المشهدية السينمائية… التمكين والإحالة

المشهدية السينمائية… التمكين والإحالة

المتحرك والثابت

لا يمكن إلا أن نتوافق على أن السينما قوامها المشهد البصري، في حين تتخذ بقية العناصر الأخرى وظيفة تأثيث هذه القيمة؛ كي تكتسب الصورة المتحركة أبعادًا متعددة وصولًا إلى ما يمكن أن ننعته بما خلف الصورة، ونعني تلك البناءات الشديدة التأثير في وعي المتلقي الذي يعدّ أحد مصادر التوجيه الدلالي لصانعي الأفلام. ومن هنا يمكن أن نقتطع محاولة من محاولات فهم هذه الصيغة، وقدرتها على أن تنتج نوعًا من التأثير شديد الحضور في عملية التلقي. ولكن تبقى آليات هذا الفعل جزءًا من معضلة البحث عن المكامن التي تصنع ذلك، وهو ما يمكن أن يقترب من مقولة «سلطة الصورة» من وجهة نظر «ريجيس دوبري» الذي يناقش التمايز بين الكلمة من جهة، والصورة من جهة أخرى؛ ذلك أنهما كليهما يكونان المعنى. ومن هنا، فإن الصورة تتحدد بقدرتها على إنتاج الأثر كتغيير السلوك كما هي أيضًا الكلمة أو الكتابة من منطلق قيمة الإشهار(١).

جيل دلوز

بادئ ذي بدء، ينبغي أن نحدد الصياغات التي نعنيها بتثبيت مشهدية الصورة ضمن الإطار السينمائي الذي يتشكل من مجموعة من الصور المتحركة. غير أننا عبر وعي التلقي غالبًا من نختزل الفلم في مشهد أو مشاهد قليلة جدًّا، بل غالبًا ما تُختزل تلك المشاهد في معطى الصورة البصرية التي تثبت في وعي المتلقي كي تختزل مقصدية الفِلم، وتكثفه، وهنا لا يمكن إلا أن نتوافق مع «جيل دولوز» في أن التقنيات التي شهدتها السينما عبر عمليات التصوير والمونتاج قد أسهمت في تحويل الصورة من مُعطى ثابت إلى شكل قيد التشكل والانهدام(٢)، وبذلك فإننا نرى أن المشهد بوصفه صيرورة متحركة ينتج وحدة حركية في وعي القارئ، ولكنها ذات طبيعة إنابية؛ بمعنى أنها تنوب عن كثير من قيم الدلالات التي تتكثف في نقطة واحدة، وهي المشهدية أو المشهد كما اللقطة أيضًا.

لقد أشار «رولان بارت» في كتابه «الغرفة المضيئة» إلى أن شغفه بالصورة الفوتوغرافية قد تجاوز شغفه بالسينما. ومن هذه المقولة بالتحديد ألج مقاربتي هذه، حيث إنني أسعى إلى اختبار أثر المشهد البصري المتحرك في السينما، والمتحول إلى صورة فوتوغرافية إن جاز التعبير؛ فهذه الصورة لا تنتمي إلى عالم التصوير المحايد، إنما تلج وعي المتلقي، وتثبت في ذاكرته بوصفها دالًّا على الرغم من أنها قد تكون مشهدًا مجتزأً، غير أن معالجتها تقع في سياق التثبيت انطلاقًا من وعي المتلقي، أو كما يوضحه «جيل دولوز» نقلًا عن «برغسون» الذي يشير إلى أن الصورة تقع في صميم جهاز المعرفة. فالمعالجة أشبه بتحريك جهاز سينمائي داخلي، وبذلك فإن آلية المعرفة هي في الحقيقة ذات طبيعة سينمائية(٣)، في حين تتملك اللقطة الواحدة قدرًا كبيرًا من الدلالات التي ربما تتجاوزها إلى مكوّن شعوري عاطفي نزولًا عند مقولة «رولان بارت»: «الحياة تتكون من اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة»(٤).

إنتاج الصيرورة

ينبغي التنبه إلى أن قدرتنا على معرفة أي من المشاهد تكمن في وعي المتلقي أمرًا ليس بالقارّ أو الثابت، فهذا يحتاج إلى نوع من الدراسات ذات الطابع الاستقصائي والإحصائي، فنحن لا يمكن أن نجزم بأن المشهد عينه قد يلقى تمكينًا في وعي المتلقين جميعهم، ولكن يمكن الاطمئنان -إلى حد ما- بأن ثمة مشاهد تكاد تكون متوافقًا عليها، مع عدم الجزم بذلك تبعًا لثقافة المتلقي، ووعيه.

من أجل توضيح أكثر يمكن أن نتخذ بعض النماذج كي ندرك أنها تمكنت من تكوين ذلك الأثر. وكلما كان الفِلم متميزًا سنرى أننا قد علقنا في تلك الصياغة البصرية الثابتة لمشاهد بعينها، من منطلق أن الاختزال للفِلم يتأتى عبر فعل تجميع لمشهديات تُترجم إلى صور بعينها، وهي آلية تكوين تكمن -في الأصل- في الذاكرة البشرية حيث تلتقط من حياتها السابقة مجموعة صور لتعبر عن موقف أو ذكرى ما… إذ إنها لا تستطيع الاحتفاظ بالعناصر كافة، ومن ذلك ذاكرتنا البصرية التي تعي الماضي عبر صور محددة. وهذا يمكن أن يماثل ما نواجهه في السينما؛ إذ نستخدم الآلية عينها، غير أن الاختلاف يكمن فيما نشهده من تعالق بين المُشاهِد والفِلم.

لا شك أننا حين نتصل بفِلم معين فإن بعض المخرجين يسعون إلى تشييد مشاهد بصرية مركزية كما في فِلْم «خلاص شوشانك»(٥) الذي يتميز بقدرته على إنتاج عدد من تلك الصور أو المشهديات التي تكاد تكون الأكثر عمقًا، وتأثيرًا، كما أنها تترك دلالات متعددة المستويات، وهو ما يشكل صيغة فلسفية إخراجية لبعض المخرجين. وهكذا نستحضر ما عبر عنه «دولوز» نقلًا عن «برغسون» فيما يتعلق بالحركة حيث يقول: «فليست اللحظة مقطعًا ساكنًا للحركة وحسب، ولكن الحركة مقطع متحرك للديمومة، وأعني بالديمومة الكل. وهذا ما يفترض بأن الحركة تعبر عن شيء ما أكثر عمقًا، ألا وهو التغيير داخل الديمومة»(٦)، وبناءً عليه، فإن الصورة كما يرى «دولوز» تخضع لتحوّل، ونعني الصورة -الحركة تغدو صورة- ومن ثم فعل منتج، وبذلك ننتقل شيئًا فشيئًا من الإدراك الحسي إلى الفعل بما في ذلك التأثير العاطفي(٧)، الذي نحن بصدده، ولكنه يأتي ضمن تواشج بين العاطفة، وقيم الدلالة المنتجة من قبل مشهدية معينة ذات طبيعة إثباتية.

الذاتي والموضوعي

لا بد أن نتوافق على أن فِلْم «خلاص شوشانك» يتميز بمشهد إزالة آمر السجن صورة الممثلة عن الحائط الذي يوجد فيه نفق، في حين أن رؤية تلك الفجوة يبدو لنا مشهدًا لا يمكن أن يغادر الذاكرة لكونه يحتل جزءًا عميقًا من رسالة الفِلم، كما أنه ينطوي على المفاجأة التي تتصل بإثارة المشاعر: الصدمة والدهشة، بل إنها تكاد تقترب من تحرير عواطفنا نزولًا عند آراء أرسطو في مقولة التطهير بداعي توافر مشاعر الغضب التي تُختزن نتيجة الظلم الذي حاق بالبطل عبر مروية الفِلم. غير أن بعض المشاهد التي نستدعيها من الفِلم تتعلق بمقولات أخرى تنضح بعدمية، ومن ذلك مشهد انتحار الرجل العجوز بعد أن ينحت اسمه على عارضة الخشب، فيكتب: «بروكس كان هنا»، وكذلك المشهد الأخير، ونقصد اللقاء بين الصديقين بعد التحرر، وإن كان أقل ثباتًا لكونه يتصل بالمتوقع.

إن قيمة تخليق جمل شعورية في التثبيت البصري يعد جزءًا محوريًّا من قدرات المخرج على تأسيس معادل موضوعي للمشاعر التي تتواشج مع رسائل مشفرة. وهذا ما يضعنا أمام معضلة الإدراك الحسي المزدوج الذي يعد موضوعيًّا أو ذاتيًّا؛ بمعنى الإحساس بالصورة. والفارق أن الأول ذاتي، ونعني المشهد منظورًا إليه من قبل شخص مؤهل لتكوين الدلالة؛ فالمتلقي يجب أن يتسم بالوعي. في حين أن الثاني يتعلق بالرؤية الموضوعية، وهي تعبر عن وجهة نظر شخص ما داخل الفِلْم(٨)، بمعنى أنها تتعلق بالموضوع المتصل بنيويًّا بالفِلم. وبهذا فإننا معنيون حقيقة بالنمط الأول، ومن ذلك مشهد خروج بطل فِلم «خلاص شوشانك» من مصرف المياه بعد أن حفر خندقًا بمطرقة صغيرة طوال عشرين عامًا، ومن ثم يعقب ذلك الصرخة التي تأتي على خلفية المطر والبرق، مع صوت الرعد؛ لتشي هذه المشهدية بقيمة التحرر والانعتاق لا من السجن فحسب، ولكن من ذلك الظلم الذي عاناه البطل، وبذلك فإن هذه المشهدية تتعلق بزاوية واحدة، ونعني المتلقي؛ إذ لا يشاهدها أحد من شخصيات الفِلم الأخرى، ولكنها تُتخيل.

يمكن النظر إلى الفِلم من خلال منظور المآلات التي تسعى لأن تُبقي على نواتج الحدث، في حين ثمة أفلامٌ تمارس تقديرًا آخر لممارسة الثبات البصري عبر اجتراح المشهد الأكثر رسوخًا في الفِلْم. ومن ذلك على سبيل المثال فِلْم «جوكر»(٩)، حيث تبرز الرقصة الأخيرة فوق سيارة الشرطة في ثياب ملونة بوصفها من أهم المشاهد التي تختزل توجيه رسائل أو رسالة واحدة تحتمل بعدًا رمزيًّا تحريضيًّا في علاقة الإنسان مع السلطة. فاعتلاء سيارة الشرطة يعني فعل تجاوز لما تعنيه السلطة، وهي صورة ذات أثر ذاتي تتعلق بالمتلقي الذي ينطوي بداخله على غضب من السلطة الفاسدة. وهذا ما يقترب من قيمة الصورة المشهدية، ومدى ما يكمن فيها لنقترب من مقولة «ريجيس دوبري»: «لا نستطيع إنكار أنها تثير فينا استعادة غريبة للمكبوت»(١٠)، فالثيمة التي يحتملها الفِلم تتضح من محاولة تثوير المشهد البصري، وتثبيته في وعي المتلقي مع ترك شيء من التحريض.

النموذج الشعوري

ومن النماذج التي تتصل بتقنية التثبيت المشهدي البصري الشعوري حوار الممثل توم هانكس الذي أدى دور موظف شركة تحطمت طائرته في فِلْم «المنبوذ»(١١). وهناك يعاني تجربة الوحدة والارتداد نحو البدائية على جزيرة معزولة، غير أنه لا يمكن إلا أن نستبقي مشهده في ذاكرتنا، وهو يحاور الكرة التي أطلق عليها اسم «ويلسون» في محاولة نبذ الوحدة، بالتوازي مع تشييد نموذج تواصلي للإحالة إلى أهمية هذا في تكوين الإنسان، أو كما في مشهد الجري في فِلْم «فورست غامب»(١٢)، بما يحتمله من جدلية تتعلق بتموضع هذه الشخصية في عالم غير مثالي.

ولعل القيمة المشهدية ذات البعد الثابت بوصفها حالة اقتطاع من الفِلم؛ كي تمثل اختزالية يمكن أن تحتمل بعدًا عاطفيًّا شعوريًّا كما في فِلم «تايتانيك»(١٣) للمخرج «جيمس كاميرون»، ولا سيما مشهد وقوف الثنائي «روز وجاك» على مقدمة السفينة، بالتوازي مع مشهد الفرقة الموسيقية أو العازفين الذين يستمرون في العزف على الرغم من غرق السفينة، كما أيضًا في مشهد غرق «جاك» في البحر المتجمد بينما «روز» تعتلي لوحًا من الخشب؛ كي يتحقق الانفصال بوصفه مقابلًا لمشهد الوقوف في مقدمة السفينة.

هكذا نرى أن هذا الفِلْم كان مكرسًا للامتداد في بناء الصيغة العاطفية، وهي صيغة تحتمل قدرًا كبيرًا من الرسائل، لكنها تبقى أسيرة هذا الطابع الرومانسي الذي أراد من خلاله المخرج أن يبدو معنيًّا برسم هشاشة الإنسان، وعلاقته مع الآخر عبر المزج بين المنظور الذاتي للمتلقي المؤهل، ووجهة النظر الداخلية لشخص في تكوين الفِلم؛ بمعنى الشخصية من الداخل. ففي هذا الفِلم تكوينان بصريان ثابتان: مشهد السفينة وهي تغرق، ومشهد الثنائي «روز وجاك». ولعل هذا يقترب من ثنائية المريض الإنجليزي والممرضة في فِلْم «المريض الإنجليزي»(١٤)، ولا سيما في تلك الغرفة المعتمة حيث لا نتذكر سوى مشهد وجه الجندي الإنجليزي المشوّه الذي يؤدي دوره «رالف فاينس» مقابل وجه الممرضة الجميلة التي تؤدي دورها «جولييت بينوش».

التمكين التاريخي

وقد تتملك بعض أفعال الثبيت البصري دلالة تاريخية ذات محمول عابر للزمن، ومن ذلك مشهد إعدام والد الطفل في فِلْم «الحياة جميلة»(١٥)، للمخرج الإيطالي بيني، على يد الجنود الألمان النازيين، ومن ثم يعقب ذلك مشهد الطفل، وهو يعتلي دبابة أميركية… ففي هذه المشهدية جزء غير يسير من تمكين الأيديولوجية التي تتبنى نبذ النازية، وتفوق القيمة الرأسمالية ممثلة في الولايات المتحدة الأميركية بوصفها رمزًا لهذا النموذج، كما في فِلم «قلب شجاع»(١٦) حين يرفض «وليم والاس» الرضوخ للهيمنة الإنجليزية.

وختامًا، يمكن القول: إن فاعلية التقاط أو اجتزاء المشاهد التي تثبت في وعي المتلقي ترتبط بقيمة الفِلم، ومدى ما ينطوي عليه من حيل إخراجية تتعلق بابتكار السيناريو والحوار، غير الإطار الذي يتصل بما يمكن أن ننعته بمحاولة تكثيف المقصدية عبر توليد مشهد عميق ينهض على توتر اللحظة التي وصفها «جيل دولوز» بحالة الثبات، وبذلك تتحول الصورة إلى متلفظ بصري عميق الدلالة.


هوامش:

(١) انظر ريجيس دوبري، «حياة الصورة وموتها»، ترجمة فريد الزاهي، إفريقيا الشرق، ص 86.

(٢) انظر جيل دولوز، «الصورة- الحركة أو فلسفة الصورة»، ترجمة حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1997م، ص 11.

(٣) نقلًا عن برغسون، انظر جيل دولوز، «فلسفة الصور»، ص 6.

(٤) رولان بارت، «الغرفة المضيئة تأملات في الفوتوغرافيا»، ترجمة هالة النمر وأنور مغيث، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ص 9.

(٥) Darabont, F. (1994). The Shawshank Redemption. Columbia Pictures.

(٦) دولوز، ص 15.

(٧) دولوز، ص 95.

(٨) دولوز، ص 104.

(٩) Phillips, T., & Silver, S. (Directors). (2019). Joker. Warner Bros. Pictures.

(١٠) ريجيس دوبري، ص 91.

(١١) Zemeckis, R. (Director). (2000). Cast Away. 20th Century Fox.

(١٢) Zemeckis, R. (Director). (1994). Forrest Gump. Paramount Pictures.

(١٣) Cameron, J. (Director). (1997). Titanic Paramount Pictures.

(١٤) Minghella, A. (Director). (1996). The English Patient. Miramax Films.

(١٥) Benigni, R. (Director). (1997). Life Is Beautiful. Melampo Cinematografica.

(١٦) Gibson, M. (Director). (1995). Braveheart. Paramount Pictures.