قرن من الأدب الإفريقي الأسود.. من الأدب المستعمَر إلى الأدب الغازي

قرن من الأدب الإفريقي الأسود.. من الأدب المستعمَر إلى الأدب الغازي

لوضع الأدب الإفريقي المكتوب بالفرنسية في سياقه الثقافي وفهم ثراء خياله وتطوره، من الضروري، أولًا قبل كل شيء، الاهتمام بالتراث الواسع للأدب الشفوي الذي سبق إنتاج الأدب المكتوب إثر استعمار الأوربيين إفريقيا. ففي حين نظر النقاد الغربيون في البداية إلى الأدبيات التي كتبها مواطنو البلدان الإفريقية على أنها قطيعة مع التقاليد الشفوية تشير إلى دخول «القارة السوداء» إلى الحداثة، فقد اتضح منذ ذلك الحين أن هذا الأدب المكتوب لم يُصَمَّم على نحو محضٍ نقلًا عن الممارسات الأدبية التي «جلبها» المستعمر، لكنها أيضًا ورثت جزءًا كبيرًا من أساليب الكتابة وموضوعاتها وخيالها من تقاليد ما قبل الاستعمار التي تعود إلى آلاف السنين.

خطوط عريضة: الوحم والولادة

كانت إفريقيا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واحدة من الأراضي المفضلة لروايات المغامرات الفرنسية، من جول فيرن إلى هنري دي مونفريد مرورًا ببيير لوتي. وقد مثلت الحرب العالمية الأولى محطة حاسمة في تطور النظرة الفرنسية إلى إفريقيا وفي ظهور تعبيرات أدبية جديدة مرسّخة للقارة. ففي عشرينيات القرن الماضي، عقب كتاب «الأنطولوجيا الزنجية»[1] لبليز سيندرار وكتابات أبولينير وبيكاسو، استولى السرياليون على موضوع البدائية السوداء والزخارف التي نقلها الأدب الاستعماري.

يرجع تاريخ ميلاد الأدب الإفريقي، بالمعنى «الكلاسيكي» للمصطلح عمومًا، إلى مرحلة ما بين الحربين، حيث نُشرت كُتب مثل: «إرادات ماليك الثلاث» لدياني (1920)، و«باتوالا» لماران  (1921)، و«القوة الطيبة»، باكاري ديالو (1926) أو «العبد» لفيليكس كوشورو (1929). تحرر هذا الأدب تدريجيًّا من قيود ما يسمى بالأدب «الاستعماري»، ثم من مكانة «الأدب ذي الصلة» المنسوب إليه في عام 1958م من جانب موسوعة الكوكبة في أحد مجلداتها المخصصة للأدب الفرنسي، إلى جانب الأدب من هايتي أو جزر الهند الغربية، ليثبت نفسه كأدب مستقل بذاته، له رموزه وكلاسيكياته الخاصة.

اتبع هذا الأدب رحلة طويلة، سياسية وكذلك جمالية، من التحرر والاعتراف، التي سلكتها رواية «إرادات ماليك الثلاث»، وهي رواية قصيرة من نحو عشرين صفحة كتبها مدرس سنغالي، أمادو ماباتي دياني، بناءً على طلب من مكتبة لاروس- عملٌ نُشر في سلسلة «كتب وردية للشباب» واستخدم لتعلم القراءة- حتى الاعتراف بها في منتصف السبعينيات، تمهيدًا لمنح أول جائزة نوبل في الأدب لأديب إفريقي هو النيجيري الناطق بالإنجليزية وول سوينكا في عام 1986م، قبل عامين من المصري نجيب محفوظ.

مرحلة ما بين الحربين: الخطوات الأولى

تشهد بعض الكتب المنشورة بعد الحرب على ظهور الأدب الروائي الإفريقي، الذي درس مستوياته المتتالية وعوامله المختلفة برنارد موراليس بالتفصيل في كتابه «الأدب والتنمية» (موراليس 1984م). في عام 1921م، منحت جائزة غونكور إلى رواية «باتوالا» لرينيه ماران، موظف إداري في المستعمرات الفرنسية من أصل غوياني. بعد ما يقرب من عشرين عامًا، عندما اعتُرف به من جانب سنغور وجزء من الجيل الجديد من مؤلفي الزنوجة بوصفه رائدًا، استعاد نص «باتوالا» في طبعة جديدة، فقد طوّع كتابته للابتعاد من الفرنسية الصارمة للطبعة الأولى.

تطور الأدب الإفريقي بين الحربين، ضمن ما يسمى بالأدب «الاستعماري»، الذي شكل نوعًا منفصلًا في الأدب الفرنسي[2]، وفي كثير من الأحيان حقق نجاحًا كبيرًا، وأقرته طبعات كبيرة جدًّا، عندما تمجّد المغامرة أو الغرابة أو المشروع الاستعماري، ومن خلال التكريس الرمزي والمؤسسي، مثل جائزة غونكور، التي أُنشِئَت في عام 1903م، والتي تذهب إلى كتب مثل «المتحضرون» للكاتب كلود فارير (1905م)، و« دينغلاي، الإفريقي اللامع» من جانب الأخوين جيروم وجان ثارود (1906م)، في فرنسا لماريوس- آري لوبلوند (1910م) أو «باتوالا»، سابقة الذكر (1921م). شكل الروائيون الأفارقة الأوائل، لمدة طويلة، منطقة واحدة فقط من هذا الأدب، كما يتضح من مختلف العناوين الفرعية لكتبهم: باتوالا، في عام 1921م، «رواية سوداء حقيقية»، كريم، عام 1935م، «رواية سنغالية»، أو «ديابالا» لجوزيف زوبيل، عام 1947م، «رواية كاريبية».

من أجل نيل الاعتراف، يجد الكتّاب الأفارقة الناطقون بالفرنسية أنفسهم خاضعين، في سياق استعماري مختلف قليلًا من حيث وضعهم كمؤلفين، للقيد نفسه الذي يثقل كاهل الكتاب الإقليميين: الحاجة إلى «تنمية الاختلاف (الفروق) في غياب القدرة على فرض أنفسهم كنماذج» كما يؤكد الناقد بونيفاس مونغو مبوسا: «في ثلاثينيات القرن الماضي، كان بإمكان كاتب أنتيلي أو إفريقي أراد […] النشر أن يختار، على سبيل المثال، كإستراتيجية أدبية أن يكون […] كاتبًا «إقليميًّا» أو « جهويّا»؛ لذلك يمكنه نشر خرافات أو حكايات كريولية مترجمة من لغة إفريقية إلى الفرنسية. لم يرغب كتّاب [«الزنوجة»] هؤلاء في أن يكونوا كتّابًا إقليميين. لقد نشروا لأول مرة في باريس، وقد انتُقدوا بسبب ذلك، وأعتقد أن ذلك لم يكن فهمًا لإستراتيجيتهم».

يشرح بول حازومي أيضًا، في «تحذير» في مقدمة كتابه دوغيسيم: «التعبيرات التي قد تبدو فريدة للقارئ هي استنساخ دقيق للهجة المحلية والترجمة الصادقة للغة الخلابة لداهومي. سيكمل هذا الخطاب الرسمي، بنكهته المحلية […]، أن ينقل إلى توثيقنا طابعًا من الغرابة والأصالة، واهتمامًا مستمرًّا بالجهوية الحقيقية». إذا كانت هذه الكتابة تندرج في إطار الاعتراف الإقليمي بهدف اكتساب الشرعية في المجال الأدبي الفرنسي، فإنها تنطلق في الوقت نفسه من الرغبة في العودة إلى المصادر، وإعادة التملك الأَوَّلي للماضي والهُوية الإفريقية: «التوثيق» يهدف إلى الإعلام والمطالبة، بأسلوب متحفظ، بتاريخ وطنية وثقافة أصيلة.

لقد كرّس هذا الجيل بأكمله من المؤلفين الأوائل، بمن فيهم ماران وحزومي[3] وداماس، حياته لكتابة الروايات والإثنوغرافيا، ولا سيما في متحف الإنسان في باريس. تمثل أعمالهم بلا شك ردًّا على الإثنولوجيا الاستعمارية لمرحلة ما بين الحربين، حيث بدأ المؤلفون بمعارضة الشرائع الجمالية والافتراضات الإثنولوجية الموجودة في ذلك الأدب.

سرعان ما أصبح الكتّاب والمثقفون الفرنسيون من الدرجة الأولى، ولا سيما بين السرياليين، خلفاء الإداريين الاستعماريين: مقدمة روبرت ديسنوس لمجموعة «أصباغ» لليون غونتران داماس، التي نَشر خمسَ مئةِ نسخةٍ منها في عام 1937م الشاعرُ الناشرُ غي ليفيس مانو، تُشكّل علامة فارقة في هذا التطور، وسرعان ما تلتها مجموعة «عودة من غويانا» للمؤلف نفسه، نشره في العام اللاحق خوسيه كورتي، القريب من السرياليين، الذي نَشر أيضًا في ذلك العام كتاب « في قصر أرغول»، أول كتاب لجوليان غراك.

في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، اجتمع المثقفون السود، وكثير منهم لا يزالون طلابًا، في باريس في الحي اللاتيني، مكانًا للتكوين واستقبال المنفيين. تمكن بعض منهم من نشر نصوصهم في أكبر المجلات، مثل داماس، الذي نشر العديد من قصائده في مجلة «الفكر» من عام 1934م، ثم في «كراسات الجنوب». غالبية هؤلاء المؤلفين اتخذوا خطواتهم الأولى في العديد من المجلات الطليعية الصغيرة، التي قدّمت نفْسَها على أنها أماكن للقاء والنقاش الجمالي والسياسي. تأسست «البرقية الإفريقية» في باريس عام 1928م وأدارها الغوادلوبي موريس سالينو، وتدعو إلى الاندماج واستبعاد أي راديكالية عرقية.

في عام 1932م، ظهر العدد الوحيد من مجلة «دفاع شرعي»، التي كتبها منشقون عن مجلة «العالم الأسود» الذين عدُّوها جبانًا للغاية، مثل رونيه مينيل، وجون مارسيل مونرو وإتيان لورو، وبدت المجلة كشفًا جذريًّا، يأخذ شكل بيان في سياق سريالي، أطلقت المجلة النار على الكتابة التي عَدَّها كتاب المارتينيك امتثالية.

ثم جمعت مجلة «الطالب الأسود»، عام 1935م، بعد عدد قليل من الإصدارات النادرة، كتاب الزنوج المستقبليين مثل إيمي سيزير وليون جونتران داماس. هناك نجد ليوبولد سيدار سنغور وليونارد ساينفيل وعثمان سوسييه. تناضل المجلة من أجل الانفصال عن الجماليات الكلاسيكية ومن أجل الاستقلال في مواجهة الأممية الثالثة، وغالبًا ما يُعتقد أنه، مع مقال سيزير بعنوان «كوخ الزنوج» «Nègreries»، ظهر مفهوم الزنوجة.

كانت هذه المجلات منتدًى أدبيًّا بقدر ما هي ورشة عمل للكُتاب الشباب السود الذين يسعون إلى المواطنة في النشر، مثل ليوبولد سيدار سنغور، الذي نشر في عام 1939م في مجلة «صقالة»، قصيدة «ثلج على باريس» أو إيمي سيزير في الكتابات الأولى لقصيدته «كراس العودة إلى أرض الوطن» نُشر العمل في إبريل 1941م، في العدد الأول من مجلة «مداريات»، التي أسسها في المارتينيك في أثناء الحرب إيمي سيزير وزوجته سوزان، وهي مجلة اكتشف فيها أندريه بريتون النص في هذا الشكل في أثناء زيارته إلى فور دي فرانس، ودفعه حماسه الفوري للنص الذي عدَّه سرياليًّا إلى تقديم طبعة عام 1947م، التي ظهرت في وقتٍ واحد في باريس ونيويورك[4].

مرحلة ما بعد الحرب: صعود حركة الزنوجة

بعد الحرب، استأنف الكتّاب والمفكرون السود صعودهم، أقوياء بالآفاق الجديدة الناتجة عن مؤتمر برازافيل لعام 1944م، في إطار الاتحاد الفرنسي، وشرعية الالتزام وتضحية الشعوب المستعمرة من أجل تحرير فرنسا. علاوة على ذلك، كانوا في كثير من الأحيان متحدثين وممثلين سياسيين في أثناء التحرير، مثل سنغور وإيمي سيزير وحزومي أو مران أحيانًا، بين 1948-1950م. على هذا النحو، فإنهم يحملون مطالب مزدوجة: من ناحية، يريدون الاعتراف بأنفسهم ككتّاب، ومن ناحية أخرى، على مستوى أكثر شمولًا وسياسيًّا، لرؤية أكبر عدد يصلون إلى المواطنة، مما سيؤدي إلى قوانين ربيع عام 1946م- ما يسمى بقانون «هوفويت بوانيي» لإلغاء السخرة، ثم قانون «لامين غيي» الذي يلغي أي تمييز بين «الرعايا» و«المواطنين». هذا الدخول إلى مجال النشر الفرنسي والمطالبة بالاعتراف السياسي والجمالي الذي يصاحبه، يتخذ شكل مختارات، وهي طريقة لفرض التضامن والوَحْدة بين المؤلفين، «كما لو كان لقاءً مثاليًّا وأخويًّا، من أجل المطالبة بصوت للجميع، ورسم معالم نظرية نقدية. من مختارات داماس الأولى إلى الثانية، التي نُشرت عام 1966م، والتي تكشف عن جيلين مختلفين من الكتّاب الأفارقة، من بينهم الجيل الذي نشرت له مجلة «أورُبا» عام 1949م أو كتاب ليونارد سان فيل، الذي نشرت له مجلة «حضور إفريقي» عام 1963م، والذي ظهر مجلده الثاني في عام 1968م، ثم ظهرت «مختارات من الشعر الزنجي الجديد والملغاشي باللغة الفرنسية»، التي أعدّها الشاعر الرئيس ليوبولد سيدار سنغور والتي عرفت نجًاحا كبيرًا، على وجه الخصوص بفضل مقدمة سارتر، «أورفيوس أسود» التي تحتفل بقدوم التعبير الشعري الأسود.

ليوبولد سيدار سنغور

كان الناشرون الجدد الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية هم الأبطال الرئيسين للنشر للمؤلفين الأفارقة السود. حيث أعطوا حق المواطنة في مجال النشر الفرنسي للأصوات والأدب الإفريقيين، أولًا في مجال الشعر، ثم في الرواية. اعترف كامارا لاي أو الشيخ حميدو كين لاحقًا أنهما لم يواجها مشكلة في العثور على ناشر. في عام 1945م، نشر سنغور «أناشيد الظل» في سلسلة «حجارة حيّة» التي نشرت «تاريخ السوريالية» لموريس نادو (1945م) أو«الدرجة الصفر للكتابة» لرولان بارت (1953م). في عام 1947م، نشر ليون غونتران داماس المجلد الأول والوحيد من مختاراته «مناخات فرنسية: شعراء اللغة الفرنسية»[5]، قبل ظهور « قرابين سوداء»، مجموعة سنغور الجديدة.

نشرت دار غاليمار ديوان «الأسلحة المعجزة»، لإيمي سيزير. وسرعان ما تبعه ديوان «علامة سوداء» لداماس في مجال الشعر، الذي أبرز ثراءه سارتر على نحو خاص في «أورفيوس أسود». يلعب المحركان دورًا رئيسًا: أولًا، بيير سيغيرز، «ناشر الشعراء»، الذي نشر كتاب «إفريقيا المنتصبة!»، أول مجموعة قصائد كتبها الإيفواري برنارد بينلين دادييه في عام 1950م، و«قصائد إفريقية» لكايتا فوديبا، تلاها بعد ذلك بعامين كتابات ليون- غونتران داماس. كان الناشر الكبير الآخر للشعراء الأفارقة بيير جان أوزوالد، شديد الالتزام في أثناء الحرب الجزائرية، وهو ما جرّ عليه المنفى في تونس. في عام 1962م، نشر «موجز حكايات قديمة»، تشيكايا أو تامسي مع مقدمة كتبها سنغور، في الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في تونس، ثم في سلسلة «أطالب بالكلام» «نشيد جنائزي، لبطل إفريقي» لبيير ماكومب بامبوته، تكريمًا لباتريس لومومبا.

أدى ظهور الإثنولوجيا، ثم الأنثروبولوجيا، إلى تطور في الطريقة التي نظرنا بها إلى أعمال المؤلفين الأفارقة، إضافة إلى تفسيرات أكثر علمية، وأكثر اتّزانا لتاريخهم وثقافتهم، مع ظهور مفهوم «العالم الثالث» تحت تأثير ألفريد سوفي وجورج بالاندير. إن مساهمة مجلة «حضور إفريقي» في الاعتراف بالأدب الإفريقي كبيرة على أي حال، بما يتناسب مع فرصة التحرير الهائلة التي أوجدتها المجلة: لم يعد بإمكاننا إحصاء عدد المؤلفين الذين نشروا أعمالهم الأولى هناك. وظهرت مجلات أخرى في الوقت نفسه، مثل «حقائق إفريقية»، أو مجلة «أصداء» التي أعطت صوتًا لإفريقيا الاستوائية الفرنسية.

إنهاء الاستعمار: ازدهار الرواية والمقالات

في بداية الخمسينيات، بالتوازي مع ظهور الرواية الإفريقية، في سياق قمع مدغشقر (1947م)، مؤتمر باندونغ (1955م)، استقلال غانا (1957م) وقبل كل شيء حرب الجزائر (1954-1962م)، تتخذ المقالات الجدلية على نحو متزايد موقفًا في باريس ضد النظام الاستعماري. في عام 1950م، نشر إيمي سيزير كتابه الشهير «خطاب حول الاستعمار»، أولًا مع ريكلام، وهي طبعة مرّت من دون أن يلحظها أحد تقريبًا[6]، ثم في نسخة منقّحة وموسعة مع حضور إفريقي في عام 1955م. في عام 1952م، طبيب نفسيّ شاب من غرب الهند يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، فرانز فانون، ينشر مع دار نشر سوي، «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، الذي قدّمه فرانسيس جينسون. في عام 1953م، نشرت حضور إفريقي «الطلبة السود يتكلمون»، وسرعان ما تبعها «الحشود الإفريقية، والوضعية الإنسانية الآن» بقلم أدولاي لي، قبل «رسالة إلى موريس ثوريز» بقلم إيمي سيزير (1956م). في عام 1955م، نشر ريتشارد رايت للمرة الأولى بالفرنسية «باندونغ، 1500.000.000 رجل». في عام 1957م، نشر ألبير ميمي من جانبه «ملامح المستعمَر» في غاليمار.

كان للحرب الجزائرية، التي أغرقت الجمهورية الرابعة في أزمة قاتلة، صدى كبير في جميع أنحاء العالم. حارب عدد قليل من دور النشر في طليعة مجال النشر، الرقابة التي كانت، بعد أن أخرست الصحافة، تضربُ الكتب على نحو أقوى وأصعب. منذ وقت افتتاح مكتبته، في قلب الحي اللاتيني في باريس، أقام فرانسوا ماسبيرو علاقات وثيقة مع المفكرين والكتاب من العالم الثالث، وكذلك مع الجيل الجديد من الطلاب الذين كان يُطلق عليهم آنذاك «المستعمَرين»، مثل الأنغولي ماريو دي أندرادي، وزعيم غينيا البرتغالية أميلكار كابرال، والكوبي نيكولاس جيلين، وليوبولد سيدار سنغور، وليون- غونتران داماس أو ريتشارد رايت إلى جانب المثقفين الشيوعيين مثل كلود روي وروجر فيلانت.

كانت حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هي أيضًا مرحلة ظهور الرواية الإفريقية الناطقة بالفرنسية من البلدان التي نالت استقلالها، وذلك بفضل التزام أكبر دور النشر، فلاماريون، أو بلون، أو جوليارد، أو روبير لافون. إضافة إلى العناوين التي سبق ذكرُها، ظهرت العديد من الروايات التالية: «الطفل الأسود»، (1953م) للكاتب الغيني كامارا لاي، و«المسيح الفقير» لمونغو بيتي (1956م)، «العتّال الأسود» لسامبين عصمان، أيضًا في عام 1956م، «حياة خادم» للكامروني فرناند أويونو (1958م)، كوكومبو، «الطالب الأسود» لآيك لوبا )1960م)…

كان ذلك الوقت هو العصر الذهبي للرواية الإفريقية، التي لاقت نجاحًا كبيرًا بجوائز عدة، بينما أُنشِئت جوائز محددة لأعمال مؤلفين أفارقة، مثل الجائزة الكبرى للأدب الإفريقي الأسود. في عام 1961م. وهكذا حصلت رواية «الطفل الأسود» على جائزة تشارلز فيلون، ورواية «المدينة القاسية» لمونغو بيتي جائزة سانت بيوف في عام 1958م، وبيراغو ديوب الجائزة الكبرى للأدب الإفريقي الأسود في عام 1964م.

هنا مرة أخرى، تلعب دار نشر «حضور إفريقي» دورًا مهمًّا؛ إذ أَعادَت نَشْر النصوص التي نشرها ناشرون آخرون، في طبعات نهائية ستكون علامات أدبية وفكرية في الأغلب.

منتصف السبعينيات: الاعتراف والتجديد

في عام 1975م، جاء جيل جديد من الناشرين إلى فرنسا لمواصلة عمل مؤسسة «حضور إفريقي» أو «فرانسوا ماسبيرو»، اللذين يواجهان الآن، بعد مرحلة طويلة من النمو، صعوبات اقتصادية خطيرة في سياق سياسي مختلف تمامًا. تميزت منتصف السبعينيات بالاعتراف النهائي بهذه الآداب السوداء، سواء في مجال النشر الفرنسي أو على المستوى الدولي، وبداية موجة كبيرة من الأعمال والمقالات الأكاديمية المكرسة لها.

أدباء الجيل الرابع: الأدب الإفريقي الغازي

يرفض روائيو الجيل الجديد الالتزام السياسي كعنصر إلزامي في كتاباتهم، ويبتعدون من القارة الإفريقية للانفتاح على منظور عالمي ويتبنّون في أعمالهم نهج التعالق النصي المفتوح على مؤلفين من أصول وعصور وأجناس مختلفة تمامًا. لقد اكتسبوا الثقة في أنفسهم، وهم على دراية بقيمة عملهم في المشهد الأدبي العالمي، ومن ثم يريدون إضفاء الشرعية على أنفسهم. يتميز إنتاجهم أيضًا بأنه أدب الشتات والمنفى والهجرة؛ لأن معظمهم لم يعودوا يعيشون في إفريقيا. لكن هؤلاء المؤلفين يعيشون المنفى ويصوّرونه بطريقة هادئة مقارنة بكبارهم. إنه يمثل فرصة ومناسبة مجزية وليس حدثًا مأساويًّا. إن الحنين إلى «الوطن»، والحاجة إلى العودة إلى المنابع الأولى لم تعد تخصهم.

كما شهدت موضوعات الروايات والقصص تغييرات على مر العقود. إذا كان الموضوع المتميز، في الحقبة الاستعمارية، هو إدانة الاستعمار، فقد شعر الكتاب بالحاجة إلى تأكيد القوى التي أتت منه؛ من أجل التركيز أخيرًا على نقد التقاليد الإفريقية وظروف الهجرة. لذلك كانت النصوص الروائية مرايا للمجتمع الإفريقي، وعلى هذا النحو، فقد تبنّت منظورًا واقعيًّا وضعه الجيل الجديد جانبًا. يختار العديد من الروائيين الشباب التحدث بضمير المتكلم، مع إعطاء المكانة الكاملة للبحث السرديّ حيث غالبًا ما ينفجر الحلم والخيال لطمس مسارات الفهم، لكسر الحدود مع «الواقع». تظل إفريقيا، حتى معهم، هي بطلة الرواية مع مصائبها، والكتابة لا تتخلى عن «الأسلوب الشفهي» (آلان مابانكو- مذكرات نيص) ولا البحث عن التقاليد كأساس للهوية، لكن كل هذا يُصَفَّى عبر نظرة ذاتية تنتهي بتأكيد الذات للواقع الموضوعي، وعن طريق إبراز عجز الكلمات عن التعبير عن آلام العالم. ومع ذلك، لا يمكن للخطاب الأدبي أن يتجاهل السياق الذي يتطور فيه، ويجب بالضرورة تعريفه فيما يتعلق بالقضايا في هذا المجال. وينطبق هذا على نحو أكبر على الروائيين الأفارقة الذين ما زالوا مجبرين على تعريف أنفسهم ليس فقط فيما يتعلق بأسلافهم، ولكن أيضًا فيما يتعلق بالكُتاب الغربيين.

خاتمة:

على أي حال، فإن مسألة الغيرية الأدبية الإفريقية، إذا استمرت في بعض الدراسات، فتُطْرَح على مسافة، وتُسأَل وتُناقَش. فهي لم تَعُدْ أَمْرًا بديهيًّا كما في الأيام الخوالي لإجماع مفكري الزنوجة. من كل هذه الخطابات النقدية ينبثق خط إرشادي: الرغبة في إعادة تقييم افتراضات التاريخ الأدبي من خلال الطعن، على وجه الخصوص، في الرؤية المركزية الأوربية للتاريخ، وهي رؤية لا تزال تلميحاتها التطورية حاضرة. كما أن الطعن في الأطروحة المعاكسة يمثله الرؤية الأفرو-مركزية للأعمال. وإذا كان هناك شعور متزايد بالحاجة إلى كتابة تاريخ النقد الأدبي الإفريقي، فلا بد من القول: إنه سيكون تعدّديًّا لأن النصوص التي يتخذها موضوعًا له متعددة النغمات.


المراجع والمصادر:

  • ألبرتيني، جون: 1981م هل قرأت جين ريتشارد بلوخ؟ باريس، الطبعات الاجتماعية.
  • أنتوني، ريجيس: 1992م الأدب الفرنسي الكاريبي. باريس، كارتالا.
  • أستييه لوفتي، مارتين:1971م الأدب والاستعمار. التوسع الاستعماري كما رأينا في الأدب الروائي الفرنسي، 1871-1914م. باريس ولاهاي، موتون.
  • بالاندير، جورج: 1967م [مقدمة، إضافة للطبعة الجديدة]، في جومو كينياتا، أو بيد دو مونت كينيا. باريس، مجموعة صغيرة ماسبيرو 1: 17-18.
  • بانسل، نيكولاس وديفيز، جاك: 1993م «الصحافة الطلابية السوداء من عام 1943م إلى عام 1960م»، في دور الحركات الطلابية الإفريقية في التطور السياسي والاجتماعي لإفريقيا منذ الستينيات، باريس، اليونسكو ولهارماتان: 197-223.
  • بينو، إيف:1989م برلمانيون أفارقة في باريس، 1914-1915م. باريس وداكار، شاكا.
  • بيتي، مونجو: 2006م مونغو بيتي يتحدث، مقابلات مع أمبرواز كوم، شهادة على روح التمرد. باريس.
  • بلاشير.
  • جان كلود:1981م النموذج الزنجي. الجوانب الأدبية للأسطورة البدائية في القرن العشرين عند أبولينير وساندرا وتزارا. داكار وأبيدجان ولومي، المنشورات الإفريقية جديدة.
  • 1993م الزنوجة: كتّاب من إفريقيا السوداء واللغة الفرنسية. باريس، هارمتان.
  • 2003م «ثروات الأدب الاستعماري في الطليعة الفرنسية»، في «الآداب والمستعمرات»، كراسات سيالكت 1: 285-305.
  • بواتا، ب. ماليلا: 2008م الكتاب الأفرو كاريبيون في باريس، الإستراتيجيات ووضع الهوية. باريس، كارتالا.
  • كازانوفا، باسكال: 1999م جمهورية الآداب العالمية. باريس، سوي.
  • شاموازو، باتريك وكونفيان، رافائيل: 1991م رسائل كريولية، آثار غرب الهند والقارية، 1635-1975م. باريس، هاتيير.
  • شيفرير، جاك: 1996م الأدب الفرنكوفوني من إفريقيا السوداء. إيكس أون بروفانس، إديسود.
  • كونتيز مورغان، جون: 1989م «اكتشاف الآخر. ترجم من الإنجليزية إلى الفرنسية»، مكتبتنا، مجلة آداب الجنوب  98، يوليو-سبتمبر: 21-37.
  • كورنيفين، روبرت: 1976م – الأدب الإفريقي الأسود بالفرنسية. باريس، المنشورات الجامعية.
  • كورزاني، جاك، هوفمان، ليون فرانسوا وبيسيون، ماري لين: 1998م الأدب الفرنكوفوني. 2: الأمريكتان. هايتي، جزر الأنتيل – غويانا. كيبيك وباريس، بيلين سوب.
  • دماس، ليون جونتران: 1939م «الكلمة للمرفوضين»، إسبري، يونيو: 333-354.