النسوية.. أو صورة المرأة ككائن استفزازي

النسوية.. أو صورة المرأة ككائن استفزازي

‏لقد تحولت المرأة إلى قضية منذ أن بدأ الوعي بأهمية مناقشتها؛ إذ ظلت دائمًا وبمختلف تجلياتها، مفهومًا غامـضًا ليس لعدم وضوح ما يشير إليه وحسب، ولكن لتعمد كثيرين ممن تناولوا هذا المفهوم أو تماسُّوا معه أن يظل غامضًا حتى يظل متسعًا لكثير من الرؤى المختلفة بل المتناقضة أحيانًا. فالنسوية والكتابة، والنسوية والنقد النسوي، إضافة إلى مفردات أخرى قريبة منها تتداخل في كثير من الكتابات وتبدو، في صورها المتداخلة أو المستقلة على حد سواء، تعبيرًا جليًّا عن شكل التداخل وحجمه الذي تتعرض له القضية المركزية وتفرعاتها الكثيرة. أما إذا قدر لنا أن نتماسّ مع كل هذا في إطاره العربي، فلنا أن ننظر لهذا التداخل ذي الطبيعة الإشكالية بحجم مضاعف، إضافة إلى ما يحيل إليه هذا الإطار العربي للقضية برمتها من أسئلة فرعية أخرى تتعلق بصورة المرأة ككائن استفزازي في المجتمعات العربية الراهنة بالذات.

ولكن بغض النظر عن طبيعة هذه الاختلافات والتداخلات، وقريبًا من فهمنا لها في الوقت نفسه نستطيع الإشارة إلى أن كل ما يتعلق بالحركة النسوية الحديثة، وبالمرأة كقضية، وبالمفهوم ككل، تخطى الآن، بل منذ عقود عديدة، مرحلة الاعتراف به، وأخذ يتوغل في مختلف مجالات اهتمام المرأة. فالحركة تشق طريقها باستمرار، وكانت دائمًا في قلب مرحلة الحداثة، حتى تشكل الجسر الثقافي شبه الوحيد للمرأة للمشاركة في «معركة» ـ وأُصرّ على كلمة معركة – ما بعد الحداثة بعد أن ماتت المذاهب الكبرى التي ادعت اهتمامًا بقضايا المرأة في إطار تفسير شمولي مجد النزعات الوصفية والعلمية والعقلانية من دون أن تشعر المرأة بأن التمييز ضدها قد توقف.

شمولية الخطاب

والنسوية بدورها تتحفظ أيضًا على شمولية الخطاب، وترفض التحديدات المسبقة وتشارك حركة ما بعد الحداثة في هذا التوجه. ولا يضير النسوية كحركة كونها نزعة ثقافية تناصر المرأة، كما لا يضــيرها أن تشارك معها؛ لأن نهاية عصر الحداثة أظهرت أن المساواة الثقافية هي منطلق كل مساواة بعدما لمست المرأة أن المساواة القانونية التي حصلت عليها أحيانًا، وما زالت تحارب للحصول عليها أحيانًا أخرى، لم تُلغِ التمييز ضدها، إضافة إلى أن التعليم والاستقلال الاقتصادي والخروج من المنزل، وهي إنجازات أو حقوق مما كانت المرأة تظن أن التحصل عليها سيساهم في رفع الغبن الاجتماعي العام عنها لم تفعل سوى القليل على هذا الصعيد، بل الغريب أن هذه الحقوق في بعض المجتمعات صارت نقمة بدلًا من أن تكون نعمة؛ لأنها لفتت أنظار المتزمتين إلى ما يمكن أن تحصل عليه المرأة مستقبلًا انطلاقًا من حصولها على هذه الحقوق، وهو ما جعلهم يعتمدون سياسة الهجوم المسبق عليها، والرفض المطلق لكل ما يمكن أن ينظر إليه على أنه من حقوقها حتى لو كان ذلك من الحقوق المتفق عليها شرعيًّا وإنسانيًّا واجتماعيًّا.

ولكن هذا لا يعني أبدًا تجاهل هذا القليل الذي تراكم كثيرًا في العقود الأخيرة ليصير تيارًا يساعد في تحديد أدوات المرأة المستخدمة في التجليات الأخرى لقضيتها المركزية، بغض النظر عن ردود أفعال، وفعل التيارات المتزمتة الرافضة. وإذا كانت المرأة بدأت تخوض في تفاصيل معركة جديدة في موقع يفترض أن أحدًا لا يستطيع أن يلغي تميزها فيه، أي الأدب واللغة والنقد تحديدًا، لتعيد تظهير حقوقها كما يجب أن تكون وهو ما لم تستطعه التيارات والأحزاب والنقابات والمؤسسات والبرلمانات والدول، فإن ما أفرزه الواقع شكل صدمة جديدة للمرأة في هذه المنطقة، وبخاصة أن اللغة ظلت دائمًا إحدى أدوات التمييز ضد النساء، ولعل نظرة سريعة للمكتبة العربية التراثية تكشف أي جور مارسته اللغة وأهلها ضد المرأة وكتابـاتها…

النقد النسوي

وإذا كانت المرأة العربية قد تحققت على الصـعيد اللغوي والكتابي رغم ما اعتور مسيرة التحقق من تشكيك دائم من الذات الذكوريـة المخلـصة لقيمها الموروثة والمتنامية والمتخذة أشكالها الجديدة وتعبيراتها الجديدة، فإن مسيرتها النقدية ظلت مسيرة مبتسرة. وإذا كنا ننطلق من جغرافيتنا العربية في مقاربتنا لهذا الموضوع بالذات، فيبدو أن كل الجغرافيات صالحة على هذا الصعيد للانطلاق منها وإن اختلفت نسبة الصلاحية بين جغرافية وأخرى وبالتالي ثقافة وأخرى. وإذا كان البعض يعرف مصطلح النقد النسوي بأنه تحليل النص الأدبي من وجهة نظر المرأة الناقدة، أو أنه تحليل النص الأدبي الذي تكتبه المرأة المبدعة، فإن هذا البعض يحدد الوظيفة الأساسية لهذا النقد بأنها الدفاع عن قضايا النساء والمطالبة بحقوقها.
وإذا كان هذا المصطلح قد ظهر تاريخيًّا لأول مرة في الولايات المتحدة الأميركية في سياق الحركة النسائية العامة المدافعة عن المرأة والمطالبة بحقوقها قبل أن ينتقل إلى فرنسا وبقية أوربا ثم يأتي إلينا محملًا بكل إشاراته الحضارية ومندغمًا بكل سياقاته التاريخية والبيئية، فإن هذا لا يمنعنا من التساؤل إن كانت الحركة النسوية في بلادنا مرادفة للحركة النسوية في الغرب؟ وهل تحمل المظهر نفسه؟ والإجابة التي نقترحها تقول: بالطبع لا… لأن أي حركة نسوية عربية تخوض معركة مضاعفة في استكمال مطالب المرحلة الماضية إضافة إلى مطلب الاعتراف الثقافي الراهن.
إن الحركة النسوية العربية لا تستطيع أن تمتلك كثيرًا من مقدرات نظيرتها الغربية وترفها؛ لأسباب ليست خافية على أحد لأنها ما زالت تعاني التمييز الحقوقي، وهو أوسع بكثير من التمييز القانوني، إضافة إلى التمييز العملي في الحياة اليومية وفي تفاصيل الحياة العربية من الأمثلة، ما يغنينا عن مزيد من الإشارة إلى هذا الموضوع.