ساعة جمعة

ساعة جمعة

صباحٌ ككلِّ صباح ونهار مثل سابقه. لم يكن مسفر يدري أن قدر هذا اليوم -الذي بدا كغيره- يحمل في طياته واقعة ستهز كيانه وتبعثر وجدانه؛ بسبب وصية أبيه تلك. حتى الشمس في أشهر صيف الرياض لا تفارق مكانها ومقياس قيظها لا يبرح «٤٤»، وكأنه واقع في شرك برزخي لا منجى منه حتى طلوع سهيل. لم يجد في رتابة ضحاه ما يُروِّح عنه سوى مصيدة حشرات بالية، راقت له حين عاينها في الحراج بين القمام فاعتزم تقويمها. وقر تحت الظلال على عتبة بيته العتيق، مهملًا عويل زوجته خلفه، يَجْبُرُ ما انفرط من مصيدته ويرفأ ما انشق منها. بعدما أكملها وعاينها، تنزلت عليه بهجة بلهاء لا يُعرَف مبعثها ولا مأتاها.

فرغ حينها لمناجزة عقيلته حينما اعتدل مزاجه ورجعت الحياة لروحه، فطَوَّحَ بنت البكار على رأسه وترجل للمطبخ. انبثق حنقها من حرمة قتل ذوات الأرواح مهما هان شأنها وبان أذاها. نعتها بالنفاق، فهي كما أهله تأخذ من الدين ما ناسبها وتؤوله بما يساير حياتها؛ فلو كانت من ابتاع المصيدة لغيرت بلا ريب قولها. تباهى بأنه على عكس منهجها، لا يحفظ من الدين شيئًا، في حين يفهم مجمل معانيه فهمًا فطريًّا يقوده إلى الصواب.

أثار زعمه غضبها، فزجرته بإثخان ونعتته بالحمق والجهل، ثم رمت عليه نبلًا من ألفاظ بذيئة اعتاد سماعها. ذكَّرته أنها ما كانت لتقبل بربّاب دِلالٍ حرفي مثله إلا إلحاحًا من أهلها، على رغم تجلي فارق البخت بينه وبين إخوته. تدلت أجنحة شماغه على صدره مؤذنة بانتهاء النزال. فانسل من مطبخها ناشلًا معه قطعة بطيخ أرادها للحشرات طعمًا.

* * *

حتى الموت له رتابة في حياته الشقية. على الرغم من وفاة أبيه قبل خمسة أحوال وفسحة الزمن في حياته الخاوية، لم يجد مسفر وسعًا من الوقت ليتدبر وصية أبيه. فاليوم جمعة، ما يعني موافاة بيت أخيه بعد الصلاة لتشكيل حلقة خرساء مع إخوته، يبحلق فيها كل منهم بسذاجة في وجه الآخر أو في الجدران الصامتة، حتى يعتقهم عقرب الدقائق بعدما يُتِمّ لفته.

في رابع أيام رمضان من بعد الهجرة بأربع مئة وألف عام، لازم العميد ملفي بن شلوان سرير مرضه. أضرب العميد عن الكلام حتى يكتمل شمل بنيه متضمنًا ظافر. وافى مسفر سرير أبيه قبيل الجمع يبتغي خلوة روحانية معه. على رغم محاباة الأب باقي بنيه جهرًا، لم يمنع ذلك آخر عياله سنًّا وحظًّا من الانكباب على صدره والأخذ بيده قارئًا ما نجا من آيات يحفظها. تيسر له ذلك لبرهة، حتى نهره إخوته عن اللطم والعويل بعد بلوغهم المكان. وصل ظافر لاحقًا متعذرًا بأشغاله العسكرية. بعدما التف بنوه حوله واستشعر دنو أجله، لفظ الرجل ما يلي من كلمات متقطعة ختم بها حياته:

«بعد اسم الله الكافي، أوصيكم بتقواه ثم بر أمكم ثم طاعة مطلق كبيركم؛ ثم لي عندكم طلب أخير:

الموت يا عيالي هو موت الذكر، وما مات من حيا طاريه. أبيكم تذكروني في ساعة فضيلة بعد كل جمعة، إلين الله يبدّل الأحوال أو يقضي الآجال».

استحسن مسفر تلك العادة، حتى بعدما طغى الملل على الميل. ولعل إصرار إخوته على تقنين الساعة بما ينبغي في نظرهم شرعًا -كأن تقتصر مثلًا على دعاء فردي لكل منهم- عجل بضجره، غير أنه لم يفوت ثانية منها. ما انفك في البداية -على رغم الجو الفاتر- يكابد نفسه على اليقظة كلما غالبه النعاس لمعاودة الدعاء واستذكار محاسن أبيه، حتى وإن انشطر الجسر بين وجدانه ولسانه. ثم اتخذ عادات غريبة -بعد أن نفد مخزونه من الأدعية والذكريات- أسعفته على تمضية الساعة؛ فصار يعدد أسماء رفاق أبيه، أو يحصي إبله، أو يستذكر مراتع زارها أو ما شابه، مما يرتبط بالمغفور والده. تدهور وضع الجماعة مع تمدد الزمن، حتى استحالت ساعة النجوى إلى قيلولة ظهيرة عند غالبهم.

* * *

غاب ظافر عن المجمع ثلاث جُمَعٍ متتالية. أتى أمر مطلق القاطع بإكمال العرف دون نقاش كنذير شؤم على جلبة تدور في الخفاء. كان الجو خاملًا ونفح البُنّ والبخور يغمر المجلس حينما اقتحمه ظافر ببزته العسكرية بغتة وكأنه فقد عقله. ارتعد قلب مسفر من كلمات انهالت كالسيل الجارف بنبرة حازمة لا تحتمل الخطأ: «أشغلتونا الله يشغلكم، الحين أبو مطلق الله يرحمه قد ذكر لنا شيّ عن أبوه؟ الميت يروح والحي يعيش، هذي سنة الخلق. وبعدين اللي ينقال على فراش الموت ما ينكال بميزان العيش، وإن ما نساكم عيالكم بينساكم عيالهم. ثم كني بكل واحد فيكم قاعد يعد حلاله ودراهمه بسره ويظهر اللي ما يبطن. فكونا فككم الله وخلونا نعيش».

انصرم ظافر دون أن ينتظر ردًّا وطَرْقُ كعب بسطاره على الأرض يهز المجلس، بعد كلمات جاءت وكأنها أوامر لسَرِيّة جُند.

على رغم كلام أخيه الصاعق، نزلت الطامّة العظمى على مسفر بعد خروج أخيه، حينما طأطأ مطلق رأسه أرضًا وتمتم بخجل:

«اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله. الدعاء للميت محمود ولا يشوبه بأس، أما ما زاد فمذموم ومُحدَث. أرى أن نَحُلَّ المجلس ونستبدله بما تجود به أنفسنا من الدعاء والذكر للمغفور».

* * *

هام مسفر في شوارع الرياض دون وعي، وعقله يلجلج بأفكار لم تكن تنوي الظهور أبدًا. ثم جال في مشارق برِّها النائي متلثمًا شماغه على رغم القيظ، يهشّ السَّلَقَ بالحصى تارة، ثم يطعمها ويلاعبها تارة أخرى. كان الهواء قد فتر وانسابت ريحه، أما الشمس فتوارت في الأفق مخلفة خيطها الأخير حينما وجد نفسه عند عتبة بيته. حدق بعينين جاحظتين مرعوبًا داخل مصيدته، فرأى عشرات اليراع والزنابير تحوم بداخلها؛ بيد أن بعضها قد خار وسكن في محله. لم يتيقن ما إذا كانت الحشرات الراكدة قضت أجلها أم أن اليأس أخذ منها مأخذه. سبب له منظرها لوعة مبهمة، وألح عليه حينها سؤال أوحد:

«هل سيذكرها أحد بعد اندثارها؟»

فتح المصيدة وعاين من أسعفه حظه منها يطير حرًّا في كل اتجاه.

لقي البيت ساكنًا، فلا شك أن النوم قد غلب قاطنيه. ربط ثوبه وجثا على ركبتيه بين الدلال المبعثرة يصنع إطارًا لصورة يتيمة جمعته بوالده ركنها أمامه. تنزلت عليه تلك الليلة أَجَلُّ الذكريات عن أبيه وأصدق الأدعية له. ثم بكى بكاءً حارًّا كفى كل من طوى النسيان ذكراه منذ بدء الخليقة.

لو قُدِّر لك وهلتها وكنت في ذاك المكان، في مقابر النسيم شاهدًا على قبر ابن شلوان، لرأيت رجفة عابرة توارت دون أثر. لكن الأصل في الخبر، أنه في عداد الهذر، ما لم يشهد عليه بشر. ثم إن حدثًا أعظم من ذلك آن، في غور قصي عن الكوكب الذي يحمل قبر ابن شلوان. حيث وصل شفير نجم أحمر عملاق تخوم كوكب أزرق نظير، ثم ابتلعه غِرَّة فتناهى عدمًا كأنه ما كان.