريان». فكان ردُّه أنّ هناك أسماء أخرى مقترحة للمجموعة لا يعرف لماذا نسيتِها ولم تتذكري سوى هذا الاسم. وقال: إنك على ما يبدو مسكونة بفكرة مسبقة إلى درجة أنك ربطت بين «مهيار الدمشقي» و«مهيار الديلمي»، رغم أنه لا علاقة للأول بالثاني أكثر من تشابه الأسماء. وأخبرني أدونيس أنه صُدم بذلك، وبخاصة أنك تعرفينه، ولأنك شاعرة وناقدة يحترمها، ولو جاء هذا القول من شخص عادي لما قال شيئًا. لذلك كان ردّه عليك عنيفًا. وأكد كذلك أن من يقرأ ما كتبه شعرًا ونثرًا سيجد أنه خارج التصنيفات الشعوبية والعروبية القومية وغير القومية، وأن نتاجه كله يقوم على تهديم مثل هذه التصنيفات.

الآن؛ وبعد توضيح أدونيس، هل ما زلت متمسكة برأيك السابق عنه؟

متعِبٌ هذا السؤال، فالحقيقة التي يجب أن ندركها تغطي عددًا من الأجوبة: أولها أن الموضوع نفسه لم يعـد مهمًّا على الإطلاق بعد أن مضت سنوات عليه ونسيه الناس، ومن الحصافة تخطّيه. إنما من المهم أن نتذكر أنّ شعر أدونيس أهـم بكثير من شعر الديلمي، ولم يعد مهمًّا بالنسبة له أو لنا تذكُّر أيّ علاقة له مع الديلمي، سواء وُجدت أم لم توجَـد. إلا أنني لا أصدّق أن هذا كان يفوت أدونيس لحظةً واحدة، كما لا أصدّق أن إيراده شعرَ الديلمي جاء مصادفةً وعفوًا. هذه الإدخالات لا تجيء مصادفةً، ولكن بالنسبة لهذا الإدخال نفسه لا أجد أيّ أهمية في الوقوف أمامه وإضاعة الوقت، فشعر أدونيس شعرٌ باذخٌ قلَّ عديلُه. هذا السؤال يقودنا إلى حياتنا الأدبية في الخمسينيات والستينيات، أيْ إلى فترة التجريب واستقـراء قرارة النفس. كنا وقتئذٍ نهتم بهذه الأمور، ولكن القصائد تغربلت مع الزمن وأُسقط منها ما ليس مهمًّا، ولم يعد الصبر على نقاشٍ كهذا أمرًا ملزمًا أو مأنوسًا.

● كيف تنظرين إلى إسهام المرأة في المدونة الثقافية والفكرية والأدبية العربية؟ هل يمكن القول: إنه يوازي نظيره في دول الغرب مثلًا؟

لم يتوازَ إسهام المرأة في أيّ مكان من العالم بإسهام الرجل، ولعل وضع المرأة الطبيعي كربّة بيت وأمّ يؤخر مساواة إسهامها بإسهام بالرجل، ولكن لا بـد من القول: إن المرأة عندنا لم تواجه ما كان متوقَّعًا عند (البعض)، وهو إفشال مسعاها وتهميشها كليًّا، فهي لم تتهمّش عندنا كما كان متوقَّعًا. لا أستطيع أن أحكم على ما لا أعرف، فلا بـد أن ثمة نساء متعددات حُرمن -لأنهن نساء- من الاشتراك المباشر في العطاء الإبداعي، ولكن الأمر غير معلَن بحسب معرفتي، غير معلَن خجلًا، فمَن هو الرجل الذي يتعمّد مواجهةَ وضعٍ حسّاس جدًّا كهذا ويعترف بموقفه المانع الرادع لامـرأةٍ موهوبة، أختًا كانت أو ابنة أو زوجة، دخلت في عملية الإبداع ونشرت كتابتها. أظن أن هذا صعب جدًّا، ويظل -عندما يحدث- سرًّا عائليًّا قد يكشف نفسَه بعد سنين. أظن أن التدخل العائلي أحيانًا حرم عـددًا من الأديبات من البروز، كان هذا الحرمان شاهدًا على تعصُّب وتحكُّم كبيرَين لا حقّ لأي رجل بممارستهما. هذا القرن سيـرى بروز المرأة العربية المبدعة والمفكرة طولًا وعرضًا.

● أنتِ شاعرة أيضًا. وقد استمعتُ مؤخرًا إلى قصيدةٍ من نتاجك الأخير. هل تعتقدين أنك أنصفتِ تجربتك الشعرية وأعطيتِها ما تستحقّه من وقتٍ واهتمام؟

أعتقد أنني ظلمت نفسي وشعري، ولكني عندما اكتشفتُ سنةَ ١٩٨٠م فقرَ المكتبة العالمية بأدبنا، وكان فقرًا مخيفًا، استجبتُ لنداء الواجب الوطني والأدبي وقررت أن أحاول كلَّ ما أستطيعه لنقـل شيءٍ ذي قيمة من الثقافة العربية إلى اللغة الإنجليزية. وليس ما قدّمناه قليلًا. لقد غيّر وضع الثقافة العربية في العالم تغييرًا كبيرًا.

● هناك مَن يرى أن المرأة أبدعت في منطقة السرد أكثر من إبداعها في الشعر، وأنّ الأسماء النسائية المشهورة في عصرنا في كتابة القصيدة، لم تكن لَتنال الشهرةَ التي نالتها لولا دوافع أخرى عدا القصيدة، ففدوى طوقان شقيقة إبراهيم، ولكونها كذلك، حضرتْ في النقد والإعلام. ونازك الملائكة لولا ما قدّمته في مجال التنظير للقصيدة الحرة ولولا اهتماماتها النقدية لما حظيت قصيدتُها بما حظيتْ به. إلى أيّ مدى تتفقين مع هذا الرأي؟

الرجل أيضًا أبدع في مجال السرد أكثر من إبداعه في الشعر. أما الافتراض أنّ المرأة لا تنال الشهـرة الأدبية إلا خارج الإبداع، ففدوى لم تنَل الشهرةَ لأنها شقيقة إبراهيم، بل أيضًا لأنها كتبت شعرًا غير قليل كان جزءٌ منه شعرًا مقاومًا أشهرها كثيرًا في تلك اللحظة الأدبية، أما نازك الملائكة فقد كتبت شعرًا جيدًا بالأسلوب الحديث، ولا سيما في الخمسينيات عندما أبدعت لغةً شعرية انقلابية، وربما لا تتيح المساحةُ هنا إعطاءك ما يكفي من الأمثلة لإبداع نازك. على كلٍّ؛ هذا هجومٌ ذكوريّ على الشاعرات، ولا مكان له في النقاش الجـادّ.

إذا راجعنا حقبة الخمسينيات نستطيع أن نـدرك مدى إنجاز نازك الملائكة، و«أغنية حب للكلمات» مثلًا، وحدها تكفي للتعريف بمدى ما وصلت إليـه المحاولة الجديدة المبدعة التي قدمتها نازك للشعر العربي، ليس فقط ناقدةً، بل أيضًا شاعرةً، ولا سيما في معاملتها للّغة الشعرية. كانت نازك في خمسينيات القرن العشرين ملكة الشعر والنقد، لكنها سمحت للهجوم الذكوري الذي أحاط بها في مطلع الستينيات، وبالتحديد سنة ١٩٦٢م -يوم هاجم بعض النقاد كتابها «قضايا الشعر المعاصر»- أن يصدمها ويُقصيها عن متابعة مغامرتها مع اللغة الشعرية التي كانت مغامرةً جريئة ولافتة للنظـر كثيرًا. حتى الآن لا أستطيع أن أرى لماذا صمتت نازك أمام نقدٍ لا ديمومة له وغيّـرت مسارهـا.

● هل تجدين فرقًا بين «الناقد» و«الناقدة» في المدونة النقدية العربية؟

لا أتابع هذا المنحى بحثًا. الفروق النقدية تفشل إذا ركزت على هذا النوع من المقارنة في أيّ لغـة. نركّز فقط على قيمة الإدخالات الجديدة لا على جنْسِ مَن أدخلها.

● يسود العنفُ أرجاءَ الوطن العربي، ويغيب منطق الحكمة، برأيك كيف تصل شعوبنا إلى الطمأنينة؟

لا مجال هنا للحديث عن الطمأنينة. هذه ليست من مصطلحات هذه الفترة من حياتنا، فقد أصبحت غريبة عنا.

● كيف تلقيتِ نبأ إعلان الرئيس الأميركي ترامب القدسَ عاصمةً لإسرائيل؟ وكيف يمكن التعامل مع الأمر الواقع في هذا المجال؟

الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تُطلَب من مئات المتعلمين العرب ممن درسوا العلوم السياسية في جامعات العالم. لماذا لا يطْلعون علينا باقتراحات حلولٍ لا بـد منهـا. لعل أكثر المواقف شراسة وإيلامًا في المدة الأخيرة هي عندما فشل العرب في تقديم الاقتراحات الحيوية أيام «حسني مبارك» وقلبوا «الربيع العربي» إلى مأتم جديد.

● ما الذي تقرئينه هذه الفترة؟ وكيف ترتّبين أولويات القراءة لديك؟

أنا لا أقرأ في الرواية إلا في الليل؛ إلا إذا كنت أدرسها أيضًا وأكتب عنها. أما القراءة الفكرية والنقدية ففي النهار والليل بحسب رغبتي.

● هل من مشاريع تعملين عليها حاليًّا؟

عندي كتاب جاهز تقريبًا عن السرديات العربية القديمة كَتب لنا فيه عددٌ من أبرع المتخصصين في مواضيع السرد العربي عربًا ومستعربين، سيصدر باللغتين العربية والإنجليزية، وقد يصدر أيضًا بالفرنسية. كما أنني تلقيت رواية مسلسلة بالإنجليزية عن الأندلس صدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء، وهي جميلة جدًّا، مفرحة في مطلعها في الجزء الأول، ثم يجيئها الحزن إذ تسقط تلك الحضارة الباهرة وتتحول إلى ذكرى. هذه تحتاج إلى ترجمة من الإنجليزية إلى لغتنا، وناهيك عن متعة قراءتها كرواية مبدعة، فهي تكشف للقارئ تاريخ مدة طويلة من تجربتنا تاريخيًّا مع العالم في الأندلس.

● أيّ أمنيةٍ لم تحققيها بعد، وتشعرين أنها ما زالت تلازمك؟

أن أكتب تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية، وقد سرتُ فيه مسافة ولكنه لم يتمّ بعـد.

حل الأزمة يكمن في التكيف مع المستجدات

حل الأزمة يكمن في التكيف مع المستجدات

بلا شك، مستقبل الصحافة الورقية على المحكّ، ولو لم يكن الأمر بهذه الخطورة لما خصصت «الفيصل» ملفًّا لمناقشته. وإذا كان هناك من نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل الذي ينتظر الصحافة الورقية، فلهذه النظرة مشروعيتها في ظل اشتداد عُود المنافِس الشرِس المتمثل في النشر الإلكتروني. وربما لو أن نسبة مستخدمي الإنترنت في المنطقة العربية أعلى مما هي عليه، لكانت الصحافة الورقية التي أنتمي إليها وأنحاز لها وجدانيًّا، في مرحلة الإنعاش أو لكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

وعلى الرغم من ذلك، ربما استعجلت شركة «مايكروسوفت» قليلًا حين أعلنت منذ سنوات أن العالم سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية في عام 2018م. فمن الواضح أن الأمر يحتاج إلى مدة أطول، حتى في الدول المتقدمة التي تؤكد الاستطلاعاتُ فيها عزوفًا متزايدًا عن الصحافة الورقية والمطبوعة واتجاهًا أكثر نحو الصحافة الإلكترونية لتلقي الخبر والمعلومة. فما بالك بالمنطقة العربية التي تعاني مساحاتٌ واسعة فيها انتشارَ الأمّية التقنية (وإنْ بِنِسَب متفاوتة)، وضعف البنية الاتصالية التحتية فيها.

أما ما تَوقّعه الخبير الإعلامي «فيليب ماير» في عام 2004م من اختفاء جميع المطبوعات خلال ثلاثين عامًا لتحلّ محلها مصادر الأخبار الإلكترونية، فيبدو توقُّعًا في غير محلّه، رغم أنه أكثر منطقيةً أو واقعيةً من استطلاع «مايكروسوفت» السابق الذكر. لكن هل علينا أن نلقي باللائمة على الصحافة الورقية بوصفها سببَ هذا المصير الذي ينتظرها؟ من المؤكد: لا. فهناك أزمة مالية ضربت صناعة الصحافة في العالم، فأُغلقت صحف، وتحولت أخرى إلى الصيغة الإلكترونية… وهناك صحف آثرت أن تصمد قليلًا ولو بكثير من التضحيات. ومن ذلك: إعادة الهيكلة، والاستغناء عن موظفين، وإغلاق مكاتب، وإنهاء عقود مراسلين، وتقليص عدد الصفحات، وتخفيض مستوى الجودة في الطباعة… إلخ. ومن الواضح أن هذا المسار الحلزوني الذي تشهده الصحافة الورقية ليس مؤقتًا، وأنه مرشَّح إلى المزيد من التدهور.

وفي المقابل، فإن الصحافة الإلكترونية تتيح للقارئ – المتصفح استخدام أكثر من حاسة في الوقت نفسه (المشاهدة، والقراءة، والاستماع أيضًا). وإذا كانت الصحافة الإلكترونية أسهمت عالميًّا في إحداث ما يشبه الانقلاب في طريقة صياغة الخبر وشكله وأسلوب تحريره، اعتمادًا على التكثيف والاختزال، فإن هذه السمة تبدو غير متحققة في عدد كبير من الصحف الإلكترونية العربية، فجُلّ ما تنشره المواقع الإخبارية لا يلتزم بتقاليد العمل الصحافي، ويفتقر إلى المناقبية المهنية والأخلاقية، وهو ما دعا نقابة الصحفيين الأردنيين –على سبيل المثال- إلى إصدار بيان أواخر عام 2014م دعت فيه وسائلَ الإعلام إلى ممارسة عملها في إطار مواثيق الشرف الصحفي، وعدم اللجوء إلى الابتزاز والتشهير والتجريح وإطلاق الإشاعة والإساءة إلى كرامات الأسر والأفراد، والكفّ عن الممارسات التي تسيء لمصداقية الإعلام.

ومن نافل القول: إن معظم الصحف الإلكترونية تعاني هي أيضًا صعوبات مالية تتعلق بالتمويل، وغياب التخطيط، وقلّة المردود المتأتي من الإعلان مقارنة بالصحف الورقية، فما زال المعلِن يشعر بعدم الثقة بالصحافة الإلكترونية، ولا ينظر لها  بجدّية كافية لتكون نافذته على الشرائح التي يستهدفها. كما أن الصحافة الإلكترونية تلجأ كثيرًا إلى الاستنساخ من الصحف الورقية ووكالات الأنباء، ويحدث هذا في ظل غياب الرقابة والمحاسبة في الغالب. وقد جرى الانتباه إلى هذه المسألة، فوسّعت نقابة الصحفيين الأردنيين مظلة العضوية فيها في التعديل الأخير على قانونها الذي جرى منتصف عام 2014م، ومن التعديلات المهمة على القانون والمرتبطة بالصحف الإلكترونية، يُشترَط أن تنطبق على رئيس التحرير الشروطُ نفسُها المطلوب توافرها في رئيس تحرير المطبوعة الورقية.

وإذا لم تتكيّف الصحافة الورقية مع المستجدات، فستزداد أزمتها، وربما تواجه ما يمكن دعوته «الداروينية الإعلامية»، أي أن يُطبَّق قانون «داروين» عليها؛ صراع البقاء، وهو ما يعني في النهاية أن البقاء للأقوى. ويكمن أحد المخارج لأزمة الصحافة الورقية في الأردن، بأن تعمل الحكومة على إعفاء مدخلات الإنتاج (الورق والحبر ومعدات الطباعة) من الضرائب، أو على الأقل تخفيض الضرائب، إضافة إلى زيادة عدد الاشتراكات الحكومية بالصحف الورقية، ورفع حصة هذه الصحف من الإعلانات، وتعزيز استقلالية المؤسسات الصحفية إداريًّا وتحريريًّا.

الأقليات في الأردن: يحرسون الملك ومنهم رؤساء حكومات ووزراء وفنانون وروّاد في الأدب

تبدو الأقليات في الأردن مختلفة عنها في أنحاء من الوطن العربي، فكثير ممن ينتمون إلى الأقليات كان إسهامهم عميقًا وجذريًّا في مختلف مؤسسات الدولة، من دون أن يثير أحد هؤلاء أي أسئلة من أي نوع. إذ إن من المعروف أن رشيد طليع هو أول رئيس للوزراء في إمارة شرقي الأردن (1921م)، لكنّ قلّةً من الأردنيين يعرفون أنه درزيّ، فمثل هذه المعلومة قد تبدو ثانوية، وخارج اهتمام الناس ما دام الرجل (وهو لبنانيُّ الأصلِ) عروبيًّا وذا نزعة وطنية واستقلالية.

عندما تولّى سعيد المفتي رئاسة الحكومة عام 1952م، لم يلتفت أحد إلى كونه شركسيًّا ينتمي إلى عائلةٍ مهاجرة من روسيا، وانصبّ التركيز بدلًا من ذلك على رجلِ دولة نجح في نيل موافقة مجلس الأمة بالإجماع على وحدة الضفتين، ولم يكن مستغرَبًا إسناد هذا المنصب له ثلاث مرات أخرى من دون أن يؤثر هذا في تقديمه بوصفه زعيمًا للشركس. أما سعد جمعة الذي تولّى رئاسة الحكومة عام 1967م مرتين، وذلك في مرحلة عصيبة شهدت اضطرابات متتالية في تاريخ الأردن المعاصر، فكان الكثيرون لا يعرفون أنه من أصلٍ كرديّ، وحسْبُهم أنه أول رئيس وزراء يحصل على الثقة بالإجماع من مجلس النواب.

هذه النظرة التي لا تفرّق بين مواطن وآخر بسبب المذهب، أو العرق، أو القومية، أو الدين، هي التي جعلت تعبيرًا مثل الأقلية، يبدو إلى حدّ كبير محض تعبيرٍ وصفيٍّ يشير إلى العدد ونسبته، ولا علاقة له بالحقوق أو الواجبات من قريب أو بعيد، فالأردنيون أمام القانون سواءٌ. ويقدَّر عدد سكان الأردن بنحو ثمانية ملايين نسمة، معظمهم من العرب المنحدرين من قبائل هاجرت إلى المنطقة على مر السنين، إضافة إلى ذلك، هناك الشركس الذين هم من أحفاد اللاجئين المسلمين من جراء الغزو القيصري الروسي للقوقاز في القرن التاسع عشر، وهناك الشيشان الذين يشكلون مجموعة أصغر مقارنة بالشركس. وثمة أعداد قليلة من الأكراد والدروز والأرمن والبهائيين.

عند الحديث عن دولٍ التهمتها نيرانُ النزاعات والحروب الأهلية، يشار إلى الأردن الذي يشهد تنوعًا عرقيًّا ودينيًّا، بوصفه حالةً متقدمةً في تجانس التركيبة الاجتماعية، وصهر الفوارق في مكوّناتها، دون مسٍّ بحرية العقيدة الدينية، أو حرية تكوين الجمعيات، أو حرية التعليم أو الحق بالعمل. فأبناء الأقلّيات، يتحركون في الفضاء العام من دون أن يواجهوا مشكلات الهوية المركّبة، أو تعدّد الولاءات، أو ازدواجيتها، وتشارك فِرقهم الفولكلورية في المهرجانات الثقافية والفنية، لتعبّر عن موروثهم في إطارٍ من الخصوصية التي تُغني المشهد، وبما يحقق المثاقفة مع بقية المكونات.

فنانون وشخصيات اعتبارية

هذا الوعي بأهمية دمجِ المكونات المختلفة، وصهرها لتصل إلى الدرجة الكافية من الاتفاق مع محيطها المتنوع، بدأ مبكرًا، ويكفي أن تتأمل صورةً لأحد ملوك الأردن محاطًا بالحرس الخاص للقصور الملكية لتتأكد من هذا. فقد جرت العادة أن يُختار معظم أفراد هذا الحرس من الشركس، بالنظر إلى ما عُرف عن هؤلاء من ولاءٍ، وما يتمتعون به من أمانة، بل إن الزيّ الخاص بالحرس الملكي هو زيّ فولكلوريّ شركسي! واشتُهر أفراد في العائلة المالكة بعلاقتهم الوثيقة بالشركس، وبخاصة الأمير علي الذي ما زال الناس يتداولون مقطعَ فيديو يَظهر فيه وهو يشارك الشركس إحدى رقصاتهم الفولكلورية.

ويسهل على المرء استذكار عشرات الشخصيات الاعتبارية من الشركس، مثل: الفنان المسرحي الرائد أشرف أباظة، وشكيب الداغستاني الذي كان من أوائل المعلّمين في مدرسة السلط الثانوية، والكاتبة زهرة عمر صاحبة الرواية الشهيرة «الخروج من سوسروقة»، والأكاديمية لانا مامكغ التي تولّت وزارة الثقافة، وإحسان شقم الذي عمل مديرًا عامًّا للإذاعة والتلفزيون، والشاعر فيصل قات، والكاتب الصحفي المعروف باتر وردم، والروائي والمخرج السينمائي العالمي محيي الدين قندور، والروائي محمد عمر أزوقة، ونانسي باكير التي تولّت وزارة الثقافة ومنصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، وعلياء حاتوغ التي تولت وزارتي السياحة والبيئة، ونبيه شقم وزير الثقافة الحالي.

وللبلقان حضورٌ رمزيٌّ بين الأقليات في الأردن كما يقول الدكتور محمد الأرناؤوط، أستاذ التاريخ في جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمّان، فهناك جزء من الشركس استقروا في ولاية قوصوة (جنوب صربيا وجمهورية كوسوفو الحالية) وبنوا نحو خمسين قرية جديدة بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي، ولكن مع اندلاع الحرب الروسية العثمانية (1877م) وقيام القوات الصربية بتجريف المنطقة هاجروا من جديد إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام، واستقر بعضهم في شرق الأردن حيث عُرفوا باسم شراكسة قوصوة، وكان من أبرزهم اللواء ميرزا وصفي الذي أصبح قائدًا لسلاح الفرسان في إمارة شرق الأردن. وعندما قامت النمسا باحتلال البوسنة سنة 1878م هاجر مئات الألوف من المسلمين إلى داخل الدولة العثمانية التي وزّعتهم على ولاياتها، فقدم بعضهم إلى فلسطين وأصبح بعد عام 1948م جزءًا من الأردن، حيث تميَّز بكنية «بشناق» التي تدل على موطنه الأصلي. وقد أعاد بعض هؤلاء تواصله مع الموطن الأصلي بعد استقلال البوسنة. ومن أبناء البشناق الذين عُرفوا في مجالات الثقافة والإدارة عبدالرحمن بشناق (1913-1999م) عضو مجمع اللغة العربية الأردني، والمدير العام السابق لمؤسسة عبدالحميد شومان.

وإلى جانب هؤلاء المئات من البشناق، يلفت الأرناؤوط إلى أقلية صغيرة أيضًا تُعدّ بالمئات من الألبان الذين هاجروا من موطنهم بعد حرب البلقان (1912/1913م) وبعد قيام صربيا باحتلال ولاية قوصوة، حيث استقر قسم منهم في فلسطين وبعد عام 1948م أصبحوا جزءًا من الأردن. وأسوة بالبشناق عُرف هؤلاء بكنية تميّزهم هي الأرناؤوط. وقد برزت منهم شخصيات معروفة في الإدارة والطب والتعليم، مثل نوري شفيق وزير التربية الأسبق، والطبيب المعروف المختص بالغدد وأمراض السكّري محمد الأرناؤوط.

أما الشيشان فقد هاجروا للأردن من غروزني ـ القوقاز في أواخر القرن التاسع عشر. ويُعزى إليهم بناء مدينة الزرقاء في التاريخ المعاصر، ويبلغ عددهم نحو عشرة آلاف نسمة. وقد اندمجوا في المجتمع والتزموا بمنظومة التقاليد العربية والإسلامية مع حفاظهم على لغتهم الأم «ناخ» أو «ناخ داغستان»، وما زالوا يتمسّكون بعاداتهم وتقاليدهم التي تعكس هويتهم وشخصيتهم واعتزازهم بقوميتهم، مثل تقليد خطف العروس برضاها وضد إرادة أسرتها، وهو التقليد الذي يمارسونه إلى اليوم تمثيلًا، بوصفه تعبيرًا عن الفروسية والرجولة والشجاعة.

ومن أبرز الشخصيات الشيشانية في الأردن: بهاء الدين الشيشاني، وهو أول رئيس لبلدية الزرقاء (1928م)، وقاسم بولاد الذي رَأَسَ بلدية الزرقاء أيضًا، وانتُخب عضوًا في البرلمان، وسعيد بينو الذي عُين وزيرًا للأشغال العامة وأصدر كتابًا مرجعيًّا عن الشيشان، ومحمد بشير إسماعيل الشيشاني الذي عُين وزيرًا للزراعة وأمينًا للعاصمة، وسميح بينو الذي تولّى منصبًا وزاريًّا، وانتُخب في مجلس النواب، واختير في مجلس الملك (الأعيان) وكان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد.

زهد في المشاركة السياسية

وبما يخص البهائيين، فقد استقرّوا في الأردن منذ أواخر القرن التاسع عشر (1890م)، بعدما فرّوا من الاضطهاد الإيراني القاجاري، وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى منهم تنتمي إلى أصول إيرانية، فإنها لا تعبّر عن ثقافة فرعية خاصة بها، ولا تعدّ نفسها مجموعة إثنية، بل جزءًا من نسيج المجتمع الأردني، حتى إنه ليس لها زيّ فولكلوري يميزها من سواها.

ويقدّر عدد البهائيين الذين يتوزعون في جميع أنحاء البلاد، بنحو 1000 شخص، وقد خصصت بلدية إربد في الخمسينيات من القرن الماضي، جزءًا من المقبرة الإسلامية لهم، وكانوا قد بنوا في ذلك الوقت مدرسة ومكانًا للاجتماع والعبادة في العدسية يسمّونه حظيرة القدس، قبل أن يشيدوا بناءً مماثلًا في عمّان، ثم بناءً ثالثًا في إربد في مطلع الثمانينيات. ولهم كذلك مقابر في منطقتي طبربور (عمّان) والعدسية (الأغوار)، وهو ما يشير إلى اعتراف واضح بهذه الطائفة، وبحريتها في التعبير عن معتقدها.

ووفقًا للباحثة والأكاديمية نسرين أخترخاوري، فإن البهائيين يزهدون في المشاركة السياسية، لكنهم فاعلون في الشؤون العامة وقضايا المجتمع المدني، وينصبّ اهتمامهم على تحفيز الشباب والناشئة على الانخراط في خدمة مجتمعاتهم المحلية.

ويتركّز وجود البهائيين في منطقة العدسية، ويعود لهم الفضل في تطويرها عبر استصلاح مساحات واسعة من الأراضي، واستخدام آليات وطرق زراعية حديثة، إلى جانب إدخالهم عددًا من المحصولات التي لم تكن معروفة في المنطقة، مثل الموز والحمضيات والباذنجان الذي يسمى العجمي نسبة إليهم.

وبرز من بين معلمي مدرسة السلط الثانوية «أم المدارس في الأردن» حسين روحي، وعلي روحي الذي أسهم في تطوير المناهج المدرسية، وكان على علاقة طيبة بالملك عبدالله الأول. كما أن محمود سيف الدين الإيراني، رائد القصة القصيرة في فلسطين والأردن «صدرت مجموعته الأدبية الأولى أوّل الشوط سنة 1937م» كان بهائيًّا. ومن الشخصيات البهائية المشهورة أيضًا د. نسرين أخترخاوري التي تقيم الآن في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعمل في إحدى الجامعات هناك وتتولى التعريف بالأدب العربي عبر استضافة كتّاب عرب وترجمة أعمالهم.

بروتوكولات حكماء صهيون

وفيما يتصل بالدروز (بنو معروف)، فمن أهم رجالاتهم الذين كانوا أعضاء في حزب الاستقلال والذين وفدوا إلى الأردن قادمين من دمشق بعد انتهاء الحكم الفيصلي؛ فؤاد سليم الذي شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش، والأمير عادل أرسلان الذي عُين رئيسًا للديوان الأميري، وعجّاج نويهض الذي كان مؤرخًا وأديبًا ومترجمًا تولّى إدارة الإذاعة العربية في القدس في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم إدارة المطبوعات والنشر بالأردن، والذي نال كتابه «بروتوكولات حكماء صهيون» شهرة كبيرة. وكان استقرار الدروز بوصفها جماعة في الأردن بدأ في عام 1918م عندما وصلت 22 عائلة درزية من جبل العرب بعد خروج الأتراك من المنطقة، وسكنت القصرَ الأموي في واحة الأزرق، قبل أن يتوجه أبناؤها لتشييد مساكنهم حول القصر.

وكان استخراج ملح الطعام وتكريره من أهم مصادر دخلهم، وقد نشطوا في تأسيس الجمعيات الخيرية والتعاونية والنوادي الثقافية والرياضية، ومن أبرزها منتدى الأزرق الثقافي الذي ينظم مهرجان الأزرق للثقافة والفنون سنويًّا في قلعة الأزرق الأثرية. أما الأرمن فيبلغ عددهم في الأردن نحو ثلاثة آلاف نسمة، وهم يدينون بالمسيحية، وينتمي معظمهم إلى كنيسة الأرمن الأرثوذكس، كما يحافظون على لغتهم الأم، إلى جانب تحدثهم بالعربية. ولهم حيٌّ باسمهم في جبل الأشرفيّة بالعاصمة.

في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن الثقافة العربية والإسلامية لا تزال هي السائدة والمسيطرة، وهي التي تمنح المجتمع الأردني الصبغة الغالبة في تقديم نفسه للعالم بالرغم من التنوع الغريب والعشوائي في تشكيلته، وبموازاة ذلك، لا تتردد الأقليات في التعبير عن نفسها في مناسباتها المختلفة، من خلال التمسك بالزي الفولكلوري، وممارسة طقوسها المتوارثة في الأفراح والأتراح، واستخدام لغاتها القومية في التواصل بين أفرادها، وإحياء عاداتها وتقاليدها في مهرجاناتها الفنية والثقافية.

الأقليات في الأردن: يحرسون الملك ومنهم رؤساء حكومات ووزراء وفنانون  وروّاد في الأدب

الأقليات في الأردن: يحرسون الملك ومنهم رؤساء حكومات ووزراء وفنانون وروّاد في الأدب

تبدو الأقليات في الأردن مختلفة عنها في أنحاء من الوطن العربي، فكثير ممن ينتمون إلى الأقليات كان إسهامهم عميقًا وجذريًّا في مختلف مؤسسات الدولة، من دون أن يثير أحد هؤلاء أي أسئلة من أي نوع. إذ إن من المعروف أن رشيد طليع هو أول رئيس للوزراء في إمارة شرقي الأردن (1921م)، لكنّ قلّةً من الأردنيين يعرفون أنه درزيّ، فمثل هذه المعلومة قد تبدو ثانوية، وخارج اهتمام الناس ما دام الرجل (وهو لبنانيُّ الأصلِ) عروبيًّا وذا نزعة وطنية واستقلالية.

عندما تولّى سعيد المفتي رئاسة الحكومة عام 1952م، لم يلتفت أحد إلى كونه شركسيًّا ينتمي إلى عائلةٍ مهاجرة من روسيا، وانصبّ التركيز بدلًا من ذلك على رجلِ دولة نجح في نيل موافقة مجلس الأمة بالإجماع على وحدة الضفتين، ولم يكن مستغرَبًا إسناد هذا المنصب له ثلاث مرات أخرى من دون أن يؤثر هذا في تقديمه بوصفه زعيمًا للشركس. أما سعد جمعة الذي تولّى رئاسة الحكومة عام 1967م مرتين، وذلك في مرحلة عصيبة شهدت اضطرابات متتالية في تاريخ الأردن المعاصر، فكان الكثيرون لا يعرفون أنه من أصلٍ كرديّ، وحسْبُهم أنه أول رئيس وزراء يحصل على الثقة بالإجماع من مجلس النواب.

%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d9%85%d9%81%d8%aa%d9%8a

سعيد مفتي

saad_juma

سعد جمعة

هذه النظرة التي لا تفرّق بين مواطن وآخر بسبب المذهب، أو العرق، أو القومية، أو الدين، هي التي جعلت تعبيرًا مثل الأقلية، يبدو إلى حدّ كبير محض تعبيرٍ وصفيٍّ يشير إلى العدد ونسبته، ولا علاقة له بالحقوق أو الواجبات من قريب أو بعيد، فالأردنيون أمام القانون سواءٌ. ويقدَّر عدد سكان الأردن بنحو ثمانية ملايين نسمة، معظمهم من العرب المنحدرين من قبائل هاجرت إلى المنطقة على مر السنين، إضافة إلى ذلك، هناك الشركس الذين هم من أحفاد اللاجئين المسلمين من جراء الغزو القيصري الروسي للقوقاز في القرن التاسع عشر، وهناك الشيشان الذين يشكلون مجموعة أصغر مقارنة بالشركس. وثمة أعداد قليلة من الأكراد والدروز والأرمن والبهائيين.

عند الحديث عن دولٍ التهمتها نيرانُ النزاعات والحروب الأهلية، يشار إلى الأردن الذي يشهد تنوعًا عرقيًّا ودينيًّا، بوصفه حالةً متقدمةً في تجانس التركيبة الاجتماعية، وصهر الفوارق في مكوّناتها، دون مسٍّ بحرية العقيدة الدينية، أو حرية تكوين الجمعيات، أو حرية التعليم أو الحق بالعمل. فأبناء الأقلّيات، يتحركون في الفضاء العام من دون أن يواجهوا مشكلات الهوية المركّبة، أو تعدّد الولاءات، أو ازدواجيتها، وتشارك فِرقهم الفولكلورية في المهرجانات الثقافية والفنية، لتعبّر عن موروثهم في إطارٍ من الخصوصية التي تُغني المشهد، وبما يحقق المثاقفة مع بقية المكونات.

فنانون وشخصيات اعتبارية

محيي الدين قندور

محيي الدين قندور

هذا الوعي بأهمية دمجِ المكونات المختلفة، وصهرها لتصل إلى الدرجة الكافية من الاتفاق مع محيطها المتنوع، بدأ مبكرًا، ويكفي أن تتأمل صورةً لأحد ملوك الأردن محاطًا بالحرس الخاص للقصور الملكية لتتأكد من هذا. فقد جرت العادة أن يُختار معظم أفراد هذا الحرس من الشركس، بالنظر إلى ما عُرف عن هؤلاء من ولاءٍ، وما يتمتعون به من أمانة، بل إن الزيّ الخاص بالحرس الملكي هو زيّ فولكلوريّ شركسي! واشتُهر أفراد في العائلة المالكة بعلاقتهم الوثيقة بالشركس، وبخاصة الأمير علي الذي ما زال الناس يتداولون مقطعَ فيديو يَظهر فيه وهو يشارك الشركس إحدى رقصاتهم الفولكلورية.

ويسهل على المرء استذكار عشرات الشخصيات الاعتبارية من الشركس، مثل: الفنان المسرحي الرائد أشرف أباظة، وشكيب الداغستاني الذي كان من أوائل المعلّمين في مدرسة السلط الثانوية، والكاتبة زهرة عمر صاحبة الرواية الشهيرة «الخروج من سوسروقة»، والأكاديمية لانا مامكغ التي تولّت وزارة الثقافة، وإحسان شقم الذي عمل مديرًا عامًّا للإذاعة والتلفزيون، والشاعر فيصل قات، والكاتب الصحفي المعروف باتر وردم، والروائي والمخرج السينمائي العالمي محيي الدين قندور، والروائي محمد عمر أزوقة، ونانسي باكير التي تولّت وزارة الثقافة ومنصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، وعلياء حاتوغ التي تولت وزارتي السياحة والبيئة، ونبيه شقم وزير الثقافة الحالي.

وللبلقان حضورٌ رمزيٌّ بين الأقليات في الأردن كما يقول الدكتور محمد الأرناؤوط، أستاذ التاريخ في جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمّان، فهناك جزء من الشركس استقروا في ولاية قوصوة (جنوب صربيا وجمهورية كوسوفو الحالية) وبنوا نحو خمسين قرية جديدة بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي، ولكن مع اندلاع الحرب الروسية العثمانية (1877م) وقيام القوات الصربية بتجريف المنطقة هاجروا من جديد إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام، واستقر بعضهم في شرق الأردن حيث عُرفوا باسم شراكسة قوصوة، وكان من أبرزهم اللواء ميرزا وصفي الذي أصبح قائدًا لسلاح الفرسان في إمارة شرق الأردن. وعندما قامت النمسا باحتلال البوسنة سنة 1878م هاجر مئات الألوف من المسلمين إلى داخل الدولة العثمانية التي وزّعتهم على ولاياتها، فقدم بعضهم إلى فلسطين وأصبح بعد عام 1948م جزءًا من الأردن، حيث تميَّز بكنية «بشناق» التي تدل على موطنه الأصلي. وقد أعاد بعض هؤلاء تواصله مع الموطن الأصلي بعد استقلال البوسنة. ومن أبناء البشناق الذين عُرفوا في مجالات الثقافة والإدارة عبدالرحمن بشناق (1913-1999م) عضو مجمع اللغة العربية الأردني، والمدير العام السابق لمؤسسة عبدالحميد شومان.

محمد عمر أزوقة

محمد عمر أزوقة

وإلى جانب هؤلاء المئات من البشناق، يلفت الأرناؤوط إلى أقلية صغيرة أيضًا تُعدّ بالمئات من الألبان الذين هاجروا من موطنهم بعد حرب البلقان (1912/1913م) وبعد قيام صربيا باحتلال ولاية قوصوة، حيث استقر قسم منهم في فلسطين وبعد عام 1948م أصبحوا جزءًا من الأردن. وأسوة بالبشناق عُرف هؤلاء بكنية تميّزهم هي الأرناؤوط. وقد برزت منهم شخصيات معروفة في الإدارة والطب والتعليم، مثل نوري شفيق وزير التربية الأسبق، والطبيب المعروف المختص بالغدد وأمراض السكّري محمد الأرناؤوط.

أما الشيشان فقد هاجروا للأردن من غروزني ـ القوقاز في أواخر القرن التاسع عشر. ويُعزى إليهم بناء مدينة الزرقاء في التاريخ المعاصر، ويبلغ عددهم نحو عشرة آلاف نسمة. وقد اندمجوا في المجتمع والتزموا بمنظومة التقاليد العربية والإسلامية مع حفاظهم على لغتهم الأم «ناخ» أو «ناخ داغستان»، وما زالوا يتمسّكون بعاداتهم وتقاليدهم التي تعكس هويتهم وشخصيتهم واعتزازهم بقوميتهم، مثل تقليد خطف العروس برضاها وضد إرادة أسرتها، وهو التقليد الذي يمارسونه إلى اليوم تمثيلًا، بوصفه تعبيرًا عن الفروسية والرجولة والشجاعة.

ومن أبرز الشخصيات الشيشانية في الأردن: بهاء الدين الشيشاني، وهو أول رئيس لبلدية الزرقاء (1928م)، وقاسم بولاد الذي رَأَسَ بلدية الزرقاء أيضًا، وانتُخب عضوًا في البرلمان، وسعيد بينو الذي عُين وزيرًا للأشغال العامة وأصدر كتابًا مرجعيًّا عن الشيشان، ومحمد بشير إسماعيل الشيشاني الذي عُين وزيرًا للزراعة وأمينًا للعاصمة، وسميح بينو الذي تولّى منصبًا وزاريًّا، وانتُخب في مجلس النواب، واختير في مجلس الملك (الأعيان) وكان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد.

زهد في المشاركة السياسية

نانسي باكير

نانسي باكير

وبما يخص البهائيين، فقد استقرّوا في الأردن منذ أواخر القرن التاسع عشر (1890م)، بعدما فرّوا من الاضطهاد الإيراني القاجاري، وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى منهم تنتمي إلى أصول إيرانية، فإنها لا تعبّر عن ثقافة فرعية خاصة بها، ولا تعدّ نفسها مجموعة إثنية، بل جزءًا من نسيج المجتمع الأردني، حتى إنه ليس لها زيّ فولكلوري يميزها من سواها.

ويقدّر عدد البهائيين الذين يتوزعون في جميع أنحاء البلاد، بنحو 1000 شخص، وقد خصصت بلدية إربد في الخمسينيات من القرن الماضي، جزءًا من المقبرة الإسلامية لهم، وكانوا قد بنوا في ذلك الوقت مدرسة ومكانًا للاجتماع والعبادة في العدسية يسمّونه حظيرة القدس، قبل أن يشيدوا بناءً مماثلًا في عمّان، ثم بناءً ثالثًا في إربد في مطلع الثمانينيات. ولهم كذلك مقابر في منطقتي طبربور (عمّان) والعدسية (الأغوار)، وهو ما يشير إلى اعتراف واضح بهذه الطائفة، وبحريتها في التعبير عن معتقدها.

ووفقًا للباحثة والأكاديمية نسرين أخترخاوري، فإن البهائيين يزهدون في المشاركة السياسية، لكنهم فاعلون في الشؤون العامة وقضايا المجتمع المدني، وينصبّ اهتمامهم على تحفيز الشباب والناشئة على الانخراط في خدمة مجتمعاتهم المحلية.

ويتركّز وجود البهائيين في منطقة العدسية، ويعود لهم الفضل في تطويرها عبر استصلاح مساحات واسعة من الأراضي، واستخدام آليات وطرق زراعية حديثة، إلى جانب إدخالهم عددًا من المحصولات التي لم تكن معروفة في المنطقة، مثل الموز والحمضيات والباذنجان الذي يسمى العجمي نسبة إليهم.

لانا مامكغ

لانا مامكغ

وبرز من بين معلمي مدرسة السلط الثانوية «أم المدارس في الأردن» حسين روحي، وعلي روحي الذي أسهم في تطوير المناهج المدرسية، وكان على علاقة طيبة بالملك عبدالله الأول. كما أن محمود سيف الدين الإيراني، رائد القصة القصيرة في فلسطين والأردن «صدرت مجموعته الأدبية الأولى أوّل الشوط سنة 1937م» كان بهائيًّا. ومن الشخصيات البهائية المشهورة أيضًا د. نسرين أخترخاوري التي تقيم الآن في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعمل في إحدى الجامعات هناك وتتولى التعريف بالأدب العربي عبر استضافة كتّاب عرب وترجمة أعمالهم.

بروتوكولات حكماء صهيون

وفيما يتصل بالدروز (بنو معروف)، فمن أهم رجالاتهم الذين كانوا أعضاء في حزب الاستقلال والذين وفدوا إلى الأردن قادمين من دمشق بعد انتهاء الحكم الفيصلي؛ فؤاد سليم الذي شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش، والأمير عادل أرسلان الذي عُين رئيسًا للديوان الأميري، وعجّاج نويهض الذي كان مؤرخًا وأديبًا ومترجمًا تولّى إدارة الإذاعة العربية في القدس في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم إدارة المطبوعات والنشر بالأردن، والذي نال كتابه «بروتوكولات حكماء صهيون» شهرة كبيرة. وكان استقرار الدروز بوصفها جماعة في الأردن بدأ في عام 1918م عندما وصلت 22 عائلة درزية من جبل العرب بعد خروج الأتراك من المنطقة، وسكنت القصرَ الأموي في واحة الأزرق، قبل أن يتوجه أبناؤها لتشييد مساكنهم حول القصر.

%d8%af%d8%b1%d9%88%d8%b2

وكان استخراج ملح الطعام وتكريره من أهم مصادر دخلهم، وقد نشطوا في تأسيس الجمعيات الخيرية والتعاونية والنوادي الثقافية والرياضية، ومن أبرزها منتدى الأزرق الثقافي الذي ينظم مهرجان الأزرق للثقافة والفنون سنويًّا في قلعة الأزرق الأثرية. أما الأرمن فيبلغ عددهم في الأردن نحو ثلاثة آلاف نسمة، وهم يدينون بالمسيحية، وينتمي معظمهم إلى كنيسة الأرمن الأرثوذكس، كما يحافظون على لغتهم الأم، إلى جانب تحدثهم بالعربية. ولهم حيٌّ باسمهم في جبل الأشرفيّة بالعاصمة.

في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن الثقافة العربية والإسلامية لا تزال هي السائدة والمسيطرة، وهي التي تمنح المجتمع الأردني الصبغة الغالبة في تقديم نفسه للعالم بالرغم من التنوع الغريب والعشوائي في تشكيلته، وبموازاة ذلك، لا تتردد الأقليات في التعبير عن نفسها في مناسباتها المختلفة، من خلال التمسك بالزي الفولكلوري، وممارسة طقوسها المتوارثة في الأفراح والأتراح، واستخدام لغاتها القومية في التواصل بين أفرادها، وإحياء عاداتها وتقاليدها في مهرجاناتها الفنية والثقافية.