صانع الشواهد

صانع الشواهد

لا أنكر أنّي خفتُ حين رأيتُ مشغل شواهد القبور للمرة الأولى، وتحديدًا حين رأيتُني في واجهته الزجاجيّة السوداء المطلّة على الشارع. خوف شعرتُ به مثل بعض ممّن كانوا يمرّون ببابه مسرعين، يشيحون بأبصارهم بعيدًا عمّا كان ببابه من شواهد، كلّ واحد منها يحمل اسم متوفّى وتاريخ وفاته، وإحداها في ذلك اليوم حملَتِ اسمًا لشابّ وحيد عائلته، دهمته سيارة قبل أيام في أثناء عبوره الشارع ذاته الذي يقع المشغل على طرفه.

حادثة لن ينساها الناس بسهولة، وقعت في أول يوم لافتتاح المشغل، ربطها بعضٌ به؛ لهذا صار نذير شؤم، وبخاصة حينما تعثّر أيضًا رجلٌ سبعيني قبالته وسقط فمات، فراحت بعض النسوة يحذّرن أبناءهنّ وبناتِهنّ من الاقتراب من تلك المنطقة. منذ أربع سنوات وأنا أسلك ذلك الشارع، ولم أنتبه للمشغل إلّا حين طرأت الحكايات حوله، فأصابني فضول لمعرفة صانع الشواهد الذي قيل أن لا أحد من سكان البلدة رآه. أمرٌ غير منطقيّ، فالمشغل يفتح صباحًا، ويغلق عند المساء، فكيف لا يعرفه أحد؟!

عبثت الوساوس برأسي وأنا أقف قبالة المشغل، كنتُ يومها عائدًا من الجامعة في آخر سنواتي الدراسية، انتبهتُ إلى أنه يقع بين محلّين: واحد يبيع فساتين عرائس، والآخر صالون حلاقة نسائيّ. كان المشهد سورياليًّا، فقد رأيت سيارة تصطف وتقلّ عروسًا من الصالون، وفي اللحظة ذاتها رأيت رجلًا يكابد وزن شاهدة، ويضعها في سيارة للنقل.

قرأتُ بخوف الأسماء المحفورة على الشواهد، تجاهلتُ ما أشعر به، وحاولتُ تناسي ما يروى من حكايات وهميّة، لكن في تلك الأيام ماتت عروس تزيّنت في الصالون الملاصق للمشغل، فأخذ عدد زبائنه يتراجع إلى أن أقفل. خلال مدة قصيرة أغلقت محالّ ذلك الشارع إلا محلًّا يبيع إطارات السيارات. بعد أشهر سمعتُ أنَّ هناك صانع الشواهد يجهّز مسبقًا شواهد لأناس سيموتون في ذلك الشهر، بل قيل: إنَّه ينقش عليها أسماءهم، ويوم وفاتهم مسبقًا.

تحوّل الخوف في البلدة إلى هلع، فاجتمع رجال يتشاورون بما يحدث، منهم من رأى أنَّ ما يدور بين الناس مجرد خرافات، ومنهم من دفع باتجاه إغلاق المشغل، بل حتى بهدمه، لكنّهم لم يفعلوا شيئًا. لم يتوقّف الحديث حول صانع الشواهد، حتى في بيت عائلتي، وبخاصة جدّتي التي تؤمن بنذر الشؤم، فقرّرتُ تقصي الحقيقة، خرجتُ فجرًا، كان المشغل مفتوحًا، بابه المعدنيّ الذي يغلق طيًّا لا يزال في الأعلى. لكنّي ما رأيتُ إلا ولدًا يجلس على كرسي عند بابه، وفي اليوم نفسه راقبت المشغل حتى منتصف الليل، ولم أصل إلى نتيجة، حتى إنّي في يوم آخر مكثتُ حتى طلوع الشمس ولم أرَ صانع الشواهد، سألت شابًّا مات أبوه مؤخّرًا: هل يعرفه؟ فقال إنَّه لم يقابل إلا الولد. حين تتبّعت مصدر ما يقال، وجدتني لأيام أتنقّل بين عدد من الأشخاص بلا فائدة، والغريب أنّي وجدتُ الحكاية تنقص عند شخص، وتزيد عند آخر، فأقلعت عن فكرتي إلى أن قرّرتُ دخول المشغل. حين وقفتُ ببابه سمعتُ من الداخل صوت أم كلثوم تغنّي: (على عيني الهجر ده مني، ده بعادي كان غصبن عني). لم يكن الولد الذي رأيته من قبل هناك، دفعت الباب ودخلت.

كان المكان معتمًا إلا من ضوء يسقط على طاولة يجلس عليها رجل خمسيني كثّ الشعر، يلوّن اسمًا في شاهدة أمامه. هل أخدمك بشيء؟ قال بعد أن وضع سيجارة في طرف فمه، وعاد يعمل على الشاهدة. لم أدرِ ما يمكن أن أقول وأنا أتلفّت حولي أفتّش عن الشواهد التي قيل: إنَّها تحمل أسماء لأناس سيموتون قريبًا.

نظر إليَّ: هل تريد شاهدة؟ لا. ضحك بصوت خفيض وهو يرى أمارات الخوف في وجهي، ثم قال وهو يمسح الشاهدة بقطعة من القماش: هل تخاف الموت؟ قلتُ أبدّد الصمت: نوعًا ما. رحتُ بكتاب معي أستجلب الهواء في ذلك اليوم الحارّ. أطفأ سيجارته ثم أخذ الكتاب من بين يديّ، قال وهو ينظر إليه: إذن «إريك فروم»، «ما وراء الأوهام». أعاد الكتاب، وعاد يتفحّص الشاهدة وهو يميل برأسه طربًا لصوت أم كلثوم. غادرتُ من دون استئذان، ومن دون أن أرى الشواهد، وبي خشية من مكروه يمكن أن يحدث لي، ليلتها جافاني النوم، فبقيتُ طوال الليل أقرأ كتاب (فروم). لم أصب بشيء؛ لذا بعد أسبوع عدتُ إليه، كان يستمع إلى الأغنية ذاتها، ويجلس منكبًّا على شاهدة جديدة نقش عليها اسمًا لا أعرفه: عبدالجبار سليم. قال بصوت متحشرج: ألا تعرف للآن ماذا تريد؟

كان من غير اللائق أن أخبره عمّا لديّ، لهذا قلت: إنَّ غرابته هي ما دعتني إليه. ضحك بصوت عالٍ: غرابتي؟ أم ما يقول الناس عني؟ اعترفتُ له بالحقيقة؛ فوجدتُ أنّه يدري بالأمر. خلع نظارته وحدّق بي: المسألة يا بني، ليست متعلقةً فقط بخوف الناس من الموت، بل بحبّهم الشديد لإعادة إنتاج الحكاية. صمت قليلًا، ثم قال بحزن: أنت الوحيد الذي تجرّأ وأتى إليَّ ليكتشف أمري. قال ذلك ودفع بعجلات كرسيّه إلى الأمام، وإذا بي قبالة رجل مبتور القدمين. تبعته حين تجاوز بابًا في حاجز خشبيّ، فدلفنا إلى غرفة صغيرة فيها سرير، وعدد من الكتب، وأدوات للطبخ. كان ينظر عبر النافذة بصمت حزين، خرجتُ خجلًا ألوم نفسي كيف تملّكت مني تلك الأفكارُ، عندما عبرت الشارع فوجئت بسيارة تسرع نحوي ودهمتني. وحين شُفيت عدت إلى المشغل، وإذا به مقفلًا. سألت أحدهم؛ فقال: إنَّ رجلًا مبتور القدمين وجد في داخله منتحرًا. ثم قال وهو يقضم ساندويتشه: اكتشفوا أنه كان أستاذًا في الفلسفة اسمه عبدالجبار سليم.