نصير السمارة وعالمه الفني

نصير السمارة وعالمه الفني

يعد الفنان التشكيلي السعودي الراحل نصير السمارة السرحاني، الذي قضى بين الريشة واللون أكثر من خمسة عقود، إحدى العلامات المهمة في الحركة التشكيلية المعاصرة في سكاكا/ الجوف، حيث عالمه الذي يتسم بالإبداع والحب والصدق والحميمية في التواصل مع الآخرين. رحلة حياته الفنية تكشف عمق موهبته وأصالتها. شارك في عدد كبير من المعارض والملتقيات الفنية، وكذلك حاز العديد من الجوائز وشهادات التقدير.

عمل السمارة، منذ أن بدأ في تعليم مادة التربية الفنية، على تمهيد طريق الفن، وإزالة ما يعترض انطلاقه في منطقته… من أجل أن يكون الفن التشكيلي حاضرًا وبقوة. وكان نتيجة ذلك تأسيسه، عام 2007م، لمجموعة فناني الجوف؛ للمساهمة في الارتقاء بالفن التشكيلي، والعمل على تنمية وصقل المواهب الفنية، وتأهيل المبدعين، ورفع مستوى إنتاجهم الفني، إلى جانب ذلك إقامة المعارض والورش الفنية والندوات النقدية للارتقاء بالذائقة البصرية.

نشاط دائم ورؤية خاصة

دعم السمارة وشجع فناني وطنه، وامتد أثره من منطقة الجوف إلى سائر السعودية. ولا ننسى نشاطه الدائم المملوء بالمشاعر الفياضة في تعاونه مع الفنانين التشكيليين.. وهذا جعل منه فنانًا جديرًا بالاحترام تفتخر به الحركة التشكيلية؛ لكونه صاحب رؤية وبصمة خاصة مملوءة بالتنوع والثراء والتفرد، مؤكدًا في هذا الخصوص أن «الرسامين شهود عيان في زمنهم، لهم دور جمالي وثقافي ووطني كبير ومهم في تسليط الضوء على حضارة ومجتمع بلادهم كما أن لغتهم عالمية يقرؤها ويتذوقها جميع الأمم والشعوب». وهذا ما دفعه إلى تأسيس وإدارة موقع «إخبارية الفنون التشكيلية» الإلكتروني، الذي ساهم في نشر الثقافة الوطنية والإنسانية التي ترى في الإبداعات البشرية على تنوعها، وسائل لاستلهام الحقيقة، مضمونًا وشكلًا. فكانت تعنى بالأخبار الفنية والمعارض والتجارب التشكيلية وتهتم بالآثار الفنية التراثية، وتأثيراتها في الفنون المعاصرة، وكذلك بالمدارس الفنية وبالتيارات الجديدة في الفنون مثل الحداثة وما بعدها.. وبالنقد التشكيلي والدراسات التشكيلية، فكان لهذه «الإخبارية» دورها المميز في نشر الثقافة الفنية.

بدايات التجربة

ولد نصير السمارة عام 1967م في سكاكا/ الجوف، ودرس فيها الابتدائية والمتوسطة والثانوية. وفي هذه المراحل تجلت لديه موهبة الفن فبدأ بتشجيع من الأساتذة الذين درسوا له التربية الفنية بالرسم بالقلم الرصاص والألوان المائية، وبعد ذلك اتجه إلى الألوان الزيتية حيث شارك في عام 1976م في المعرض السنوي لمناطق المملكة الذي أقامته الرئاسة العامة لرعاية الشباب في مدينة الرياض، وبعد الثانوية العامة أراد التزود بالمعارف الفنية فدرس التربية الفنية التي درّسها 32 عامًا، عمل خلالها على نشر الثقافة الفنية والوعي الفني بين أبنائه الطلبة.

نسوق هذا الكلام ونحن نتحدث عن تجربة الفنان التشكيلي، الذي حمل مسؤولية خلق وإدارة علاقات جمالية وتشكيلية بـ«اللغة البصرية» بين الإنسان وما يحيط به من عناصر… وقد وجد الفنان السمارة في الفن على اختلاف تقنياته (الرسم والتصوير، والنحت، والخط العربي، والنسيج، والنقش، وسبك المعادن) متنفسًا للتعبير عن عشقه لوطنه، فسجل بريشته وضربات سكينه بألوان الأكريليك تفاصيل البيئة العربية السعودية، مثل: الصحراء والطبيعة الغناء، والتراث المعماري والموروث الفني، فجاءت أعماله الفنية ممزوجة بأحاسيس خاصة، بل إن دفق الأحاسيس ورقة الانفعالات ونبل العواطف، برزت في مختلف الموضوعات التي صورها الفنان.

تلك الموضوعات المستوحاة من الواقع وبروح العصر، تمثل جانبًا جوهريًّا من شخصيته؛ لذلك لم تأت موضوعاته من فراغ.. بل نتيجة بحثه ودراسته لتراث بلاده وأمته، لتصير لوحاته تحمل الأصالة والتجديد.. وذلك بالاستفادة من الماضي.. والماضي عنده له جذور؛ لذلك صوره في «الحصون» و«المآذن والمساجد» و«الأبواب القديمة» و«الفخاريات والسدو والإكسسوارات».

ولأنه يعلم علم اليقين أنْ لا ماضي بلا مستقبل، فهو يسقط الحاضر على ظلال الماضي ويمزجه به؛ لذلك عمل الفنان على استمرار الماضي والمستقبل، لكنه يؤكد المستقبل كجزء يبدأ من الماضي ولا ينفصل عن الحاضر، وهو أيضا يؤكد هويته عبر أعماله الفنية المنطلقة من ألوان بيئته وإشراقة شمسها وضوئها الدائم من ناحية أخرى.

أسلوب متعدد الاتجاهات

يتبع الفنان أسلوبًا فنيًّا تتعدد فيه الاتجاهات الفنية فيلجأ إلى الأسلوب الواقعي لتسجيل بعض الشخصيات المعروفة على مسطحات لوحاته، مثل: الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود والملك سلمان وسمو ولي عهده، كما رسم العديد من البورتريهات لبعض الأمراء.. كما لجأ إلى تسجيل بعض المشاهد التي مزج فيها بين الطبيعة والتأثيرية، خصوصًا في أعماله التي نفذ فيها موضوعات الطبيعة الصامتة، وجمع ما بين الواقعية والتجريدية، والتعبيرية أيضًا، إضافة إلى استخدامه، في أعماله التجريدية، مجموعات لونية تذكرنا بالمدرسة الوحشية، خصوصًا في استخدامه للألوان المتباينة مثل: الأصفر والأحمر والبنفسجي والأخضر والأزرق، وكان يحرص على وضع اللمسات اللونية الطازجة من دون أن يمزجها، وربما يؤكد -بذلك- الحركةَ أو إضفاء جو على عناصره من خلال الخطوط العمودية وشبه المقوسة كعوامل مؤثرة في تكوين العمل الفني؛ فالخطوط المتتابعة تخلق إيقاعًا متتابعًا ويؤكد الحركة من خلال الخطوط، التي تعكس التنوع والتكرار.

كما تناول مواضيع مأخوذة من البيئة المحلية، وهذه المواضيع تعلق بها وعشقها، حيث نشأت رابطة روحية بينه وبين مكوناتها مثل مسقط رأسه، سكاكا، وما عليها من آثار، مثل: الحصون والقلاع والمآذن والمساجد. كما رسم تراث وعمارة الجوف وسكاكا والرياض وعسير وجدة وسوق دومة الجندل؛ لذلك نلحظ أن الفنان جسد عمارة وتراث وطبيعة بلاده بشمسها الحارة، التي تعد مصدر الألوان والنور الذي ينعكس على الصحراء، وكذلك الطبيعة فيوحي بسيمفونية ألوان لا متناهية، ونلحظ في هذه الأعمال اهتمامه بتأثير الضوء كعامل متغير على الأشكال، فنجد الضوء الساقط على عناصر لوحاته يحيلها إلى مجموعات لونية متناغمة، فالأرض والسماء والقلاع والحصون (بأبوابها القديمة) تضم مجموعتين من الألوان (الباردة) و(الحارة)، فنجد الأصفر والبني والأزرق والبنفسجي والبرتقالي… ويظهر ذلك على مسطحات لوحاته التي تزخر بالألوان المتضادة والمتناغمة.

والحوار الذي أجراه الفنان مع العناصر الآنفة الذكر إنما هو حوار مع التاريخ القديم، العربي الإسلامي، والشعبي المعاصر.. فقد حاول أن يبحث في الزمن والمكان عن قيمة مفقودة عندما صوَّر أطلال القلاع والحصون والرجاجيل ومدائن صالح وقلعة مارد ومأذنة مسجد عمر بن الخطاب، وحاول أن يبين العلاقة بين الإنسان وأثره، وأن يستوحي بعدًا رمزيًّا من الطبيعة فطوّر هذه المعطيات بإحساس أن القلاع والحصون هي صور للقصص تحكي عن بطولة الأجداد في الدفاع عن أرضهم وكرامتهم في وجه الغزاة، فأصبحت القلعة تاجًا وتحولت إلى أسطورة؛ هكذا حول الفنان نصير السمارة الواقع المجرد إلى موقف.

كما أكد الفنان السمارة أهميةَ اللوحة ودورها في حماية الوطن والمحافظة على التراث الإنساني. ومثال ذلك لوحة «اليوم الوطني» التي تتكون من صقر وعناصر تراثية وعسكرية عدة، حيث تناول الفنان عنصر الصقر في بعده الواقعي والرمزي على حد سواء عندما ربطه مع الزخارف التراثية والجندي كرمز من خلال سلاح الجو. والصقر في هذه اللوحة التي تجمع تلك العناصر يرمز للقوة. ولأن الصقر يرتبط بالصحراء والقمم، فقد منحه الفنان قيمة مقدسة؛ فهو العين الساهرة التي تحرس الوطن. أما الحصان الذي يرتبط بالصحراء وبالتراث.. ويُعَدّ مفخرة من مفاخر العرب في الحرب والسلم، فيرمز في لوحاته إلى النبل والأصالة والقوة. وحاول أن يصوره في بعده الواقعي المباشر والرمزي على حد سواء بضربات سريعة، وخطوط بليغة تتناغم مع الموضوع المعبَّر عنه في اللوحة.

ولم تغب عن الفنان القضايا العربية؛ إذ امتد اهتمامه إلى إنجاز عدد من اللوحات التي تناول على مسطحاتها مدينة القدس، والمتمثلة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، كما تناول قضايا الإرهاب التي طالت تدمير المدن وتشريد الأبرياء. وركز الفنان السمارة على شجرة الزيتون في أكثر من لوحة، مثل زيتون الجوف، وموسم جني الزيتون، ونهاية موسم الزيتون، وهو أول فنان سعودي يوظف هذه الشجرة على مسطحات لوحاته.. كما كانت شجرة النخيل حاضرة في تصميماته ومجسماته كرمز للخصب والإنتاج الوفير في حلوة/ الجوف وحسينية الجوف، كما كانت شجرة الزيتون بغصنها وثمرها حاضرة كمجسم في الجوف. هذه المجسمات خرجت من وجدان الفنان وحساسيته الخاصة منصهرة مع وجهة نظره وفلسفته ورؤيته الفنية. وقد أظهر اهتمامه بالفراغ المحيط بالكتلة كما أكد النسبَ والتوازنَ والترابطَ.

أخيرًا، كان رحيل الفنان نصير السمارة في 12 مارس 2018م، خسارة للحركة التشكيلية السعودية والعربية، ولا سيما أنه حقق أثناء مسيرته الفنية صفة التميز للوحاته، وأعطاها النكهة المحلية مع بصمته الذاتية التي حولت العمل الفني إلى ثقافة روحية مرتبطة بالأرض والإنسان.