من الأمومة إلى النسوية والحجاب.. «إليزابيث بادينتر» سيدة المواجهات

من الأمومة إلى النسوية والحجاب.. «إليزابيث بادينتر» سيدة المواجهات

«السلطة المؤنثة» (Le pouvoir au féminin) هو عنوان أحدث كتاب لـلفيلسوفة الفرنسية «إليزابيث بادينتر» الصادر عن دار «فلاماريون»، ويتناول الحياة الشخصية والعائلية والسياسية للإمبراطورة «ماريا تيريز» ملكة «المجر وبوهيميا» خلال القرن الثامن عشر، ويعد الكتاب بحثًا تاريخيًّا عن حقبة حكمها، وتحليلًا لشخصيتها وطريقة إدارتها، تتجمع خيوط مباحثه، لتلتقي عند فكرة لطالما تناولتها بادينتر في كتاباتها، وهي قدرة المرأة على القيادة، ومساواتها بالرجل. كما أنها تعكس اهتمام الكاتبة بالبحث عن تاريخ النساء، والوثائق المتعلقة بهن، من رسائل، وغيرها. ويأتي الكتاب في وقت تخوض فيه بادينتر معارك بدأت بآرائها، حول الحجاب في فرنسا، وتطورت إلى تراشق مع اليسار الذي اتهمته بالتنكر للعلمانية، وهو ما استتبع وصفها، بـ«الإسلاموفوبيا»

ترى بادينتر أن النساء مظلومات من زاوية أن كثيرات منهن قد قمن بأدوار مهمة، لكن الوثائق التي تخصهن مفقودة، حتى رسائلهن تُتَجاهَل أو يُتخلَّص منها لاعتبارات اجتماعية في الغالب، حيث لم ينجُ من ذلك إلا قليل، كما في حالة مدام دي شاتلي التي وصلتنا كتابتها، لمصادفة أنها كانت عشيقة فولتير، وبخلاف هذه المصادفات تضيع الرسائل. وهي تصف النساء بأنهن قارة سوداء في التاريخ، ولا يمكن العثور على كلامهن إلا في الأدب. ولهذا السبب فقد بذلت الكاتبة جهدًا كبيرًا في تجميع وقراءة وتحليل ما يزيد عن اثنين وعشرين ألف وثيقة تتعلق بالإمبراطورة ماري تريز معظمها لم يكن متداولًا، لتقدم لنا صورة لامرأة عُيِّنت على رأس الدولة في ظروف صعبة؛ إذ كان والدها تشارلز السادس آخر وريث ذكر لعائلة هابسبورج؛ لذلك اضطر إلى إصدار مرسوم الأمر العالي بتعيينها قبل وفاته، واستطاع أن يحصل على ضمانات لبقائها في موقعها، وهي في المقابل وفقًا للكاتبة قد أثبتت أنها «جديرة ببلادها، وبملكيتها لأراض شاسعة».

كما يلقي الكتاب الضوء على الحياة العائلية للإمبراطورة، التي كانت متزوجة من رجل طموح وطائش هو «فرانسيس الأول»، وكانت أُمًّا لستة عشر من الأبناء والبنات، إحداهن وأشهرهن ماري أنطوانيت التي صارت ملكة لفرنسا قبيل الثورة. وتعرض بادينتر الوثائق التي تؤكد أنها «تمكنت أن توفق بين حيواتها الثلاثة بوصفها زوجة وأُمًّا وملكة، تواجه صراعات مميتة، لا يمكن تصورها. وهو ما يبرهن على أنه لا الطموح ولا الذكاء ولا الرؤية الثاقبة لها جنس، فالرجال والنساء لديهما أهداف في الحياة، وطريقة وضع القوانين هي التي تولد الفروقات». وتؤكد أنها كانت سياسية حكيمة، حكمت على مدى أربعين عامًا أكبر إمبراطورية أوربية من دون أن تخضع مهاراتها للتشكيك. كما كشفت الوثائق عن الطابع المتحضر لشخصية «ماريا تيريز» وقد شكك بعض فيما توصلت إليه بادينتر من خلال رصد إخفاقات لشخصية كتابها، يتعلق معظمها، بخسارتها لمساحات من أرض بلادها.

آراء «بادينتر» المفجرة للنقاشات، والانتقادات، بدأت منذ كتابها الأول «الحب أكثر» (L›amour en plus) الصادر في ثمانينيات القرن الماضي، الذي طرحت من خلاله تساؤلًا حول الأمومة؛ هل هي غريزية لدى النساء، أم أنها جزء من السلوك الاجتماعي يخضع للزمن والأعراف السائدة. وقد عادت لطرح السؤال نفسه بعد أكثر من ثلاثين عامًا، وبعد أن صارت أُمًّا لثلاثة أبناء، من خلال كتاب «الصراع» (le conflit)، الصادر عام 2011م، وتساءلت فيه عن حقيقة ما يقال من أن الأم مدينة لأطفالها بكل شيء: حليبها، ووقتها، وطاقتها، وأنه من المحتم أن تستسلم النساء لهذه العقبة. يبدو مبدؤها السابق متسقًا مع إعلانها الحرب على الحجاب منذ حادثة «كريل» الشهيرة عندما منعت تلميذات محجبات من دخول المدرسة في عام 1989م؛ الأمر الذي أثار حفيظة اليساريين الذين كانوا يدعمونها بقوة، ثم انقلبوا عليها، بسبب موقفها، وهو ما لم تغفره بادينتر فاتهمتهم بالتخلي عن العلمانية. ما وصف بشمولية بادينتر أصبح أكثر جدلًا بمناسبة القضايا الإسلامية، وهو ما خلق توترات قوية، وانقسامات حادة بين من يتبنون آراءها وبين اليساريين.

الأخطاء الستة

لم تسلم آراء بادينتر من انتقادات متوالية؛ إذ رد المحلل السياسي توماس غينولي بأنه لن يقبل بشيطنة الطائفة المسلمة من الفرنسيين، كما نشر مقالًا بعنوان: «الأخطاء الستة لإليزابيث بادينتر» وشبهها بـإريك زمور وميشال أونفري قائلًا: إنها مثلهم فيما يخص الكتابة عن الإسلام دون دراسته بجدية، وفند غينولي مزاعم بادينتر من خلال أسئلة أولها: هل يعدّ حجاب المرأة خضوعًا للرجل كما تزعم؟

وأجاب بلا، مستندًا لأنه تنفيذ لأمر قرآني، ومن ثم تفعله المرأة كجزء من عقيدتها.

وثانيًا: هل ارتداء الحجاب انتهاك لمبادئ العلمانية؟ وأجاب بأن العلمانية في الدستور الفرنسي ليست إجبارًا على الحياد الروحي للمواطنين داخل الفضاء العام، بل حياد السلطة العامة، مع كل العقائد وأصحابها.

وثالثًا: هل المرأة في الإسلام مطالبة بالمكوث في المنزل، كما تقول بادينتر؟ ويجيب بأن نسب النساء العاملات في الدول ذات الأغلبية المسلمة لا تقول ذلك.

ورابعًا: هل «الإسلاموفوبيا» تستخدم لشيطنة من ينتقد الإسلام كما تقول بادينتر؟ ويجيب أيضًا بالنفي استنادًا لظهور المصطلح أوائل القرن العشرين، وهو يعادل في معناه على سبيل المثال معاداة السامية مع اليهودية.

وخامسًا: هل «الإسلامويساريون» أقلية مؤثرة؟ ويجيب أيضًا بالنفي عادًّا إياهم مجموعة صاخبة، لكن غير مؤثرة. وبالتالي علينا معاملتهم كمواطنين وليس «كمجموعات مسلمة».

وسادسًا: هل عدم موافقتنا لـبادينتر يعني دعمنا «الإسلامويساريين»؟

ويجيب بأنه بالنسبة لـبادينتر إما أن تكون في صفها أو في صف «الإسلامويساريين»، لكن في الواقع يمكن أن نكون في آنٍ واحد معارضين للطائفية الإسلامية، ولكل أشكال الطائفية باسم الشمولية الجمهورية، ومعارضين لـ«بادينتر» بسبب أخطائها الفادحة فيما يخص الإسلام والحجاب والعلمانية حتى «الإسلاموفوبيا».

كما علق المؤرخ وعالم الاجتماع جان بوبيروت ومؤلف كتب عدة حول العلمانية بأن بادينتر ادعت أن ماريان لوبان هي الوحيدة التي تدافع عن مبادئ العلمانية، في حين أنه في فرنسا هناك محاضرات حول العلمانية بشكل يومي إضافة إلى المقالات الصحافية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بادينتر متهمة دائمًا بالنخبوية المتشددة، لبقائها دائمًا خارج الحركات المنظمة، وأنها دائمًا وحيدة ومترفعة، وتعيش داخل أرستقراطية القرن الثامن عشر. وفي هذا الإطار تربط السياسية كليمنتين أوتان مواجهات بادينتر ببعد طبقي؛ إذ إن الإسلام دين لأغلبية فقيرة تتشدد بادينتر في قضاياهم، بينما دافعت عن صديقها دومينيك ستروس كان المدير السابق لصندوق النقد الدولي في قضيته الشهيرة.

لكن بادينتر نفت دفاعها عنه، وقالت: إنها فقط انتقدت مهاجميه بأنهم استبقوا المحاكمة.

وفي الحقيقة ترى بادينتر نفسها واحدة من القلة التي تدافع عن العلمانية في فرنسا، وتعيد طرح أفكار تتعلق بالتنوير وسيادة العقل، وعندما يعلو صوتها بمناسبة قضايا تتعلق بوضع المسلمين في فرنسا، فإنها تبدو مناقضة لأطروحات شبابها حول الحق المطلق في الاختلاف. وهي لا تنكر ذلك وتعترف بأنها أساءت فهم هذا الحق في خضم ثورية جيلها الذي عاش جموح نهاية الستينيات. وتظل بادينتر واحدة من أكثر الشخصيات اشتباكًا، وإثارة للجدل، والدخول في معارك فكرية، في بلد تعيد طرح أسئلة، كنا نعتقد أنها تمتلك إجابات متماسكة، خصوصًا في الغرب.