مواقع أثرية في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في ضوء الاكتشافات الأثرية

مواقع أثرية في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في ضوء الاكتشافات الأثرية

شهدت شبه الجزيرة العربية في بدايات الألف الأول ق. م. دلائل على وجود مجتمعات بشرية، في شمالها الغربي، مرتبطة بنشأة الممالك اليمنية القديمة إلى الجنوب منها، ممثلة في ممالك سبأ ومعين وقتبان وحضرموت وأوسان بصفة رئيسة[1]، وتدشينها للعديد من طرق التواصل البري، وبخاصة ما بين بلاد الشام واليمن عبر شبه الجزيرة العربية، فيما عرف بالطريق البري الشهير- الذي تردد صداه تاليًا في نصوص القرآن الكريم: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}– خاصة ما ارتبط بتجارة اللبان والمر (البخور)، والدور الرئيس الذي ترتب على تدجين الإنسان للإبل والسفر عبر فيافي الصحراء أوائل الألف الأول قبل الميلاد، في أغلب الآراء[2].

وكشفت أعمال المسح الأثري من قبل البعثات الأثرية بقايا تراثية تعكس ملامح لبعض أشهر تلك المواقع في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في الألف الأول قبل الميلاد، وبخاصة ما ارتبط بواحة العلا (الخريبة)، مدائن صالح (الحجر)، وأدوماتو (دومة الجندل) بصفة جوهرية. وسوف تلقي هذه المقالة الضوء على هذه المواقع الثلاثة بصفة أولية، وفي مقالات تالية سنتناول مناطق أثرية أخرى من تاريخ المملكة العربية السعودية.

العلا (الخريبة): تقع العلا في الشمال الغربي للمملكة العربية السعودية، وتبعد من المدينة المنورة مسافة 300 كيلومتر، وتعد من الأماكن الاستثنائية الزاخرة بالتراث الطبيعي والإنساني. وتُعَدّ محافظة العُلا أول مواقع السعودية المسجلة في لائحة اليونسكو للتراث العالمي عام 2008م. وفي العلا وادٍ من الواحات الخضراء، وجبال شاهقة من الحجر الرملي، ومواقع أثرية وثقافية قديمة يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وإلى حضارات سكنت المنطقة ومنها حضارتا دادان ولحيان.

أبانت أعمال الكشف الأثري في موقع العلا عن آثار من العصر البرونزي الحديث إلى العصر الحديدي. وزار المكان العديد من المستشرقين وعلماء النقوش والآثار الأوربيين من بينهم موسل (1910م) وريكمانز (1967م)، كما زارته بعثة من معهد الآثار بجامعة لندن (1968م) وبعثة جامعة تورنتو الكندية (1969م).[3] ويوجد بها عدد من المقابر المنحوتة في الجبال نحتًا هندسيًّا بارعًا إلى جانب العديد من النقوش الدادانية واللحيانية والمعينية والثمودية والنبطية وآثار للعيون وبقايا القلاع والسدود[4].

مدائن صالح (الحجر): وهي من أشهر مواقع الآثار التاريخية في المملكة العربية السعودية، وتشهد على حضارة عريقة ضاربة في القدم.[5] وتعود التسمية إلى النبي صالح وقومه ثمود. وقد عُرفت في القرآن الكريم؛ فجاءت بوصفها مدينة منحوتة من الجبال والصخور[6]. وقد كشفت أعمال المسح الأثري وبعض أعمال البعثات الأثرية أخيرًا عن بقايا أثرية مهمة وملامح معمارية مميزة للمنشآت الجنازية، في المكان، أوضحت صلات وتأثيرات حضارية مع المراكز الحضارية المجاورة. وقد عُثر في هذا المكان، وفي موقع العلا، على بقايا تماثيل بشرية من الحجر منحوتة بإتقان، وقد ربط جوسين وسافيناك بينها وبين معبد لحياني في المكان، وتعكس تشابهًا مع ما نعرفه عن التماثيل المصرية من القرنين الثالث والأول قبل الميلاد[7].

ورد ذكر الموقع باسم «مدائن صالح» في كتابات دوتي عام 1876م، ثم تلاه في التسمية العديد من المستشرقين. وكان البلوي الأندلسي، الذي زارها عام 737هـ، في طريقه إلى مكة، أول من سمَّاها «مدائن صالح». وزار المكان الرحالة الفرنسي تشارلز هوبر عام 1880م وتحدث عنها بإسهاب في كتابه «رحلة إلى بلاد العرب» المنشور في باريس عام 1891م. كما زار المكان في أوائل القرن العشرين جوسين وسافيناك، لحساب الأكاديمية الفرنسية؛ لجمع النقوش، ونشرا ما جمعاه في كتابهما الضخم بعنوان: «البعثة الأثرية العربية» (Mission Archelogique Arabie) عام 1909م، وبالمثل ذكرها عبدالله فلبي في كتابه « أرض مديان» (The land of Median) المنشور في لندن عام 1959م[8].

ومن بين الاكتشافات المهمة في الآونة الأخيرة: العثور على نقوش آرامية تمثل أقدم خط آرامي حتى الآن، في مدينة الحجر، تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد. ويشير الدكتور سليمان عبدالرحمن الذييب، عضو في البعثة الاستكشافية في مواقع العلا، إلى أن هذا النقش معاصر لمملكة سبأ التي تُعَدّ أقدم مملكة في شبه الجزيرة العربية[9].

أدوماتو (دومة الجندل)

يمثل موقع أدوماتو (دومة الجندل)، فيما يعرف باسم مملكة قيدار العربية، مجتمعًا حضاريًّا مميزًا انتفع بما حبته الطبيعة في المكان من واحة فيها مياه جوفية وأرض صالحة للزراعة، كما انتفع من أعمال التجارة؛ لوقوعه على الخط التجاري البري الرئيس لمراكز ممالك اليمن القديمة وتجارتها مع بلاد الشام.

وكشفت أعمال التنقيب في المكان عن ملامح مميزة لحضارة العصر الحديدي وما يليه إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وتعكس البقايا الأثرية المبكرة في المكان وجود دلائل على استقرار بشري فيه بدأ من العصر الباليوليثي (العصر الحجري القديم)، واحتمالية العصر النيوليثي (الحجري الحديث) وانتشرت في المكان النمط المعماري المعروف باسم الدوائر الحجرية المرجح من العصر الخالكوليثي (الحجري النحاسي) مشابهًا لمثيله في الأردن وصحراء شبه جزيرة سيناء المصرية[10].

وقد تعددت الإشارات النصية إلى المكان في المصادر النصية من الحضارة الآشورية في صراعها ضد المكان والمناطق المجاورة وبخاصة من عهد تجيلالات بليسر (745- 727 ق.م). وتردد بعض أسماء الملكات العربيات في المكان مثل الملكة زبيبة وسمسي، والتأثير السلبي في المكان نتيجة تطبيق الآشوريين لسياسة الترحيل البشرية وما نجم عنها من تغيير ديموغرافي في المكان[11]. ولعل أهم ما عثر عليه في المكان ما ارتبط بالحضارة النبطية وما كشفت البعثة من جامعة تورنتو الكندية برئاسة ونيت من نقوش نبطية، ومن عمارة لمعبد نبطي في المكان.