النظرة وتاريخها المفترض

النظرة وتاريخها المفترض

لقد كانت النظرة مركزية في العين، فهي التي قادت خطاها في الإبصار، كما كانت الخبرة في اليد هي المدخل الضروري للتحول من مخلفات الكتابة على الجدران والبردي، إلى تصوير حالات الوجود الإنساني بِنَفس قصدي. يتعلق الأمر ببلورة «نصوص» بصرية استنادًا إلى غايات مسبقة، إما سحرية/ دينية، وإما فنية/ جمالية، وإما اقتصادية/ تسويقية. إنها تُمثل، في هذه الحالات مجتمعة، تاريخًا مفترضًا لتحولات النظرة. فقد تَعلم الإنسان من خلالها كيف يَفْصل، داخل العوالم الـمُصورة، بين ما ينتمي إلى فعل بصري يكتفي بالتقاط الأشياء، كما يوردها الحس على العين، وبين ما ينتمي إلى تجربة جديدة تتصرف في مُنتجات البصر، فهذه التجربة ليست جزءًا طبيعيًّا في الذات، بل هي حاصل الانتقال من الرؤية الحافية إلى دلالاتها في الوجدان.

وهذا التاريخ هو ما حاول ريجيس دوبري في عمله الكبير «حياة الصورة وموتها»(١) تفصيل القول فيه. فالنظرة في تصوره تتوزع على عصور ثلاثة تستوعب حالات الوعي الوجودي عند الإنسان، وهي حالات تجسدت في سيرورة التحولات التي لحقت النشاط البصري عنده بدءًا من الغرافيات الأولى ببعديها البصري الأسطوري (اليد) والتعبير الشفهي (الوجه)، مرورًا بمرحلة الفن الذي كان إيذانًا بميلاد الجماليات، وانتهاء بما يسميه «العصر البصري» الذي يُغطي المرحلة الراهنة، ويُعد التعبير الأمثل عن لحظة إنسانية مفارقة تسود فيها الصورة الافتراضية وتندثر النظرة وتتلاشى قيمتها في الوقت ذاته.

يتعلق الأمر بعصر الخطاب logo sphere وعصر الغرافية graph sphere الكتابة وعصر الشاشة video sphere. إنها لحظات حاسمة في التاريخ البصري تجسدت بدءًا في طقوس العبادة (صورة الوثن)، وفي الممارسة الفنية بعد ذلك (الفنون التشكيلية)، وانتشرت أخيرًا فيما تُقدمه صور الراهن باعتبارها إحالة على نشاط اقتصادي بمردود صريح في التواصل وفي سوق منتجات الاستهلاك (صور الإشهار أساسًا وكل ملحقاته، كما يتجسد ذلك حاليًّا في شبكات التواصل الاجتماعي).

وقد كان لكل عالم بصري من هذه العوالم خاصياته وأشكال تجليه. فقد كان الوثن موضوعًا للعبادة؛ لذلك كان مصدرًا لروحانية بلا ضفاف، وكان الفن متعة واحتفاء بالجمال في المقام الأول، وكانت الصورة الإشهارية مُثيرًا برانيًّا للعين. وكان ذلك انعكاسًا لروابط وجدانية بين عوالم لا تُرى بالعين المجردة. «فما يأتي من السماء يُشير إلى التقوى، وما ينبع من الداخل دال على العبقرية، أما ما يأتي من الخارج فيُعين عوالم الإشهار»(٢).

لا تُشير «هذه الأنواع البصرية الثلاثة إلى طبيعة الـمُمَثل فيها، بل تؤكد نمط استيطانه للنظرة»(٣). فالإنسان في هذه الحالات مجتمعة كان دائمًا يُبْصر، وذاك ما مكنه من تبين طريقه والتعرف إلى مظاهر الوجود من خلال حاسة البصر ذاتها، ولكنه تعلم، في الوقت ذاته، كيف ينظر، أي كيف يُودِع من خلال نظرته جزءًا من ذاته فيما تُبصره عيناه. لقد تعلم كيف يَفْصل بالنظرة داخل العوالم الـمُصورة بين ما ينتمي إلى فعل بصري يكتفي بالتقاط الأشياء، وبين ما ينتمي إلى تجربة بصرية تُصاغ في الرمز، فهذه ليست جزءًا طبيعيًّا من ذاك، بل هي حاصل الانتقال من الرؤية الحافية إلى دلالاتها في الوجدان. لقد كان الإبصار عابرًا في العين أما النظرة فخالدة فيها.

طبيعة الصورة

كان مصدر النظرة الأولى هو الرغبة في استكناه المرئي ذاته والبحث فيه عن شيء ما لا تُدركه الأبصار. إنها تُشير إلى مرحلة كان الإنسان فيها يتحسس طريقه نحو ما يسمو به عن وجود محكوم بفناء لا راد لقضائه، فكانت الأصنام والأوثان بكل أشكالها هي ملاذه المباشر الذي قد لا «يَقيه» من شر طبيعي واجتماعي يهدد وجودًا منذورًا للعدم والتلاشي، ولكنها قد تمنحه، مع ذلك، طمأنينة من يخاف من خطر داهم لا يعرفه. وهو ما يكشف عنه أيضًا التعلق بالأبطال وكل الكائنات الخارقة التي انبثقت من «داخل» نفسي لم يتوقف أبدًا عن استبطان صور لم يعرف مصدرَها دائمًا بشكل واعٍ، وهي أيضًا ما يُغذي إلى عصرنا هذا كل أشكال التماهي. وتجسدت في مرحلة ثانية في الأيقونات ذات الطابع الديني الصريح(٤).

لقد كان المرئي في هذه الأيقونات، في الحالتين معًا، «ممرًّا ضروريًّا نحو اللامرئي أو هو خلفية له»(٥). لم تكن الغاية منه هي تجسيد ما يُؤمن به الناس، أو يعتقدون حقًّا في وجوده، بل كان استشرافًا لوجود كائن أعلى يُوجد في مكان آخر من خلال الوثن الذي يُذَكر به؛ لذلك لم يكن «الأيقون بورتريه يُحيل على تشابه، بل كان صورة إلهية في المقام الأول، فقيمته ليست في شكله المرئي، بل في الطابع التعبدي للرؤية في العين، إنها قيمة مستمدة من الأثر الذي يُمكن أنْ يُحدثه»(٦).

وبذلك كان «الوثن صورة عن زمن ثابت، إنه يُشير إلى الخلود (…)، إنه مرتبط ببيئات محلية خلقت لنفسها آلهة نابعة من محيط ثقافي وطبيعي. إنه وثيق الصلة بالإثنيات»(٧). لقد شكل في هذه البيئات مرحلة فارقة في تاريخ الوعي الإنساني، فقد كان «يُشير إلى انتقال الوعي الإنساني من السحري إلى الديني»(٨). فما هو موضوع للعبادة ليس إلهًا إلا عند من يؤمن به.

وتلك هي في الواقع طبيعة الصورة في كل تجلياتها، إنها دالة دائمًا على غياب يَطول الكائنات والأشياء التي تمثلها. قد يكون ذلك إحالة ضمنية على الموت ذاته، كما استبطنته انفعالات تسللت إلى كل منتجات الإنسان الرمزية، وقد يكون الأمر دالًّا على رغبة في التحايل على الزمن للحد من جبروته، فالصورة تُؤبد ما تلتهمه الزمنية دون رحمة. فنحن لا نستطيع أبدًا الانتصارَ على الفَنَاء، إننا كائنات محكومة بالزوال والتلاشي، ولكننا نستطيع، مع ذلك، العيش في حضن تمثيلات تتطور على هامش الزمنية وضدًّا على قوانينها. وألبومات العائلة دالة على ذلك، إنها ذاكرة بصرية تَشهد على تحولاتنا في الزمن، كما هي صور السيلفي الجديدة دالة اليوم على اللهاث وراء خلود كاريكاتيري.

التمثيل البصري للمعبودات

شواهد كثيرة في التاريخ تُؤكد ذلك؛ منها التماثيل الصغيرة والكبيرة التي وصلتنا من العصور القديمة، ومنها الأيقونات المسيحية وأصنام الجزيرة العربية، وكل المعبودات المشخصة في التراث الآسيوي والإغريقي. بل إن الأمر يتعلق في هذه المرحلة أيضًا بما هو أبعد من الاقتراب من المعبود لكي يتم التعبير، من خلال التمثيل البصري ذاته، عن علاقة الفرد بالعالم. فلم تكن النظرة في هذا الوثن معنية بتأمل محيطها، بل كانت تهفو إلى خلق كون صغير ليس سوى محاولة للإمساك بتناغم الكون الأكبر من خلال حضور استيهامي لما يُحاكيه في الشكل. وقد يكون ذاك هو ما يُفسر أن هذه التمثيلات البصرية كانت دائمًا قريبة من الموضوعات الفنية، ولكنها كانت موجهة نحو موضوع يجب ألّا تستقر عليه العين، لقد كانت ترغب في إجلاء جوهرِ ما يُمكن أنْ تقود إليه النظرة فيها.

وضمن ذلك تندرج الأشكال الرمزية للبدايات الأولى للألوهة، كما مارسها الإنسان بالفطرة خارج كل الوسائط. ما يتعلق في المقام الأول بما يطلق عليه بعضٌ «الأم الكبرى»، وهي عشتار، وكل الإلهات اللاتي خرجن من رحمها واشتققن منها. لقد أدرك الإنسان بالحدس والخبرة الفطرية أن المرأة هي إلهه وهي خالقه، هناك تناظر بينها وبين الأرض، فكلتاهما مصدر للعطاء والحياة والتجدد. وستتناسل هذه الأم وتتكاثر في كثير من شبيهاتها وما انفصل عنها بصفات ستتحول مع الأيام إلى أسماء تُشير إلى إلاهات بوظائف محددة في الأرض والسماء، فكل واحدة منهن كانت تختص بنشاط معين موجه إلى ضبط علاقات الناس مع أنفسهم ومع السماء.

لقد نحتها من الطين ورسمها في شكل دمى صغيرة كانت هي العين التي تسهر على طمأْنينته في الحقول والجبال والمغارات. وعندما استقر به المقام وبنى المستوطنات الأولى، شيد لها المعابد ومنحها أشكالًا تنوعت بتنوع الوظائف التي كانت تقوم بها. وقد كانت في الحالتين معًا هي الشكل الربوبي الذي حماه من طغيان البشر ومن غضب الطبيعة(٩).

وهكذا لم تكن مناة واللات والعزى وأرتميس وديميتر وإنانا وغيرها من الإلهات سوى صفات للأم الكبرى عشتار. لقد كانت جميعها تجسد الأصل والفكرة المركزية التي نقلت شرط المرأة في الأرض ووضعتها شرطًا للألوهية. وهذا ما يفسر كيف أن هذه الصفات ستَتحول إلى أسماء دالة على إلهات تتحرك وفق ما يقتضيه شرطها في البيئات المختلفة التي احتضنتها. وأصل هذا الوثن هو طبيعة المرأة ذاتها، «فقد كانت بالنسبة لإنسان العصور القديمة موضع حب ورغبة وموضع خوف ورهبة في آنٍ معًا (…) لقد كانت المرأة سرًّا أصغر مرتبطًا بسر أكبر، سرّ كامن خلف التبدلات في الطبيعة والأكوان، فوراء ذلك أنثى كونية عظمى هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات وإلى رحمها يؤول كل شيء»(١٠).

وكان الإغريق يُولون هذه التمثيلات أهمية قصوى، فقد كانت في نظرهم تشكل صلة وصل بين الصورة الكلية التي تستوعب الملكوت الإلهي، وبين الشكل الذي يُمكن أنْ تحضر من خلاله في العين. كانوا يودون التعبير عن قوى غيبية لا تُرى من خلال أشكال مرئية. وذاك كان جزءًا من نمط تمثلاتهم للكون وأشيائه(١١). ووفق ذلك كان الكولوسوس(١٢) Colossos هو الرمز الدال على ذلك. فقد كان هذا الوثن يتميز عن غيره من التماثيل القديمة في الكثير من الجوانب منها ثباته، فهو إما تمثال في شكل عماد، وإما تمثال في شكل صخرة منتصبة. وقد كان هذا المبدأ من الأسس التي قامت عليها وظيفته(١٣).

من الديني إلى التاريخي والإنساني

أما النظرة الثانية، النظرة الفنية، فقد انبثقت من الداخل. لقد أطلقت عنان الذات المبدعة، وحررت موضوعات الفن في الوقت ذاته. لقد كانت هذه النظرة وليدة إبدالات جديدة منها ما تسرب إليها من التقنية الجديدة للكتابة ذاتها (المطبعة)، ومنها ما ترتب عن ظهور التيار الإنسي الذي أعاد للفرد عبقريته وحريته في الاحتفاء بالوجود خارج أية غاية. فلم تعد العين تبحث في الفن عن شيء آخر غير الاستمتاع بموضوعات تخلصت من نفعيتها وتحولت إلى غطاء
للروح وحدها.

«لقد كان ظهور الفن إعلانًا عن انتقال من الديني إلى التاريخي، أو إنْ شئتم، من الإلهي إلى الإنساني»(١٤). لم يكن العمل الفني سرمديًّا، كما كان الوثن قبله، بل كان يتحقق في التاريخ الإنساني، وكان بذلك جزءًا من لحظة فارقة في تاريخ الفن وتاريخ الإنسان على حد سواء. «لقد كان إيقاعه بطيئًا، ولكنه كان يُسرب الحركة إلى الأشكال»(١٥). بعبارة أخرى، إن الأشكال هي مصدر المتعة لا ما يُمكن أنْ تقوم بتمثيله، فهي أصل الجمال؛ لذلك «لم يكن قضية جمالية بل كان قضية دينية، أي قضية إيمان»(١٦). «فعندما يكف خلاص المؤمن عن أن يكون في الصور المقدسة، فإنه يحتمي بعوالم الفن»(١٧).

لقد تخلص الفن من الدين، وخرج من الكنائس والأديرة، ليلج القصور والإقامات الأميرية والمتاحف بعد ذلك. لم تعد النظرة موجهة إلى السماء، لقد عادت إلى الأرض تبحث فيها عما يُغذي العبقرية ويُوسع من آفاقها. ومن خلال ذلك تخلص الفنان من ملكوت الله، ليُصبح جزءًا من نظام سياسي، وجزءًا من نهضة عامة شملت كل شيء في الحياة، بما في ذلك شرط الإنسان على الأرض. «ففي نظام الفن تُصبح غيبيات العالم الطبيعي هي التمثيل ذاته»(١٨)، فهي مصدر الإلهام ومادة الجميل. «لقد تحررت الصورة الإنسانية من العبادة وأنتجت ثقافتها الخاصة، لقد انتقلت من القدسي إلى العلماني، وانتقلت من الجماعة إلى الفرد»(١٩).

وعلى هذا الأساس سيكون «الفن منتجًا من منتجات الحرية الإنسانية، إنه لا يُشبه عمل النحلة، فما تقوم به النحلة ليس عملًا فنيًّا، بل هو منتج من منتجات الطبيعة»(٢٠). فهذا الكائن الصغير خاضع لموجهات شبيهة بالبرمجة(٢١) فهي التي تُحدد له ما يجب أن تكون عليه حياته، وما يجب أنْ يأكله، وما يجب أنْ يقوم به وما لا يقوم به؛ أما الإنسان فحر، إنه يُولد لكي يكون مسؤولًا عن مواقفه؛ لذلك كان الإبداع عنده سمة من سمات الثقافة، إنه ينتج أعمالًا فنية ليأسر قوى تُوجد خارجه، أو يفعل ذلك من أجل توسيع ذاكرة العالم الذي يعيش داخله. وهو ما يعني «أن حقيقة العمل الفني مودعة في الفنان لا في الطبيعة أو الألوهية؛ ذلك أن العمل الفني ليس انعكاسًا لعالم غيبي ومتعالٍ، بل هو التعبير الأمثل عن شخصية الفنان»(٢٢).

وهذا معناه أن «الحرية التي يستند إليها الفن ليست متولدة عن الغريزة، بل هي قصد المخلوق في علاقته بالخالق»(٢٣)؛ لذلك، وعلى عكس الوثن الذي كان «نظرة لا موضوع لها»، فإن «الفن كان يضع الإنسان موضوعًا وراء كل نظرة»(٢٤). لم يكن الفن استجابة لغايات أخرى غير غاية المتعة الجمالية، لقد اكتشف الإنسان من خلال العمل الفني الجمال داخله. «لم يعد الفنان يكتشف ويعبر عن حقائق مصدرها الله. لقد أصبح هو مبدعها وتلك كانت عبقريته. وضمن هذه العبقرية أصبح التخيل «سيد الملكات» (بودلير)، إنه ينافس ملكوت الله من خلال أعمال فنية لم ير الناس مثيلًا لها»(٢٥).

صور العصر البصري

أما في العصر الثالث، العصر البصري، فإن النظرة تتميز بكونها «رؤية بلا نظرة»(٢٦) vision sans regard، إن الصورة فيه تكتفي ببيع السلع والأفكار والخدمات واللوك، وتُحيل من خلال ذلك كله على عوالم الحس الذي يُدبر شأنه ضمن دوائر الاستهلاك. إنها تكتفي باستثارة سلسلة من الأهواء التي تتحرك خارج أية غاية سوى غايات التسويق وحدها. إننا لا نستهلك مواد لكي نعيش، بل نفعل ذلك لكي نستمتع بما رأيناه في الصورة. إننا نتعرف إلى العالم في الصور قبل أنْ نعاين أشياءه وكائناته في الواقع. فما يُحيط بنا من الصور يدعونا إلى عبادة الصورة في ذاتها قبل أنْ ننتبه إلى ما يمكن أنْ تُحيل عليه. فالإحالة ليست جزءًا من الصورة، إنها ذريعة فقط.

لقد غادر الناس في هذا العصر محيطهم واستوطنوا صورًا هي الدليل الوحيد على وجودهم. وربما هذا ما يجعل صور «العصر البصري شبيهة بالوثن أكثر مما هي شبيهة بالصور التي تُصنف ضمن الفن»(٢٧). وهذه الحقيقة ليست منفصلة عن تصورنا للفضاء والزمان. إن الفضاء أفقي يحدده حجم الشاشة ببعديها، أما الزمن فلحظي. وتلك هي مفارقات العصر، إنه وثيق الصلة باللحظة لا بالاسترسال الطولي. لقد انتشرت الصورة فيه إلى درجة ابتلاعها لحقيقة الوجود ذاته، «لقد كان الأيقون المسيحي يُذكر الناس أن الله حاضر أبدًا، أما أيقونة العصر الحالي فتعلن لهم أن الحاضر وحده ربهم»(٢٨). لقد اختفى الماوراء الغيبي خلف ما رواء جديد من طبيعة افتراضية، ولم تعد الصورة انفتاحًا على آفاق في المخيلة والذاكرة والمخيال يُعاد انطلاقًا منها صياغة عوالم تُغني الواقع وتوسع من ذاكرته، كما كان شأنها في الفن، بل أصبحت حالة عابرة هي البداية والمنتهى في العين والذاكرة على حد سواء.

ولهذا السبب، يجنح هذا العصر إلى أن يكون تمثيلًا بصريًّا يَتملص من كل ضبط مَقامي يمكن أنْ يقود إلى الاستقرار على دلالة بعينها. فعندما يُصبح كل شيء صورة سيجنح الناس إلى التشكيك في الواقع نفسه. وتلك سمة من سمات العصر البصري. «إنه يتميز بحركية لا تتوقف، إنه إيقاع خالص تستبد به السرعة، إنه عالمي، ولغته أمريكية»(٢٩). بعبارة أخرى، لقد وحد بين الناس في كل القارات، وتحولت الصورة إلى بديل لما يمكن أنْ يروه ويتأملوه؛ لذلك كان «إعلانًا عن الانتقال من الفرد المعزول إلى الوسط الكوني»(٣٠).

لا تشير «هذه الأنواع البصرية الثلاثة إلى طبيعة الـمُمَثل فيها، بل تؤكد نمط استيطانه للنظرة» (دوبري). بعبارة أخرى، لا يعود الفاصل بين هذه المدارات إلى شكل الصورة أو مضمونها، بل يعود إلى طبيعة النظرة ذاتها، أي نمط حضورها في العين؛ ذلك أن الموضوع فيها واحد، ففي جميع هذه العصور سيظل الله والقديس والبطل والنجم الرياضي والسياسي حاضرين في كل الوقائع الإبلاغية، ولكن بأشكال تختلف في الغايات والتجلي. سيَلْتَهِم العصر «البصري» عوالم الفن والأشكال التعبدية في الوقت ذاته. إن الصورة فيه تبيع المنتجات والخدمات والآراء، إنها موجودة لكي تُحيل على شيء آخر غير المتعة فيها.


هوامش:

(١)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, éd Gallimard , 1992 وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربية فريد الزاهي: «حياة الصورة وموتها» الصادر عن إفريقيا الشرق.

(٢)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.291

(٣)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.297

(٤)  سعيد بنكراد: بين اللفظ والصورة، تعددية الحقائق وفرجة الممكن، المركز الثقافي العربي، بيروت 2017م، ص120.

(٥)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.307

(٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.305

(٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.290-291

(٩)  فراس السواح: «لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة»، منشورات علاء الدين، 1985م، ص 25.

(١٠)  نفسه ص 25.

(١١)  Jean –Pierre Vernat : Mythes et pensée chez les grecs, études de psychologie historique, éd La découverte, poche,1996, p.325

(١٢)  colosssos ويعني التمثال الضخم.

(١٣)  نفسه ص 326.

(١٤)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.290-291FN14

(١٥)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(١٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.294

(١٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 317

(١٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 297

(١٩)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 317

(٢٠)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 311

(٢١)  logiciel.

(٢٢)  Luc Ferry: Le sens du beau, aux origines de la culture contemporaine, éd Le livre du poche, 2011,p.20

(٢٣)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 312

(٢٤)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 320

(٢٥)  Luc Ferry: Homo Aestheticus : éd Livre de poche, 1990 , p.47

(٢٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.320

(٢٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.411

(٢٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.415

(٢٩)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(٣٠)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.291