أدوات الكاتب وطقوس الكتابة… قراءات في تجارب 13 مرشحًا لنيل جائزة البوكر العالمية 2023

أدوات الكاتب وطقوس الكتابة… قراءات في تجارب 13 مرشحًا لنيل جائزة البوكر العالمية 2023

في عالمٍ ينوء بالانقسامات الثقافية والصراعات الأيديولوجية، يظهر الأدب كقوة متفجرة تعيد تشكيل التصورات الإنسانية، وتعيد ترسيم الحدود الوطنية وتُعَزِّز الشعور بمشتركات الإنسان. من هذا الركام، تظهر «جائزة البوكر العالمية» كتحدٍّ جديد لمركزية اللغة الإنجليزية وهيمنة الأدب الأنغلو-ساكسوني وتقدم نفسها كجائزة مرموقة تتجاوز الأيديولوجيات، وتحتفي بفن الترجمة القادر على إبراز الثراء المتواري خلف أصوات متنوعة من مختلف بقاع العالم.

باقة جديدة من الروايات تجتذبها «جائزة البوكر العالمية» لهذا العام (2023م) تمثل 13 كاتبًا، يرافقهم 13 مترجمًا، اشتركوا معًا في صناعة أعمال فنية تجسد تلاحم 11 لغة. تحكي هذه الروايات صمود الإنسان في ظل تحولات التاريخ، بدايةً من سقوط جدار برلين، ومرورًا بانهيار الثورة الثقافية الصينية ووصولًا إلى المحركات التاريخية الثاوية وراء الحرب الأوكرانية، كما تناقش حقوق المرأة وحقوق الأطفال وقضايا التحول الجنسي وشيئًا من تعقيدات عالمٍ متغير.

ست روايات فقط من هذه الباقة تحجز مكانها ضمن القائمة القصيرة، لتمثل ست دول مختلفة، ثلاث من أوربا (إسبانيا وفرنسا وبلغاريا) وثلاث من قارات أخرى (ساحل العاج والمكسيك وكوريا الجنوبية). روايتان من القائمة القصيرة تمثّل الروايات الأولى لكتّابها: «الحوت» لتشيون ميونغ- كوان (كوريا الجنوبية) و«الصمود بثقل» لغوز (ساحل العاج).

في هذا المقال، تسلّط «الفيصل» الضوء على اللقاءات التي عقدتها لجنة الجائزة مع المرشحين، مع التركيز على إبراز أدوات الكتاب المرشحين وأساليبهم، واستطلاع مواقفهم ونظراتهم، وسبر اهتماماتهم وثيماتهم التي تشكل روح القصّ والخيال في هياكل أعمالهم الأدبية.

غوز: الصمود بثقل (ساحل العاج)

«أفخر بروايتي الراديكالية من حيث الأسلوب». بهذا يعرب الكاتب الآيفوري «غوز» (1971-) عن فرحه بدخول روايته «الصمود بثقل» القائمة القصيرة، لكونها بداية مشواره الروائي، ولكونه قد كتبها في أثناء عمله حارس أمن لمتجر في باريس. لقد كتب غوز روايته -بحسب وصفه- لتأكيد خطورة الرأسمالية المتطرفة التي تسخر بشكل متزايد من الإنسانية والطبيعة لصالح الطبقات الحاكمة، ومن خلال قوة المال. «كنتُ كحارس أمن في قلب السخافة، في مجتمع مستهلك. وبوصفي إفريقيًّا، أصبحتُ ككاتب لهذه الرواية «عالم أعراق بشرية» (ethnologist) أصف سلوكيات أولئك الذين يصفوننا بعلماء حشرات (entomologist)».

عن أدواته وأماكنه المفضلة للكتابة، يؤكد غوز أنه لا يفضل مكانًا معينًا للكتابة سوى الجلوس مع جهازه الحاسوبي، ومراقبة المتسوقين من خلال عمله كسيكيوريتي. «لقد بدأت بأخذ ملاحظات في أثناء عملي حارس أمن. إنها وظيفة ليس فيها شيء سوى المشاهدة، ولذلك كانت مثالية. وبعد بضعة أسابيع، وعندما جمعت ما يكفي من المال، اشتريت تذكرة طائرة فعدت إلى أبيدجان (أكبر مدن ساحل العاج) حيث كانت تنتهي حرب ما بعد الانتخابات. إنها بيئة نشطة تمكنك من كتابة «التاريخ» وخلق «القصص التاريخية الخيالية» من دون اللجوء إلى الكلاشنكوف». يؤكد غوز أنه يهتم في أثناء الكتابة الروائية بالأسلوب؛ فالأسلوب كل شيء، «فرواية بلا أسلوب هي مجرد رسالة دكتوراه، قدرها أن تبقى ضائعة في مكتبات الجامعة، لا حية على أرفف متاجر الكتب». كما يؤكد أن على المؤلف ألّا يضايق المترجم في أثناء ترجمة أعماله، «فدوري ككاتب أن أصنع فرصة، ودور المترجم أن يضع الهدف ويثير الجماهير».

أماندا سفينسون: نظام رائع جدًّا حدّ العمى (السويد)

«الكتابة بلغة صغيرة كالسويدية (نحو 10 ملايين متحدث) وترجمتها إلى لغة كبيرة مثل الإنجليزية هو بمنزلة حلم؛ بسبب عدد القراء الجدد الذي تتيحه لك الترجمة». بهذا تستقبل الروائية السويدية «أماندا سفينسون» (1987-) خبر انضمام روايتها «نظام رائع جدًّا حدّ العمى» إلى القائمة الطويلة، التي تناقش قصة ثلاثة إخوة سويديين عاشوا في أواخر الثمانينيات (1989م)، وتُبرِز الأسئلةُ الوجودية قيمةَ الأسرة والهوية وتقاطع الحيوات الشخصية. تُعَرِّف سفينسون الكِتابةَ بأنها «عملية عضوية وطريق متعرج». «لقد بدأتُ فكرة الرواية بتحدي نفسي لفعل شيء لم أفعله من قبل. فقررتُ أن أكتب روايةً ضخمةً معقدة التفاصيل. وفجأة شعرت بأنني وقعتُ على شيءٍ عظيم! لقد أخذ مني هذا العمل نحو ست سنوات بين توقف واستمرار».

عن أماكنها المفضلة وأسلوبها الكتابي، تؤكد سفينسون أنها تكتب في كل مكان، في المطبخ وعلى الأريكة وأمام الطاولة وأمام حقول القرنبيط، وحين تجد بعضًا من الخصوصية. «إنني كثيرًا ما أكتب بطريقة عشوائية في بداية الرواية، وذلك بناءً على «مبدأ المتعة»، فإن لم يكن الفصل ممتعًا مثلًا، انتقلتُ إلى فصلٍ ممتع». الترجمة مهمة مزعجة، هكذا تُلمح سفينسون مستعرضةً معاناتها لتصحيح حقائق روايتها المرشحة، وذلك بسبب وجود بعض الأخطاء الواقعية التي اقترفتها في أثناء تسمية شوارع لندن. «إنني كاتبة لا أهتم بالدقة الواقعية، فكثيرًا ما أغيّر أسماء الشوارع وأحرك الأشجار في أي شارع أريد. لقد كان عليَّ إصلاح ذلك في النسخة المترجمة للقراء الإنجليز. إن روايتي خيالية، فإذا لم تستطع الرواية أن تنقل الأشجار من مكان إلى الآخر، فأنا لا أفهم ما دور الرواية؟».

ماريز كوندي: الإنجيل يرويه العالم الجديد (فرنسا)

برواية «الإنجيل يرويه العالم الجديد» وبإلهام عنوان الروائي خوسيه ساراماغو (1922- 2010م) «الإنجيل يرويه المسيح»، 1991م، تعود الروائية الفرنسية -المرشحة مرارًا لجائزة نوبل- ماريز كوندي (1937-) بمرافقة زوجها المترجم ريتشارد فيلكوكس، إلى القائمة القصيرة لجوائز البوكر العالمية 2023م بعد أن دخلت القائمة ذاتها عام 2015م. تعود اليوم برواية تحكي قصة شاب مسيحي يملك قوامًا كقوام المسيح، يقضي حياته بحثًا عن ربه في إحدى جزر البحر الكاريبي. إنها رواية تناقش قضايا ما بعد الكولونيالية والعدالة الاجتماعية وتجارة الرقيق.

من أمام بركان لا سوفريير في غوادلوب بفرنسا، كانت كوندي تقتعد كرسيها وتكتب رواياتها كل صباح. وبعد فقدان بصرها وهي بعمر 83 سنة، باتت تفضل تخصيص الصباح للتفكير في القصة، ثمّ إملائها في وقت الظهيرة على زوجها، ذلك «العدو الحميم» بوصفها. «إنني أكتب كل فصل في ذهني، وقد أصبحتُ حساسة للصوت والمعنى كفنان موسيقي، وهذه هي هوية الكاتب». وعن موقفها من الترجمة، تؤكد كوندي أنها تفقد علاقتها بالنص الفرنسي حين يُترجم إلى الإنجليزية، ومع ذلك فلا تُعارض دعم الآداب المترجمة، ولا سيما أنها أعمال «لا تزال تُعامل كابن عم فقير للأدب الإنجليزي». من جانبه، يوضح زوجها المترجم -فيلكوكس- دعمه للأعمال المترجمة، مؤكدًا أنه لا يترجم أعمال زوجته إلى أن تنتهي من الإملاء، كما يعرب عن استيائه من تواري دور المترجم. «إن الترجمة عمل أدبي مستقل، ويومًا ما يجب أن تذهب جائزة نوبل للآداب إلى أحد المترجمين».

زو زينغزي: البناية التاسعة (الصين)

«أنا ممتن للاعتراف الذي حصلت عليه «البناية التاسعة» بعد 13 عامًا من نشرها بالصينية، فقد سمحت لها الترجمة الإنجليزية أن تسافر عبر الزمن». بهذا أعرب الروائي الصيني زو زينغزي (1952-) عن سعادته بدخول روايته القائمة الطويلة. مصطبغةً بمزيج من الخيال التاريخي وذكريات من السيرة الذاتية الخاصة، يطرح زينغزي في روايته تداعيات «الثورة الثقافية الصينية» الممتدة ما بين عامي 1966-1976م، التي عايشها طفلًا، فتركت آثارها في تشكّلاته الأولى إلى أن قرر التخلص منها. «في أوائل التسعينيات، شعرتُ بأن أيامي تضيع! ماذا أكتب؟ إن كل ما كتبته كان خطأ. كان من المستحيل عليَّ حينها أن أتخلص من طفولتي. لذلك كتبت هذه الرواية. لقد كتبتها لنفسي. كتبتها لأتخلص من طفولتي».

يشير زينغزي إلى أن كتابته تأخذ طابع التقطع على مراحل زمنية متباعدة. «لقد كتبتُ أغلب فصول «البناية التاسعة» بين عامي 1989-1993م، ثم أعدت النظر فيها عام 1996م، وراجعت أجزاء صغيرة منها». كما يعرب عن تفضيله للكتابة بالقلم الجاف على الكتابة بلوحة المفاتيح، ولا سيما وهو -كما يزعم- ينتمي إلى الجيل القديم الذي كُتبت فيه معظم الكلاسيكيات الصينية بفرشاة الخط الصيني. «إنني أقع في منطقة انتقالية وسطى بين القلم ولوحة المفاتيح. لقد حاولت الكتابة باستخدام لوحة المفاتيح، فلم أستطع الاستمرار. في المقابل، حين أستخدم القلم، أشعر بالتعبير عن مزاجي ومشاعري حين أرى الحروف تتحرك. إن الحروف التي تظهر على الكمبيوتر تبدو متوترة وثابتة، وتجعلني أشعر بأن الآلة قد شاركتني في الكتابة».

إيفا بالتاسار: بولدر (إسبانيا)

برواية تحكي قصة عشق بين فتاتين: بولدر وسمسا، وتحمل ثيمة الرغبة والحميمية والصراع بين الحب والاشتياق إلى الحرية، تدخل الكاتبة الكاتالونية إيفا بالتاسار (1978-) القائمة القصيرة، مؤكدة أن روايتها انعكاس مباشر لحياتها الخاصة. «إن شخصياتي مرآة لنفسي، لكنها أكثر دقة مني، ودائمًا ما تكون متسترة. إنني أحاول اكتشاف شخصياتي عن طريق الكتابة، بالسفر إلى زواياهم الأكثر ظلمة، ثم اكتشاف زواياي الأكثر ظلمة أيضًا». تؤكد بالتاسار أنها تحاول من خلال الأدب أن ترسم الشخصية التي تريد مقابلتها شخصيًّا، والتي تجسد أحاسيس بطلة روايتها «بولدر»، وإيصالها إلى العالم من خلال فن الترجمة. فالترجمة تأليف تشاركي بين المؤلف والمترجم، والأعمال المترجمة هدية للثقافات الأخرى، و«لا ينبغي تجاهل الهدايا».

وعن قصة كتابتها للرواية، تشير بالتاسار إلى أنها كتبت ثلاث روايات بالعنوان نفسه، ولكونها لم تحب النسختين التي لم تجسد شخصية «بولدر» تجسيدًا لائقًا، حذفت النسختين وكتبت رواية ثالثة مثّلت النسخة النهائية. إن أفضل وصية لتجسيد الشخصيات «ألا أرسم الشخصية بدقة، بل أدع الشخصية تكشف نفسها من خلال اللغة. فقد أحببت شخصياتي من خلال اللغة، فاللغة هي الوسيلة التي تمكنني من الإمساك بهن». وعن طقوسها الكتابية، تزعم بالتاسار بأن غرفة نومها هي المكان المفضل ولا سيما أنها تبدو كـ«زنزانة رهبانية». «فثمة مرآة على الحائط، أتحدث إليها في أثناء الكتابة، ولا يكاد يوجد أي شيء آخر سوى كوب وقواميس وصحن للتأمل».

بيرومال موروغان: محرقة (الهند)

متأثرًا برواية «الأشياء تتداعى»، 1958م، للروائي النيجيري غينوا أتشيبي (1930-2013م)، ومن أتون «الباير» (Pyre) أو «المحرقة» التي تُحرق فيها الأجساد الهندوسية، يصوغ الروائي الهندي بيرومال موروغان (1966-) قصة حب تدور مجرياتها في قرية نائية في ولاية تاميل نادو في الهند، حيث يتعرض كوماريسان وزوجته السرية ساروجا، بسبب انتمائهما لقبيلتين مختلفتين، لموجات من الكراهية والتمييز الطبقي من جانب القرويين. قصة تدخل القائمة الطويلة، وتدفع موروغان ليعبر عن فرحه بها قائلًا: «لم أتوقع أن يذهب ساروجا وكوماريسان إلى هذه المستويات العليا. إن النجاح بالنسبة لي هو الاعتراف الذي تحصل عليه لغتي- لغة تاميل».

يشير موروغان إلى أنه كتب روايته في ثلاثة أشهر وذلك لمجلة متسلسلة، ثم حولها إلى رواية مستقلة ثم إلى رواية مترجمة، مؤكدًا أهمية الترجمة في نقل الثقافات بين القارات. «إن اللغة أفضل اختراع بشري؛ إذ تحوي كل كلمة فيها تاريخًا طويلًا من القيم والموسيقا والجغرافيا والفنون، وبناءً على هذا فإن الترجمة اندماج لسحرين». يشرح موروغان أسلوبه الكتابي قائلًا: «أُنشئ عملًا كاملًا في ذهني قبل أن أكتبه. وبعد أن يكون جاهزًا في ذهني من البداية حتى النهاية، أكتب ملحوظات صغيرة في دفتري فقط حين أشعر بأنني قد أنسى، وقد يتطلب مني الأمر مسودة واحدة أو اثنتين ولكن نادرًا ما أتجاوز ثلاث مسوّدات. وكثيرًا ما أجد توافقًا بنسبة 50% بين ما تشكل في ذهني وبين ما أكتبه لاحقًا. والـ 50% المتبقية هي إضافات جديدة». وعن فكرة العنوان، يؤكد موروغان أنه اختلف مع المترجم حول كلمة (Pyre)، ولكنه أصر على إبقاء العنوان المباشر، «فمن الطبيعي ألا يكون ثمة إشكالية في العناوين المباشرة».

فيغديس هيورث: هل الأم ماتت؟ (النرويج)

بدخول روايتها «هل الأم ماتت؟» القائمة الطويلة، تعبر الروائية النرويجية «فيغديس هيورث» (1959-) عن فرحها بهذا الترشيح، مؤكدةً أنها لا ترغب في مستوى أعلى من ذلك، فيكفي أن تُترجم الرواية، فـ«الترجمة تجربة ربح-ربح». علاقة الأم بالأبناء هي الثيمة المسيطرة على أعمال هيورث غالبًا، لهذا جاءت روايتها تصطبغ بالاهتمام ذاته بحثًا في علاقة مضطربة بين أم وطفلة دامت ثلاثين سنة. «أكتب كثيرًا عن الأمهات وقد أصبحت جدة الآن. إن علاقة الأم والطفل لا تنتهي أبدًا. فالأم تعيش بداخل الطفل بطريقة أو بأخرى، حتى وإن صار الطفل بالغًا». وعن طريقتها في الكتابة، تؤكد هيورث أن عملها الأخير تطلب أكثر من عام ونصف من الكتابة ولمّا تعرف نهاية القصة بعد. «إن كتابتي نوع من التحقيق، أحقق في معضلة أخلاقية تزعجني ولا أعرف مسبقًا ما الذي سأكتشفه».

تسلط هيورث الضوء على أهمية اكتشاف الروائي لـ«صوت الرواية»، كأحد أهم العوامل في البناء القصصي. «إنني أقضي وقتًا كبيرًا في محاولة اكتشاف ما أسميه (صوت الرواية). ففي البداية أتعثر وأكتب جملة كل يوم، غير أني عندما أجد صوت الرواية، يمكنني أن أبدأ العمل بصورة أكثر كثافة. يمكنني الكتابة ليلًا ونهارًا لأسابيع عدة. إنها أفضل جزء من عملية الكتابة! أحب ذلك». وعن مكانها المفضل، تؤكد هيورث أنها تستطيع الكتابة في كل مكان، في المقاهي والحانات، وعلى متن الطائرات والقطارات، وباليد أو الكيبورد، مع ذلك تشير إلى أهمية القلم في ثراء الرواية. «دائمًا ما أحمل ورقة وقلمًا في حال كانت لدي فكرة أو سمعت عبارة أو قرأت جملة يمكنني تضمينها في عملي».

لوران موفينيه: حفلة عيد الميلاد (فرنسا)

«لكل لغة روحها الخاصة، ولكل أمة ممارسة أدبية فريدة، لذلك تأتي الترجمة لتضمن هذا التنوع البيولوجي للأدب». بهذا يعرب موفينيه عن فرحه بدخول روايته «حفلة عيد الميلاد» القائمة الطويلة، مؤكدًا أن «الكتّاب بحاجة لأن تتجاوز أعمالهم حدود لغتهم الخاصة». بدأت الفكرة كسيناريو لِفِلْمٍ، ومع تعثُّر فكرة الإخراج، وجد موفينيه أن «الأدب يمكنه التقاط مدى الزمن وتمدده، وحفر الجانب النفسي لكل شخصية أكثر مما تفعله السينما، فكتبتُ رواية ممزوجة بطراز ستيفن كينغ ولغة مارسيل بروست». وعن تطورات روايته، يشير إلى أنه كتب المسوّدة الأولى في 1000 صفحة في أثناء مرافقته لابنه المصاب باللوكيميا، وكان عليه تهذيبها بإلغاء كثير من الصفات والظروف والجمل التافهة منها إلى أن أزال نحو 400 صفحة.

يوضح موفينيه أن طريقته في الكتابة تسير بوضع قيود على حريته السردية، فقد قرر في روايته الأخيرة أن يكتب كل فصل منها في عشر صفحات، مما دفعه إلى أن يكتب تفاصيل كثيرة لشخصية عالقة في غرفة ضيقة لا تفعل شيئًا. الكتابة أمام جدار مصمت، بلا نافذة مفتوحة، هي خياره المفضل. «إنني لا أستطيع الكتابة حين يكون المنظر أمامي جميلًا. أحتاج فقط إلى سدادات أذن لإغلاق المساحة من حولي. فما أريد سماعه هو تنفسي عندما أكتب. إيقاع جملي. أحاول عزل نفسي ليس لمنع الأصوات الخارجية، ولكن لسماع العبارات والحياة الداخلية الإيقاعية لكل جملة».

أندريه كوكورف: جيمي هندريكس يعيش في لفيف (أوكرانيا)

يبدأ «أندريه كوكورف» (1961-) قصته بمجموعة من «الهيبيز» يجتمعون لإحياء ذكرى موت عازف الجيتار الأميركي «جيمي هندركس» (1942-1970م) في المقبرة التي يُعتقد أن يد هندركس اليمنى قد دُفنت فيها، فيلتحق بهم ضابط الكي-بي-جي السابق كابتن ريابستيف. قصة ذات طابع واقعي تسعى لاستعادة ذكرى مدينة مفقودة وإحياء عصر الثقافة السوفييتية الغابر. إن «نصف الشخصيات في روايتي هم أشخاص حقيقيون ويحملون أسماء حقيقية». هكذا يؤكد كوركوف عن روايته «جيمي هندريكس يعيش في لفيف» التي أُدرجت ضمن القائمة الطويلة بعد أن ترجمها المترجم الهاوي روبن وولي. «إن على الأدب أن يسافر، وعلى القراء أن يخرجوا من منازلهم الخاصة ليستقبلوا هؤلاء الضيوف عند مدخل الميناء/الترجمة».

عن خطته في كتابة الروايات التاريخية، يشير كوركوف إلى أهمية التجولات في المنطقة التي تُكتب فيها الرواية، والسعي إلى الالتقاء بشخوصها الواقعيين لرسم تصور واضح عن التاريخ. «لا أكتب خطة لرواياتي، ولكني أخبر أصدقائي عن بعض أجزائها وأنظر في ردود أفعالهم. لقد أخذت مني هذه الرواية سنتين إلى أن أكملتها. كانت السنة الأولى عبارة عن تجولات في شوارع لفيف حيث أتحدث مع الناس وأستمع إليهم وأسألهم عن تاريخ لفيف ما بين 1970-1980م». وعن أماكنه المفضلة في الكتابة، يؤكد كوركوف أنه يعيش في قرية نائية بالقرب من كييف، وبناءً على ذلك «فإن أغلب صفحات الرواية كُتبت على متن القطارات السريعة التي توصل مدينتي كييف-لفيف ذهابًا ولفيف-كييف إيابًا».

غوادالوبي نيتيل: لا يزال مولودًا (المكسيك)

«اللاإنجابية» أو مكافحة الإنجاب، هي قضية الكاتبة المكسيكية «غوادالوبي نيتيل» (1973-) حيث طرحتها في روايتها «لا يزال مولودًا» لتحكي قصة لورا وألينا، صديقتان قررتا عدم إنجاب الأطفال، وفجأة تتغير وجهات نظرهما عن الأمومة فتتخذ الرواية منعطفًا جديدًا، لتقوم لورا بعملية تعقيم، في حين تقرر ألينا الحمل وتكتشف أن طفلها يعاني اضطرابًا وراثيًّا خطيرًا! قصة أدخلت نيتيل في القائمة القصيرة. تعبر نيتيل عن سعادتها بهذا الإنجاز مؤكدة أن الرواية تمثل قصة صديقتها وابنتها الصغيرة. إنها انتصار «لأولئك الذين يقررون عدم الإنجاب، لتلك الفئة التي لم تُمَثَّلْ في الأدب بما يكفي».

تفضل نيتيل الكتابة صباحًا في المقاهي أو في الأماكن الهادئة خارج المدينة، وتشير إلى أهمية الحوارات في بناء النص الروائي. «أكتب دائمًا بطرق متنوعة، أحيانًا باليد وأحيانًا على الكمبيوتر، ولكل رواية لي مسودات عدة. هذه الرواية على وجه الخصوص بدأت كسلسلة من المقابلات مع صديقتي التي تستند إليها القصة، ثم تحولت تلك المقابلات إلى نص». وعن موقفها تجاه الأدب المترجم ودور روايتها في تشكيل أدب عالمي، تقول نيتيل: إن «الرواية هي أقوى وسيلة للتعاطف؛ إذ تتفوق على الصحافة والدراسات الأنثروبولوجية من حيث إنها تتيح التواصل مع الأمم الأخرى والدخول في مساحات حميمية معهم والاشتراك في مخاوفهم وآمالهم وتجارب حياتهم بعيدًا من تأثير الأيديولوجيات».

كليمنس ماير: بينما نحلم (ألمانيا)

تداعيات «سقوط جدار برلين» تعود مجددًا ولكن هذه المرة عبر رواية «بينما نحلم» للروائي الألماني «كليمنس ماير» (1977-) التي أُدرِجت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية 2023م. يوضح ماير اهتمامه بتاريخ ألمانيا وتداعيات جدار برلين على وجه الخصوص قائلًا: «في بدايات عملي كاتبًا ومؤلفًا، كنت أبحث عن موضوعي الأول، وثيمتي الأولى، ووجدت فجأة أنها تلك الظروف المضطربة التي سبقت وتلت سقوط جدار برلين». كما يحتفي بإبراز الآداب المترجمة؛ لأن «العالم في حاجة إلى اكتشاف عوالم جديدة من الأدب، اكتشاف القوة السرمدية للقصّ، السحر الذي تمتلكه اللغات الأخرى».

يعيش ماير في شقة صغيرة تشبه الكهف، تطغى عليها فوضى الكتب والأفلام والفنون والموسيقا. شقة صغيرة تدفعه إلى الانتباه لأهمية إيجاد الأسلوب المناسب للرواية، ولا سيما وقد قضى ست سنوات بحثًا عن أسلوبه الخاص به، إلى أن وجده. إن أسلوبي «صافٍ بصفاء المرآة وفوق ذلك شاعري، خشن وفوق ذلك رومانسي، مجزّأ وملحمي». عن طقوسه وأدواته الكتابية، يؤكد ماير أنه من عشاق «الآلة الكاتبة القديمة»؛ لأنها تمنحه الهدوء الكافي للتفكير في كلماته. «قال لي أحد المرشدين: اكتُب رواية مونتاجية، كروايات جون دوس باسوس، وفعلت ذلك. فكتبت نصف الرواية بواسطة آلة كاتبة قديمة، ثم انتقلت بعدها إلى دفتر ملحوظات. لقد علمتني آلة الكتابة القديمة الكثير عن إيقاع ودقة الكلمات والجمل».

تشيون ميونغ- كوان: الحوت (جنوب كوريا)

«ليس هناك شيء خاص في عملي وكتابتي. أكتب في شقة كورية عادية. أكتب فقط على طاولة المطبخ بدلًا من غرفة الدراسة حيث يمكنني تحضير القهوة بسهولة». بهذه الكلمات يشرح الروائي والسيناريست الكوري «تشيون ميونغ- كوان» (1964-) طريقته في الكتابة بعد أن أُدرجت روايته «الحوت» ضمن القائمة القصيرة. كانت المفاجأة أنها روايته الأولى التي كتبها بلغته الأصلية، وكانت المفاجأة الكبرى أنها كُتبت قبل نحو 19 عامًا، أي عام 2004م. «بما أنني كتبتها منذ مدة طويلة جدًّا، فأنا مندهش من كونها رُشّحت للجائزة. إن هذا يجعلها أكثر إثارة. ستظل «الحوت» قوة دافعة في حياتي».

بوصفه كاتب سيناريست، يذكر ميونغ- كوان أنه كتب «الحوت» كرمزية إلى امرأة بدينة جدًّا، ثم تفاجأ بفِلْم «دارين أرونوفسكي» (1969-) الصادر عام 2022م الذي يحكي قصة رجل يزن 272 كيلوغرامًا. «لقد كانت المفاجأة أن اسم الفِلْم أيضًا «الحوت»؛ إذ يرمز الحوت دومًا إلى الوحدة والضخامة الجسدية». في ثلاثة أشهر، يزعم ميونغ- كوان أنه كتب روايته كاملة كمرحلة أولى، ثم حررها وأعاد صياغتها في ثلاثة أشهر أخرى. «لقد قضيت وقتًا طويلًا على الفصل الأول؛ نظرًا لأن الفصل الأول يشمل القصة بأكملها، فيجب توضيح السرد بأكمله في هذا الفصل. بعد ذلك الفصل، كتبتُ بقية الرواية بسرعة كبيرة، وكأنما يُملى عليَّ». وعن موقفه من الأدب المترجم، يؤكد ميونغ- كوان أن الترجمة عمل نقدي مهم. «أعتقد أنه لو لم يقم المترجمون بهذه الجهود في الترجمة، فسأكون شخصًا لم يحظَ بفرصة قراءة همنغواي أو كونان دويل. إنه واقع مرعب لا يمكن تصوره».

جورجي جوسبودينوف: مأوى الزمن (بلغاريا)

«اعتقدتُ طويلًا أن الموضوعات الكبيرة محجوزة للأدباء الكبار أو للأدب المكتوب باللغات الكبيرة، وقد اتضح لي اليوم أن كل لغة قادرة على أن تحكي قصة العالم وقصة الفرد أيضًا، فاللغة أذكى منا نحن بني الإنسان». بهذا القول يعبر الروائي البلغاري «جورجي جوسبودينوف» (1968-) عن فرحه بدخول روايته «مأوى الزمن» القائمة القصيرة، وذلك قبل إعلان فوز روايته بجائزة البوكر العالمية في أواخر مايو 2023م. بطابع كوميدي ساخر وبأسلوب «ميتا خيالي»، تحكي «مأوى الزمن» قصة جوستين، أخصائي نفسي أنشأ عيادة نفسية تساعد مرضى الزهايمز على معايشة ذكرياتهم من جديد. ومع تداول سمعة العيادة، انتشر مفهوم «إعادة خلق الماضي»، بما دفع الرواية نحو منعطف جديد تُخْتَارُ فيه أزمنة محددة من التاريخ الوطني بهدف التلاعب بالذاكرة الجماعية.

كروائي وشاعر، يؤكد جوسبودينوف أنه ينهل من مَعِين الشعر في أساليبه، حيث تكون لكل كلمة معناها ووزنها. «كتبت سبع مسوّدات لروايتي. كتبتها في وقت ما بعد الظهيرة باستخدام دفتر ملحوظات. إنني لا أحب الرواية المكتوبة كـ«جدول زمني»؛ حيث يعلم الكاتب من البداية ماذا سيكون في كل خانة. أريد أن تكون الرواية طبيعية وألا تذهب من نقطة (أ) إلى نقطة (ب)، بل تضيع وتعود، ولا سيما أن روايتي عن فقدان الذاكرة». عن طقوسه الكتابية، يشير جوسبودينوف إلى أنه كان يحب التدخين في بدايات كتاباته الروائية، ولكن مع استمراره في الكتابة فَقَدَ شغفه بالتدخين.