مركزية التكشف وهامشية التحجب

مركزية التكشف وهامشية التحجب

بعد انطلاق الحداثة في القرن السابع عشر، خرجت الرؤية التكشفية للعالم من هامشيتها، لتعرف ذيوعًا بل اكتساحًا وانتصارًا ساحقًا، محتلة المركز، طاردة بقية التصورات التحجبية، بما فيها الدينية، التي تغطي نفسها بالعوالم المفارقة بل واضعة إياها في الهامش وهو ما هدد كيانها وأدخلها في إحراجات نشهدها كل يوم. فالحداثة ولجت عالم التعري الشامل والمنهجي، بحيث أصبح ينظر لكل شيء من خلال محايثة كاملة، فلم تعد الحاجة إلى لباس المتعالي والمتجاوز ذات أهمية، فكأن العالم أصبح يكفي نفسه بنفسه في شكله الخام دونما حاجة لأي استدعاء يسنده من خارجه.

يسهل على كل واحد منا وصف مظاهر التكشف في الزمن الحديث، لكن يصعب على الكثير منا الجواب بيسر على سؤال: لماذا ينتصر التكشف على التحجب؟ لماذا تزداد وتيرة التعري كل يوم بحيث لا نرى سوى تمزيق للستائر وبحث عن الخام المكشوف حد الإخلال، بل «التقزز» أحيانًا؟ أو لنسأل بعبارة أخرى لماذا وقع هذا التراجع المستمر للرؤى التحجبية التي تضع الأغطية الفاصلة والعازلة للعراء؟

نحو عالم أكثر شفافية

إن الغالبية تركز على التكشف الجسدي و«الإباحية الجنسية» التي تجتاح حياة الإنسان، بينما في الحقيقة، يعد هذا مجرد فرع صغير من مسار أضخم، وجزءًا ضمن كل حاكم أشمل؛ إذ إن انطلاق مسار «التهتك» و«السفور» و«التكشف» كرؤية للعالم (باردايم) وليس فقط كتفاصيل مشتتة هنا وهناك، نراه قد بدأ بجلاء، يوم تعرت الأرض من قبتها السماوية وألقي بها كحجرة صغيرة تسبح في عالم مرعب ومكشوف ولا نهائي. بدأ يوم تمكن علماء القرن السابع عشر من تعميم منهجهم الذي سحب من الطبيعة كل سحر وكل بريق وكل غطاء بل كل جمال. ألم يقم غاليليو، وهو يصوب منظاره لأول مرة عام 1609م تجاه القمر، برفع حجاب الجمال عنه، ليصبح في المحصلة مجرد تراب ووديان وجبال؟ فغاليليو قدم لنا قمرًا خامًا وعاريًا، والعري في غالب الأحيان قبح.

لقد أصبحت البشرية عبر متحداتها العلمية تواقة إلى عالم أكثر شفافية ووضوح، وهو ما يفسره ذلك الظهور المتوالي للعلوم واستقلالها، فكل علم اختص بكشف سر من أسرار هذا العالم، لكن ليس بالتأمل والتدبر بالأدوات المفارقة التي لا تعطي من وجهة نظر العلم سوى الانبهار والخشوع الذي هو علامة على الخنوع والاستسلام لسحر ينبغي التغلب عليه. بل بالأسلوب العلمي الكاشف والمفجر للحجب والهاتك للأسرار والتارك للظواهر في عراء كامل. وتلك هي «الحقيقة» عند معشر العلماء. فالكشف العلمي للحجب ليس شبيهًا بالكشف الصوفي، فالأول محايث صرف، والثاني مفارق صرف، إلى الحد الذي يمكن معه القول: إن الحداثة هي صوفية مقلوبة أو صوفية محايثة؛ إذ لا تسعى إلى الذوبان مع الكل (المطلق) بمجاهدة الجسد والنفس لبلوع المكاشفة الربانية. بل على العكس من ذلك اختارت درب المجاهدة بالعقل المنهجي الصارم، بقصد اختراق الأسرار المحايثة للعالم ثم التحكم والسيطرة عليه. أو بعبارة أخرى نقول: إن التكشف العلمي يسعى إلى أن يكون معممًا وموضوعيًّا على خلاف التكشف الصوفي الذي يكون ذاتيًّا وفرديًّا. فشتان بين الكشفين!

إن تقشير الطبيعة وإزالة ستائرها، التي كانت هي الورشة الأولى للحداثة، لم يتوقف أبدًا إلى حدود الساعة، وبالعودة إلى القرن السابع عشر الذي يشكل، من وجهة نظرنا، ليس فقط قرن الانطلاق نحو منظومة تفكير مختلفة تمامًا عن السابق، بل هو قرن الشك والفزع والرعب. فمركزيتنا المكانية تعرت، وأرضنا أصبحت سابحة في عالم لا نهائي، وطبيعة عالمنا غدت غير طبيعية، حيث إن حقيقته تتجاوز حسنًا المشترك، فما نراه أصبح مزيفًا ومضللًا، مما استدعى التسلح بالمنهج الصارم، اللاجم للعقل؛ كي يعمل على التصويب والتعديل من جديد، أو لنقل: إن الحقيقة أصبحت صناعة وبناء. إنه قرن الفضح الكامل لحواسنا، فهي أصبحت لا تليق إلا للبقاء، وليست قط أداة معرفة، وهو ما يفسر حمى صناعة التلسكوبات والمجاهر لكشف العوالم اللامتناهية في الكبر والعوالم اللامتناهية في الصغر (نستحضر مثلًا العمل الهائل لـ«روبرت هوك» في كتابه «الرسم الميكروسكوبي»)، بل هو قرن الانطلاق في عمل جبار، سيكسر تصورنا للأرض وتاريخها تمامًا، والمتمثل في الحفريات والتنقيب عن بقايا الكائنات المتحجرة، وهو العلم الذي كله تعرية وكشف للأسرار المدفونة في الشواهد الصخرية، حيث تشكلت ولأول مرة التمهيدات الدقيقة لنظرية التطور التي ستنتشر في القرن التاسع عشر؛ إذ سيتبين أن الأرض قديمة جدًّا عكس ما كان يعتقد، وأن الإنسان مجرد وافد وضيف جديد على عالم الحيوان الذي سبقنا بملايين السنين، إنه قرن بداية نضج فكرة «الانقراض» المرعبة.

إن مثال علم الحفريات يبرز لنا كيف أن الأسلوب العلمي التكشفي يمزق كل الحجب، ويجعلنا أمام الحقيقة وجهًا لوجه مهما كانت قساوتها ومهما خرجت عن المعهود من التصور. حقًّا لقد ربحنا من هذا العلم كثيرًا، حيث فهمنا التنوع البيولوجي الذي طرأ على سطح كوكب الأرض، ثم إعادة رسم تاريخ للأرض جديد، لكن في الوقت نفسه كان علمًا مربكًا جدًّا؛ إذ كشف عن فترات مباغتة من الانقراض الجماعي لبعض الأنواع، وكشف أن الثبات ليس هو سمة الكائنات، بل الأصل الأصيل هو التغير والتطور الدائمان، وهو ما مهد الطريق لانبثاق نظرية التطور بكامل أركانها مع تشارلز داروين، الذي عمّق القلق بهَتْكه الحجاب الفاصل بين الإنسان والحيوان، فازدادت البشرية ارتباكًا.

إزالة الحُجب الفاصلة

يكفي القارئ أن يأخذ أي علم يختاره ويتتبع مساره ليجد كمية من التكشف والتعري، قد حصلت في الموضوع المدروس، التي تكون في الغالب مثيرة ومقلقة في الآن نفسه. فإذا ما انتبهنا مثلًا إلى علم الوراثة، فسنرى أن العلماء استطاعوا بأسلوبهم التكشفي فضح أسرار الحياة، حينما أماطوا الأغطية الساترة للشفرة الوراثية (DNA) وبلغوا قواعدها الكيميائية (A-T-G-C)، فأصبح في مكنة الإنسان القيام بالعديد من الهندسات الوراثية إلى حدود العبث أحيانًا، وهو ما تخشاه البشرية. فضريبة التكشف باهظة جدًّا. على عكس الرؤية التحجبية، الساترة للعري، التي قد تبقي على ما تسميه الحداثة «أوهامًا» لكن توفر السكينة والطمأنينة وهما الأمران المفقودان في زماننا. لقد أصبحنا أمام مفارقة مضنية: التكشف والمردودية أو التحجب والمعنى؟!

إن هذه الثورة الجينية بوصفها تكشفًا في أعلى مستوياته، وكذلك سعيها الحثيث نحو المزيد من تحسين النسل، هي بصدد «إرادة» السير نحو هتك الحجاب الفاصل بين الموت والحياة، والأكثر من ذلك، فإن هذه الثورة الجينية هي بصدد التزاوج مع الثورة الرقمية بشكل عجيب؛ وهو ما ينبئ بتمزيق لحجاب آخر هو الحجاب الفاصل ما بين العضوي واللاعضوي، وهو ما نلمسه في العمل على تطوير ما يسمى الحيوالة (Cyborg).

فكما نرى، فإن موضوع إزالة الحجب والسير نحو التكشف هو مسألة تتجاوز الإباحية الجنسية، التي هي مجرد جزء، ليصبح نواة لمنظومة كلية (هي الحداثة) التي تشتغل في كل الاتجاهات. فذهابنا للمختبرات لتحليل الدم وكشف خفاياه الدقيقة مثلًا هو: إباحية أيضًا. وقس على ذلك كل مظاهر التكشف السائدة في حياتنا التي، من كثرة انتشارها، لم نعد نراها.

أما إذا اتجهنا صوب مثال آخر مرتبط بالعلوم الإنسانية وهو التحليل النفسي، فإننا نجد أن سيغموند فرويد قد فكك البنية النفسية وحفر بعيدًا في الأعماق السحيقة المسماة اللاشعور بحثًا عن تعرية الإنسان والنظر إليه كما هو دونما أغطية تشكلت خلال مسار نمو الفرد. وحقًّا كانت هناك أرباح هائلة من عمله، حيث اكتشف الإنسان المضمرات المحركة له، التي توجهه في خلسة منه وهو ما سمح له بفهم عقده ثم إمكانية التحكم فيها، لكن العراء الذي كشفه فرويد كانت نتيجته مؤلمة جدًّا؛ إذ ظهر الإنسان مفضوحًا وبمظهر من يحمل في غيابات نفسه عوالم شبيهة «بعوالم الصرف الصحي» المقززة والمنفرة. بحيث يتمنى الإنسان لو أنه جهل هذه الكوامن السحيقة، وتركها مغطاة ومحمية دون مساس. لكن هيهات، فالحداثة لن يهدأ لها بال حتى تميط اللثام عن كل شيء مخفي ولو كان قذرًا ومؤذيًا وقبيحًا تحت شعار: الحقيقة العارية والمفضوحة أفضل من الوهم والخداع. بكلمة واحدة تحركت الحداثة نحو ما سمي: البحث عن المضمرات أو المسكوت عنه الذي لا ينبغي تركه يغطي الأشياء مهما كانت. فلا مجال للغبش والغشاوات في الحداثة.

حجاب الإكراه الاجتماعي

إن الفرق بين التكشف ما قبل الحداثي والتكشف المابعد حداثي هو أنه أصبح بقوة الأسلوب العلمي منهجيًّا ومحكمًا ومعممًا؛ إذ كل شيء قد انكشف بعد القرن السابع عشر وبشكل دقيق وصارم، فلم يترك أي قطاع ولا أي مجال من دون أن يضع عليه العلماء مبضعهم من أجل تعريته وإزالة حجبه الغامضة. فإذا توجهنا لعلم الاجتماع، لمزيد من الإيضاح، فقد عمل منذ نشأته كتقليد للعلوم الحقة على كشف أسرار المجتمع، بوضع اليد على حجاب الإكراه الاجتماعي الممارس على الفرد، وهو ما ساعد على فهم الحتمية الاجتماعية وكيف أنها تشكل ملمحًا من ملامح الشخصية الإنسانية إلى الحد الذي دفع أحد رواد علم الاجتماع وهو إميل دوركايم إلى إعلان أن المجتمع بمنزلة «الإله». وبالطبع ربحت البشرية من علم الاجتماع كثيرًا، حيث تمكن الإنسان الحديث من التحرر من سلطة الجماعة وتحقيق طموح الحداثة الأكبر وهو استقلال الأفراد وجعل المرء «أصيلًا».

إن ثقافة الأصالة التي شاعت في زماننا الراهن، بوصفها تشجيعًا على تعرية الذات، وكشفًا لأقنعتها، وفضحًا لكوامنها ولو في شكلها الخادش، وجعلها تعيش وفق شعار: «كن كما شئت»؛ ما كان ليكون لولا نموذج العمل العلمي العملاق الذي تمكن من تعرية الطبيعة واستنطاقها. فكشف أسرار الذات ما هو إلا تتويج لمسار كشف أسرار الطبيعة، وهذا ما يغيب عن بال العديد من الباحثين، ففضائحية جون جاك روسو، في اعترافاته الشهيرة، والمعممة للعلن وليس أمام راهب الكنيسة فقط، ما كانت لتظهر في القرن الثامن عشر كأسلوب في الكتابة لولا فضح الطبيعة أولًا وكشف خباياها.

إذن، لقد كرست الحداثة التكشف بطريقة منهجية ومحكمة، بحيث لا يقدر حتى الرافض له مقاومة الأمر. فمن منا الآن ليس له هاتف ذكي يكشف عن أدق تفاصيل حياته، في انتهاك صارخ لأعز ما نملك وهو حياتنا الخاصة. إن الأمر عبارة عن اشتغال لمنظومة كاسحة تعمل على استباحة كل شيء، التي لا يمكن انتقادها إلا بعمل إبستمولوجي هادئ يتجند له كل العالم. حتى طه عبدالرحمن الذي قد نشاطره الرأي في توصيف الحداثة بأنها تشتغل بمنطق يسميه: «إرادة اللامحدود» سواء بتخطي الحدود أو محوها نهائيًّا، فإننا نرى أن الأمر ليس اختيارًا قط، فالحداثة تحركت في منطق الكشف وهتك الحدود بإملاءات المنظومة العلمية الطارئة في القرن السابع عشر، التي استهلت ورشتها الأولى بهتك الطبيعة. فكان ذلك جوازًا نظريًّا سمح ببقية التكشفات التي شهدناها في الأربعة قرون المنصرمة، إلى الحد الذي نعلن معه أن الثورة الجنسية هي إحدى نتائج التكشف العلمي للطبيعة.