البهجة بوصفها قوة قاهرة وتحقيقًا للحياة

البهجة بوصفها قوة قاهرة وتحقيقًا للحياة

يضعنا كِتاب «القوة القاهرة» للفيلسوف الفرنسي كليمون روسي (1939- 2018م) -في تعريبه الحديث من المترجم المميّز مصطفى صباني، 2023م، عن منشورات الربيع بمصر- أمام تأويل مستحدث ومغاير للرؤية النيتشوية، وأيضًا للعلاقة، التي قد تبدو غريبة، بين البهجة والمأساة.. بين الابتهاج والتراجيديا. ولأنه لا مهرب للكائن من الفناء المحتوم، فهو منذور للعيش في ظل اللحظة (أو اللحظات) الزائلة، خاضع لسلطان الوجود المنفلت، لهذا لا مناص من اعتناق «الوجود المؤقت» والإقرار بحتمية الموت.. ولا يتحقق الشفاء من هذا «القلق» الوجودي، والمأساة الناتجة عن تلك الحتمية، إلا بعيش حياتنا الوحيدة، في سيرورة وتحولات لحظاتها مثلما تبتغيه الضرورة.

البهجة جوهر الوجود

يجعلنا كليمون روسي أمام استرجاع فلسفي لمفهوم التراجيديا، من المسرح الإغريقي إلى فلسفة سيوران مرورًا بباسكال ولوكريتيوس وشوبنهاور -الذي أفرد له كتبًا- ويقف مليًّا وبخاصة إزاء فلسفة نيتشه، معيدًا النظر في تجليات المأساة في فكره ورؤاه، وذلك ضمن علاقتهما بمفهوم البهجة- الذي يعدّ جوهريًّا في فكر روسي؛ إذ إنّ «النظام الذي تديره البهجة- بالنسبة له- يكون شموليًّا أو لا يكون» (ص8). فالبهجة كاملة الحضور في صيرورات الزوال، فهي «تستمر رغم عدم وجود أي شيء تتعلق به، ورغم حرمانها من أي أساس تستند إليه» (ص17). بهذا تغدو البهجة عنقاءَ تقوم من رماد موتها، من اندثار الآني، إنها شبيهة اللذة إذن، بل أكثر. لهذا يتعذر التعبير عنها، مثلما يخبرنا روسي.

تتأتى هذه الاستحالة من عدم قدرة المبتهج على التعبير عن بهجته، وأحيانًا يقف حائرًا إزاء مسببات ابتهاجه وسروره. فتصير ذات تناقض رئيس؛ لأنها «غير قابلة للتصور العقلي» (ص42). ملزمة بأن تكون «كامنة في الرضا والقبول بالوجود الذي تعتبره مأساويًّا، وفي هذه الحالة فإن البهجة متناقضة لكنها ليست وهمية» (ص43).

وتغدو المفارقة أكثر تعقيدًا، إن نظرنا بتمعن إلى كوننا نشعر بالفرح ونبتهج على الرغم من الطبيعة المأساوية للحياة. سرعان ما تتحول جنازة ما إلى لحظة من السرور، نكاد ننسى تراجيديا الموت في دوامة الصيرورة الزمنية؛ إذ «لا وجود لبهجة حقيقية إلا إذا كانت، في الوقت نفسه، موضع تعارض وتناقض مع نفسها؛ ذلك أن البهجة تكون متناقضة أو لا تكون بهجة» (ص44). شبيهة بتمزيق ديونيسيوس لنفسه في أقسى حالات النشوة. لهذا فهي «لا تأبه بأي إحساس»، ولا يعني ذلك أنها خاضعة للسذاجة، بل إنها -يقول روسي- شرط ضروري للحياة على العموم، من دون حاجة لتسويغ نفسها. إنها جوهر الوجود، فبالقدر الذي لا نعي به السبب الذي من أجله نحيا، فنحن لا نستطيع الوعي بمسببات الابتهاج. وبالتالي، يسهل وصفها أكثر من شرحها أو تأويلها.

من المستحيل إذن، استحضار البهجة أو تحقيقها من خلال فعل معين، فهي «القوة القاهرة» -الوحيدة- في الوجود، تتحقق دونما شرط؛ غير أنه يمكننا التخلص من العقبات الذهنية التي تقلل من قدرتنا على الشعور بها. تتمثل إحدى العقبات في الاعتقاد الراسخ بأن عواطفنا مشروطة بالظروف الخارجية، وبالتالي يجب أن تكون متزامنة معها. إن البهجة، بهذا المعنى، تعدّ نبوءة تحقق ذاتها. فهي كامنة في الحياة وحدها، وفي تقلبات الوجود المنذور لزوال اللحظة لا ديمومتها. يقول روسي: «طعم الوجود هو طعم الزمن العابر والمتغيّر وغير الثابت وعديم اليقين وغير المتناهي، وفي هذه الحركة بالطبع أفضل وأضمن «دوام» الحياة» (ص36).

التملص من الأمل

كان روسي يفكر وهو مزودٌ بروح الدعابة، والمرح، التي ينشرها على صفحات كتبه الوجيزة، ولم يكن يبحث، يخبرنا المترجم في نص تقديمه، عن معنى الوجود؛ إذ عنده يعد الأمر فارغًا ومستحيلًا، وما نجهله حقيقة، مثلما يؤكد، هو ذاتنا وكذلك مصيرنا المحكوم بحتمية الزوال (ص6). يستند صاحب الكتاب لتأكيد أُسّ أفكاره، حول إعادة النظر في البهجة في علاقتها الجوهرية بالوجود، على قراءة مغايرة لفلسفة صاحب المطارق وفيلسوف الديناميت؛ إذ ركز روسي على مفهوم «الغبطة» béatitude، (مقابلًا للبهجة) مثلما صاغه هنري بيرو، عند نيتشه، أكثر مما ساد عند باقي الفلاسفة الذين تناولوا فلسفته، والذين ركزوا أكثر على مفاهيم مثل: «العود الأبدي»، و«إرادة الاقتدار» (القوة) و«الإنسان المتجاوز لذاته» (الأعلى). فهي تعابير فلسفية لصاحب الكتاب، وتنويعات عن الغبطة بشكل مباشر تقريبًا؛ ذلك أن المفهوم لا يستطيع أن يكون مفهومًا نيتشويًّا خاصًّا إلا إذا كان متعلقًا بالغبطة الشاملة ولا شيء غيرها (ص63)؛ في تصالحها مع الواقع والزائل اللذيْنِ ظَلَّا مَحَلَّ نُفُورٍ من جانب الكائن. فمنذ كتابه الأول «الفلسفة المأساوية»، يعارض روسي هذه الرؤية السائدة المرتبطة بالمأساة والبهجة، الباحثة عن ذلك المضاعف double الذي يمكنه أن يحمينا من الواقع. كون هذا الأخير يعدّ قاسيًا وغير قابل للوصف، لهذا يميل الناس إلى تفضيل بديل لهم، بكونه صورة خادعة وناعمة تشتت انتباههم عن الواقع. على وجه الخصوص، تستند الرؤية الأخلاقية للعالم، مثلما يخبرنا، إلى وهم هذا المضاعف. فيتكل الجُلُّ على الأمل؛ للنجاة من المأساة، من القدر المحتوم.

أساس ومكمن «القوة القاهرة» عند كليمون روسي يقع في البهجة، التي لا تظهر إلا بوصفها شاملة. أي في كونها «بهجة الحياة» والوجود. وبصورة أدق، فإن البهجة، مثلما في فلسفة نيتشه، تسمح لنا بالتفكير في الوجود بما يعتريه من تراجيديا، التي تعدّ محركًا له، لا لعنة ينبغي الانفلات منها، فهي حتمية وطاقة لديناميةِ الحياة، شأنها شأن الأزمة، لهذا فهي «العود الأبدي» ودافع الإنسان لتجاوز ذاته ومنبع إرادة الاقتدار. وبالعودة إلى النص نفسه، يكشف روسي دوافع هذه العودة الأبدية، والأولوية الممنوحة للموسيقا خاصة في فلسفة صاحب «ميلاد التراجيديا»، ويظهر أن كوكبة نيتشه المفاهيمية تنجذب حول مبدأ «الغبطة»؛ إذ إن «الابتهاج الموسيقي عند نيتشه مبدأ كل تجربة للغبطة» (ص85).

وتكمن قوة روسي الرئيسة، في جعل كتابه أو فكرته: «القوة القاهرة»؛ كتاب «طريقة»، تقدم نفسها مسلكًا فلسفيًّا (وسيكولوجيًّا) للتفكير في مفاهيم الفرح والسرور والابتهاج والغبطة، بوصفها جميعها مفاهيم غير خاضعة لأي منطق. لكونها غير عقلانية، لهذا تكاد تتعلق بالجنون عينه، ومنه اشتق تعبير «جُنَّ فرحًا». وإنها سُبل ذات جدوى لإدراك واضح للمأساة في كونها متلازمة وجودية عضالة. وعليه، وبعد الإيمان بهذا المعطى، لن يفرّ المرء من الواقع، ولن يبحث عن مضاعف سيمولاكري يقيه مأساته، التي سيحتضنها بأذرع مفتوحة وغبطة عارمة. وهذا الإقبال على قوة الواقع ومصيره المأساوي، هو القاعدة العظيمة والفريدة لمفهوم الحياة، والتشبث بها.

أهمية الفلسفة النيتشاوية

أثرت فلسفة نيتشه في جيل بأكمله، وما زالت تفعل، وألقت بظلالها الوارفة على فلسفات عديدة في القرن العشرين، وما بعده. وقد وقف كليمون روسي جليًّا على الامتداد النيتشوي، في فلسفة إميل سيوران، بوصفها توجهًا فكريًّا يجد جذوره في فلسفة صاحب «الإنسان المفرط في إنسانيته». يعود أول لقاء بين روسي وسيوران إلى عام 1968م، وقد نشأت عنه صداقة قوية ترتب عليها مراسلات ومناقشات مهمة. وقد كان الرابط المشترك بينهما يكمن في المفهوم المركزي للضحك والسخرية والمرح.

سيعجب روسي كثيرًا بفكر سيوران، الذي يعده كتابة وتفكيرًا بمشرط، مدركًا مكمن «معاناة الوجود في العالم» التي يعانيها مؤلّف «مثالب الولادة»، وكيف أن دولته لم تترك له سوى القليل من الراحة، وأنه في النهاية اعتراه وجود عبرته الهاوية وأقامت فيه المأساة، فكان في حاجة إلى المزيد من الهدنة مع الذات والعالم. وسيشترك كل منهما، في عدم التفريط في أي من كلماتهما لانتقاد الفلاسفة والكتاب الذين عاصروهما.

يتفق كل منهما على أهمية الفلسفة النيتشاوية، وعلى متلازمة الزوال التي تعتري الوجود، والتي تعدّ السمة البارزة له، بالنسبة لسيوران، بل لأنها مثلبة رئيسة. بالتالي، «إن هبة الوجود هدية مسمومة» وذلك لأن «الوجود تناقص متناقض بالنسبة للإنسان الذي منذ ولادته يريد أن ينال اللامتناهي المحتمل» (ص160).

اشترك الرجلان في السخرية اللاذعة من العالم الثقافي السائد، مؤسسين نظرتهما المشتركة على مرح مشترك، يحاولان إضفاء ابتهاج معين على الحزن الذي يعتري العالم. كل بطريقته. لقد تمتعا بمتعة الوجود معًا، صداقة بالمتناقضات، نابعة من فورة الضحك التي تعبر عن القدرة على عدم أخذ الأمور على محمل الجد والضحك عاليًا في وجه حماقات العالم. هذه الضحكات -المشتركة- هي أيضًا علامة أكيدة على القدرة على الابتهاج. وإن كان سيوران المتشائم وروسي المؤكد للبهجة لا يرتويان من أصل الابتهاج نفسه، لكن من المنبع النيتشاوي والشوبنهاوري عينه.