الحمامة

الحمامة

كان يوم اثنين موحش، وكان الوقتُ عندئذٍ يسح دموعًا حارة، وحيثُ إن هناك أحداثًا لا تجري سوى لمرة واحدة وإلى الأبد، وبكيفية غريبة فريدة تستلزمُ آلاف السنين حتى تُعاد صياغة اللحظة ذاتها، وحيثما تمت صياغتها، وكيفما ستحدث، فإنها ستظل مفتقدةً لشيءٍ لا يمكن أن يُخلق مجددًا، شيئًا لا يكون سوى في مكانه وزمانه، وعلى امتدادهما لا شيء يحدثُ خلا ما يمكنُ التنبؤ به، وابتدأ النهارُ أليفًا، كانت الشمسُ تضفي لمعانها الذهبي على كل شيء، الأشجارُ هي ذاتُ الأشجار قبل أن أولدَ، كانت هُنا، قال جدي: إنها وُجدت منذُ أيامِ الحرب، لكنها اليوم تبدو على غيرِ ما كانت عليه، آهٍ ما السر في هذا اليوم؟ ما اليوم؟ أهي أطولُ مما كانت عليه؟ أثمةَ أكوانٌ ما جديدةٌ، كائناتٌ أخرى غريبة استعمرتها؟

ألا إنها لَتبدو لي مختلفةً، كما لو أن بها صوتًا، أجراسًا، لغةً ما، أو إنني بدأتُ أمرضُ، والشمسُ، ألفَ مرةٍ طلعت الشمسُ، لِما يبدو لونها كما لو أنه لزجٌ وعسلي كالمُربى، ورائحتها كالمانجو الذي كنا نحصده من شجرةِ بيتِ جدتي، وعلام يتمددُ الطريقُ، وإلى أين سيفضي لو أنه امتد دون توقف؟ ولما يغدو المارةُ أطول؟ إن سيقانهم لتطولُ ما إنْ يمروا بمحاذاة الأشجار. كان منظرُ العابرينَ ينمُّ عن برودٍ مستعجل، وغرابةٍ بدائيةٍ، وعيونهم لا تقبضُ من المكانِ سوى على الفراغِ، هؤلاءِ يصيبونني بالهلع، ويندرُ أن حاولتُ النظرَ مباشرةً في وجوههم، كان ثمةَ شيءٌ مرعبٌ كامنٌ في أعماقهم، وكان يسهلُ عليَّ أن أفهم الريحَ إن كانت غاضبةً هذا النهار، وأتعاطف معها، لكن عيني ذاهلةٌ إزاء الوحشةِ التي في وجه إنسان. حملتُ حقيبتي الصغيرة من تحتِ شجرةٍ، لعلها كانت شجرة توت، لاحظتُ أني لم أنتبه للنمل الذي بدا أنه يعرجُ بخطواتٍ ثابتةٍ إلى داخلها، ما زلتُ أذكرُ الرجفةَ التي اعتلت أوصالي، وما زلتُ أجهلُ سببها، حتى ذاكَ الوقت على الأقلّ، ظلت الشمسُ تومضُ بخفوتٍ؛ ذلك أن سربًا من الغيومِ كان قد احتلَّ زُرقةَ ملكوتها الواسعِ فجأةً.

وينزلقُ شيءٌ ما من الشجرةِ، من أعلاها، من قبتها الشامخة، أشعرُ به بقوةٍ في روحي، ها هو يسقطُ شاقًّا أرضًا ما في قلبي، منغرسًا فيها، ظل مغروسًا حتى هذه اللحظة، وتبدت منهُ جذورٌ.

عَدوتُ إليها، كانت حمامةً بيضاء، سيقولونَ: إنها كانت مُجردَ حمامةٍ بالأحرى، لا أكثرَ من ذلكَ ولا أقل، حمامةً فقط، وماذا لو ولدتُ لأكونَ حمامةً؟ هل سأكونُ (مجردَ الحمامة هذه)؟

أنا أسألكَ أيها العالم، لكن العالم كان حلزونيًّا حينها، كان يدورُ بسرعةٍ بذيئةٍ بينما كنتُ أعيدُ اكتشافَ نفسي، الإنسان والحمامة، كان منظرها ينمُّ عن استسلامٍ عظيمٍ لشيءٍ لا أفهمه، لكنني لبثتُ للحظةٍ أتأملها، ساهمًا ومفجوعًا، أبحثُ عن هذا الشيء الذي لا أعرفهُ والذي يُفاقمُ بداخلي حساسيةً منفعلة، كانت عيونها نصف مغلقةٍ، وبدا لي أن شيئًا ما كان ينبجسُ منهما، لقد أدركتُ حينها أنها ماتت قبل يوم أو أكثر بقليلٍ.

أكانَ منزلكِ في أعلى الشجرة. خرجت الكلماتُ مهتزةً، مُرتجفةً.

وتناثرَ من عيونها شعبٌ من النملِ، انفرطَ كما لو أنهُ جزءٌ منها، ومن أنفها انسلَّ طابورٌ آخر نهمٌ منتظمٌ، والآنَ أفكرُ في استعادة المشهدِ مرةً أخرى، لكيلا يضيعَ وجهي، ويطمسُ الخوفُ المنفعلُ ملامحهُ، كيف صارت عينايَ أكبر آنذاكَ، والتهمتا كل شيء دفعة واحدة؛ الأشجار، الطريق، المارة، ووجهٌ نزقٍ غير مبالٍ لصديقٍ كنتُ أنتظره، وقطةٌ تخربشُ بأظفارها في الترابِ، تقتربُ بتخابثٍ، لكنني فطنتُ إلى مَراميها، فصرختُ مرارًا عليها:

ابتعدي، الآن،…

ركضتُ خلفها حتى أُبعدها، فاختفت متواريةً خلف الأشجار، وعادت الطمأنينة إلى صدري المتشنج، شعرتُ بغصة مريرة وبأن بؤسًا أمديًّا يسري في عروقي، كان صديقي قد اقتربَ بدورهِ من الحمامة وقد ضاق وجهه:

ما خطبُك؟ سألني:

فلننقذ هذهِ الحمامة قبلَ أن تقضي عليها جموعُ النملِ البائس. ويحمر وجهي، تنفرُ عروقي، أتعثرُ بآخر كلمةٍ لن يَفهموها أبدًا، آخر شيء قلتهُ كان اقتحامًا لشيءٍ ما، لكن العالمَ يعتقد بأنها محضُ مزحةٍ لا تصلحُ أن تقال علانية.

ولكنها ميتةٌ فماذا سيؤذيها؟

ظل مُحملقًا في وجهي، وظللتُ صامتًا، أرادَ كلامًا، وأردتُ أنا السكوت.

أخذتُ الحمامةَ بين يديَّ، انتشلتها بهدوءٍ وحذرٍ، هززتُ جسدها لأزيل بقايا النمل العالقةِ في عيونها.

أوَتعتقد أنه من العدل أن تؤكل عيونُها؟ ألأجلِ أنها ميتة؟ هاتِ الكيس البلاستيكي، ذاكَ المُلقى على الغصن، أسرع، سأدخلها فيه، وسأحكمُ إغلاقه، لن تأكلكِ القطط، ولن تجرؤ الحشراتُ البغيضة على أن تنهشكِ ثانية.

خُذ، ولكنها ميتةٌ أيتها التعيس، إن هذا كله، برمتهِ موقفٌ سخيف، سخيفٌ جدًّا، مبالغٌ فيه، ورهيبٌ إلى درجةٍ مأساوية. بصوتٍ مُنفعلٍ.

ظللت واقفًا أفكر فيما سأفعلهُ بهذا الكيس المُقدس.

هل أنت بخير؟ هاتِ عنك هذا الكيس سأرميه في حاوية القمامة، دعنا نمضي.

لا، دعه، إنني أحاولُ حماية هذه الحمامة. بصوتٍ مبحوحٍ خافت.

ولكنها ميتة، هل تفهمُ ما معنى هذا؟ هل تفهمني؟ وهل تعتقدُ أن توجيه هكذا سؤالٍ لشاب في الثالثةِ والعشرين يجعلني إنسانًا سويًّا، أأنا مريضٌ أيضًا؟ ممسكًا برأسهِ:

ماذا تعرفون أنتم غيرَ التبلدِ، غير ما هو واقعيٌّ وواجبٌ ورسميٌ وعَملي؟ إن فوجًا من هؤلاء (وأُشيرُ إلى المارة) لا تحركهم عاصفة، أنظر إليهم متبلدين، يودُّ أحدهم لو يظل ممسكًا بحقيبة عمله بطريقة آلية، أو الشيء الذي يعبده، أيًّا كان، رُبما مجموعة حسابات، رُبما عادةٌ ما، ويموتُ على إثرها، ألا يُخيفكَ، ألا يفقدكَ هذا عقلكَ؟ اتركني، اتركني الآن، هيَا، فلتبتعد…

لم ينتبه أحدٌ للدموعِ وهي تنسكبُ على الكيس كشمعٍ سائل حارق.

كان العالم مُنهمكًا في دورانهِ، وكان ثمة حدادٌ غير مرئي لحمامة، هناكَ في رُوحي
حيثُ آويتُها.