علي بن مخلوف: أنا مع الفهم قبل المعنى واهتمام الفلاسفة العرب بالعالم اليوناني كان عارضًا

علي بن مخلوف: أنا مع الفهم قبل المعنى واهتمام الفلاسفة العرب بالعالم اليوناني كان عارضًا

من واقع تخصّصه في المنطق يرسم المفكر علي بن مخلوف خيطًا بين الفكر العربي في العصور الوسطى والفلسفة المعاصرة، مفضّلًا وضوح الحجة على وهْمِ الحقيقة المثالية، والاستمتاع بفن المحادثة بقدر الاستمتاع بمعضلات الطب الأخلاقية.

«شد فيها بِسنانِك». هذا المثل المغربي هو المفضّل عند علي بن مخلوف. لسنواتٍ عدة كان الفيلسوف يجمع الأمثال بصفته رجل منطق؛ لأنه يرى في هذه الصيغ المختصرة تركيزًا للفكر، «كما يقال عن معجون الطماطم». هذا يعني، عندما نمدّد هذا المثل قليلًا: تحدّثْ دون كذب، قل الحقيقة. تحتل الحقيقة حيّزًا كبيرًا في حياة هذا المُعلّم في جامعة (Paris-Est-Créteil) والعضو في معهد فرانس الجامعي.

لكن علي بن مخلوف لا يُمَطْلِقُ الحقيقة (أي أنه لا يرى الحقيقة مطلقة) أبدًا، بل على العكس تمامًا. لقد ألهمَه علماءُ المنطق: جوتلوب فريج وبرتراند راسل ولودفيج فيتغنشتاين، فكان يحترس ويرتاب من الأبحاث غير المجدية المهووسة بالبحث عن «معنًى حقيقي» للأشياء. وبتفضيله الصرامة الفكرية في العمليات المنطقية على الكلمات الميتافيزيقية المضخمة ظل هذا المفكر، الذي كان لمدة ثماني سنوات عضوًا ثم نائبًا لرئيس المجلس الاستشاري الوطني للأخلاقيات، يتمسك بموقفه المتشكك حتى يحمي نفسه من «التشنجات العقلية».

فالحال أنه جعل من مُونْتِينْ (أحد أكثر الكتّاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسية) رفيقًا، فكانت قراءته له بمنزلة «تأمّل وجودي»، مقتنعًا مثله أنّ «الكلام نصفٌ لِمَن يتحدث، ونصفه الثاني لِمن يستمع إليه». على سؤال الأنانة (الأحادية التصورية، وهو مذهب يقول إن الأنا هي الحقيقة الوحيدة) والطابع الحصري للمعنى كان يجيب: الحوار والسياق و«الكلام غير المباشر»؛ لأن كل فِكر حوار (أي حواري).

لم تَخُنه الذاكرة ولم ينسَ علي بن مخلوف كلمة واحدة من الحديث الجاري، فهو «أسلوب حياة» كرّس له ثناءً جمًّا. يكاد يعتذر عن الظهور وكأنه «مشتّت» الفكر عندما يسترجع رحلته الفكرية، على الرغم من أنه في سنّ الـ 61 تقريبًا لا يزال كما قال: «يشعر دائمًا كأنه يفعل الشيء نفسه». بانتقاله من فلاسفة تحليليّين إلى منطقيّين عرب، مرورًا بأخلاقيات الطب يظل يمسك بخيط التسلسل: فلسفة المنطق واللغة. هذا المترجم المتعدد اللغات، المولع باللغة الألمانية، والعاشق للغة الفرنسية واللغة الإنجليزية تعلم عن ظهر قلب أقسامًا كاملة من أعمال لويس كارول. وُلِد في فاس في المغرب، وترعرع على يد «نساء رائعات»، ويسكنه شعور متعدد الألحان، وقد نشر مؤخرًا في طبعة شعبية «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب». لماذا؟ لأن اهتماماتهم وحججهم لا تزال تلقَى صدًى واسعًا في «حاضرنا الفلسفي»؛ لأنهم يشهدون قبل كل شيء على «رغبة جد قوية في معرفة الحقيقة».

تاريخ طويل من التعتيم

  هل يمكن الحديث عن «الفلسفة العربية» كقارة؟
  أنا في الواقع أفضّل الحديث عن الفلسفة باللغة العربية وليس عن مجموعة عرقية. هذا التراث القديم موجود بالفعل، لكنه نُسِيَ وعُتِّم إلى حدّ كبير في تدريبات الفلسفة، حيث الانتقال مباشرة من أفلاطون وأرسطو وأفلوطين إلى ديكارت. عالم القرون الوسطى عامة -سواء كان لاتينيًّا أو عِبريًّا أو عربيًّا- قُلِّلَ من شأنه، على الرغم من أنه ظل مرجعًا لمدة تاريخية طويلة.

  غالبًا ما يُختزَل الفلاسفة العرب إلى مرتبة «ناقلي» التراث اليوناني. هل هذا خطأ؟
  أجل، ما زلتُ أسمع أنني سأصبح أنا نفسي ناقلًا أيضًا. ومع ذلك توجد في شروح النصوص اليونانية، ولا سيما أرسطو، صياغة فلسفية إبداعية. هناك جسور وأُلفةٌ وتجاذُبٌ تجعل التناغم ممكنًا بين هذه العوالم اليونانية والعربية والمعاصرة، في مجالات المنطق والأخلاق والسياسة. ومع ذلك فإن اهتمام الفلاسفة العرب بالعالم اليوناني كان عارضًا. كان من الممكن أيضًا أن يكون مجال الاهتمام هنديًّا أو صينيًّا، ولكن الذي حدث أن خليفةً عباسيًّا قرّر إنشاء «بيت الحكمة» في عام 833م، فأعطى نفسه هدفًا وهو ترجمة النص اليوناني الذي كان موجودًا بالفعل باللغة السريانية. لقد أصبح هذا العارض الطارئ الخالص قصّةً ذات دلالة.

  كيف نفهم مثل هذا التعتيم الطويل؟
  الفلاسفة العرب هم في المقام الأول مرجعيات. لقد استحضَرهم بيكو ديلا ميراندولا في كتابه «كرامة الإنسان» عام 1486م، بينما اقتَبس منهم ديكارت وسبينوزا، على سبيل المثال، التمييزَ بين الجوهر والوجود. لقد استوعبوا الفلاسفةَ العربَ جيدًا لحد اختفاء المرجعية في النهاية. ثم ضاع المسار قليلًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ لأن دوائر النقل كانت محدودة، حتى وإن استمر العمل على النصوص. كانت المدارس تسمى بالفرنسية medersa «مدرسة» تُدرِّس بالفعل العلومَ المقدّسة، لكنّ الفلسفة لم تكن تحت وصاية اللاهوت، سواء في بغداد أو في قرطبة. في المقابل، في جميع الجامعات الكبرى في العالم اللاتيني، بولونيا، أُكسفورد أو باريس ظلت الفلسفة تابعة لِعلم اللاهوت.
وكما يوضّح المؤرخ والفيلسوف ليو شتراوس (1899-1973م) فإنّ ثمن هذه الحرية في ممارسة الفلسفة العربية كان عدم استقرارها الكبير. أخيرًا، في القرن التاسع عشر، بعد المرجعية والاستيعاب جاء الحجبُ والانخساف، ولا سيما تحت تأثير الاستعمار. ترجمة أعمال المؤرخ ابن خلدون (1332-1406م) جاء بمبادرة من الجيش الفرنسي للتعرف إلى المجتمعات العربية وإخضاعها في الجزائر. في عام 1863م كتب المترجم بارون دي سلان، في مقدّمة كتابه، أنّ الحجج التي قدّمها ابن خلدون مشوّشة وغامضة، كما هو حال تفكير المسلمين عامة، حسب وصفه. من جانبه قال إرنست رينان، مؤلف كتاب «ابن رشد والرشدية» Averroès et l’Averroïsme في 1852م: «ليس لدينا ما نتعلمه من العرب». فهو يعيد إلى البساط التمييزَ بين العقل والوحي عند ابن رشد، وهو تفسير خاطئ ما زالت تُديمه وتكرّسه ترجمات كتاب «فصل المقال» حتى الحديث منها. النص في الواقع يقول: «فصل المقال حيث يتم إثبات الصلة بين القانون الكتابي (الشريعة) وبين الحكمة». فإذا كانت الدقّة مهمّة فذاك لأنّ كلمة «فلسفة» لم يرد ذكرها في النصوص المقدّسة. حقّق ابن رشد هذا العمل الصعب الماهر والجميل للغاية، المتمثل في إضفاء الشرعية على الممارسة الفلسفية عبر تسميتها «الحكمةَ» في العنوان الرئيس، قبل أن يُستبدلَ بها كلمة «فلسفة» في النص.

الحقيقة المزدوجة

  يضاف إلى التعتيم سوءُ فهمٍ إذًا؟
  لا شك أنّ مرجعية العالم العربي وابن رشد تستند إلى سوء فهمٍ مزدوج. أطروحاته قد تُضعِف عقيدة الكنيسة والحقيقة الدينية. هناك إشكاليتان على المحك: الفرضية القائلة: «إن الإنسان لا يفكر»، وفرضية «الحقيقة المزدوجة» المزعومة. فعندما يقول ابن رشد: إنّ الإنسان لا يفكر فهو يدافع عن أطروحة «الأحادية النفسانية»: وفقًا لتفسير أرسطو هناك فِكرٌ ليس هو العقل البشري. فعندما نقول العقل يفكر فالأمر هنا يتعلق بعنصر نَسبَح فيه، إذا وسِعنا التفاعل معه في حدود جهودنا. إن فِكرنا المتفرّد ليس هو العقل؛ لأنه يعتمد على الخيال والأحاسيس التي تختفي مع اختفائنا في النهاية… بحيث عندما يحاسبنا الله على ما فعلناه فلا شيء يميّزنا، وهو ما لا تتقبّله الكنيسة!

  لقد ذكرت معنَيَيْن متعاكسين، ما هو الثاني؟
  إنه فرضية «الحقيقة المزدوجة» أو «الحقائق المضادة» المنسوبة إلى ابن رشد التي بموجبها سيكون هناك ازدواجية بين العقل والإيمان، ونوعان من الحقيقة. والحال أنّ الفيلسوف القرطبي، على العكس من ذلك يوضّح أنه إذا كانت مسارات إثارة الموافقة (التصديق) متنوعة -الخطابة، والجدلية، وقبل كل شيء الإثبات- فإنّ الحقيقة تظل كما هي. وهو ما أسميه «عقيدته المتماسكة». ووفقًا له هناك توافق بين الإيمان الديني والصلاحية العلمية. إنه يتناول هذه الأخيرة «الصلاحية العلمية» وفقًا لمعيار النقض (إمكانية الدحض) التي لم ينكرها كارل بوبر (1902-1994م)، عبر إظهار أننا نحتفظ من القدماء، ومن الفلاسفة اليونانيين، بما يقاوم النقض ونُهمل الباقي. وهكذا يؤكد إمكانية وجود كرامة كاملة للعلوم الدنيوية إلى جانب العلوم الدينية، وهي خطوة رئيسة فيما يمكن أن يسمَّى «الإنسانوية» في عصر النهضة.

  ألا يوجد شكل من أشكال التصنّعيّة في تقريب مساهمات فلاسفة القرون الوسطى من اهتماماتنا المعاصرة؟
  أنا لا أمارس التصادم (تداخل الأشياء). لكن صحيح أنه بعد أن برّر هؤلاء الفلاسفة العلومَ الدنيوية انطلاقًا من قراءة القرآن الكريم الذي يدعو إلى «ممارسة الفحص العقلاني» (التدبّر) فإنّ هؤلاء الفلاسفة يستثمرون أيضًا الفلسفة العَملية العادية، من خلال معرفة التحكم في الذات وتحكم الآخرين في ذواتهم. إنهم يُقِيمون تأمّلًا فيما يسمّيه فوكو «العناية بالذات»، أي نوعًا من اختزال الوجود. إنهم يستمدون أفكارهم من فكر الطبيب اليوناني غالينوس (129-201م) أكثر مما يستعيرونها من أرسطو حول هذا الموضوع. وعند الحديث عن العلاقة بين المرض والمريض والطبيب يضيف ابن سينا أقارب المريض، الذين يبدو وجودُهم بديهيًّا لنا اليوم. أرى فيه حداثة ليست غريبة علينا. طلبتْ مني الأكاديمية الوطنية للصيدلة في عام 2015م تقديم مساهمة ابن سينا في هذا الشأن. بعد العديد من العروض التقديمية حول هذا الموضوع، ولكن أيضًا حول الحدود الجديدة بين الحالة الطبيعية والحالة المَرَضِية، وحول التحسين العصبي، وحول التطعيم أصبحتُ عضوًا مساهمًا في هذه الأكاديمية.

الفلسفة والطب

  قبل ذلك كنت أيضًا نائب رئيس المجلس الاستشاري الوطني للأخلاقيات [CCNE]. ما الذي تعلمته من هذه الخبرة؟
  غيّرت ولايتَاي الاثنتان في المجلس الاستشاري الوطني للأخلاقيات CCNE، بين عامي 2008 و2016م اتجاه أبحاثي تمامًا. لقد تعلمت كثيرًا من زملائي، ولا سيما في موضوعات مثل التبرع بالأعضاء أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أو التحسين العصبي. رأيان من بين الآراء الثلاثة التي كنت مقرِّرًا لها يتعلّقان بالدماغ، هذا الأساس المادي للفكر الذي ما زلنا لا نعرف كثيرًا عنه، وبخاصة أنه لا يمكن لأحد أن يرسم بشكل مؤكد مسارًا مستمرًّا من الخلية العصبية إلى الفكر. الباحثون في مجال الطب أكثر تواضعًا بكثير من الفلاسفة وأقل دوغمائية. إذا كان لدي ندَمٌ واحد في حياتي فهو لأنني درست الطب. لكن الفلسفة والمنطق الرياضي جيّدان أيضًا.

  ما الدور الذي يمكن أن تؤديه الفلسفة في المجال الطبي؟
  غالبًا ما تتيح الفلسفة شرحَ سوء الفهم والأفضليات. على سبيل المثال كنت شخصيًّا أميل في أكاديمية الصيدلة إلى القانون المتعلق بالتطعيم الإجباري الذي دافع عنه وزير الصحة، أغنيس بوزين. بالاشتراك مع زملائي حللنا جميع المخارج والمواربات المعرفية عند المعارضين والمترددين، فضلًا عن تناقضات وتنافرات السياسيين العامين حول هذا الموضوع. في عام 1998م قررت السلطات العامة التوقف عن الترويج للتطعيم ضد التهاب الكبد B في الكليات، وهو ما ترك شكوكًا في الرأي العام حول فاعلية هذا اللقاح. إن ما يسمى «شبهة السببية» الذي يرى أن اللقاح يمكن أن يسبب حالات التصلب المتعدد، أدى في القانون وفي ثلاث حالات إلى تقديم تعويضات. لقد أدت السببية العلمية وشبهة السببية إلى خلق حالة من التوتر في القانون وفي العلوم الطبية.

  هل يمكن أن تساعد الفلسفة في الفصل بينهما؟
  الفلسفة التي أدافع عنها تدعونا إلى تفضيل عرض الحجج على إنتاج سرد بعينه. فهي تهتم بالطريقة التي نبرر بها موقفًا أخلاقيًّا. الأخلاق ليست معرفة، على الرغم من أنها مبنية على معرفة معينة. فهي طريقة إجرائية تدافع عن «قوة الشكل»، وفقًا لتعبير لايبنيز. لا يوجد أبدًا اقتراح بديهي لدرجة أنه يمكن أن يؤدي دور القوة الحاسمة. في كتاب بعنوان: «أخلاقيات علم الأحياء من أجل ماذا؟» جمعتُ شهادات واحد وسبعين عضوًا سابقًا وحاليًّا في CCNE. فهي تُظهر أنه في المجال الأخلاقي تسير قوة العقل دائمًا جنبًا إلى جنب مع القوى الخيالية، والتحليل مع التوقّع. فعند تناول هذه الموضوعات الصعبة نواجه مشكلات في التعريف: على سبيل المثال، ما الموت؟ ثم يجب التذكير أن غياب التعريف غالبًا ما يكون مقصودًا، فهو يسمح لعلم الأخلاق (الآداب) بأن ينتشر وفقًا لأوضاع ملموسة: في فرنسا لا يحدد المشرّع لا كرامة الإنسان ولا بداية الحياة، ولا نهايتها، ومع ذلك فهو يتحدث عن كل ذلك. في الفلسفة من الشائع القول: إن المعرفة تحرّر، وهو أمر أكثر إشكالية في مجال الطب. عندما يتعلق الأمر بتقديم تشخيص في مجال الأمراض الوراثية أو في حالات الغيبوبة النباتية على سبيل المثال، فإن المعرفة تثير القلق؛ لأن المعلومة تغير حياة الشخص حتمًا. فلا بد من قدرة على تحمّل «جرعة» كبيرة من الحقيقة، كما يقول نيتشه.

  لماذا فضلت الفلسفة على الطب؟
  في العشرين من عمري أحببت حقًّا التجريد الرياضي واللغة الفرنسية. أتيت إلى فرنسا بعد حصولي على البكالوريا العلمية لدراسة الأدب والتاريخ. انتهى بي الأمر إلى ممارسة الفلسفة والمنطق. لقد تعاملت مع فلاسفة ألمان وأنغلو سكسونيين. حصلت على درجة الماجستير في المنطق الرياضي قبل كتابة أطروحة عن الفيلسوف جوتلوب فريج [1848-1925م]. ثم أصبحت مهتمًّا بـ«برتراند راسل» [1872-1970م] بالسعادة نفسها. من سني الـ 20 إلى 35 لم أهتم بالفلسفة العربية. لكني أتيت إلى الفلسفة في النهاية لأنّ الفارابي وابن رشد كانا عالِمين كبيرين في المنطق.

الفلسفة المنسية

  المنطق والعالم العربي في العصور الوسطى، منطقتان لم يُستكشَفا إلا قليلًا…
  أدركت ذلك بالفعل، لقد عملت على موضوعات لم تنل حقها من العناية والدراسة الكافية في الجامعة الفرنسية، حول فلاسفة لم يكن لديهم مكانة جيدة في التدريب الفلسفي. لو ذهبتَ إلى محل لبيع الكتب، وبحثت في الحرف F فستجد فوكو بالطبع، لكنك لن تجد فريج Frege. في البلدان الأنغلو ساكسونية وفي ألمانيا يُعَدّ هذا المؤلف «موضة» في القمّة. إنه يحظى بالمكان الذي يحظى به ديكارت عندنا؛ لأنه يوفر صرامة من أجل التقدم فلسفيًّا. لكن في فرنسا يمكنك الحصول على شهادة الأستاذية من دون قراءة سطر واحد منه.

  هل يجدر بنا أن نولي معنًى لهذا الانجذاب للفلسفة «المنسية»؟
  إنك تطلب مني أن أجد للأمر معنًى ما… أنا لست الأكثر كفاءة للحديث عن المعنى من حيث تفسير الذات! ومع ذلك فأنا أخاطر بصياغة فرضية: لقد كان لدي بالتأكيد حب هائل للرياضيات، ولكن الحقيقة أنني لم أشعر بأني مؤهّل لذلك. بالنسبة لي، أنا القادم من المغرب، كان المنطق أسهل عليّ بكثير. المنطق هو حقيبة السباك، فهي تسافر في كل مكان. الأمر يتعلق بمعرفة إيجابية خارجية، تسمح بأن يفهمك الآخرون فهمًا شاملًا. لقد أنفقت ثلاثين عامًا من عمري لكتابة كتاب عن مونتينْ وللشهادة على حبّي للغة الفرنسية.

الفهم والمعنى

  لماذا لا يثير البحث عن «المعنى» اهتمامك؟
  أنا مع الفهم بدلًا من المعنى، الذي غالبًا ما يكون مغلقًا ومميتًا. لا أفهم الخلط المثالي بين الموضوع وتمثيله. لم أعد أهتم إطلاقًا بشروط إمكانية المعرفة. قال فريجه عندما أتحدث عن القمر فأنا لا أتحدث عن تصوري للقمر، فأنا أتحدث عن القمر نفسه. المعرفة تحدثنا عن الأشياء وليس فقط عن تصوّرنا لها؛ لذلك أنا لست كانط. لقد لقّحني الأنغلو ساكسون ضد علم النفس وفكرة الوعي كلي الوجود، وأيضًا ضد البحث عن «المعنى الحقيقي». يقول راسل: ليس من السخف الاعتقاد بأن العالم قد بدأ بالنسبة لي ولك عندما دخلنا هذه الحانة. لا توجد أي علاقة منطقية بين العالم الذي تراقبه الآن وحياتك الماضية، طالما أنك لا تحشد المُسلّمات مثل استمرارية الزمان والمكان. محاولة خلق اتصال بشيء ما تعني نسج ارتباطات بين البيانات الحسيّة التي في الواقع لا ترتبط فيما بينها إلا بالعادة وليس منطقيًّا. هنا التذكر والذاكرة يتدخلان حتمًا. أحبَّ المفكر راسل ثلاثة كتب: «الحياة حلم» من تأليف بيدرو كالديرون دي لا باركا، و«رحلات جاليفر» لجوناثان سويفت، و«ألِيسْ في بلاد العجائب» من تأليف لويس كارول. 100٪ أدب و100٪ منطق.

  100٪ هراء!
  أنا أقرأ حكاية «ألِيسْ» بما تمتعني به من لغة رائعة وتركيبات منطقية مثالية، متراكبة من دون كل الروابط الاعتيادية التي تأتي من العالم، ومن التقاليد الثقافية، ومن العادة… الحلم كتجربة فكرية يتيح للمرء التخلص على هذا النحو من هذه الارتباطات. قال الأرنب لـِ«ألِيسْ»: «خذي المزيد من الشاي». فأجابته: «لم آخذ أصلًا أي شيء على الإطلاق؛ لذا لا يمكنني أن آخذ المزيد». وأضاف الأرنب: «تقصدين أنه لا يمكنك أن تأخذي قدرًا أقل لأنك إذا أخذت قدرًا أكثر بقليل فذاك أسهل بكثير من ألا تأخذي شيئًا».
هل المقصود هو أكثر من لا شيء أم أكثر مما قُدِّمَ فعليًّا؟ إنه لأمرٌ رائع أن تكتشف أليسْ المحادثة كتمرين منطقي. في الحكاية يمكن أن تكون بضعة سنتيمترات أو أكثر من مترين، المنطق يسمح بذلك؛ لأنه في كل مرة يختفي عالمُها من أجل عالم آخر. من خلال فقدان الاستمرارية بين انطباعاتها المختلفة تُذكّرنا ألِيسْ بأن هذه الاستمرارية في حد ذاتها بِناء. يرى لويس كارول، مثل ديفيد هيوم، أنّ الإدراك والشيء المدرك لا يختلفان إلا من خلال تمييزٍ بين وجهات النظر.

الهوية والوعي

  أنت تتحدث عن الهوية وكأنها «حكاية فلسفية».
  حكاية الحياة هي بناء صلة اعتيادية، علاقة متبادلة بين انطباعاتنا المتقطعة، وهذا هو اكتشاف هيوم العظيم.

  ما الذي يتبقى من الشخص بهذه الهوية الباهتة؟
  المسؤولية القانونية، مجموع الأفعال. ينظم كارول أيضًا محاكمة كبيرة في نهاية قصة أليسْ- غير عادلة بالتأكيد؛ لأن الحكمة تأتي قبل الحكم. المسؤولية أهم من الضمير. قال الفيلسوف ألفريد نورث وايتهيد (1861-1947م): إننا انبثقنا من العالم، وإننا لسنا في مواجهة العالم. أنا شخصيًّا أدرك في نفسي عجزًا، وهو أنني لم أفهم قط فهمًا كاملًا القراءات الظاهراتية التي تستند إلى الوعي الداخلي أو الوعي الخارجي، أو إلى سارتر في مواجهة العالم. أنا لا أفهم العملية. «العالم» شاسع للغاية بالنسبة لتصوراتي. من ناحية أخرى أشعر بارتباط شديد، وأقبل شكلًا من منظور نيتشه: كل شخص يقع في مركز انتماءات متعددة. يظهر العنف عندما تصبح الهُوية أحادية أو حصرية، مع نسيان الشخص الاجتماعي لصالح الفرد الواحد؛ لذلك ليس لدي الكثير من التعاطف مع الأفكار التي تحافظ على وَهْمِ برانية الفرد إزاء المجتمع وإدراك الفرد على أنه يملك «احتكارًا للمعنى»، على حد قول عالم الأنثروبولوجيا لويس دومون [1911- 1998م]. أتفق مع مونتينْ في الحديث عن النية والأصوات بدلًا من الوعي.

  تفكيك الوعي والهوية وفكرة العالم… أين تنتهي شكوكك؟
  لا توجد مطلقات، ولكن العديد من النظم المرجعية! لقد «مزجتُ» أطروحات فريجه في شكل براغماتي، وهو ما يجعلني أدرك بطريقة تقليدية بديهيات بوصفها افتراضات أوّلية. تتميز البديهية بقوتها الاستنتاجية، وبالافتراضات التي تسمح باستخلاصها. لكن هذا ليس أساسًا في حد ذاته. يظل ارتيابي معتدِلًا، في الآخر!

  ممارسة المحادثة، العزيزة على مونتينْ التي تمدحُها؛ هل هي تعبيرٌ ملموس عن هذا الشك؟
  المحادثة هي المنطق مختصرًا. فهي دفاعٌ وتوضيحُ أهمية السياق ضد أي شكل من أشكال الأنانة (الأحادية التصورية، وهي مذهب يقول: إن الأنا هي الحقيقة الوحيدة الموجودة). المحادثة تفترض مُفسّرين وسياقًا، وهو ما يسميه العالم بالمنطق تشارلز ساندرز بيرس (1839-1914م) بـِ«الترابطات التجريبية لِمجاورة المُستمِع (المتلقِّي)». تعذُّرُ تحديدها، وسوء فهمها هو المحرك الأساسي للمحادثة، فهي تخلق استخدامات المعنى أكثر من المعنى نفسه. المحادثة وسيلة للتواصل الاجتماعي وأسلوب حياة. في المغرب، عشتُ مع النساء، مع والدتي وخالاتي وأخواتي. لقد عرفن عددًا كبيرًا من الأمثال التي كانت تتجسد تمامًا في كل موقف من المواقف كأفكار منطقية مختصرة.

  تنتهي محادثتنا. كيف نستخلص؟
  ربما من خلال التذكير بأن العقل منظَّم مثل المجتمع. يستشهد بارت بهذه الجملة المنسوبة إلى بريخت: «كان يفكر برؤوس عدة، ورؤوس كثيرة كانت تفكر فيه». هذا هو الفكر.


المصدر:

https://www.philomag.com/articles/ali-benmakhlouf-je-suis-pour-la-comprehension-plutot-que-pour-la-signification