«حفرة إلى السماء» لعبدالله آل عياف… تمثلات الفضاء السردي

«حفرة إلى السماء» لعبدالله آل عياف… تمثلات الفضاء السردي

مثلت رواية «حفرة إلى السماء» للروائي والمخرج السينمائي عبدالله آل عياف حدثًا متميزًا في الرواية السعودية المعاصرة؛ إذا تناولناها من منطق السرديات ما بعد حداثية المخصوص. إن ما يلفت الانتباه في هذه الرواية، إذا نظرنا فيها من زاوية سردية بحتة، هو تميز الفضاء السردي والتمثلات المختلفة التي يتجلى من خلالها هذا الفضاء في نص الرواية. فإذا كانت أغلب الروايات السعودية المعاصرة التي قرأناها في المدة الأخيرة، تحتفي بمكون الشخصية وتجعله العنصر السردي الطاغي، فإن «حفرة إلى السماء» شذّت عن هذه الظاهرة؛ لتجعل من الفضاء السردي بتمثلاته المختلفة موئل العملية السردية وغايتها الأولى.

ولا مناص لنا من الاعتراف بأن القارئ العربي تعوَّد على هيمنة الشخصية القصصية على بقية عناصر القص في روايات عُرفت فنيًّا بـ«رواية الشخصية»، وألِف هيمنة الحبكة القصصية التي اشتهرت ضمنها ما يُعرف بـ«رواية الحبكة»، فضلًا عن هيمنة عنصر الزمان في الأعمال القصصية جميعها؛ حتى عُدت الرواية «فنًّا زمنيًّا خالصًا» كما يقول الفيلسوف الألماني لسينغ. أما تضخم حضور الفضاء السردي وتأثيره المباشر في بقية عناصر القص الأخرى، فضلًا عن توجيهه لجمالية السرد في الرواية، وتأثيره في بنيتها وخصائصها السردية فقليل في الرواية السعودية الحديثة، ومؤثر متى حدث على نحو ما سنرى في هذه الرواية.

لذلك نسعى في قراءتنا لهذا العمل إلى الإجابة عن سؤال مركزي -يرتبط أساسًا بالسرديات ما بعد حداثية(١)– هو: كيف يمكن أن يتحول الفضاء السردي في نص قصصي ما من مجرد إطار لوقوع الأحداث وعنصر من عناصرها السردية إلى مكون مؤثر في بنية الحكاية وتشكيل الخطاب فيها، ولا سيما من جهة البحث في العلاقات المنبثقة عن ارتباط الفضاء بالشخصيات المختلفة التي تروي وقائع الأحداث في قرية «مجهرة» من وجهة نظرها، فضلًا عن ارتباطه بالزمان، وارتباطه بالأحداث وتفاصيلها المتنوعة؟

قرية الأساطير والحكايات العجيبة

تشترك مجموعة من الشخصيات في سرد أحداث تقع لها في قرية مجهرة التي تعيش فيها، وتنظر إليها من وجهات نظر مختلفة، ومتباينة أحيانًا. تبدأ أحداث الرواية يوم موت والد تيماء وولادة ابنها غيث في الحفرة نفسها التي سيُقبر فيها والدها الشيخ سالم في حدث رمزي عجائبي: «عم الصمت. توقفت الطيور. جمد الهواء حابسًا أنفاس الحاضرين. تحت ستار الغبار المتصاعد نحو السماء رأى رجال مجهرة، ومن قدم من القرى المجاورة، المرأة في قاع القبر وهي تئن. سمعت نسوة القرية صراخًا عاليًا آتيًا من جهة الموت، صراخًا يعرفنه جيدًا وإن أنكرن الجهة التي يأتي منها، صراخ من يلفظ جوفها طفلًا نحو العالم». (ص120)

ونستطيع أن نفهم مع تنامي خيوط السرد، وتوجيهه نحو تمثلات مجهرة المختلفة (النباعة- المقبرة- البئر- المدرسة- منزل فرج…) أن هذه القرية النائية هي قرية الأساطير والحكايات العجيبة بامتياز، أو هي «مسكن الأساطير ومقبرة الأحلام. فيها من أساطير الأولين والآخرين وحكايات الجن ورؤى الصالحين وقصص القادمين إلى هذا المكان اللغز، قرية كبطن الحوت تبتلع الناس ولا تعيدهم إلا في صور ذكريات أو رموز أحلام ترى فيها الإنسان كالذئب تارة يأكل لحم أخيه وطورًا يحنو عليه فإذا هو حميم». كما يقول رضا الحسني في تقديم الرواية.

تتشكل صورة قرية مجهرة من وجهات نظر شخصيات مختلفة، منها تيماء وسوير وحمود وظافر وغيث وفاطمة، فإذا للمكان سلطان عليها جميعًا، وإذا بالقرية ماسكة برقاب من يعيش فيها لتكون داءه ودواءه، بدايته ونهايته، ولا مجال للتمرد على قوانينها الصارمة أو تقاليد أهلها ممن ألفوها وعجنوا بمائها، وصارت مسكنهم وحفرتهم التي ينتقلون منها إلى السماء. حتى الأستاذ ظافر المعلم الغريب عن القرية الذي يرمز إلى العلم والفكر ويبشر بحياة جديدة فيها سينتهي نهاية مؤلمة بعد احتراقه، وهو يلون جدران المدرسة ليترك موته أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا تأويلًا أو تكهنًا.

من تمثلات الفضاء السردي

مُكون الفضاء السردي في الرواية، هو الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصيات وتتواصل، والحيز المكاني الذي يُؤطر واقعها أو يتجلى في ذكرياتها وأحلامها؛ لذلك يصوغه صائغ العمل وفق هيئات سردية ولغوية مختلفة. فمن أهم شروط تشكله أنه فضاء لا يظهر في النص إلا من خلال وجهة نظر الشخصية التي تعيش فيه، أو تتذكره، وليس له استقلال إزاء من يتحرك داخله. وعلى مستوى السرد فإن المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد لنا أبعاد الفضاء السردي ويرسم طوبوغرافيته ويدفعه إلى تحقيق دلالته الخاصة. والفضاء في الرواية ينشأ من خلال وجهات نظر مُتعددة لأنه يعاش على مستويات عدة: مُستوى يخص الراوي بوصفه مشكل الفضاء بالسرد، ومُستوى يتصل باللغة التي يستعملها فلكل فضاء لغة وصفية تخصه، ومستوى يتعلق بالشخصيات الأخرى التي يحتويها الفضاء السردي.. لذلك «يحرص المؤلف على تنظيم هذا المكون القصصي تنظيمًا دقيقًا؛ لأنه يعبر عن مقاصده بحيث يؤدي كل تغيير فيه إلى تحول في الحبكة القصصية ومراميها الفنية البعيدة»(٢).

يحدد هذا القول لبورنوف وكالي بدقة ما نجده في رواية «حفرة إلى السماء»، فقرية مجهرة تتشكل أمامنا من خلال تمثلات مختلفة، ووفق وجهات نظر متباينة أحيانًا. فتمثل مقبرة القرية مثلًا يتشكل في بداية الرواية من خلال ذلك التباين بين وجهة نظر رجال القرية، ووجهة نظر تيماء التي بلغها نبأ موت والدها واستعداد القرية لدفنه وهي عائدة من بيت صديقتها خالية البال مما حدث في بيتها ويحدث في المقبرة؛ لذلك يبدأ عنصر الاضطراب في هذا الفضاء «المقدس» منذ لحظة دخول تيماء المقبرة واقتحامها عالم الرجال. وينشأ عن هذا الاضطراب ارتباك في العالم السردي للرجال في المقبرة، ولا سيما وقد تمردت المرأة على كل الأعراف والتقاليد بفعل الصدمة القاسية التي تعرضت إليها. وتدل جملة الصفات المنسوبة إلى تيماء على وجهة نظر ذكورية حاسمة في هذا المستوى (سمعوا صوتًا مُستنكرًا/ باكية تندب والدها/ ما يجوز يا حرمة…)؛ لذلك فرضت ضوابط الفضاء وأعرافه على الرجال أن يحاولوا إقناع تيماء بأن ما تقوم به غير مقبول وصادم لمجتمع الرجال، بل يقع في دائرة الحرام فكان تدخل الشخصيات تدريجيًّا لردع تيماء عن انتهاكها عالم المقبرة، ومحاولة فتح كفن والدها لتوديعه:

– تعالت صيحات أحدهم: ما يجوز يا حرمة، ما يجوز تدخلين المقبرة، حرام.

– قطع جارها أبو مبارك صلاته، وانطلق محاولًا تهدئتها وموضحًا أنهم بحثوا عنها فلم يجدوها منذ الصباح.

– نهرها عايض. صرخ أبو مبارك مستنكرًا. علا الصراخ.

– سحبها أبو مبارك عنوة، وأوقفها، وحال بينها وبين الميت.

تثبت هذه الأمثلة أن الخلاف بين تيماء ورجال القرية لم يكن لينشأ لولا «قدسية» المكان وحرمته عندهم، فالفضاء السردي هو الذي أنشأ الخلاف والمواجهة، ودفع إليها دفعًا على الرغم من قبول الرجال الضمني لصدمتها وحزنها على موت والدها، ولكن الخطوط الحمراء التي تجاوزتها الحرمة هي «موضع» الخلاف وسبب المواجهة التي أدت إلى سقوط تيماء المفاجئ في القبر المفتوح، وولادتها فيه.

يقول الراوي: «سحبها أبو مبارك عنوة، وأوقفها، وحال بينها وبين الميت. دفعته. لم تنتبه إلى القبر المحفور خلفها وهي تحاول الالتفات حوله، فزلت قدمها وسقطت. عم الصمت. توقفت الطيور. جمد الهواء حابسًا أنفاس الحاضرين. تحت ستار الغبار المتصاعد نحو السماء رأى رجال مجهرة، ومن قدم من القرى المجاورة، المرأة في قاع القبر وهي تئن. سمعت نسوة القرية صراخًا عاليًا آتيًا من جهة الموت، صراخًا يعرفنه جيدًا وإن أنكرن الجهة التي يأتي منها، صراخ من يلفظ جوفها طفلًا نحو العالم». (ص 120).

وقد ألمعنا سابقًا إلى أن الفضاء السردي يُشكل الأحداث والوقائع والمستقبل وفق «أهوائه» أو «سلطانه». وهذا ما يتضح لنا بوضوح ودقة فيما كنا نذكر، فبعد أن حدث التصادم بين تيماء وأبو مبارك، تفقد تيماء «الحامل» في شهرها الأخير توازنها وتسقط في القبر الذي لم يوضع فيه والدها بعد، وتلد في ذلك المكان الذي جُهز للموت وليس للميلاد. لذلك تتشكل الأحكام الجديدة عنها وفق زاويتي نظر مختلفتين بحسب المسافة من القبر وتيماء: وجهة نظر ذكورية: وهي وجهة نظر تعتمد حاسة البصر؛ لأنه بعد انجلاء الغبار الناشئ عن السقوط سوف يرى الحاضرون تيماء تلد ابنها في قبر والدها. «رأى رجال مجهرة، ومن قدم من القرى المجاورة، المرأة في قاع القبر وهي تئن».

ووجهة نظر أنثوية: هي وجهة نظر توظف حاسة السماع لبعد نسوة القرية عن المقبرة، وعدم حضورهن الجنائز. «سمعت نسوة القرية صراخًا عاليًا آتيًا من جهة الموت، صراخًا يعرفنه جيدًا وإن أنكرن الجهة التي يأتي منها، صراخ من يلفظ جوفها طفلًا نحو العالم».

تحمل وجهة نظر الذكور تناقضًا بين فضاء الأحداث أي القبر وعملية الولادة فيه، في حين تحمل وجهة النظر الثانية تناقضًا بين الصوت أي صراخها لحظة الولادة، وجهة الصراخ أي مقبرة القرية.

إن للفضاء السردي سلطانًا وسطوة إذا قارناه بغيره من عناصر السرد الأخرى، والحديث عن مجهرة في نص روائي سيكون قائمًا على سرد أجزائها وعناصرها مثل النباعة، والمدرسة، والبئر، ومنزل فرج، وأساسًا المقبرة التي نعدّها تمثيلًا رئيسًا من تمثيلات القرية تقول عنه تيماء، مخاطبة ابنها غيث بعد أن كبر وبدأ يشتد عوده: «لكي تعرف مجهرة يا غيث عليك أن تعرف كيف نشأت هذه المقبرة»؛ لذلك تشكل هذا التمثيل من دلالات ورموز متنوعة، نذكر منها على سبيل المثال:

– تقع مقبرة القرية خارجها عن يمين الداخل إليها، وهي ترمز إلى فكرة «الحفرة إلى السماء» التي عنون بها المؤلف روايته، وترمز طبعًا إلى النهاية الحتمية لكل سكان مجهرة فيها، وإلى الموت الذي سيطول كل أهلها؛ لذلك صور الراوي مراسم الدفن التقليدية في هذه المقبرة (إعداد القبر/ الاصطفاف/ الصلاة على الميت/ الدفن) عند الحديث عن مراسم دفن «سالم الجبر».

– جسد تمثيل مقبرة مجهرة تناقضًا طريفًا ومُلهمًا، بين الموت والحياة، أو بين البداية والنهاية؛ إذ أنشأت المصادفة وحدها تقابلَ عالمين متناقضين في موضع واحد هو القبر، فموضع الموت سيصبح موضع الولادة، ولحظة النهاية ستصبح لحظة بداية، بين جد مفارق، وحفيد قادم وكأنه يكتب سنة الحياة في قرية «مجهرة» وفي كل قرية.

– تحول حدث عادي هو دفن والد تيماء إلى حدث عجائبي خارق: لقد حولت المقبرة موت والد تيماء من حدث عادي مألوف إلى حدث عجائبي مفصلي في الرواية أثّر في طبيعة الأحداث القصصية بوجه عام؛ وذلك بعد أن سقطت تيماء في القبر المفتوح وولدت فيه بفعل صدمة موت والدها وألم السقطة. ولعل العجائبي يكمن في ذلك الجمع بين الموت والميلاد في فضاء سردي واحد، وما قد ينشئه ذلك من دهشة وتردد من القارئ؛ فالحدث في ذاته غير قابل للتصديق وإن كان قابلًا للوقوع نظريًّا. ولعل العجائبي لا يكمن في حدث الولادة في القبر في حد ذاته بقدر ما يكمن في عجائبية اللحظة التي أنتجت اجتماع عناصر قد لا تجتمع عادة، وهي الأب المسجى والمعدّ للدفن والمرأة الحامل، خالية البال من وفاة والدها، وصدمة سماعها موت والدها ومحاولة الجار منعها من فتح كفنه، وهو ما أدى إلى سقوطها في موضع دفنه وولادتها بفعل هول الصدمة.

– القبر مآل النهايات: لقد رمز تمثل القبر في رواية «حفرة إلى السماء» إلى النهاية من خلال دفن الشيخ سالم الجبر، ومن خلال موت أغلب شخصيات الرواية ودفنهم تباعًا في المقبرة الواحد تلو الآخر، ولم يبق حيًّا من الشخصيات إلا فاطمة. وهذه الرمزية في جوهرها كلاسيكية لا اجتهاد فيها، فالقبر هو الموضع الأخير للشخصيات بعد انتهاء مرحلة الحياة العادية بكل تفاصيلها. ولكن اللافت للانتباه من جهة أخرى أن الأقدار جعلته موضع بداية من خلال ولادة غيث فيه، فجمعت الأحداث بين الولادة والموت في مشهد واحد قاصدة بذلك أن المولود الذي جاء وسط هذا الكم الهائل من الحزن والموت المحيط به، لا مفر له من القبر، وسيصل يومًا إلى النهاية ذاتها التي انتهى إليها جده؛ فالجمع بين الموت والحياة في مشهد واحد في الرواية إنما جاء ليؤكد فكرة الموت الذي يغلب الحياة مهما طالت الأيام والليالي.

على سبيل الخاتمة

يعد تمثل المقبرة نموذجًا دالًّا على هيمنة عنصر الفضاء السردي على بقية العناصر الأخرى في الرواية، ولا مرية في أن هذه الهيمنة قد وجهت مناخات السرد نحو غاية واحدة هي سلطان المكان على الشخصيات والوقائع والزمان وذلك إلى حدود السطور الأخيرة من الرواية عندما نكتشف أن الزمان بدأ يفعل فعله في هذا الفضاء السردي ليغيره ويؤثر فيه ويفقده بعضًا من سطوته وسلطانه، يقول الراوي على لسان فاطمة: «سمعت أن مجهرة تغيرت كثيرًا بعدي. لم تعد بها بقالة واحدة صغيرة فقط كعهدي بها. أصبحت مدينة يقيم فيها خليط من العمال الأجانب بين أهلها (…) مكان بيتنا لم يعد منعزلًا، بل امتد إليه العمران فأصبح في قلب الأحياء الحديثة، كل شيء تغير إلا نخلتي… نخلة فطوم» (ص 306).


هوامش:

(١) تهتم السرديات ما بعد حداثية بالفضاء السردي، وهي تدرسه في نطاق تخصص مباحث السرديات في علاقته بوجهة نظر مشكله ولا سيما الأبعاد النفسية لمن يصوره ويتحدث عنه، ومصطلح الفضاء السردي (Espace) أشمل وأدق سرديًّا من مصطلح المكان (Lieu) على الرغم من كل ما قيل حول المصطلحين في مجال النقد الأدبي العربي.

(٢) Roland Bourneuf et Ouellet, L’Univers du roman, – éd. PUF – Presses Universitaires de France, 1972, p105.