الجامعات في العالم العربي.. واقع مُزْرٍ

الجامعات في العالم العربي.. واقع مُزْرٍ

تحتل «المؤسسة الجامعية» في المجتمعات الحديثة مركزًا محوريًّا؛ من حيث دورها الكبير والحاسم في بلورة رؤى التنمية وتطويرها من جهة، وتعميم وترسيخ الرؤى الحضارية -في أرقى صورها المتأنسنة- من جهة أخرى. فالجامعة -كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الحديث- هي مركز الإشعاع الحضاري الذي يتخلق المجتمع الحيويّ على مخرجاته العلمية/ المعرفية، والبشرية، هي فضاء صناعة الأحلام الطموحة التي تتحدد بوصلة الاتجاه على إيقاع تطلّعاتها الجامحة، ومن ثم تتحدد معالم المستقبل؛ القريب والبعيد.

هذه العلاقة بين الجامعة والمجتمع بدأت منذ بدأت الجامعة -بصيغتها الحديثة- تأخذ طريقها إلى الوجود. لا يمكن تجاهل الارتباط العضوي بين الجامعات ومسارات التحديث على امتداد العالم أجمع. هذا الارتباط العضوي المُتَضمِّن لكثير من صور التفاعل الجدلي ليس وليد القرون المتأخرة التي شهدت الصعود الكبير لمركزية حضور الجامعة في المجتمع، بل هو ارتباط وثيق وقديم، تزامن مع البدايات الأولى لعصر النهضة الأوربية التي شكّلت مُتَتَالِيَاتُها عالَمَنا المعاصر/ عصرنا الحديث؛ إذ كانت الجامعات والكليات الأوربية الناشئة آنذاك هي المنوط بها مَأسَسَة المعرفة المتاحة وتعميمها. وإذا كانت الجامعات بحكم كونها منضبطة بالسائد المعرفي/ العلمي قد وقفت ضد بعض فلتات الإبداع الفكري والعلمي في بداياتها، فإنها -بالمقابل- هي التي منحتها المشروعية العلمية والاجتماعية فيما بعد. ولولا هذا الاعتراف المؤسساتي من جانب الجامعات بالجديد/ بالإبداع لم يكن لانتصاراته معنى/ قيمة في السياق العام لمسار النهضة الغربية الآخذة في الصعود على مستويات الحضور الحضاري كافة.

لم تغب حقيقة هذا الارتباط العضوي/ التفاعلي بين المؤسسات الأكاديمية والحراك التحديثي المَزهو بمنجزاته عن الأطروحات التعبويّة لرواد النهضة العربية الأوائل، أولئك الذين أفاقوا -وعيًا- على وقع الاصطدام الحاد بين طرفين متباينين أشد ما يكون التباين: الأول يتمثل في الازدهار الحضاري الغربي المكلل بانتصاراته العلمية/ المعرفية، والسياسية/ العسكرية، والتنموية والاقتصادية… إلخ، والثاني يتمثل في العطالة والجهالة والهزيمة والفقر العربي في أشد صوره بؤسًا ويأسًا. فكانت الصدمة التي دفعت هؤلاء للبحث عن «سر التفوق الغربي» الذي فاجأهم على حين غفلة، ووضعهم في مرمى التحديات الصعبة على أكثر من صعيد. وسرعان ما اكتشفوا -بالمقارنة بين حال وحال- أن المعرفة هي «سرّ الأسرار»، وأن عليهم أن «يسرقوا النار»؛ إن أرادوا أن يخرجوا من حالة التردي الحضاري التي بدؤوا يَعُونَ أبعادَها الكارثية على واقعهم المباشر وعلى مستقبل أجيالهم التي يرونها تتشكل في رحم الزمان.

لهذا، ومنذ بدايات تعرفنا إلى الغرب؛ من واقع الاصطدام به سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا، وجدنا النخب الإصلاحية -سياسيًّا وثقافيًّا- تضع مهمة إنشاء الأكاديميات العلمية على رأس أولوياتها. وإذا كان محمد علي قد أنشا في مصر مدرسة للهندسة عام 1816م، ثم مدرسة للطب عام 1872م فإن هذه الخطوة -على أهميتها في سياقها- لا يمكن احتسابها على مسار التأسيس للجامعات بمفهومها الحديث، وبخاصة أنها لم تكتسب الاستمرارية التي تمنحها «الهُويّة الجامعة» التي تأسست لاحقًا؛ أوائل القرن العشرين. ومن هنا، يمكن عدّ الجامعة الأميركية في بيروت، التي نشأت عام 1866م تحت اسم «الكلية السورية البروتستانتية»، ثم عُدِّل اسمُها إلى «الجامعة الأميركية» عام 1923م، هي البداية، أو هي النواة الصلبة الأولى التي أدخلت المعرفة الأكاديمية الحديثة إلى عالمنا العربي، حيث بدا أثرها النوعي -المباشر وغير المباشر- واضحًا على النخبة اللبنانية المُثقّفة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

مرحلة النشوء الحقيقية

يُمْكن عدّ العِقدين الأولين من القرن العشرين هما المرحلة الحقيقية لنشوء الجامعات في العالم العربي، وبخاصة أن جامعة القاهرة (التي تأسست عام 1908م، واحتضنت كثيرًا من أعلام المستشرقين، إضافة إلى كثير من المصريين الذين درسوا في أرقى الجامعات الغربية)، لعبت دورًا مؤثرًا تجاوز إطارها المصري الخاص، وتمدَّد إلى جميع أنحاء العالم العربي. فهي من حيث مستوى الحضور، وتألق الأعلام العلمية والفكرية فيها، ووفرة المخرجات التي كان لها دور رئيس في التنمية، تُعدُّ -آنذاك- الجامعة العربية الأولى بلا منازع. واستمرت في الصدارة عن جدارة واستحقاق لأكثر من نصف قرن؛ حتى بدأت في التراجع، وأخذت كثير من الجامعات العربية تتجاوزها قيمة وتأثيرًا؛ نتيجة لظروف يتعذّر سردها في هذا المقال.

يصعب تصور أهمية الدور الكبير والمحوري والحاسم الذي قامت به الجامعات العربية على امتداد القرن العشرين؛ إلا في حال تخيلنا المشهد التنموي والتحديثي بدونها. لقد كان من المستحيل أن تخطو مصر خطواتها المهمة -على مستوى التطور التنموي والانفتاح المعرفي/ التنويري- من دون ذلك الإسهام النوعي الذي قامت به جامعة القاهرة وربيبتها جامعة الإسكندرية. والأمر كذلك في العراق والسعودية وسوريا والمغرب…، والأقطار العربية التي يتكوّن عصبُها المعرفي والتنموي من كوادر جامعية حاولت -بمستويات من النجاح؛ وبمثلها من الفشل- تطبيق ما تعلمته أكاديميًّا عبر وسائط مؤسسات الدولة العربية الناشئة التي كانت تستقطب كثيرًا من المخرجات الجامعية، وتمكّن لها في كثير من مراكز التأثير. وسواء تم ذلك التمكين عن قناعة بأهمية الفعل التنويري ودوره في الارتقاء الحضاري، أو عن سياسة محضة/ محدودة، ففي النهاية استطاعت الجامعة أن تمتد بتأثيرها العميق -المباشر وغير المباشر- إلى تفاصيل الواقع العملي، بل إلى هوامش الاهتمامات اليومية في حياة الناس.

لقد كانت الجامعات العربية في بداياتها إبان النصف الأول من القرن العشرين تَعِي محوريةَ دورها التنويري، وأنها ليست مجرد مراكز تدريب لما يحتاجه المجتمع من وظائف وتخصصات مهنية. كانت الجامعات تتوفر على قدر نسبي من الانفتاح الفكري المتساوق مع الانفتاح المجتمعي على الآخر، الغربي خاصة. ونحن اليوم تأخذنا الدهشة بعيدًا عندما نتذكر تلك الأسماء الأجنبية/ الاستشراقية اللامعة التي كانت تعمر جامعة القاهرة في بدايات نشأتها، ولا نستطيع تخيل مستوى الانفتاح الذي يعكسه ذلك التنوع الكبير في كوادر التعليم الجامعي الذي كان يتمتع برؤية ليبرالية متسامحة، تعرضت للضمور لاحقًا، ثم للاضمحلال التام. تراجعت الصبغة/ الهوية «الجامعية» التي كانت تمنح الجامعات العريقة حيويتها التنويرية؛ بعد تعرّضها لعدوى الرؤى الشوفينية، وتحديدًا بعد ازدهار ما سُمّي بـ«حركات الاستقلال»، وبعد أن تمكّن العسكر البعيدون من الهموم المعرفية والثقافية من السيطرة على كل مفاصل السلطة في كثير من الأقطار العربية ذات الريادة في مجال الثقافة والتعليم والتواصل مع الآخر/ العالم المتحضر، هذا العالم الذي بدأ يحضر في الوعي العام المؤدلج -بما فيه الخطاب الأكاديمي الذي بدأ يفقد استقلاليته، وبالتالي علميته- بوصفه العدو المتربص الذي لا يكف عن التآمر وتمرير الأجندات ولو من خلال برامج ومقررات التعليم!

هكذا تراجع دور الجامعات العريقة، واستقالت من أهم وظائفها، ومن ثَمَّ انحسرت مهمتها في تدوير الثقافة المحلية وتعزيز أوهام الأنـا عن ذاتها من جهة، وتخريج أفواج الموظفين الـمُنَمّطِين الصالحين لملء فراغات البيروقراطية النامية من جهة أخرى. كما تراجعت الجامعات عن كونها مراكز موثوقة للبحوث العلمية الرائدة التي تقتضي حتمية التواصل المباشر والآني والمكثف مع العالم المتحضر/ الغربي؛ حتى استقال -ضمنيًّا- كثير من الجامعات العربية العريقة عن الدور التقليدي المعتبر للجامعة، وتَحوّل إلى مجرد صورة مُكَبرة للمدارس الثانوية التي لم يعد ثمة فارق نوعي بينها وبين تلك الجامعات، بل إن كثيرًا من الثانويات الخاصة اليوم تتفوق عليها في تعزيز قيم التواصل الإنساني، وفي تحقيق مستويات الجودة ومواكبة الجديد.

انحدار في المستوى

إن الخط التصاعدي لتلك الجامعات العربية العريقة كان يفترض أن تكون حاضرة اليوم في عالم المعرفة؛ إنتاجًا وتفاعلًا واستهلاكًا. كان يفترض أن تكون جامعة القاهرة وجامعة دمشق وجامعة بغداد مثلًا، معدودة في أهم 500 جامعة على مستوى العالم. لكن، للأسف، انحدر مستواها كثيرًا في الخمسين سنة الأخيرة؛ حتى تجاوزتها جامعات عربية نشأت بعدها بخمسين سنة أو أكثر. ففي تصنيف كيو إس للجامعات العربية لعام 2018م، الذي شمل 100 جامعة عربية موزعة على 22 بلدًا عربيًّا كانت البلدان العربية الحديثة في التعليم الجامعي أوفر حظًّا في أفضل 10 جامعات عربية، فالسعودية تميزت بثلاث جامعات، والإمارات بجامعتين، بينما لبنان ومصر والأردن وقطر وعمان، كل منها تميز بجامعة واحدة. كانت الأولى: الجامعة الأميركية في بيروت، والثانية والثالثة والرابعة جامعات سعودية. ويلاحظ أن الجامعة المصرية المتميزة في هذا التصنيف ليست هي «جامعة القاهرة» العريقة، بل «الجامعة الأميركية في القاهرة»؛ إذ هي التي تأتي متصدرة التعليم الجامعي في مصر؛ لتعكس حقيقة تخلّف الجامعات العريقة (أو التي يفترض أنها كذلك) عن مواكبة التقدم العلمي/ التعليمي العالمي الذي أصبح يتطور بوتيرة متسارعة على مستوى الوسائط والمضامين.

طبعًا، لا يقع عبء أو مسؤولية هذا التراجع الذي أشرنا إليه آنفًا على المؤسسات الجامعية وحدها، فالراجح أن الإحباط والتردي الذي تعيشه معظم الجامعات في العالم العربي ليس إلا وجهًا من أوجه الإحباط والتردي العام الذي ليست الجامعات -بكوادرها وبرامجها وفعالياتها- إلا جزءًا من حراكه الواسع. وربما يتعزّز أو يتأكد هذا المنحى؛ عندما ندرك أن بعض الجامعات التي حققت نوعًا من النجاح في مهامها الأكاديمية والعلمية بقيت معزولة -إلى حد كبير- عن محيطها الاجتماعي، بل عن مسارات الفكر والثقافة والفنون التي تقع تفاعلاتها خارج أسوار الجامعة؛ إذ تبدو الجامعة هنا كأنها تنأى بنفسها عن عالم هي منه، ولكن لا ترتضيه، أو تترفع عنه بقدر ما يلاحقها عاره؛ فيكون الانفصال هو أرحم الحلول!

محاولات جادة للتصحيح

ومع كل هذا؛ لم يَخلُ هذا الوضع المُزْرِي الذي تعيشه أغلبية الجامعات في عالمنا العربي من محاولات جادة للتصحيح وللتطوير، بل المنافسة مع أرقى الجامعات العالمية. لكن، للأسف، كان التركيز في كل هذه المحاولات -أو في أغلبيتها الساحقة على الأقل- مُنْصَبًّا على الجوانب الثانوية: المنشآت الضخمة، وزيادة أعداد الأساتذة، وزيادة أعداد الطلاب…إلخ، على حين المعيار الحقيقي ليس اتساع المساحات، ولا عظمة المباني، ولا كثرة أعضاء هيئة التدريس، ولا تكدُّس عشرات الألوف من الطلاب. المعيار الحقيقي يكمن في نوعية المقررات المعتمدة، وفي مستوى التواصل مع المستجد منها على مستوى العالم، وفي انتخاب نخبة متميزة من أعضاء هيئة التدريس، وفي الاستعانة بالبارزين في تخصصاتهم من كل دول العالم دونما حرج من أي نوع، وفي تكوين مراكز البحوث التابعة للجامعة، المتفاعلة معها من جهة، ومع نظرياتها في العالم المتقدم من جهة أخرى، بحيث تسهم بشكل واضح في إنتاج المعرفة وتعميمها ضمن نطاق الدوائر العلمية المتخصصة محليًّا وعالميًّا، ثم الدخول في تفاعل نشط مع المجتمع الذي تتموضع فيه؛ لتَخْلقَ بهِ ومِنْ خِلالهِ حضورَها المتميز الذي يجعلها رائدةَ الحراكِ التقدّمي في أبعاده الثلاثة: التغيير والتطوير والتنوير.

ولعل من أهم صور الالتباس في مسار تنشيط المهام الجامعية أن كثيرين يتصورون -واهمين- أن بعض المهام تُغني عن الأخرى، أو أنها تستلزم التحرر منها ضرورة. فمثلًا، لا يستوعب كثيرون أنه إذا كان على الجامعات أن تُعِدَّ الفردَ ليملأ الفراغ في مجالاتٍ وَظيفيّة ومِهَنيّة يحتاجها المجتمع وَفْقَ مُتطلّبات سوق العمل، فإن هذا الواجب المتقرر لا يُعفيها من دورها الأهم، دورها الأكثر أصالة وشمولية، وهو أن تُعدّه رُوحيًّا وعقليًّا وثقافيًّا ليكون على مستوى عالٍ من الوعي فيما يتعلق بالشأن العام. فالجامعة -بطبيعتها الأصلية التي تأسست عليها- متعددة المهام ومتنوعة الأدوار، ولا يجوز أن يلغي أحد الأدوار بقية الأدوار؛ فما بالك أن يكون الإلغاء من نصيب أهمها وأكثرها حسمًا في تشكيل المستقبل.

إن غياب الدور الطليعي والتنويري للجامعة هو أحد أهم الأسباب التي جعلت الجامعة تشكو عزلتها الاجتماعية، وصدود الطلاب عنها فيما سوى متابعتهم المحدودة -ذات الطابع الإكراهي- لمتطلبات الشهادة التي يطمحون إليها للفوز بـ«وظيفة لُقمة العيش». فإحساس الفرد أن الجامعة لا تُعدّه إلا لهذا الدور المحدود، ولا تَعْتَدّ به إلا بهذا الدور المحدود (الدور المحدود الذي يختصر حياته وفاعليته في نطاق محدود)، جعله ينظر إليها في سياق هذا النطاق المحدود.

إن علاقة الفرد بالجامعة علاقة تفاعلية تبادلية، هذه حقيقة ليست محل خلاف، ولكن لا شك أن البداية أو المبادرة الأولى تأتي -أو يفترض أن تأتي- من طرف الجامعات التي تمتلك الإمكانيات والخيارات وصلاحية اتخاذ القرارات. وبالتالي، لو أن الجامعة منذ البداية أخذت على عاتقها القيام بواجباتها المتعددة تجاه الفرد؛ لنظر إليها في نطاق أوسع وأكثر تنوعًا. فمن واجباتها التي تقاعست عن توفير معظمها؛ فاختصرت بذلك نطاق فاعليتها: إعداد الفرد على المستوى التقني الخاص لوظيفته/ مهنته التي سيشغلها؛ ليؤديها على الوجه الأكمل وَفْق أعلى مستويات الجدارة العالمية، وإعداده على المستوى الاجتماعي والوطني؛ ليمارس أدواره الاجتماعية والوطنية التي تتجاوز حدود وظيفته الخاصة، وإعداده على المستوى الثقافي؛ لِيَعِيَ أبعاد فاعليته الثقافية، بل ليتمثّل -وعيًا- موقعه الثقافي محليًّا وعالميًّا، وإعداده على المستوى القومي؛ ليعي أبعاد مجاله الحيوي، وإعداده على المستوى الإنساني العالمي؛ ليعي معنى كونه إنسانًا، وكيف يتعامل/ يتفاعل مع العالم بأناسه وأشيائه على هذا الأساس الإنساني. فهذه وغيرها -مما هو في سياقها- واجبات ينتظرها الفرد من الجامعة؛ ليشعر بأنها تصنع عوالمه المتعددة؛ فيدخل معها في تفاعلٍ جدلي خلّاق، تفاعل تواصلي كفيل بإعادة خلق المجتمع من جديد على أحدث وأجدى وأرقى ما تتمخض عنه إرادة الحياة في الإنسان.

الدين والعلمانية.. المعنى وفضاء التأويل

الدين والعلمانية.. المعنى وفضاء التأويل

الدين والعلمانية، وجدل العلاقة بينهما، من أهم محاور التجاذبات الفكرية المعاصرة، وبخاصة بعد صعود الأصوليات في الشرق والغرب، ودخولها على خط المواجهة -صراحة أو ضمنًا- مع الزمن الحداثي الذي كانت العلمانية جوهر رؤيته ومصدر تصوراته، بل هي -في الغالب- الوسيلة والغاية في آنٍ. ولا يعني ارتفاع وتيرة الجدل حول هذه العلاقة بالتزامن مع صعود الأصوليات أن صراع الدين والعلمانية الذي احتدم في القرون الثلاثة الأخيرة سيعود من نقطة البداية، إنما يعني -في أهم ما يعنيه- أن ثمة انتفاضة دينية على النسخة السائدة من العلمانية؛ بغية تصحيحها بدرجة ما؛ لأنها (الانتفاضة الدينية/ عودة الأصوليات) ترى في هذه النسخة إقصاء أو تهميشًا غير منطقي وغير واقعي للديني؛ على الرغم من حضوره الفاعل والمؤثر، في السياق الفردي وفي السياق المجتمعي.

مع هذا، فالمسألة أعمق وأشمل؛ إذ على الرغم من أن مصطلح: «العلمانية» جديد نسبيًّا؛ فإن إشكالية الدين والعلمانية هي إشكالية قديمة قِدم الحضور الإنساني في التاريخ، ذلك الحضور الذي استلزم تشكل الظاهرة الدينية (أي دين، وبأي درجة) في المجال الدنيوي، الذي هو -ابتداء- التمظهر العلماني في الواقع. وتجذّر هذه الإشكالية في التاريخ لا يعني أنها كانت -في كل المراحل التاريخية- موجودة على هذا النحو الذي بدت -وتبدو- فيه الآن، إنما المقصود أن هناك توجّهًا لمعنى متجاوز للوجود المادي/ الواقعي/ الدنيوي، يصدر عنه تصورات أو معانٍ أو أفكار، تتماس -بالضرورة، وبشكل أو بآخر- مع هذا الوجود المادي، الذي ستؤثر هذه الأفكار والتصورات -أو تحاول التأثير- فيه، وسيتأثر بها لا محالة؛ بصرف النظر عن درجة هذا التأثير.

تحولات المعنى تاريخيًّا وجغرافيًّا

لا يتسع المجال هنا لبحث «ماهية الدين» من حيث هو «دين»، ولا بحث أصل التصور «العلماني»، وتحولات المعنى فيه تاريخيًّا وجغرافيًّا. لكن، نأمل أن تتضح الصورة -كما تتجلى في أطوارها التاريخية- بواسطة هذه الإشارات المقتضبة إلى تمظهرات الديني، في مقابل الحضور المادي/ الواقعي/ الدنيوي. فمنذ القِدم كانت هناك ثنائية: السماء والأرض، الآخرة والدنيا، الله والإنسان، النقل والعقل، الغيب والشهادة، رجال الدين، ورجال السياسة…إلخ، وهذه ثنائيات حاضرة منذ فجر التاريخ، متقابلة منذ فجر التاريخ، حاضرة على مستوى التصورات النظرية، كما هي حاضرة على مستوى الممارسات العملية، فدائمًا، وفي كل مكان تقريبًا، كان هناك من ينظر إلى السماء ليتجاوز عالم الأرض، أو من يرتبط بالأرض، بالوجود الطبيعي المباشر، متجاهلًا اللامرئي/ الماورائي. وفي السياق نفسه، كان هناك من يرى الدنيا/ الوجود المادي مجرد محطة عابرة في سفر طويل يتغيا «مقصدًا نهائيًّا» هو أسمى وأبقى، وفي المقابل، هناك من يراها هي المقصد النهائي المشهود، حتى لو كانت وجودًا عابرًا وهشًّا؛ سرعان ما يضمحل ويتلاشى.

لا يعني وضعنا هذه الثنائيات التي ترتد إلى عالَمَين مُتَمايزين، أو شبه متمايزين في حالة تَقَابل اختلافي، أنها كانت -بالضرورة- محكومة بعلاقات صراعية. بل على العكس، كان التداخل والتعاضد، بل تبادل الأدوار في بعض الأحيان، هو سيد الموقف؛ حتى إن كان الجدل النظري ربما أخذ كل طرف من أطراف هذه الثنائية إلى مداه الأقصى في الانفصال والتمايز، بل التضاد والاحتراب، ولو سِلْميًّا على مستوى: فضول الكلام.

عمومًا، وأيًّا كان الأمر، فلا بد من إيضاح أن هذا التقابل يكشف عن «نسبية التمايز»؛ بقدر ما يكشف عن الملامح العامة لظاهرة الدين من ناحية، والملامح العامة للعلمانية من ناحية أخرى. وبالتالي، يتضح أن مناقشة حالة: «التدين»، لا تنفصل -فهمًا- عن مناقشة حالة: «التَّعَلْمن»، وأن استحضار أحدهما؛ يستلزم استحضار الآخر بداهة. وهذا يَدُلّ -أول دلالة- على أن العلمانية بمجرد وعيها بذاتها/ بهويتها، فإنما تمارس الاعتراف بحضور «الديني» في الواقع، كما أن الدين بمجرد وعيه بذاته/ هويته إنما يعترف بحضور «العلماني» في الواقع، فهو دين، مقابل ما ليس بدين، أو ما لا يحكمه الدين. فلا يمكن -والحال كذلك- أن يعترف أحدهما بنفسه؛ إلا في حال كونه معترفًا بالطرف الآخر/ المقابل.

لكن، في هذا السياق يجب التأكيد على حقيقة أن «العلمانية» وما يلحق بها من أطراف تلك الثنائية، ليست فكرة قارّة/ مُستقرة؛ حتى يمكن ربطها بمعنى قارّ/ مُستقر. وكذلك «الدين» من حيث هو دين. والمقصود أن العلمانية كفكرة/ كتصور/ كتَوجّه، ليست هي ذاتها في كل مراحل التاريخ، وفي كل فضاءات الجغرافيا. هي متطورة، ومتغيرة، وأيضًا، متنوعة؛ وفقًا للثقافة التي تتموضع فيها. حتى العلمانية في صورتها المتأخرة (في القرنين: 19/20) ليست في سياق واحد ينتظمها، كما أن العلمانية الفرنسية، ليست هي -طبق الأصل- العلمانية الأميركية أو البريطانية، فضلًا عن العلمانية الشيوعية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي.

العلمانيات لا تتخذ موقفًا موحدًا من الدين؛ إذ بقدر اختلافها في تصور العلمانية، يختلف موقفها من الدين أو علاقتها بالدين. كذلك طبيعة الدين، من حيث فهمه/ تصوّره، هو ما يحدد الموقف من العلمانية، أو من العلمانيات (فـ«دين ما»، قد يتصالح مع «علمانية ما»، ويخاصم أخرى في الوقت نفسه). ولا ريب أن كل الذين انخرطوا في الصراع الديني – العلماني، إنما يعتقدون بـ«نوع من الدين» ضد «نوع من العلمانية»، أو العكس. ولا يمكن بحال أن يكون الصراعُ صراعَ «كل أنماط التدين» مع «كل أنماط التَّعلمن»؛ ليس فقط لأن تصور هذا الديني أو ذاك العلماني يختلف في الدرجة، وفي النوع، وإنما -أيضًا- لحتمية التفاعل بين نمطين من التصور، كل منها يريد الاستيلاء على أكبر قدر من الهيمنة المشروعة على الشأن العام.

يؤكد «التوجه العلماني» بكل تنويعاته على مركزية العقل الإنساني في تدبير المجال الدنيوي. وفي المقابل، يؤكد «التوجه الديني» على دور النقل (كمرجعية كُلية شمولية مستقلة، أو نسبية؛ باعتماد «المنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام) في تدبير المجال الدنيوي؛ على اعتبار أن هذا المجال ليس مجرد فَصْلٍ في مسرحية أكبر، ليس مجرد رقم في معادلة أشمل، يؤثر فيها، بقدر ما تؤثر فيه. ومن هنا، لا يستطيع الديني/ النقلي تصوّر نفسه معزولًا عن تنظيم/ تدبير هذا المجال الدنيوي؛ إلا بأن يفصل الخلاص الأخروي عن كل صور الممارسات الدنيوية، وهذا -في بدهيات التصور الديني- من ضروب المُحال.

العقل الإنساني منتج واقعي

ليست مشكلة الاتصال/ التداخل بين هذين العالمين: الديني والدنيوي محصورة في تصور المتدين التقليدي عن حدود الفاعلية الدينية، فـ«العقل الإنساني» الذي يُراد له -في التصور العلماني- الاستقلال بتدبير الشأن العام، هو منتج واقعي بصورة ما، هو أداة محدودة بحدود العلاقة بين الطبيعة والإنسان. وهنا لا يجوز لنا أن ننسى أن الدين جزء من مكونات هذا الواقع الذي يصنعه الإنسان من خلال الطبيعة، أو تصنعه الطبيعة من خلال الإنسان. ومن حيث هو كذلك، فحتمًا، في العقل من الديني؛ بمقدار ما فيه من الطبيعي/ المادي، ومن الإنساني/ الفطري.

إن تصور العلاقة -في تفاعلها، وفي تمايزها- على هذا النحو النسبي/ الملتبس/ المتداخل من شأنه أن يُخفّف من حدة الموقف الديني من العلمانية التي تتغيا تحييد الاختلاف الديني في المؤسسات العمومية، كما من شأنه أن يخفف من حدة الموقف العلماني من الدين. فحتى أولئك الذين يريدون التخفيف من الصرامة العلمانية بجعلها محددة في: «فصل الدين عن الدولة»، وليس «فصل الدين عن الحياة/ عن الفضاء العمومي»، لا يستطيعون تحقيق ذلك بصورة قاطعة، تُنهي الجدل حول المحاور التفاعلية، على الرغم من أن ما قدموه يُعَدّ من أفضل ما يقال في هذا السياق.

هل يمكن فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة؟ بل هل يمكن فصل المؤسسات العمومية الدنيوية عن الدين بصورة قاطعة أيضًا؟ نعم، الفصل -من حيث المبدأ العلماني المجرد نظريًّا- هدف منشود. فالمراد تحييد المؤسسات العمومية؛ إن لم يكن من الممكن تحييد الدولة كلها ككيان. لكن صعوبة هذا الهدف لا تعني التخلي عنه، كما لا تعني أن تحققه -بمستوى ما- ليس في صالح المجال الديني أو الدنيوي. صحيح أن بعض التفاصيل ستبقى -بحكم التداخل/ التفاعل بين المجالين- محلّ جدل وتوتّر وشدّ وجذب لا ينتهي. لكن كل العلمانيات تجتهد في تحقيق الفصل بين الخطوط العريضة للديني والخطوط العريضة للمدني، وتبقى التفاصيل -وستبقى أبدًا- مجالًا لتجاذب الرؤى وصراع الإرادات.

التشكل السياسي ومهمة إدارة الشأن العام

إن أي تشكل سياسي مؤسساتي إنما يأخذ على نفسه مهمة إدارة الشأن العام، أو الإسهام في ذلك. ولا ريب أن الدين، من حيث تجليه في الممارسات الفردية، أو من حيث تجليه في ممارسات المؤسسة الدينية، هو جزء من هذا الشأن العام. ولا يمكن لأي فعالية سياسية أن تتجاهل الديني؛ من حيث هي مَعنيّة بتدبير فضاء يتضمن الديني. وتزداد صعوبة التجاهل؛ كلما كان الدين أكثر تأثيرًا وأبلغ حضورًا، سواء من حيث عدد الأتباع، أو من حيث نوعية التّدين. حتى تلك الممارسات السياسية المتعلمنة التي تحاول كبح جماح السلوك الديني المتطرف الذي تطال أضراره الفضاء المدني العام، هي تتداخل مع الفضاء الديني الخاص؛ بحكم اضطرارها لفهم الحالة الدينية -بكل ما يستلزمه الفهم من تواصل واشتباك- وتوجيهها بما يكفل تراجع خطرها عن المجتمع ككل -بكل ما يستلزمه التوجيه من تفاعل وتعاضد- حتى يتحقق الحد الأدنى من السلام. أيضًا، في المقابل، أي تشكّل ديني مؤسساتي، أو حتى شبه مؤسساتي هو تشكّل سياسي بالضرورة، سواء عَمِلَ بالسياسة على نحو مباشر، أو اكتفى بالتأثير في خيارات الناخبين، أو عمل كقوة ضغط على الجماهير ولو من بعيد. الدين لم يكن -ولن يكون- خارج سياق الفاعلية السياسية؛ لأن الدين له فاعلية -تختلف نوعًا أو كَمّا- في الشأن المدني العام. حتى عندما يكون الدين روحانيًّا خالصًا؛ فله -حتمًا- تمظهرات عامة/ غير فردية، تُمليها الواجبات الدينية، ولا يمكن تجاهلها؛ لأن للدين حُكمًا نافذًا على أتباعه، يفعلون -طواعية، وإن بإكراه ديني- ما يمليه عليهم، وإلا أصبحوا غير مؤمنين أو غير كاملي الإيمان.

وفي الأخير، نؤكد على أهم محاور التواصل الديني – العلماني، وهو أن الاتجاه/ التوجه العلماني ذاته -كحراك فكري وعملي- يُعيد بالضرورة تأويل الدين، ومن ثم صياغته، في الفضاء الذي يشتغل عليه، كما أن «التعلمن» في بيئة ما، لا يستطيع الاستقلال بهويته العلمانية عن الحالة الدينية السائدة، التي تفرض تأثيرها (ولو بردة الفعل المضادة) تبعًا لدرجة نفوذها. والمحصلة من وراء كل ذلك، أن العلمانية من حيث هي ضرورة لتحقيق العدالة في تصورها الحديث، مرتبطة بالدين الذي تقابله، وتتفاعل مع مُتعيّناته في الواقع. وكما أن لكل مجتمع دينًا أو مجموعة أديان تُؤطّره ثقافيًّا، فكذلك لكل مجتمع علمانيته أو علمانياته الخاصة التي تُقابل دينه/ أديانه. ما يعني أن العلمانية تُصنع تفاعليًّا، وأن «علمانية ناجزة» لا محل لها من الإعراب في الزمن الليبرالي الذي يحتضن المتنوع، وينبذ -في الوقت نفسه- كل الشموليات التي تحاول إلغاء كل الأصوات لصالح الصوت الواحد الذي يدعي امتلاك الحقيقة في كل مجال، وفي كل الأحوال.