حَكْي شُقوق «قَرَأ» المَرِحَة

حَكْي شُقوق «قَرَأ» المَرِحَة

«أَراها غُلامانا الخَلا، فتَشَذَّرَتْ.. مِراحًا، ولم تَقْرَأْ جَنِينًا ولا دَما»
أثر شعري

أنت سيوران؟! نعم- هذا الجسد الذي أمامك لا يخفي شيئًا. يمكن لشذرة «سيوران» هذه أن تُلَخِّص هذا النَّصَّ من مزْحة قراءته، ولكن لأنَّ القارئ يُحبِّذ عرض الكلمات؛ لأنَّ أناهُ جُزْءٌ من المقروء (النَّصِّ)، فلا بُدَّ من تمرير بعض الكلمات. – « القراءةُ مَمَر» قالت فتاة صغيرة. مُبْتَغى القارئ من بلوغ جوف القراءة أو بلوغ فراغها، هو الحصول على بهجة القراءة؛ تتخلَّلُ نَفْسَ القارئ وتَظْهَرُ على جَسَدِهِ؛ فالبهجةُ لا تُخْفِي جسدًا- ذلك أنَّ القراءة (أيضًا) جسد.

عادةً نأخذ القراءة كتَسْليةٍ وتَمَتّع، لكن ما إن تُصبح حُبًّا، حتى تغدوَ القراءة مُغامرةً في زَمنٍ مَحْض، عارٍ لا تقطعُه اللحظات؛ كنهر يتدفَّق، ونحن مغمورون فيه- هذا الزمن المحضُ يَمُرُّ خلالنا ولا ينتهي منَّا إلَّا بالنوم. هنا كقُرَّاء، نُصبح عالقين في الزمن، كفتاةٍ عالقة في الحب- حيث يَكْمُنُ أهمية القراءة في طَيشها الحَيوي.

مقل الكلام متعدد المعنى

أي قراءة جارية في مدلول «قرأ»؛ فهو لفظٌ مُتعدِّدُ المعنى؛ حيث يجري اسمًا، فالقرآن اسم يُطلَق أيضًا على القراءة نفسها، كما يورد صاحب اللسان (ابن منظور) في معجمه اللغوي. الاسم ليس له من غاية أو آخرة، إنَّما هو حامل شيء فقط، «الاسم مَتْلُ كُتْلي» (حامل الإبريق) كما قال شخص عادي مُقل في الكلام. توضِّح هذه الجملة البسيطة والعادية أهمِّية الاسم، دون أن تُوسِّع من وهمه، بل تُعيده إلى حجمه الطبيعي، بما هو حامل للأشياء؛ ذلك أنَّنا نُسمِّي الأشياء كي نصبح قادرين على تحمُّلها، لا من أجل السيطرة على الموجود.

وبعبثيَّةِ جُملةِ «بيكيت» اليائسة والمُقِرة «لا فائدة، نحن على الأرض»، تغدو القراءة إقرارًا بعلامة أصلية مُضادَّة لإنسان العصر؛ مضادة لغايته في الهيمنة والسَّيطرة على الطبيعة.

خَوَاطِر مُخَاطِرة!

القراءة؟ عَتَبَةُ باب.. عتبةُ تأمُّل. قَدْ تَحُطُّنا فجأةً في الخَلاء -بما فيه من مَخاطِر- كيف لقارئ أن يجلس ويحيا على حافة «اللاشيء»؟! السؤال عارض -في النهاية- مطروحٌ على محصول الإجابة، على «اللاشيء» يقع الوجود، ويغدو سطح الشيء وعُمقه سِيَّان، إنَّنا في العُمق تائهون داخل صحراء، لكنَّنا نجد داخل الصَّحراء واحة.

ها نحن في الحياة. يَطبع الشِّعر حياة الشاعر ومصير وجوده في طَرَافةِ الحياة؛ إنَّ طَرافة مصير الشاعر «طَرفة بن العبد» طَريفٌ كما الحياة طريفة؛ لأنَّ مصيره مرتبط بالحياة، أو بلغة «دولوز»؛ لديه ذات عديدة الحياة، ومن على خطوط هروبها الواقعة في أطراف الديار، ينحت «طرفة بن العبد» مصير مَرَح الشاعر في حياة فرد يحيا مَرِحًا دون دم؛ يتلقى المكتوب (الموت) وهو جالس على حافة «اللاشيء»، كما «أنا» ثَمِلٌ بالحياة.. كما «أنا» ثملٌ بالموت.

ما أهمية «طَرَفَة بن العبد» هُنا؟ لا شيء، إلَّا لأنَّ القراءة حَدَثٌ، يعيد اكتشاف الذات من خلال نَفَسٍ؛ من نَفْس قديم لها. فالقراءة حدث غير المنفلت داخل الذات؛ حيث القراءة منفلتة كما ورق من أوراق شجر تسقط على الأرض وحيدة. القراءة المُنفلتة من الزمن أو المؤولة للزمن، تجعلنا مُنفَلِتينَ مِنهُ لكنَّنا فيه، فنحن لا نُؤوِّل إلا لنُقْبِل على الآتي. بتعبير آخر، قراءة الذَّات يتطلَّب قراءة تأويليَّة؛ حيث« نحن» إشارة خاصة نحو ذات لديها لغةٌ وثقافةٌ ومصير؛ هنا القراءة عملٌ فريدٌ تشبه فرادة حياة الشاعر «طرفة بن العبد».

عبدالسلام بنعبد العالي

وإذا ما أخذنا القراءة بمعنى «قرية»، تصبح القراءة فن اعتناء النفس بذاتها في العالم؛ أي فنّ قراءة ذاتنا الإنسانية كجُزءٍ من إنسانيات العالم المعاصر؛ فأقدام الذات -كالشعر- وحدها تزامن وتعاصر الزمن. إذا القراءة «تحْمِل» فإنَّها تحمل قارئًا آخر لا يمكن تعريفه أو حصره بتعريف. أما القراءة الموازية للنِّص فهي ولادة أخرى للنص، أي كتابة أخرى مُماثِلة للنَّص؛ تفسير مُنتظم للنَّص، مثل كتابة «كوجيف» الشارحة نَصَّ هيغل «فينومونولوجيا الرُّوح». وكذلك كتابة « ابن رشد» الشارحة منطق أرسطو- حيث القراءة الشارحة للفكر؛ مترجمة ومتفلسفة: كتابةٌ على الكتابة.

فالتَّفَلْسُفُ هَضْمٌ للُغَةِ الآخر، وفي الوقت نفسه إبداع وتِبْيَان قُدرةِ أيِّ لغة على لغة كتابة الفكر.

تظلُّ نصوص الفكر المعاصر؛ وبخاصَّة نصوص دريدا ونيتشه حتى سبينوزا، قريبة من أنفسنا المُتَفَلْسِفَةِ أكثر من النُّصوص الفلسفيَّة الأوربيَّة المُؤسِّسة للمُؤسَّسات الحديثة (ديكارت وكانْت وهيغل). وهذا لا يعني إهمالَ هذه النُّصوص المُؤسِّسة للحداثة، إنَّما إعادة قراءتها؛ لأنَّ مُؤسَّسات التعليم العربية الحديثة بُنِيَتْ عليها، وكذلك خرجَ من عباءتها الأيديولوجيَّة العربية الحديثة المعاصرة، بما فيها «الأيديولوجيَّة الإسلاميَّة»، الزاعم أنَّها آتية من عباءة الإسلام.

الأيديولوجيَّة العربية المعاصرة «حالمة» بوصف «عبدالسلام بنعبد العالي»، و«مُشَيِّئة» بوصف «فتحي المسكيني»: تقزم من حياة الإنسان وتختزل وجوده في قَشَّة هُوِيَّة. الأيديولوجية المعاصرة: نموذج تصور للعيش؛ مقدم من قراءة صورة ذاتية للإنسانية؛ مختزلة الإنسان ووجوده في صورة سردية «هووية».

جُمَل حُرَّة

القراءةُ الجادَّةُ تشترِطُ هدفًا للوجود، بينما طرافة الوجود تَكْمُن في أنَّه لا يشترط أيَّ هدف؛ ولذا نحن قُرّاء وقتيون، والوجود لا يحتاج قراءة كُتبٍ، بل قِرَاءة طنينها: سماع غِناء لحن الكلمات. القراءة بهدف فَهْمِ النَّفس فيه مَهْلَكة؛ لأنَّنا نُصاب برذيلة الوعي؛ لذا فالحالة التي تبدو على الشخص في أثناء القراءة أثمن من المعرفة أو الفَهْم (غاية القراءة).

فالقراءة من أجل «الأنا الفاهمة» أو «الأنا العارفة» بؤرة تَضَخُّم لأنا أُحادِيَّة؛ وكقُرَّاءٍ نَكِرَات، لا نَمُرُّ من هُنا، وإن مَرَرْنَا، نَمُرُّ كعابِرِي سبيل. في حوار هذياني حول المعنى، قال أحد حُرَّاس المعنى والمعرفة بتعجُّبٍ «يعني قضيتُ سنواتِ حياتي مخدوعًا!!». هذه الجُمْلةُ المُنفَلِتَة لحظةُ صدقٍ من طرف النفس؛ فلا «نكون صادقين إلا ونحن مُتعَبُون».

إميل سيوران

بتعبير سيوران -هذا- القراءة خدعة تُعِينُ المَرْءَ على عالم وجوده.

تَرِد الجُمَلُ المفارقة على شِفاه الناس، ليس بالضرورة في بطن الكتب؛ إنَّ كلمةً أو جملة تُثبت الواحد وتُوقِف الشِّفاه عن القراءة، لِتَرْسُمَ لوحة القارئ؛ لَابسٌ خرْقة الدرويش؛ فالقارئ دَرْويش ومُغَنٍّ جوال.

«ليتني مِتُّ حينما وُلِدْتُ»- هذه جملة مُفارقة، قالتها امرأة لا تقرأ ولا تكتب، ومُصابة بالزَّهايمر، قالتها وهي تُودِّع حفيدها الشاب، الذي قُتِل في حرب «الجماعات الهووية»، والذي وُجِد جُثَّةً بلا ملامح. إنَّها أقسى جُملة قياس؛ عابِر هذه الحرب، وأقسى تحليل عن المسؤول عن كل حرب: الولادة.

حَكي مَرِح

القراءة عطاء وضيافة (اقْرَأ الضيف)؛ فسرعان ما يستضيف القارئ كتابًا، وسُرعان ما يُصبح ضيفًا عليه. ولكن -قلَّما يُصبح القارئ كاتبًا- أقرأ لأكتب بِسُوءٍ جيد.

في القرية، وقفتُ أمام اسم حَوْل زراعي (حقل زراعي)، يحمل اسم «حَوْل القراءة» (اسم إضافة) وهو نوعٌ من أنواع الوَقْفِ (الهِبَة)، يُوقَف لغرض قِراءة القرآن على الواقِفِ بعد الموت. يبدو هذا «المَيِّت» مُستبدًّا، طامعًا في الذِّكر أبدًا؛ لكننا أمام قراءة لطيفة، فيها طيفُ الآخر على القارئ؛ العائد بالاطمئنان من خلال زيارته للموتى؛ حيث قراءة الكتب زيارة للموتى. الفائدة من زيارة الموتى هي النسيان – حتى شاهد التذكر هو شاهد من أجل النسيان – والقارئ هنا: شاهد نسيان باقٍ على الحياة.

نقرأ- كي نحيا، وننام كميِّتٍ؛ في اطمئنان وسلام. ربما «حول القراءة» يستوعب نسيان «عبده سعيد» شخصية بطل رواية (يموتون غُرباء: للكاتب اليمني محمد عبدالولي) حينما نَسِيَ أن يقول: إنَّ أكبر وأجمل قبر في القرية قبر عبده سعيد.

هذا الحديث الزائر للموتى يقبلُ ثقْلَ وخفَّة أسامينا الميِّتة.

في أثناء الطفولة تعلَّمتُ القراءة والكتابة؛ ففي الثقافة العربية الإسلامية، نتعلَّم القراءة والكتابة معًا – صحيح – نبدأ نتعلَّمُ قراءة العلامات (علامات التَّهَجِّي) وتعلُّم الكتابة بعدها؛ عمليًّا برسم الكلمات وعلاماتها المُتحرِّكة- لكن يجري تعلُّمُ القراءة والكتابة في لوحٍ واحد- في القراءة، تَظْهَر فرادتك في المقروء (الغيب)، أمَّا في الكتابة فيَحْضر المَنْسِي، وتبدو أنتَ رسمًا مُنَمْنَمًا.

كُنَّا نقرأ الأحرف وحركات الكلمات كنغماتٍ موسيقية، أكثر من كونها حركاتٍ هجائية، نُردِّدُها بدهشة دون فهمٍ للمعنى، أمَّا الكتابة على اللوح فكانت فنًّا تشكيليًّا: كتابَةُ النَّصِّ مُشَكَّلًا. ما يَبْقَى من ذاكرة تعلُّم القراءة والكتابة هو طفولتها؛ النغمات الموسيقيَّة ولوحة المِعْلامَة أو المِقْرأَة -اسم مكان التعَلُّم-: ألواح الكتابة مُتراصَّة وسط مركز الدائرة، والقرأة: المَعَالِمَة -المتعلمون- لف واحد، جالسون على حافة الدائرة، ومعلم القرأة – معلم السمَاع – واقفٌ، وعصاه تشير نحو تَتَبُّع الكتابة.

المنتهى: – الكتابة على اللوح عملٌ متكامل- إني أتذكر الطفولة هنا كي أَمْضي بإبهام وتوقيع خاص للقراءة.

الختام: القراءة كما التمرُّد؛ تُحْدِثُ فجوةً؛ حيث تؤدي القراءة إلى التَخلِّي؛ أي إلى عشق النُّصوص، فلا يترك القارئ نصَّ كتابةٍ ما، إلَّا بعد أن يقع في غرام كتابة نَصِّ آخر، وهذا الانتقال هو الفجوة غير المباشرة للتمرُّد، الذي سطْحُه حُرِّيةٌ وعُمقُه اختيارٌ.