الخطاب الديني من التنوير إلى التكفير

الخطاب الديني من التنوير إلى التكفير

شايع الوقيان

في مطلع القرن التاسع عشر، وبعد أن أفاق العالم العربي والإسلامي من صدمة الاستعمار الغربي، أصبحت هناك رغبة قوية في التعرف إلى هذا الآخر/ العدو. كانت إرادة القوة تثوي خلف إرادة المعرفة؛ فقد تأكد للشرقيين أن الغرب تفوَّقَ بسبب علمه لا بسبب شجاعته أو عَدده. فبادر محمد علي باشا، والي مصر، بإرسال البعثات إلى الغرب ليتعلم أبناء مصر والمسلمين علومَ الغربِ. وهناك حدثت صدمة حضارية ألقت بظلالها على مؤلفات الأدباء والعلماء الأوائل مثل رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي. بعد الجيل المندهش، ظهر الجيل المتسائل مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وعبدالرحمن الكواكبي وعبدالعزيز الثعالبي. وأصبحت طبيعة العلاقة بين الأنا الحضارية الإسلامية والآخر الغربي واضحة. فثمة غربي مستعمِر، ولكن ثمة الغربي العالم والفيلسوف والمتنور. وتبنى هؤلاء كثيرًا من الأفكار التي وجدوها لدى الآخر الغربي كالديمقراطية والمساواة والحرية والاستقلال السياسي والعلمانية. ولكنهم كانوا يقظين ضد مكر المستعمر وخاضوا صراعات وسجالات حادة دفاعًا عن هويتهم الإسلامية (مثلًا، حوار الأفغاني وعبده مع رينان وهانوتو).

ورغم حدة السجال إلا أنهم لم يقطعوا مع الغرب وبحثوا في سبل تطوره، فوجدوها في العلم والعقل والتسامح، وانتهى بهم السجال والتدبر إلى تقديم مدوّنات فلسفية وسياسية واقتصادية عظيمة. ويرى جمال الدين الأفغاني أن معضلات العالم الإسلامي تكون من خلال إنشاء مؤسسات سياسية وعلمية على النمط الأوربي، ويرى أن «حياة الشرقيين تكون بالعلم الصحيح» (خاطرات الأفغاني، ٦/١٢٤)، ويشاركه محمد عبده الذي كان يرمي إلى «إنعاش آماله في شفاء العالم الإسلامي» من خلال الاتصال بالعلم والفكر الغربيين (ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ١٦٨)، أما عبدالرحمن الكواكبي فيرى أن الأصالة لا تتعارض مع الاتصال بالآخر والتفاعل معه، والنموذج الغربي عنده يعد نموذجًا تحريضيًّا، حسب عبارة أدونيس في (الثابت والمتحول). وهؤلاء المفكرون، رغم رفضهم القاطع للاستعمار الغربي، كانوا على وعي بأهمية علم الغرب.

التوماويون الجدد

وهذا الجيل اليقظ المتسائل يعد بحق جيلَ التنوير. ومثلما كان مارتن لوثر، رجل الدين، سببًا في التنوير الغربي (مع أسباب أخرى)، فإن الأفغاني وعبده ورفاقهما، وهم علماء دين، هم رواد التنوير العربي والإسلامي. ويرى ألبرت حوراني أن الأفغاني كان يهيئ نفسه ليكون مارتن لوثر الإسلام، ولعل محمد عبده أيضًا تاقت نفسه لهذا الدور، ولكن هشام شرابي يرفض ذلك قائلًا: «ليس هناك أبعد عن الحقيقة من هذه المفارقة» (المثقفون العرب والغرب، ٣٨)؛ إذ لم تكن دعوة محمد عبده من أجل إعادة صياغة للعقيدة بل للعودة إلى الإسلام الصحيح، ومن ثم فهم يشابهون التوماويين الجدد وليس اللوثريين. يريد شرابي أن محمد عبده لم يكن مجدِّدًا بل كان سلفيًّا يهدف إلى العودة للمنابع. وهذا كلام غير دقيق؛ فابن تيمية وابن عبدالوهاب وغيرهما كانوا يرمون إلى الغاية ذاتها، ومع ذلك فهم يسيرون في طرائق قدد وسبل شتى. وشتان بين دعوة محمد بن عبدالوهاب ودعوة محمد عبده. وعلى كل حال، فلسنا، والحال هذا، ملزمين برأي هشام شرابي، بل بما كان يعتقده الأفغاني في نفسه، وما كان يعتقده محمد عبده في نفسه. ويذكر يوهانسن جانسن أن محمد عبده كان يدعو المسلم المعاصر إلى عدم جعل التفاسير حاجزًا بينه وبين القرآن (جانسن، تفسير القرآن في مصر الحديثة، ١٣٩)، وهذه بالضبط كانت دعوة مارتن لوثر الذي رفض أية وَسَاطة بين المرء وربه.

كان هذا الجيل يعرف خصومه بوضوح، ويعرف أيضًا أصدقاءه ومن له معهم مصلحة يفيد بها أمته. ولا جرم، فهم -في جُلِّهم- علماء وفلاسفة وأدباء. هذا الجيل اندثر، وأخلى مكانه لفكرٍ ديني مأزوم ابتعد من طريق الحضارة وسلك طريق الأيديولوجيا الحركية والعنف. ولا غرابة لو قلنا: إن رواد هذا الفكر الحركي ليس فيهم علماء ولا فلاسفة ولا أدباء إلا نادرًا، ويغلب عليهم الجهل والأمية، وأفضلهم حالًا لا يقف ندًّا لأحد من رجال التنوير الأوائل.

ظهر الفكر الديني الحركي مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا في عشرينيات القرن العشرين. وبدءًا من هذه اللحظة، أخذ الإسلام الحضاري يترك الفضاء العام تدريجيًّا للإسلام الأيديولوجي. ويصح القول: إن الإسلام الأيديولوجي صار المتسيدَ في النصف الثاني من القرن العشرين، وترافق ظهوره مع ظهور تيارات أيديولوجية مشابهة كالفكر الاشتراكي والقومي. والتشابه بين التيار الحركي الإسلامي والتيار اليساري عمومًا يتجلى، ليس في المضمون، بل في الوسائل والآليات التي يتوسل بها كل فريق في فرض سيطرته على الوعي الشعبي العربي.

الحكومة الدينية

لقد قطع الإسلام الحركي مع الإسلام التنويري بشكل جوهري. فعلى سبيل المثال، التنوير الإسلامي لم يكن يؤمن بالحكومة الدينية: فمحمد عبده يؤكِّد أن ليس في الإسلام حاكم ديني، «بل هو حاكم مدني من جميع الوجوه»، وكذلك الكواكبي الذي يقول: «إن الأمم الحية ما أخذوا بالترقي إلا بعد عزلهم شؤون الدين عن شؤون الحياة، وجعلهم الدينَ أمرًا وجدانيًّا محضًا» (مقتبس من محمد ظاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ١٩٧). أما الإسلام الحركي فظهر بمفهوم مغاير تمامًا وهو (الحاكمية). فبعد أن كان المتنورون الإسلاميون يؤمنون بالنظام السياسي الديمقراطي أو شبه الديمقراطي، فإن الحركيين بدءًا من حسن البنا حتى الوقت الحاضر يخلطون بين الدين والسياسة خلطًا صريحًا، ففي رسائله، يقول البنا: إن «سياستنا هي ديننا». ويعد أبو الأعلى المودودي من أوائل من أذاع فكرة الحاكمية. ويقول هذا الرجل بشكل واضح في كتاب (حول تطبيق الشريعة): إن «السلطة المطلقة لله» ويرفض فكرة الفصل بين السلطات الثلاث فالنبي كان «شارعًا وقاضيًا وحاكمًا» و«أن لا علاقة للإسلام بالديمقراطية». وتابعه في ذلك المفكر الإخواني الشهير سيد قطب ومن تأثر به. ففي «معالم في الطريق» يكرر دومًا أن دعوتهم هي نقل الناس من حاكمية البشر إلى حاكمية الله. بل إنه في كتاب العدالة الاجتماعية يجعل الحاكميةَ «أول خصائص الألوهية». ويصر قطب على تميز المشروع الإسلامي بقوله: «لم أستسغ حديث من يتحدثون عن اشتراكية الإسلام أو ديمقراطية الإسلام وما الى ذلك من الخلط بين نظام من صنع الله وأنظمة من صنع البشر».

بعد الاعتقالات والاغتيالات التي تعرض لها رموز الإخوان في عهد جمال عبدالناصر، صار الإسلام الحركي أكثر ميلًا للعنف. ونشأت منظمات جهادية وتفجيرية. ورغم زوال حكم عبدالناصر والسادات، فإن الخطاب الإعلامي الديني لا يزال يحمل في أَطْوائِهِ عنفًا رمزيًّا وفعليًّا واضحًا. صحيح أن الفكر الإخواني القطبي سيطر على الخطاب الديني السني، لكنه بدأ يشهد منافسة من جانب الفكر السلفي. ودار بين الفكرين صراع خفيّ حينًا وجليّ أحيانًا، واشتد الصراع مع ظهور ثورات الربيع العربي، ولا يزال. لكن الخطاب الإخواني كان هو المتسيد ولا يزال؛ لأن نظيره السلفي ليست له أجندة سياسية وليست له مطامع للهيمنة على الفضاء السياسي العام، بل يكتفي بالولاء والطاعة للحاكم الموجود.

ليس هناك طريقة لإصلاح الخطاب الديني إلا بالعودة إلى المشروع التنويري الإسلامي واستئنافه، فهو مشروع عقلاني ومنفتح على الآخر المخالف، وفي الوقت عينه يراهن على تطوير الأنا الحضارية. وأما الاستلاب إلى خطاب منغلق وعنفي فلن ينجم عنه سوى الدمار والهلاك الذي تشهده المنطقة العربية في العقود الأخيرة بسبب تصاعد تيارات الجهاد والتكفير.

صورة المرأة في عصر النهضة

صورة المرأة في عصر النهضة

عصر النهضة العربية ابتدأ باللحظة التي التقى فيها الشرق بالغرب. صحيح أنه كانت هناك لقاءات بين الشرق والغرب إبان الوجود الإسلامي في الأندلس وإبان الحروب الصليبية لكنه كان لقاءً بين ندّين تقريبًا. أما في العصور الحديثة فالشرق هذه المرة يلتقي غربًا جديدًا عليه وأقوى منه؛ غرب الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتطور الجيوسياسي والعسكري. ويمكن التأريخ له بغزو نابليون مصر في آخر القرن الثامن عشر. وكان هناك مفكرون وأدباء واكبوا هذا اللقاء الحضاري وعبروا عنه أبلغ تعبير، ونذكر منهم: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وفرح أنطون، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وينتهي هذا العصر برأيي مع النصف الأول من القرن العشرين عندما قام الضباط في مصر بقيادة جمال عبدالناصر بالانقلاب على العصر النيابي الليبرالي عام ١٩٥٢م.

هناك مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة وكلها يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغرب؟! ومن الأسئلة الفرعية سؤال المرأة. فقد كان وضع المرأة الاجتماعي والقانوني حاضرًا لدى أغلبية -بل كل- رواد النهضة. وتنوعت أساليب الطرح وطرائق التحليل بينهم تنوعًا كبيرًا. ويمكن أن نميز في آرائهم بين محافظين يرون أن المرأة يجب أن تكون حبيسة المنزل تابعة للرجل، وبين مجددين يرون أن المرأة مساوية للرجل في الحقوق وفي الممارسة الاجتماعية وأنها حرة كالرجل. يعد قاسم أمين أبرز من دعا لحرية المرأة وكتابه «تحرير المرأة» أشهر من أن نعرف به. وقد أردفه كتابًا آخر بعنوان: «المرأة الجديدة». ويرى مارون عبود أن الكتاب الأتراك وأحمد فارس الشدياق سبقوا قاسم أمين في الدعوة إلى حرية المرأة (مارون عبود، الأعمال الكاملة: ج٢ ص ٢٦٦). وقد تحول النقاش حول المرأة إلى نقاش طويل حول كتاب قاسم أمين؛ فصار مؤيدو الكتاب هم ذاتهم مؤيدو حرية المرأة، ومعارضوه هم معارضو حرية المرأة. فها هو ذا محمد فريد وجدي يؤلف «المرأة المسلمة» ردًّا على كتاب أمين. وها هو ذا أحمد شوقي يرثي أمينًا مؤيدًا له ولأفكاره. يقول: جهلوا حقيقته وحكمة حكمه فتجاوزوه إلى أذى وضرار. و«أما الخصوم فرفعوا عقائرهم صادحين: كتب الحرب والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيولِ»!

أعداء المرأة

لنلق نظرة على خصوم المرأة أو أعدائها! وأشهرهم هو عباس محمود العقاد. هذا الرجل يوصف أحيانًا بأنه «ليبرالي!» وهذا صحيح جزئيًّا. فهو مؤمن أشد الإيمان بحرية الفرد وهو من أبرز دعاة الفردانية عند العرب. والفردانية هي إحدى ركائز الليبرالية. لكن موقفه من النساء يجعلنا نحذر من إطلاق النعوت والألقاب. يقول في «ساعات بين الكتب»: «ليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيعه، وتلقي بنفسها لكل ما فيها من ذخر حلاوتها بين يديه، وليقسُ الرجل عليها أو يرحمها ويعذبها.. فإنها لسعيدة بالطاعة»(الأعمال الكاملة، مجلد ٢٦، ص ٣٣). ولا أدري كيف عرف العقاد ما في قرارة المرأة؟! ولا أدري كيف جرؤ على التحدث باسمها في شيء من أخص خصائصها وهو خلجات النفس واعتمالات العقل! ويبدو أن العقاد يتصور المرأة كائنًا «مازوخيًّا» يتلذذ بالعذاب والمهانة. ويقول: «لو أن المرأة وجدت الرجل الذي تحب فإنها سوف تكفر بالحقوق والمطالبات، ولما قام للحركة النسوية قائمة». وكل كلام العقاد عن المرأة هو أمر لها بالطاعة العمياء للرجل «فالمرأة خُلقت لتعطي والرجل خلق ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة».(ص٣٤). هذا الكلام المشين الصادر من رجل يفترض أن يكون مفكرًا حرًّا وأديبًا قاد ثورة من أعظم الثورات الأدبية يعد سقطة مدوية، ولا أظن أن العقاد كان له بعد نظر واستشراف للمستقبل وإلا لعرف أنه سيأتي يوم يلفظ الناس فيه كلامه هذا كما يلفظون الطعام الفاسد.

في كتاب «فتاوى الأدباء» يقرر جميل صدقي الزهاوي- وهو معروف بتأييده للسفور: «قلت: هل في السفور خير يرجّى؟ – قال خير من الحجاب السفورُ- إن الرجل والمرأة كجناحي الطائر ولا يمكن للطائر أن يطير بحناج واحد» (ص١٢٢). يتفق معه أحمد أمين فيقول: الرجل لوحده ناقص والمرأة لوحدها ناقصة وهما معًا إنسان كامل.(فيض الخاطر، ج ١، ص٢٦١). لكن أحمد أمين لا يلبث أن يعود فيتحيز للرجل إذ يؤكد أن الرجل أكثر سعة في العقل وفي الخيال من المرأة، وأنه لم يكن هناك نساء في الفلسفة ولا في النبوة! لكن مارون عبود يؤكد أنه كان هناك نساء «نبيات» في عهد بني إسرائيل. فهناك «حنة» و«دبورة» وغيرهما، وأن الأديان تساوي المرأة بالرجل!(عبود، الأعمال الكاملة، ج٣، ص١٢٣-١٢٤، وانظر أيضًا ج ٨، ص ٨٠٣). أحمد أمين في موقفه من المرأة مضطرب ومتناقض. فرغم أنه يؤكد أن المرأة لم تتح لها الفرص التي أتيحت للرجل وإلا فإنها كانت ستتفوق في الشعر والفكر والسياسة.. فإنه يعود فيقرر أن الخصائص التي للمرأة هي خصائص طبيعية فطرية لا تقبل التغير.. ويقصد بهذه الخصائص: ضعف المرأة مقابل قوة الرجل في العقل والخيال والتمرد ويستشهد بأن رجلًا قاد ثورة تحرير المرأة وهو قاسم أمين ثم تبعته المرأة (هدى شعراوي). (فيض الخاطر،ص ٢٦٣).

ومن أسف أن أحمد أمين كالعقاد يعد مفكرًا ليبراليًّا مؤمنًا بالحرية. لكن تحيزه الذكوري خذله، في حين غرور العقاد هو من خذله. وأما رفيق العقاد، عبدالقادر المازني فليس أفضل حظًّا من صاحبه؛ فموقفه من المرأة سلبيّ. فهي ثرثارة والرجل صموت. و«لا تصمت المرأة إلا إذا عجز لسانها عن الجري وانقطعت أنفاسها لأن الكلام لا يكلفها نصبًا عقليًّا!».(قبض الريح، ص١٢٧). أما زعماء الليبرالية الأصلاء كأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وولي الدين يكن وغيرهم فموقفهم واضح وجليّ ولا تذبذب فيه. فولي الدين يكن في «الصحائف السوداء» يؤيد موقف قاسم أمين، وكذلك سعد زغلول، وهناك مفكر لم يشتهر ويدعى محمد عمر وله كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم». أُلِّف سنة ١٩٠٢م. وفيه دفاع قوي عن المرأة وحقوقها وحريتها. يرى أن إبعاد النساء من المشاركة الاجتماعية يفضي إلى انحطاط المجتمع، ويأسف هذا المفكر على أن من عارض قاسم أمين «ليس من فئة الأميين وسطحيي المعارف بل من الفئة الممتازة؛ فئة العلماء»(ص ١٦٤). ويرى أن المعارضين هم «عراقيل وقتية لا تستطيع مقاومة قوة الحقائق». (ص١٦٥).

هؤلاء المعارضون لحقوق المرأة هم ممن غلبت عليهم المحافظة في كل شيء: في الفقه والأدب والفكر والسياسة. فها هو ذا مصطفى صادق الرافعي، أبرز المحافظين، يرى أن المرأة كائن مغاير للرجل، وأن لكل جنس دوره الخاص به ويحذر من «فساد الأنوثة» الذي تدعو له حركات التحرر (فتاوى الأدباء، ص١٣٩). ويتفق معه أمين واصف الذي يعد تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق مرضًا من الأمراض الاجتماعية المعضلة (نفسه، ص ١١١). وأما عبدالوهاب عزام فهو محافظ ويرفض حرية المرأة ويردد الأسطوانة المشروخة وهي أن المرأة مصونة مكرمة وأنها ليست في حاجة للمشاركة الاجتماعية والسياسية. (نقلًا عن: عبداللطيف شرارة، معارك أدبية، ص٣٨٣).

المحافظة المقنعة

لكن هناك مفكرين وأدباء وقفوا موقفًا وسطًا. وبرأيي أن الوسطية في مسائل كهذه هي ضرب من المحافظة المقنّعة! فأسعد داغر مثلًا يدعو للاعتدال ونبذ تقليد المرأة الغربية (نفسه، ص٣٧١). والغريب أن شبلي شميل صاحب مذهب النشوء والارتقاء وقف هذا الموقف المتخاذل فيرى أن الرجل -فسيولوجيًّا ونفسيًّا- أفضل من المرأة ويدعو لوسطية مهلهلة: فليس علينا أن نحتقر المرأة كما فعل شوبنهاور ولا أن نبالغ في تعظيمها كما فعل ديدرو! ويرى أن المرأة «تابعة للرجل في ارتقائه» ( شميل، المقالات، ص ١٠٤).

ما سبق كان ملخصًا سريعًا لأبرز الآراء التي طرحها مفكرو النهضة وأدباؤها. وقد اقتصرت على آراء الرجال لتخصيص الموضوع وإلا فإن هناك نساء مفكرات وأديبات ممن دعا لحرية المرأة مثل هدى شعراوي وصديقتها سيزا نبراوي وسهير القلماوي وصفية زغلول (زوجة سعد زغلول) وأمينة السعيد وغيرهن. فالمقام لا يسمح بذلك وسوف أخصص لهن مقالًا منفردًا في قابل الأيام. لقد شهد تاريخ العالم الحديث أن كل البلدان المتقدمة في كل المجالات هي البلدان التي أعطت المرأة الحقوق كافة، ولم تنتقص منها ومن دورها، ولم تجعلها حبيسة المنزل وحبيسة العادات والتقاليد. فهوية المرأة تكمن في أن تتحرر من الأصفاد، وأن تكسر القيود وأن تصبح عضوًا فاعلًا في المجتمع، ولن يتحقق هذا وهي مطمورة تحت ركام من التقاليد البالية والعادات الظالمة والتأويلات الدينية المتحجرة.