الثقافة والتنمية في الوطن العربي: المعوّقات والتصحيحات

الثقافة والتنمية في الوطن العربي: المعوّقات والتصحيحات

هذا التحديد غني ويشتمل وحده على كل العناصر المطلوبة في تبيان سؤال التنمية، تطبيقاته ومعوّقاته في الوطن العربي. الاستعارة الحيَّة التي يوظِّفها الكاتب هي تشبيه النفس بالحقل، أرض قابلة للزرع، بوضع بذور التثقيف والتعليم فيها ويُنتظَر منها أن تينع ثمارًا ناضجة في شكل تمثُّلات وسلوكيات. التشبيه البليغ عند شيشرون هو أن الحقل القابل للحرث يتعرَّض لاستصلاح شامل يكون فيه قلع الأعشاب الضارَّة وزرع البذور، وبالتمثيل نزع الرذائل من النفس وغرس الفضائل. يُسمِّي شيشرون هذه العملية «العناية»، أي الثقافة باللسان العربي؛ لأن كل زرع يقتضي العناية بالرَّيِّ والتقليب، وكل نفس تتطلب كذلك العناية بمختلف الوسائل من تربية وتعليم وتثقيف. يقطع هذا التحديد مع اختزال الثقافة في شحن الرأس بالمعلومات. إنها أكثر من ذلك؛ لأنها تخصُّ مجمل الكائن البشري، ليس فقط ما يقتنيه من معلومات وأفكار، إنما أيضًا ما يكون عليه من سلوك وتوجُّه. نقول كذلك بأن الثقافة لا تتحدَّد فقط بوصفها «نمطًا في المعرفة»، بل هي أيضًا «نمط في الوجود».

نفهم من ذلك أن الثقافة -عناية بالنفس- هي انخراط الإنسان بكل قواه الحسيَّة والعقلية والوجدانية في ترتيب وجوده وتنظيم معيشه، وسيلته في ذلك التنمية وغايته التطوُّر، أي الحصول على ثمار ما تكفَّل بالعناية به وهي نفسه، بمعنى من المعاني الوصول إلى النضج بالعطاء والإنتاج. الأشكال التي تتمظهر فيها التنمية كثيرة ومتنوّعة، وهي الاقتصاد بميادينه الصناعية والزراعية، والاجتماع بوحداته العائلية والمدرسية، والإدارة بهياكلها التنظيمية والخدماتية. تقتضي هذه الأشكال موادّ وهي المعلومات والأفكار وأدوات الإنتاج، وفاعلين اجتماعيين من أيَّة فئةٍ سواء كانوا (عملًا يدويًّا أم عملًا ذهنيًّا أم كليهما معًا؛ لأن الفاصل بينهما تاريخي واجتماعي، أمَّا عمليًّا لا تنفصل اليد التي تشتغل عن الذهن الذي يُفكِّر)، وتتطلب في الأخير غاية تصبو إليها وهي التطوُّر، أي تحسين المعيش وتجويد الشرط الاجتماعي من فرص التكوين والعمل. الغاية هي الارتقاء نحو مستويات أعلى من الوجود البشري في العالم.

إذا أتينا الآن إلى السياق العربي، نطرح بعض الأسئلة التي نجعل منها مصابيح منيرة للتدليل أكثر منها قوالب استفهامية تنتظر الجواب: هل ساهمت الثقافة في تشكيل صورة عن الواقع الذي نحياه؟ ما المجالات التي تنخرط فيها وتستعمل فيها أداة «العناية» من أجل سؤال «التنمية»؟ هل المجالات التي تنخرط فيها، التي نُلخِّصها في الاقتصاد والاجتماع والإدارة من دون أن نحصرها في ذلك، كفيلة بأن تضمن مجموعة من البديهيات مثل التكوين وتكافؤ الفرص التي من شأنها أن تجعل التنمية أمرًا منجزًا وليس مجرَّد أمنية مأمولة؟ يمكن استبعاد حساسيتين تُجاه مشكل التنمية في الوطن العربي:

1- الحساسية التشاؤمية التي ترى النصف الفارغ من الكأس، وتنعت الواقع بنعوت التأزُّم والركود والفشل.

2- الحساسية التفاؤلية التي ترى النصف المملوء من الكأس وتحجب الواقع بما ينبري فيه من نقائص ومعوّقات. ليس الغرض أيضًا الجمع بين الحساسيتين في كلمة- حقيبة ونقول «تشاؤل»، بالجمع بين التشاؤم والتفاؤل كما يريد البعض. مشكل المقاربات الخاصة بالتنمية في الوطن العربي أنها ذات نبرة وعظية وجُنَّة أخلاقية ونفسية، لا ترى الواقع كما هو ولا تحاول قراءته وفهمه للوصول إلى لوحة جامعة حول بنيته وطريقة اشتغاله وانتظامه.

لا يمكن بالتالي حجب «ما هو كائن» بـ«ما ينبغي أن يكون». لا بدَّ من عتبات وألوان. وما هو كائن، هو كل المعطيات المتوافرة أمام أعيننا، من نهوض ملموس في العديد من المجالات بمعيَّة سياسات اقتصادية وتربوية وبمساعدة التكنولوجيات الحديثة؛ لكن النقائص البادية على جبين هذا الواقع هي هشاشة التكوين والتفاوت الاجتماعي بما يتسبَّب فيه من بطالة وضعف في الدخل الفردي. التصحيح الذي تُدرجه الثقافة هو أن الموارد موجودة، الطبيعية منها والبشرية، لكن تفتقر إلى العامل التكويني في تنظيمها وحُسن استعمالها. ما نقصده بالعامل التكويني هو إتقان استعمال الملكات والقُدرات للاضطلاع بصناعةٍ ما، سواء كانت يدوية أم ذهنية. المشكل الأساس في سؤال التنمية في الوطن العربي، هو أن الكفاءات لا تأخذ الوقت الكافي في تقليم مواهبها وتحسينها بالتكوين المتواصل؛ فهي على عجالة من أمرها، تستبق النتيجة بأن تضطرب في السيرورة، فتختزل الطريق للوصول إلى الغرض بكل الوسائل، بما في ذلك الغش والفساد (مثلًا: شراء الشهادات الكفيلة بدخول سوق العمل أدَّى إلى ضعف في التحصيل). غير أن بنيان الاقتصاد والاجتماع والإدارة لا يسلم بهذه العجالة في اختزال الطريق والضَّجر من التكوين الصارم والطويل الذي يُهيِّئ الإنسان الكُفء.

مركز عبدالله السالم الثقافي..صرح ثقافي يعكس الوجه الحضاري للكويت

تتطلب التنمية مسارًا طبيعيًّا لكي تؤتي ثمارها. فكما لا يمكن أن ننتظر من بذرة أن تينع نبتة ثم شجرة بين عشية وضحاها، لا يمكن في كل تنمية حضارية اختزال الطرق وتعجيل المجرى الطبيعي للأمور. هذا هو المعوّق الأساس للتنمية في الوطن العربي. الكثير من المجالات «تتعثَّر» لأنها لم «تعثُر» على المواهب المتكوّنة وفق البرامج الموضوعة التي تقتضي المتابعة والسَّهَر على سلامة التكوين. المعوّق الآخر للتنمية في الوطن العربي الذي يضرب بجذوره في تمثُّل الفرد العربي لذاته ولتاريخه، هو مجموع الثنائيات التي تركَّبت بشكل تراتبي وترسَّخت في اللاشعور الجمعي، ونُلخِّصها فيما يلي:

أسبقية الشيخ على الشاب:

فهي مبنية على أحكام مسبقة في أن الكبير في السن حكيم وراشد وأن الشاب تنقصه الخبرة والرَّويَّة، فيقوم الماضي (الشيخ) بحجب مؤهلات المستقبل (الشاب)، ويضع أمامه مثبّطات تزيد من تعاسته ويفقد الثقة في ذاته ويعزف بالتالي عن العمل والإنتاج ويستسلم للفراغ واللهو. نسبة البطالة في الوطن العربي لدى الشباب كبيرة جدًّا، ليس بموجب شُح سوق العمل (هناك مجالات واسعة تُعمِّرها اليد العاملة الأجنبية)، وإنما كذلك بالانهزام النفسي في شعور الشاب بالدونية وعدم الفعالية؛ لأن الصورة التي يُشكِّلها حول ذاته هي صورة العاجز الذي يفتقر إلى مبادرات وابتكارات، بإيعازٍ من هيمنة الشيخ.

أولوية الرجل على المرأة:

لا تعترف التنمية بالانقسام الجنسي؛ لأن منطقها واحد ومترسِّخ في الطبع البشري وهو الفعل والقُدرة على أداء مهمَّةٍ ما. الفعل البشري محايد، ليس فيه الفاصل بين الأبيض والأسود أو بين الذكر والأنثى. في الفعل البشري، إما ننتج أو لا ننتج؛ إما لدينا الكفاءة أو نفتقر إلى المهارة. ليس للاعتبار الجنسي أو العرقي أيَّة سلطةٍ على بداهة الفعل البشري. غير أن الوطن العربي لا يزال مقيَّدًا بهذا الحكم المسبق في أن الرجل أولى من المرأة في أداء مهامّ، وأن المجالات الحيوية في الاقتصاد والاجتماع والإدارة ليست أهلًا لها. مع أن المرأة في عوالم أخرى (غربية أو آسيوية) تساهم في معدل النمو وفائض القيمة، لها حضور في الملاحة الجوية وتسوس الشركة والإدارة.

هذا معوِّق آخر للتنمية في الوطن العربي، حيث لا يُقْسم الأفراد سوى بمهنة الطب والهندسة والتدريس ويضعونها في «أعلى العليّين»، جاعلين من الحِرف اليدوية من صناعة وزراعة ونظافة في «أسفل السَّافلين». مع أن المجالات الحيوية لمجتمعٍ من المجتمعات لا تستقيم من دون تكامل الوظائف كلها. تعمل الثقافة على تصحيح هذا الحكم المسبق في أن العمل اليدوي له مكانته بالقدر نفسه الذي يتمتَّع بها العمل الذهني بمكانة اجتماعية؛ ثم إن الوظائف اليدوية لم تعُد كما كانت من قبل، بل أصبحت خبرات بالوسائل التكنولوجية المجنَّدة، فلا نقول عامل النظافة (يُقال في اللهجة المغاربية «زبَّال» وهو نعت سلبي واحتقاري)، وإنما «مهندس النظافة». كذلك، تتطلَّب المهن الذهنية وسائل يدوية في التدبير، تساعدها في ذلك الأدوات التقنية من أجهزة وآلات وشاشات، إلخ. بتصحيح الرؤية إلى الوظائف تستقيم المهام وتتحقَّق التنمية المرجُوَّة.

تحت هذه المعوِّقات الكبرى تأتي وحدات صغرى. «صورة الشيخ والشاب» هي أنموذج ثنائيات أخرى: الغني/ الفقير، من له السلطة/ من يفتقر إلى السلطة، الأب/ الأبناء؛ و«صورة الرجل والمرأة» هي الأنموذج لثنائيات الكهل/ الطفل، العقل/ العاطفة، إلخ؛ وأخيرًا «صورة العمل ذهني والعمل اليدوي» هي الأنموذج لثنائيات النخبة/ الجمهور، أرباب العمل/ العُمَّال، إلخ. من شأن الثقافة أن تفهم هذه الثنائيات التي صنعت في المجتمعات العربية «تراتبيات» تُكبِّل المساعي وتحول دون تحرير الطاقات والانتقال إلى وجه الإبداع والابتكار في الصناعة والتقنية. على عاتقها تصحيح هذه الرؤية التي شوَّهت العلاقة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وشوَّشت على المجتمعات التطوُّر السَّليم نحو أشكال راقية من المعيش. من مهام الثقافة كما سبق لي أن حدَّدتها(2) أن تضطلع بنوعٍ من «إيكُولُوجْيا» الشرط العقلي والاجتماعي للفرد العربي وتدور حول فكرة أساسية هي «المتنفَّس»؛ لأن البيئة الذهنية والاجتماعية بلا تَهْوية وتجديد، بلا تغيُّر وتفاعل تختنق، وتذبل فيها الإرادات وتقفر المبادرات، ولا تُحقِّق التنمية بالتالي وعدها المنشود. أستحضر هنا على سبيل الختم والخلاصة مفكّرين عرب أشاروا إلى هذه الإيكولوجيا الثقافية في التوصُّل بالمهام التنموية. الأول هو سلامة موسى القائل: «فلكي تنمو أذهاننا وكي نربي أنفسنا بالثقافة البشرية العامة، يجب أن نعيش في جو حرّ تكفل حريته وتصونها حكومة عصرية مستنيرة تعلم أنه ليس في الطبيعة قرار أو أن كل ما فيها يتغيَّر»(3). والثاني هو محمد عزيز الحبابي القائل: «تجد الحضارة قوامها وغذاءها في الثقافات القومية. فالتيار الحيوي الذي يسري في الحضارة، أنى ومتى كانت، هو روح إنسانية شاملة»(4). باختصار: سلامة التنمية في الوطن العربي من صحَّة البيئة التي تتطوَّر فيها.

هوامش:

1) Cicéron, Tusculanes, Œuvres complètes, éd. Nizard, Paris, 1840, II, § 5.

2) محمد شوقي الزين، الثقاف في الأزمنة العجاف: فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، ط1، 2013م، ط2، 2015م.

3) سلامة موسى، التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا، مكتبة المعارف، القاهرة، 1946م؛ طبعة جديدة: القاهرة، كلمات عربية للترجمة والنشر، 2011م، ص42.

4) محمد عزيز الحبابي، من المنغلق إلى المنفتح: عشرون حديثًا عن الثقافات القومية والحضارة الإنسانية، ترجمة محمد برادة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1973م، ص26.

الدين والرؤية العلمانية للعالم في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى

الدين والرؤية العلمانية للعالم في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى

الدين اليوم بمنزلة الإحاطة التي تُغلّف نظام التصوّرات والسلوكيات. يمكن القول بأنه «النموذج» أو «البرادايم» (paradigm) الذي تنصاع إليه هذه التصوّرات والسلوكيات. إنه لها بمنزلة الثقاف الوثيق الذي يشدّها إليه. أتكلم بطبيعة الحال عن برادايم الدين في السياق الجغرافي والتداولي للثقافة العربية الإسلامية؛ لأن الدين في الغرب توقّف عن كونه الدليل والمرشد، أي توقّف عن كونه برادايم الوعي الغربي بعد أن حل محله برادايم جديد في منعطف القرنين السابع عشر والثامن عشر بظهور الدولة الحديثة، ويمكن تسمية هذا البرادايم بالقالب السياسي الأخلاقي الذي قولب التصوّرات والسلوكيات في نظام جديد هو نظام العقل الذي حوَّل (conversion) المضامين الدينية إلى أشكال علمانية من القول والفعل.

لمحة تاريخية مختصرة تُبرز لنا طريقة هذا التحوّل وموقعنا نحن في خريطة هذا الانتقال التدريجي للوعي؛ لأن هذه اللمحة مفيدة وحاسمة في تبيان لماذا وبأي معنى لم تُفلح المشاريع العلمانية في الترسّخ في الثقافة العربية الإسلامية. أقول باختصار، وبالمقارنة مع التجربة الغربية التي هي لنا بمنزلة المرآة نرى ذواتنا فيها، أقول بأن هذه التجربة انتظمت وفق ثلاثة برادايمات تأسيسية وحاسمة:

أولًا- البرادايم الديني اللاهوتي الذي قولب الوعي الغربي طيلة 1700 سنة بهيمنة المسيحية منذ تبنيها من طرف الإمبراطورية الرومانية، وخصوصًا هيمنة المذهب الكاثوليكي عبر الكنيسة، لسان حال العقيدة وظل اليسوع في الأرض. غير أن اختلالات بنيوية حصلت في هذا البرادايم جعلته يصل إلى منتهى عطائه وأيضًا إلى ذروة قسوته مع محاكم التفتيش والحروب الدينية والنداء الملحّ في إصلاح المنظومة الدينية، فوقع الشرخ المعروف الذي انتهى بانشقاق الإصلاحيين لوثر وكالفن عن الكنيسة الكاثوليكية.

ثانيًا- وسط اهتزاز النواة الصلبة لهذا البرادايم وبروز شقوق وانهيارات بظهور مذاهب وطوائف وأفول المرجعية العامة التي كانت تضمن بالأمس كل هذه الوشائج، حصل أن تعززت الدولة نظريًّا عبر التأملات الفلسفية حول نظام الحكم (روسو، هوبس، مونتيسكيو) وعمليًّا بسقوط الملكية في أوربا (الثورة الفرنسية) وظهور الديمقراطية التشاركية في أميركا (الثورة الأميركية). بظهور مفهوم الدولة الحديثة الذي وجد اكتماله النظري مع الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل، فإن المساحة السياسية والاجتماعية لم تعُد من اختصاص المؤسسة الدينية، الراعية على الضمير الجمعي، إنما من قيام المؤسسة السياسية المنتخبة. لم نعد نتحدث عن الأخلاق الدينية بعد تراجع المرجعية العُليا وأفولها، إنما عن الأخلاق المدنية بعلمنة هذه المرجعية وتحويل المضامين الدينية إلى المحتويات الاجتماعية: مثلًا، لا نتحدث عن الزكاة أو الصدقة إنما عن الضرائب والتضامن الاجتماعي، إلخ.

انهيار مفهوم الدولة

ثالثًا- مثله مثل البرادايم الديني الأخلاقي، وصل البرادايم السياسي الأخلاقي، الذي دام قرابة 200 سنة، إلى منتهى عطائه وذروة تشدده، بعد أن ابتلع الحزب الواحد في عز الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية مفهوم الدولة نفسه، فأصبح هيكل هذه الدولة على الصعيد التنظيمي، والراعي على الأمة على المستوى الرمزي. بانهيار مفهوم الدولة المركزية ذات الحزب الواحد بعد الحرب العالمية الثانية، توجه الوعي الغربي نحو برادايم جديد، قائم على القيم الليبرالية والفردانية، ويواكب مفاهيم التقدم والتواصل والتنافس، فكان أن تعزز البرادايم الاقتصادي المالي بمنطق خاص، يقوم على المبادلات الحرة على المستوى التجاري والسيولة المالية والوفرة الإنتاجية. أصبحت المؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي، ومؤسسات المراقبة في ميزانيات الدول، إلخ) هي الحاكم والفيصل. يقع الغرب اليوم في هذا البرادايم الذي تُبنى عليه كل سياسة أو قرار. لا ندري ما البرادايم المقبل عندما يصل البرادايم الاقتصادي المالي إلى منتهى عطائه وذروة تشدده بنُدرة العمل وتسريح العمال، مع كل المخاطر الناتجة عن البطالة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وصعود الفقر والجريمة المنظمة.

السؤال المطروح الآن: ما موقعنا في هذه الخريطة؟ يمكن أن نلمس نوعًا من الشرخ في السياق العربي الإسلامي؛ لأن بقدر ما يحيا هذا السياق البرادايم نفسه كالذي يعيشه الغرب عبر أنظمة التواصل والاتصال والتحديث التقني والسيولة المالية ووسائل المواصلات المتطورة، بقدر ما يزال يقبع في روح البرادايم الديني اللاهوتي، الذي لم ينفك عن تنظيم الحياة الاجتماعية والأخلاقية للعرب والمسلمين. هل ندّعي أننا نراوح بين الديني اللاهوتي والاقتصادي المالي دون وسيط السياسي الأخلاقي؟

ليست الأمور بهذه السهولة المبتذلة. أولًا- نحيا بلا شك آثار أو مفاعيل البرادايم الاقتصادي المالي الليبرالي الذي يعيشه الغرب نفسه عبر الوحدات الكبرى مثل العولمة، والوحدات الصغرى مثل الأنظمة التجارية العابرة للقارات؛ لكن، ثانيًا- لا نزال نقبع تحت إمرة البرادايم الديني اللاهوتي الخاص بالإسلام. هل هذا عائق أم حتمية؟ إنه عائق بحكم عدم امتثالنا بعدُ إلى برادايم سياسي أخلاقي يُعبِّر عن نمط وجودنا في العالم. الممارسات السياسية الأخلاقية في السياق العربي الإسلامي مختوم عليها بخاتم الأمر والنهي. لم نصنع بعدُ لذواتنا نظامًا سياسيًّا وأخلاقيًّا يقول عفوية الفعل في ابتكاره للقواعد والصيغ السلوكية، وحرية المبادرة والمساهمة. لا نزال في مجال الامتثال إلى الأوامر والنواهي واتباع نظام ميكانيكي أو آلي هو مجرّد الاحتذاء والإذعان. في حين الفعل السياسي الأخلاقي هو فعل من وحي الزمن الحاضر وعفوية الأشكال السلوكية، وليس تطبيقًا لمخططات سالفة أو محاكاة لأفعال ماضية.

معركة الفعل

عندما نفقه هذه المسألة، أي عندما نُدرك أن الفعل الحر والعفوي والمشرّع لذاته من وحي اللحظة الراهنة، فإن تشكيل نظرية سياسية أمر ممكن، وعقلنة نظام الحكم وصناعة القرار شيء حاسم. لا بد من تخطي هذه العتبة ومجاوزة هذه العقبة، أقصد أن الثقافة العربية الإسلامية على عاتقها قيادة «معركة الفعل»، بعدما ظفرت «بمعركة القول». كان القول محظورًا في الفضاء العمومي بسبب التعسّف على المستوى السياسي. باندلاع بعض الانتفاضات العربية، ظفر المجتمع العربي الإسلامي بمعركة القول وساعدته في ذلك التكنولوجيات الحديثة مثل مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكن معركة الفعل لم يظفر بها؛ لأن الأفعال لا تزال في دائرة المحاكاة والتقليد باحتذاء نماذج خالية أو السير وفق نظام متشخّص من السلوك: اتباع داهية أو داعية أو صفوة أو نخبة. مع أن الفعل هو فعل متفرّد، فعل كل فرد (أنا، أنت، نحن) قابل للتشارُك من أجل التناغم الاجتماعي والعيش المشترك.

أعتقد أن فهم استقلالية الفعل من شأنه أن يساعد على بلورة رؤية علمانية للأشياء. هذه الرؤية متعثّرة اليوم في السياق العربي الإسلامي؛ لأن مجال الفعل ينتمي في معظمه إلى الفضاء الديني عبر مساحة التديّن (الآلي والميكانيكي الذي يخلو من الروح)، لأن الفعل في هذه المساحة هو محاكاة الأوائل، باحتذاء نظام تصوّرهم وسلوكهم. إذا كانت الرؤية العلمانية متعثّرة اليوم، فلأن نظام المحاكاة في الفعل يُشجّع المذهبية والطائفية، وقود كل حرب أهلية؛ لأن كل طائفة تعدّ نظام التصوّر والسلوك الذي تحتكم إليه بمنزلة اليقين الذي لا يشوبه شك أو ارتياب؛ وكل نظام مختلف عبارة عن نظام مخالف، وينخرط في شكل من أشكال الصراع والصدام. من شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل الفعل من دائرة التقليد وسجن المحاكاة، بأن تحرّره وتدفعه لأن يُشرّع لذاته من بادِهِ اللحظة التي تتولّد عنها أشكال من التصوّر وأنظمة من السلوك.

هذا لا يعني أن الأشكال الدينية ملفوظة، لكن كما تتبدّى اليوم في طبعة عريقة، تحمل أثقالها المهترئة، فهي العائق وليست اللائق لبادِهِ العصر. من شأن الرؤية العلمانية أن تعمل على عقلنة هذه الأشكال في طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة، بأن تقوم بتحويل هذه الأشكال الدينية إلى مضامين مدنية، إلى أخلاق فردية وجمعية تقول أصالة الفعل في انبثاقه الآني وسبقه الآتي، أي ما يُنتجه الآن من أشكال سياسية وأخلاقية، وما يترقبه من إمكانات في الزمن المقبل. الرؤية العلمانية نقطة حاضرة وخط نحو المستقبل؛ لذا تُعوّل على ابتكار الفعل في الحياة اليومية والراهنة وتتطلّع إلى الآتي، بعد أن تسعى إلى تحرير هذا الفعل من بداهة التقليد التي تسجنه في الماضي. هل العالم العربي الإسلامي على استعداد لخوض معركة الفعل من أجل بناء الحاضر والتطلّع إلى المستقبل؟ هذا ما ينبغي الانتباه له ومصاحبته بالبحث الحثيث والعمل الجاد.