فن المشاكسة عند بوريس ڤيان

فن المشاكسة عند بوريس ڤيان

كان بوريس ڤيان (1920- 1959م) روائيًّا وشاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا ومهندسًا وعازف ترومبيت ومؤلف نصوص أوبرالية وأغانٍ وسيناريست ومترجمًا ومديرًا فنيًّا لشركات أسطوانات موسيقية… وكان أمير حي سان جيرمان في باريس، ونجمًا من نجوم الموضة. فكانت باريس كلها تلهج باسمه بعيد الحرب العالمية الثانية حتى وفاته المبكرة. وللتفكه، كان يناقل بين حروف اسمه، فتارة هو بيزون رافي Bison Ravi، وطورًا هو بيزافيون Bisavion وأيضًا هو فيرنون سوليفان Vernon Sullivan. وكان يقول: «أن نترك الأدب في يد الحمقى هو أن نترك العالم في يد العسكر» (من كتاب «المواطنة»، الذي لم يكتمل). ورأى أن الكتّاب يتناولون الأدب بجدية مفرطة وبأهداف نفعية، وينسون الجانب الألعباني فيه. وكان ڤيان من رعيل الكتّاب والفنانين والسينمائيين الفرنسيين القريبين من السوريالية دون أن ينضووا تحت راية أندريه بروتون من أمثال: ألفريد جاري، وجاك بريفير، وريمون كونو، وأوجين يونيسكو، وميشيل ليريس، وماكس أرنيست، وجورج براسانس، ورينيه كلير. فتهافتت عليهم شبيبة الحي اللاتيني التي حُرِمَت الحُريةَ إبان الحرب العالمية الثانية.

الروائي والمسرحي

مع أن ڤيان تخرج من مدرسة السنترال الهندسية والميكانيكية، فإن شغفه انصبّ على الأدب والموسيقا. ففي مجال الرواية كتب رائعته «زبد الأيام» (1947م) قائلًا: «كان بوُدّي كتابة رواية مكونة من سطر واحد: رجل يحب امرأة، تمرض ثم تموت». ولكن روايته تجاوزت بكثير هذا السطر المرتجى، مركّزة على اللغة المتخيلة: بيت تتقلص مساحته، أرصفة تنهض واقفة، أسطوانات موسيقية تشيخ دون أن تستعمل، رهبان يرقصون على قبر امرأة متوفاة؛ لأن زوجها لم يدفع لهم مستحقاتهم. وضمّن الكاتب روايته أجواء كافكاوية ووحشية تهجو عالمنا المعاصر. وصرّح قائلًا: «قصة الرواية حقيقية؛ لأنني تصوّرتها من بدايتها إلى نهايتها». وكمشاكس فذّ، لم يلتزم بقواعد اللغة الفرنسية الكلاسيكية ومفرداتها. فاستحدث كثيرًا من الكلمات ونبش بعضها الآخر كـ nutritionner بدل nourrir [غذّى]، émotionner بدل émouvoir [حرك المشاعر]، رأى في زهرة النيلوفر nénuphar استعارة لمرض السرطان؛ وأطلق على سويسرا اسم «شويش»، ودمج بعض العبارات في كلمة واحدة، وأدخل كثيرًا من العبارات الشعبية والمفردات الإنجليزية، متجاوزًا قسطاس الأكاديمية الفرنسية (التي أُسست في بداية القرن السابع عشر).

أما الرواية الثانية التي منعتها السلطات الأميركية فهي «سأبصق على قبوركم» أو «تفووو على قبوركم» (1946م)، وتروي قصة شاب أسود يحب فتاة شقراء فيقتَل وينتقم أخوه من البيض بقتله فتاتين بورجوازيتين. ويفضح ڤيان في الرواية العنصرية التي تمارس على السود في الجنوب الأميركي. ولا تتكلم رواية «الخريف في بكين» (1947م) لا عن الخريف ولا عن بكين، بل عن العبث والفراغ واللاجدوى، من خلال إنشاء سكة قطار في صحراء إكسبوتاميا المتخيلة. وبعد انتهاء المشروع تنهار السكة بمسافري القطار. وفيها يستخدم ڤيان أسلوب الغروتيسك: باص يصبح قطًّا، قطعة جبن تتحرك، سخرية من رجال الدين كأن يقول: «أمنا الكنيسة ذات القرون الرسولية»، وكان يسمي أحد الرهبان بـ Postillon (رذاذ الفم).

وفي روايته الأخيرة «فاطر القلب» (1953م) يعكف على شعرنة العالم. وتروي قصة محلل نفسي في الريف الفرنسي ينهمك في تحليل نفسية قطته ثم خادمته، وتحليل أحد القرويين الذين يجمعون القاذورات من التجمعات المائية. وسبق لڤيان أن سخر من التحليل النفسي في قصة «العشب الأحمر» (1950م) التي تتكلم عن مهندس اسمه وولف يخترع آلة تستعيد أحداث ماضيه بهدف نسيانها.

وفي المسرح كتب أربع مسرحيات هي «بناة الإمبراطوريات» (1957م)، و«عصرونية الجنرالات» (1950م)، و«تربيع من أجل الجميع» (1947م)، و«آخر المهن» (1950م). وفي هذه الأعمال مسرح منوّع: إسكتشات كاباريه ومقالب وكوميديا موسيقية ومسرح رصين. كان ڤيان ضد الثالوث الاجتماعي: الجيش والكنيسة والمال، وكان ينصبّ همه على فضح الزئبقيين والجمود والترهل والتصنع والجبن وألاعيب السياسيين البهلوانية. ففي «عصرونية الجنرالات» يطلب رئيس المجلس النيابي من الجنرال أودوبون أن يفتعل حربًا صغيرة كي يقوّم الوضع الاقتصادي في البلاد، ويترك له أمر اختيار العدو وينصحه أصدقاؤه الروس والأميركيون والصينيون باختيار الشمال الإفريقي فيشنها. وبعد النصر الأول يُطلب منه إنهاؤها. وفي «آخر المهن» تلميحات إلى لواط رجال الدين، وهو ما يدفع الكنيسة إلى تحديث نفسها تدريجيًّا. وفي «بناة الإمبراطوريات» تضطر عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص – بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية وبسبب ضجة ناجمة عن تفجير نووي ربما- إلى الانتقال من الطابق الأرضي إلى الطابق الأعلى فالأعلى حتى السابع. وهذه المسرحية لغزية ويجب التذكير بأنها كُتبت بعد أهوال الحرب العالمية الثانية.

الشاعر والعازف

عام 1940م نشر ڤيان ديوانه الأول بعنوان «السونيتات المئة»، وعام 1948م كتب مجموعة مؤلفة من عشر قصائد بعنوان «Barnum’s Digest» ونشرها على أنها «مترجمة عن الأميركية بقلم بوريس ڤيان»، وبعدها بسنة أصدر ديوانه الثالث بعنوان «أهازيج تجمّدت» وهي مجموعة تحمل اسم صديقه جاك لوستالو الملقب بالماجور، فربط اسمه بسلم الصول الكبير (صول ماجور) «Un seul Major. Un sol majeur». وتتخلل هذه الدواوين صور تعبيرية لكلود ليغليز وجان بوليه وكريستيان ألانور.

كان بوريس ڤيان ينتمي إلى أولئك الشعراء الذين لا يقيمون فرقًا بين القصيدة والأغنية، على غرار الشاعر الفرنسي البوهيمي فرانسوا فيون (1431- بعد 1463)، لا بل وجد قراء ڤيان أن رواياته تتمتع بحساسية شعرية عالية. في قصيدة عنوانها «لا أريد أن أرحل» يقول: «لا أريد أن أرحل قبل أن أتعرف على الكلاب السوداء في المكسيك، الكلاب التي تنام دون أحلام، وأتعرف على القرود ذات المؤخرات المكشوفة التي تلتهم المدارات، وعلى العناكب الفضية ذات الأعشاش المزدانة بالفقاعات. لا أريد أن أرحل قبل أن أعرف إذا كان القمر بشكله المدقع المزيّف له زاوية مدببة، وإذا كانت الشمس باردة، وإذا كانت الفصول هي أربعة فقط، لا أريد أن أرحل قبل أن تُخترع الورود الدائمة ودوام الساعتين فقط والبحر المحاذي للجبل والجبل المحاذي للبحر، ونهاية الألم والصحفَ الملوّنة وأن أرى جميع الأطفال سعداء وأرى مهندسين عباقرة وبساتنة مرحين… لا أريد أن أرحل، لا يا سيدي لا يا سيدتي، قبل أن أشمّ رائحة الموت».

كانت أغاني بوريس ڤيان على كل لسان إبان الخمسينيات والستينيات. وكانت تعزفها فرقة أوركسترا أبادي ڤيان التي شارك فيها أخواه ليليو على الغيتار وألان على الدرامز وهو على الترومبيت. ويقدّر عدد الأغاني التي ألف ڤيان نصوصها بـ 400 نص وأداها مع فرقته بألحان مستوحاة من الروك الأميركي والجاڤا، والجاز بعامة. ومن بين الأغاني التي شاعت كثيرًا لا بد من ذكر «الفار من الجندية»، «كم أنا متصنّع»، «طافحة بالعُقَد»، «لسنا هنا كي نُشتَم أو نعنَّف»، «أشرب»، «لحن بلوز من أجل جان مارتان»، «أنا سلاڤي»، «المرتزق»… وفي تعليق له على نص «الفار من الجندية» قال: «كي تصنع جنديًّا عليك أن تتخلى عن مواطن مدني»، وهو ما يدل على كرهه للعسكر والجيوش والحروب. ومن كلمات هذه الأغنية: سيدي الرئيس/ أكتب لك هذه الرسالة/ قد تقرؤها/ إن كان لديك وقت/ استلمتُ منذ برهة/ أوراقي العسكرية/ لأذهب إلى الحرب/ قبل مساء الأربعاء./ سيدي الرئيس/ لا أريد أن أشارك فيها/ لست على هذه الأرض/ لأقتل الناس المساكين./ إن لاحقْتَني/ نبّهْ جنودك/ أنني أعزل/ وبإمكانهم أن يطلقوا النار.

أمير سان جيرمان

ونصّب كتابُه «دليل سان جيرمان دي بري» (1974م، نُشر بعد وفاته) بوريس ڤيان أميرًا على الحي اللاتيني. إضافة إلى المعلومات الجغرافية وشوارع الحي، يتناول ڤيان فيه عددًا من الأحداث والأساطير ويتكلّم عن مجموعة من المشهورين الذين أقاموا فيه ويقدر عددهم بتسعين شخصًا. وتزين النص صور كثيرة مأخوذة من المجموعات الخاصة في معظمها. قال جاك بريفير: «إن ڤيان عظيم وإن سان جيرمان دي بري هو نبيه. آمين». وقال ڤيان: إن هذا الحي «هو المكان الوحيد الذي تعزف فيه موسيقا الجاز. في حي الباستيل يعزفون الأكورديون، وفي الشانزيليزيه يعزفون الموسيقا الهادئة». وكان الجاز هو اللون البهيج، لون التحرير. وأصبحت أقبية البنايات التي كانت بمنزلة ملاجئ في أثناء الحرب، أصبحت مراتع للرقص على أنغام الجاز الوافد من أميركا. وأصبح الحي قطبًا من أقطاب الثقافة في العالم يرتاده الكتّاب والممثلون ومخرجو المسرح والسينما والفنانون والصحفيون والناشرون.

تحوّلَ الحي الذي كان ريفيًّا إلى حد ما في الثلاثينيات إلى حي يعجّ بالحركة والشباب والمناقشات السياسية والفنية والفكرية. وكان جان بول سارتر – ويسميه ڤيان «جان سول بارتر»- يجلس مع سيمون دو بوفوار وشلتهما من الوجوديين في مقهى الفلور Flore في حي سان جيرمان دي بري، خلف طاولة فسيحة وتجلس خلف طاولة أخرى شلّة بريفير وجان لويس بارو والمغني مولودجي. وأصبح مقهى الفلور مقهى أدبيًّا وفنيًّا بامتياز، في حين صار مقهى «لو دو ماغو» المجاور مقهى السيدات الجميلات والحمقاوات المناسب للمغازلة ومطارحة الغرام. ولكن الأنظار راحت تتوجه نحو حانة «التابو» حيث كان بوريس ڤيان وأخواه يعزفون، فالتفّت حولهم ثلّة من الفنانين، من بينهم جولييت غريكو ومغني الجاز العالمي لويس أرمسترونغ، والموسيقيّ ديوك إلينغتون، وجان كوكتو وكريستيان ديور، وممثل البانتوميم الشهير مارك دولنيتز… وأسس ڤيان في «التابو» ناديًا أدبيًّا ساهم فيه سارتر وألبير كامو وريمون كينو. وتحول تدريجيًّا زبائن «التابو» والحي عامةً من شباب غير مترفين إلى زوار أثرياء يفدون من شتى أصقاع المعمورة، ودوّن بوريس ڤيان قصصهم وتصرّفاتهم في الحي.

لقد عرفت باريس آنذاك أهمّ مدرستين أدبيتين في القرن العشرين، وهما السوريالية والوجودية. فالسوريالية مع حبرها الأعظم أندريه بروتون (الذي كان ڤيان يحذر منه) قد تجاوزت المنطق الأرسطي بتركيزها على العلوم الخفية وعلى ساد ومازوخ والتحليل النفسي والمرح الأسود وشطح الخيال؛ وهو ما يجعل الحياة أكثر كثافة وتحررًا، فتصادت مع الموضوعات التي تناولها ڤيان. لقد انتقد رجال الدين وسخر منهم، وبخاصة بعد أن مُنحت جائزة دفاتر لابلياد (جائزة الناشر غاليمار 1946م) لرجل دين هو الأب جان غروجان على ديوانه «أرض الزمان» واستبعدت
رواية «زبد الأيام».